مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

استدلّ الشّيخ الرّئيس في «الشفاء» على أنّ التّصوّر لا يفيد التّصديق ، بأنّه لو كان هذا الفرد المتصوّر ، سواء كان موجودا أولا ، مفيدا للتّصديق فهو ليس موجبا له ، لأنّ ما لا يختلف حال الشّيء بوجوده وعدمه فهو ليس علّة له ؛ وإن كان لوجوده مدخل في الإفادة ، فلا يكون مفردا ، بل قضيّة.

وأقول : فيه بحث : أمّا أوّلا ، فلأنّه منقوض بإفادته التّصوّر ، فإنّ المقدّمات جارية فيها ؛ وأمّا ثانيا ، فلأنا نقول : هذا المفرد بوجوده الذّهنىّ ربما يفيد التّصديق من غير أن يصدق بوجوده ، كما في إفادته التّصوّر بعينه ، فظهر أنّ ما ذكره مغالطة .. ومثل ذلك غريب عن مثله» ، انتهى ما ذكره في هذه المسألة بعبارته.

وأذعن بعض المدققين ممّن تأخّر عنه بقوّة هذين الإيرادين وورود هما على الرّئيس ، بل على قاطبة المحققين المستدلّين على القاعدة المذكورة بهذا الدّليل.

والأستاذ غوث الحكماء لم يذكر في شرح تلك الرّسالة وجها لدفعهما أصلا. وبالجملة لم يصل إلى إلى الآن من أحد من الفضلاء شيء في الجواب عنهما.

أقول : وضعفهما ظاهر ، فإنّ التّصديق إذعان بثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه ، وحقيّة النّسبة الإيجابيّة أو السّلبيّة بينهما بحسب الواقع وفي حدّ نفسها ، مع قطع النّظر عن خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ.

فإنّا إذا قلنا ، مثلا : «زيد قائم» ، كان التّصديق هناك إذعان تحقّق النّسبة الإيجابيّة بين الموضوع والمحمول في حدّ نفسها ، مع قطع النّظر عن وجودها الذّهنىّ التّصوّرىّ ، لا إذعان تحقّق النّسبة في الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ فقط ، حتى يكون مفاد الحكم أنّ تلك النّسبة الإيجابيّة متصوّرة. إذ ذاك ليس تصديقا بقيام زيد ، بل بأنّ قضيّة «زيد قائم» متصوّرة ، والقضيّة حينئذ قولنا «قضيّة زيد قائم متصوّرة» ، لا قولنا : «زيد قائم».

ثمّ التّصديق حينئذ إذعان تحقّق النّسبة الإيحابيّة بين قولنا «قضيّة زيد قائم» وبين قولنا : «متصوّرة» في حدّ نفسها ، لا بحسب الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ فقط ، إذ ذاك أيضا ليس تصديقا بتحقّق تلك النّسبة الإيجابيّة ، بل يكون قولنا «قضيّة زيد قائم متصوّرة» متصوّرا.

٥٢١

ولمّا تحقّق ذلك ، ظهر : أنّ المفرد المتصوّر ـ من حيث هو متصوّر ، أى بحسب خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ ، سواء كان متحقّقا في حدّ نفسه أولا ، أعنى من دون أن تعتقد النّفس تحقّقه فى نفسه ـ لا يفيد التّصديق ، أى الإذعان بتحقّق نسبته بحسب نفس الأمر ، مع قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ، وإلّا لزم جواز تحقّق المعلول بدون تحقّق علّته ، إن أفاد التّصديق بحسب كونه متحققا ، لا بحسب كونه متصوّرا ، فالتّصوّر لم يفد التّصديق، بل الإذعان بتحقّق ذلك المتصوّر أفاد تصديقا آخر.

وأمّا المتصوّر من حيث هو متصوّر ، فلمّا لم يعتبر فيه من تلك الحيثيّة تحقّق في نفسه ، مع قطع النّظر عن الوجود الذّهنىّ أصلا ، جاز أن يفيده من تلك الحيثيّة متصوّر آخر من حيث كونه متصوّرا بحسب خصوص وجوده التّصوّرىّ ، سواء اعتبر له تحقق في نفسه مع قطع النّظر عن هذا الوجود التّصوّرىّ أو لا ؛ لأنّ المعلول لمّا لم يكن إلّا الوجود التّصوّرىّ لمفهوم فجاز أن يكون علّته الوجود التّصوّرىّ لمفهوم آخر ، فبان اندفاع الإيرادين معا.

أمّا النّقض ، فلأنّ مقدّمات الدّليل غير جارية في إفادة تصوّر مفهوم تصوّر مفهوم آخر ، لأنّ حاصل الاستدلال : أنّ التّصديق لمّا كان إذعان تحقّق النّسبة ، مع قطع النّظر عن خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ ، فلا يجوز أن يفيده خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ لمفهوم ، سواء اعتبر تحقّق ذلك المفهوم في نفسه أولا ؛ لأنّ ما لا يختلف عند العقل بتحقّقه وعدم تحقّقه حال شيء ، لا يكون علّة عند العقل لذلك الشّيء.

وأمّا التّصوّر ، فلمّا لم يكن إلّا ارتسام شيء في الذّهن ، سواء كان للمرتسم مع قطع النّظر عن ذلك الارتسام والوجود التّصوّرىّ تحقّق في نفسه أولا ؛ جاز أن يكون مفهوم آخر بحسب ارتسامه في الذّهن ومن حيث خصوص وجوده الذّهنىّ التّصوّرىّ الارتسامىّ علّة له ، سواء اعتبر له تحقّق ، مع قطع النّظر عن هذا الارتسامىّ أو لا. إذ ليس للمعلول مع قطع النّظر عن هذا الوجود تحقّق في اعتقاد النّفس ، حتّى إذا لم يعتبر للعلّة تحقّق ، لزم أن يكون ما لا يختلف حال الشيء بتحقّقه وعدم تحققه في نفسه علّة لذلك الشيء ، بل المعلول ليس إلّا هذا الوجود الارتسامىّ ، فجاز أن يكون الوجود الارتسامىّ لشيء آخر علّة له.

٥٢٢

وأمّا الإيراد الثّاني ، فلأنّ التّصديق بشيء ليس هو الوجود الذّهنىّ الارتسامىّ لذلك الشّيء فقط ، بل هو اعتقاد تحقّق ذلك الشّيء في نفسه ، مع قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ، فكيف يجوز أن يكون مفهوم بحسب خصوص وجوده التّصوّرىّ ، مع عدم تحقّقه في نفسه مفيدا له. كيف ، والمعلول تحقّق الشّيء في نفسه ، فيجب تحقّق العلّة في نفسها ليتحقّق ذلك المعلول ، وإلّا لزم الفساد الّذي أشار إليه الشّيخ.

وبهذا المبلغ من الكلام يظهر انعكاس تشنيع المحقق على الشّيخ ، ولاح في تضاعيف ما ذكرنا وجه وجيه لقولهم : «لا مطابقة في التّصوّرات أصلا» ، بمعنى أنّ التّصوّرات لا تحتمل المطابقة وعدمها ، والمقابلة بين المطابقة وعدمها تقابل العدم والملكة ، فخلوّ الموضوع الغير القابل عنهما جائز ، وذلك ، لأنّ التّصوّر هو الوجود الارتسامىّ للشىء مع عدم اعتبار تحقّق أو لا تحقّق للمرتسم في نفسه ، مع قطع النّظر عن هذا الوجود التّصوّرىّ الارتسامىّ ، فلا يعقل هناك مطابقة ولا لا مطابقة.

والتّصديق هو الحكم بتحقّق الشّيء مع قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ، فله لا محالة مطابق خارج عن اعتبار الذّهن ، وإن كان ذلك المطابق نفس ذلك الشّيء الموجود في الذّهن من دون اعتبار خصوص وجوده الذّهنىّ ، فإن طابق الحكم المطابق كان صادقا ، وإلّا كان كاذبا. فاندفع الإيراد المشهور على قولهم : «التّصوّرات لا تحتمل المطابقة ولا عدمها». فتأمّل وكن على بصيرة في أمرك. وهذا من سوانح الوقت لساطر الأحرف.

(٩)

تعليقة على حكمة الإشراق

كتبه للأمير أبو الحسنا الفراهانى

بسم الله الرحمن الرحيم ، والثّقة بالله العزيز العليم

بعد الحمد لواهب الحياة ومفيض العقل حقّ حمده ، والصّلاة على عفوة الخليقة وناصية عالم الإمكان ، سيّدنا ونبيّنا محمّد وعترته ، القدّيسين السّبّيقين ، وحامّته الأقربين ، القائمين بالأمر من بعده.

سمير ضمير مستنير مى دارد كه مرتبه تشوّق شراشر مشاعر ، ودرجه انجذاب أوراق باطن وظاهر ، به صحبت عالم علوى بهجت حضرت سيادت ونجابت پناه ،

٥٢٣

حقايق ودقايق دستگاه ، غوامض واسرار آگاه ، افادت وافاضت انتباه ، فذلكه مراتب الربّيّين ، فهرست كتاب ملكوتيّين ، سليلنا الرّوحانيّ وخليلنا العقلانىّ ، سماء لأرض السّيادة والإفادة ، سناما لسماء الجلالة والحقيقة «أمير أبو الحسنا» ، أسبغ الله إكرامه في النّشأتين ، وبلّغه قصيا الغايات في إسباغ القوّتين ، وراى وسع خامه احصاء وخارج از اندازه دور فرجاء تناهى است. اگرچه مفارقت صورى جسمانى حاجز اتصالات حقيقيّه روحانيّة نيست ، كه بعد الأبدان عن الأبدان لا يحجب النّفوس عن النّفوس ، ولكن تقارب الأشباح طلسم تعانق الأرواح ، وتخاطب مجلس الأنس مغناطيس رشح الفيض ، قشع الله سبحانه بفضل رحمته بيننا وجمع بطول رأفته بيننا.

[١] در طىّ مفاوضه مبهجه ومكاتبه بهيجه ، استكشاطى رفته بود ، از سرّ آنچه محيى آثار الرّواقيّة وشيخ أتباع الإشراقيّة ، در سابع خامسه كتاب «حكمت إشراق» بهذه العبارة گفته است :

«وقّع الله في السّفر ، وقضى إلى الرّوح الأمين : إنّه ليجيب دعوة كلّ مغلوب بالظّلامة ، وكلّ ذى نظافة يطلب التّظلّم لرضى الله ، وإنّه لينصر الصّابرين على بأساء أبناء الشّياطين ، وليلبس الفاجر سر بال النّار».

تأمّلى كه در حمل جمله أخيره بر طريقه «تناسخ» فرموده اند ، در موضع استقامت ومحزّ اصابت واقع آمده است ، سياق ساقت عبارت اشارت است به آنچه در تنزيل كريم ، در سوره مباركه «حجّ» وارد شده : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ، ودر سوره مكرّمه «ابراهيم» : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ، ودر دعاى «وضوء» در غسل شمال وارد است : «وأعوذ بك من مقطّعات النّيران». وبه هيچ وجه نسبتى به حكايت مسلك تناسخ ندارد. وهمچنين شيخ مصنّف اين كتاب از عقيده اصحاب تناسخ واعتقاد صحّت آن بريء السّاحة وناصح الجيب مى نمايد ، على ما وقع إلينا من زبره ، وبلغنا من أقاويله ، والله العليم ، عزّ سلطانه ، أعلم.

[٢] واز رموز تعريف علم منطق ، كه شارح محقّق علّامه ، در شرح كتاب ذكر كرده است نيز استكشاف فرموده اند. رمز مذكور عبارت شريكنا السّالف ، رئيس مشّائية الإسلام است. ضوعف قدره ، كه در رساله «حيّ بن يقظان» از علم منطق به آن تعبير

٥٢٤

كرده است. وشارح الإشراق ، قطب فلك التّحصيل والتّحقيق ، آن عبارات را بمادّتها وسنخها ، لا بصورتها ونظمها آورده است. وها هى بهذه الألفاظ في «شرح الإشراق» :

«عين خرّارة ، من شرب من مائها وتطهّر بها ، سرت في جوارحه منّة مبتدعة طويت له بها المهامة ، ولم يتكأده جبل قاف ، ولم تزبنه الزّبانية ، فدهدهته إلى الهاوية ، ويخفّ على الماء حمله ، ولا يغرق في البحر المحيط ، وهو في جوار عين الحيوان الرّاكدة ، من اغتمر فيها لم يمت» (ص ٣٠).

وفي رسالة «حيّ بن يقظان» بهذا النّظم وعلى هذه الصّورة :

«المكتسبون منّة لم تتأتّ للبشر بالفطرة ، وممّا يفيدها الاغتسال بعين خرّارة فى جوار

عين الحيوان الرّاكدة ، إذا هدى إليها السّائح فتطهّر بها وشرب من فراتها ، سرت في جوارحه منّة مبتدعة طويت له بها تلك المهامة ، ولم يرسب في البحر المحيط ، ولم يتكأده جبل قاف ، ولم تزبنه الزّبانية ، فدهدهته إلى الهاوية» ، انتهى كلامه ، (ص ٤٦).

فلنشرح مطاويه ، ولنحلّ رموزه : خرير الماء : صوته ، والعين الخرّارة : هى الشديدة النّبوع الكثيرة الجريان. وعين الحيوان الرّاكدة ، الّتي من اغتمر فيها بل من تغمّر من مائها لم يمت ولم يكن يذوق مرارة الموت أبدا هى الفلسفة الأولى ، الّتي هى العلم الإلهيّ ، وعلم ما فوق الطبيعة ، وسيّد العلوم ، ومخدومها ، ومستخدمها. وكون العين الخرّارة في جوار عين الحيوان الراكدة كناية عن أنّ المنطق من فروع العلم الإلهيّ ، لا من أجزائه ولا من جزئيّاته ، على ما قد استبان في فنّ البرهان ، أعنى انولوطيقا الثانية ، وقد أوضحناه نحن في صحفنا وتعاليقنا.

و «المنّة» بضمّ الميم وتشديد النّون ، معناها : القوّة ، والقدرة ، والملكة.

و «المهامة» ، جمع المهمهة : الفلاة القفر والمفازة البعيدة. والمراد بها طرق الفحص ومسالك البحث.

وفيا في النظر وفلوات الاقتناص ، هي مداحض العلوم وغوامض المعارف بأسرها.

و «البحر المحيط» : الحركة الفكريّة وقانون الاصطياد بها. و «الرسوب» فيه :

٥٢٥

اقتحام عقبات الغلط والتورّط في مغامر الخطأ باتّباع سبيل الغىّ بالظنون والحسبان.

و «لم يتكأده» : أى لم يشقّ ولم يثقل عليه حمل جبل قاف ، أى إصابة الحقّ ونيل الكنه في جميع العلوم.

و «الزّبن» : الدّفع ، ويسمّى فرق من الملائكة بالزّبانية ، لدفعهم أصحاب الشّمال إلى النّار. والزّبانية ، هنا : الشّكوك والأوهام والغرائز الجسمانيّة والقرائح الهيولانيّة.

و «الدّهدهة» : الدّحرجة. و «الهاوية» : الشّقاوة الأبديّة ، أعاذنا الله وسائر آل العقل وحزب الحقّ منها.

و «السّائح» : المهديّ إلى العين الخرّارة هو المبتغى لعين الحيوان الراكدة ، المستعمل لقوّته النّظريّة في مسالك اقتناص مباديها المنتهية إليها.

و «الفرات» : الماء العذب السّائغ القراح. و «التطهّر» بالعين الخرّارة ، و «الشرب من فراتها» : إماطة أخباث الطّبيعة وأدناس الهيولى ، ورفع أحداث القوّة الوهمانيّة ، واستيقان الأصول العقليّة ، واستتقان القوانين البرهانيّة.

ضمان تحقيق حقائق ، وتعهّد كشط خفيّات ، وكشف أغطيه ، وتوضيح مغامض ، بفضل الله العظيم ، سبحانه ، در فنون علوم يقينيّه ، وابواب احكام دينيّه ، بر ذمّت محرّرات ومهلّقات اين ناسك مناسك تعطّش واشتياق است. قوّة نظريّه انسان متألّه متبصّر را كبريت احمر واكسير اكبر وجدوار اتمّ وترياق اعظم مطالعت صحف وملازمت مصنّفات مخلص است.

اوقات خجسته ساعات عزيزة الآنات خود را صرف تحصيل وخرج سبيل آن نمايند ، كه جادّه صقع اقليم حقّ ، ونردبان ذروه عالم قدس آمده است.

زياده ، اطناب نمى رود. ثواقب كواكب فضل وافضال از مشرق اعتدال ربيعى أفق احوال بهجت منال سعادت مآل راقب وثاقب ، وبارق وشارق ، وطالع ولامع باد.

وكتب مسئولا ، بيمناه البائدة الدّاثرة ، أفقر المربوبين وأحوج المفتاقين إلى رحمة ربّه الحميد الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر بن الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له في نشأتيه بالحسنى ، عام ١٠٢٩ ، من الهجرة المقدّسة النّبويّة ، حامدا ، مصلّيا ، مسلّما.

ختم الله له بالحسنى عام ١٠٥٣ ، من الهجرة النّبويّة ، حامدا ، مصلّيا. في التاريخ المذكور.

٥٢٦

وسمع من أوّله وآخره من المصنّف ، مدّ ظلّه العالى ، از مقام حيدرآباد ، في قلعة كلكنده. (كتابخانه مدرسه سپهسالار ، مجموعه ، ش ٢٩١٩. مجلس ، ش ...).

(١٠)

تعليقة على الشّرح العضديّ لمختصر أصول الحاجبيّ في الدّلالات

كتبه لتاج الدّين حسين الطوسىّ

في الشّرح العضدىّ لمختصر الأصول ، في مبحث الدّلالات :

«الدّلالة الوضعيّة ، منها لفظيّة ، بأن ينتقل الذّهن من اللّفظ إلى المعنى ابتداء : وهى واحدة. لكن ربما تضمّن المعنى الواحد جزءين ، فيفهم منه الجزءان ، وهو بعينه فهم الكلّ ، فالدّلالة على الكلّ لا تغاير الدّلالة على الجزءين مغايرة بالذّات بل بالإضافة والاعتبار. وهى بالنّسبة إلى كمال معناها تسمّى مطابقة ، وإلى جزئه تضمّنا. ومنها غير لفظيّة ، بل عقليّة ، بأن ينتقل الذّهن من اللّفظ إلى معناه ، ومن معناه إلى معنى آخر ؛ وهذا يسمّى التزاما» ، انتهت عبارته.

أقول : لا امتناع في أن يكون شيء واحد بأحد الاعتبارين علّة لنفسه بالاعتبار الآخر ، كما تقرّر في مدارك المحققين ، إذ مرجع ذلك حقيقة إلى عليّة أحد الاعتبارين للآخر ، على ما صرّح به الشّيخ الرئيس في كتاب «النّجاة».

وحينئذ نقول : يمكن أن يكون دلالة التّضمّن ، باعتبار كونها تضمّنا ، مستندة إلى دلالة المطابقة باعتبار كونها مطابقة وبواسطتها وبتبعيّتها ، بل الأمر على هذا النّمط.

فكما أنّ دلالة الالتزام ، لكونها بواسطة المعنى الموضوع له ، خارجة عن اللّفظيّة بالتّفسير المذكور ، فكذلك دلالة التّضمّن ، لكونها بواسطة المطابقة لا ابتداء ، خارجة عنها بذلك التّفسير. فلا فائدة لاتّحاد الدّلالتين ذاتا واختلافهما اعتبارا ، إذ مع ذلك لم يلزم اندراج دلالة التّضمّن في اللّفظيّة ، فتأمّل.

حرّر ما تضمّنته الأوراق أقلّ الخلائق خلالا وخصالا محمّد باقر بن محمد الحسينىّ ، المشتهر بداماد ، في شهر شوّال المنسطرة حروف أيّامه ولياليه ، طىّ صحيفة عام ٩٩٢ ، امتثالا لأمر الصّاحب الأعلم الأكرم ، والمخدوم المعظم الأعظم ، شمس سماء الفضل والكمال ، تدوير كوكب الإقبال والإجلال ، صاعد مدارج الكمالات النّفسانيّة ، محدّد جهات الفضائل الإنسانيّة ، صاحب المنزلتين ، سمّى

٥٢٧

ثانى السّبطين ، لا زال كاسمه تاجا للحكمة والملّة والدّنيا والدّين ، وكنفسه إماما قمقاما لعظماء المؤمنين ، بسيّد النبيّين وإمام الوصيّين.

(١١)

تعليقة في أنّ الحمل دليل الوجود الذّهنىّ

وأقول : يمكن أن يستدلّ على الوجود الذّهنىّ بأنّا لا نشكّ فى صحّة حمل بعض الأشياء على بعض آخر ، كحمل الكاتب على زيد ، مثلا ، ومناط الحمل الاتّحاد من جهة والتّغاير بحسب جهة أخرى. فلو انحصر الوجود في الخارجىّ لزم بطلان الحمل ، ضرورة أنّ الشيء المتّحد مع آخر بحسب الوجود الخارجىّ لا يغايره بحسب ذلك الوجود أصلا ، والمغاير له بحسبه لا يتّحد معه بحسبه أصلا.

فالمحمول إن اتّحد مع الموضوع بحسب الوجود الخارجىّ لا يمكن أن يغايره بحسب ذلك الوجود أصلا ولا حمل ؛ وإن غايره بحسبه فلا يتّحد معه بحسبه أصلا ، فلا حمل أيضا ؛ وإلّا لزم أن يكون شيء واحد في الوجود الخارجىّ متّحدا مع شيء مغايرا له ، هذا خلف. فلا بدّ من نحو آخر من الوجود سوى الخارجىّ ، هو الذي بحسبه يتحد المحمول مع الموضوع ، فيتمّ أمر الحمل. وذلك أيضا من سوانح الوقت.

(١٢)

دفع شبهة الاستلزام المنقولة عن ابن كمونة

تقريره : أنّ كلّ شيء يكون بحيث لو وجد لا يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فهو يكون موجودا أزلا وأبدا ، لا محالة. إذ لو كان معدوما في وقت كان عدمه في ذلك الوقت أمرا واقعيّا فيكون بحيث لو وجد لكان وجوده موجودا دائما.

وإذا تمهّد هذا ، فنقول : إنّ الحوادث اليوميّة من هذا القبيل ، فيلزم أن تكون موجودة أزلا وأبدا ، وهو محال. بيان ذلك أنّ الحوادث لو لم تكن بحيث لا يكون وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ لكان وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ. فحينئذ يتحقق الاستلزام بين الحوادث الواقعة [بين وجود الحوادث] وبين الرفع المذكور ، فيجب أن يكون ذلك الاستلزام لازما لوجود الحوادث ؛ وقد تقرّر في مقرّه أنّ عدم

٥٢٨

اللازم يستلزم عدم الملزوم ، فيلزم على تقدير عدم الاستلزام عدم الحوادث.

وهذا مناقض لما ذكر أوّلا فى المقدّمة ، من أنّ عدم الاستلزام يستلزم وجود السّرمديّ ، فبطل أن يكون وجود الحوادث مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فيجب أن يكون بحيث لا يكون وجودها مستلزما. فبناء على ما ثبت في المقدمة يلزم أن تكون الحوادث سرمديّة الوجود.

والجواب : أنّ اللوازم على قسمين ؛ أوّليّة ، كالضّوء اللّازم للشمس ، والزّوجيّة اللازمة للأربعة ، وثانويّة ، كاللّزوم الّذي هو بين اللّازم والملزوم.

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ قولهم : «عدم اللازم يستلزم» عدم مخصوص في اللوازم الأوّليّة فقط دون الثانويّة ، فإنّ عدم اللازم الذي هو من الثانويّة لا يستلزم عدم الملزوم ، بل إنّما يستلزم رفع الملازمة الأصليّة ؛ وانتفاء العلاقة بين اللازم والملزوم لا يلزم انتفاء هما ولا انتفاء احدهما ، بل يجوز أن يكونا موجودين ، ولا علاقة بينهما.

والسرّ في ذلك أنّ اللازم الثانوىّ في الحقيقة لازم لملزوميّة الملزوم ولازميّة اللازم ، فيلزم من انتفائه انتفاء هذين الوصفين ، ولا يلزم من ذلك انتفاء ذات اللازم ولا انتفاء ذات الملزوم.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الاستلزام المذكور في الحوادث اليوميّة من قبيل اللوازم الثّانويّة ، فلا يلزم من انتفائه انتفاء الحوادث ، حتّى يلزم المنافاة بين هذا وبين ما تقرّر في المقدّمة الممهّدة. هذا من إفادة أستادنا وأستاد الكلّ في الكلّ أمير محمد باقر الدّاماد. (كتابخانه مدرسه سپهسالار ، مجموعه ١٩١٩ ، برگ ١٤٧).

(١٣)

حلّ مغالطة ابن كمونة

اعلم ، أرشدك الله وإيّاى إلى طريق الحقّ والصّراط السّوىّ ، : أنّ المغالطة المشهورة لابن كمونة قد اختلف في تقريرها وحلّها أقوال النّاظرين. وأنا استوفيت الاحتمالات في تقريرها وحقّقت الجواب عن كلّ تقرير ، فأقول :

فإن أريد إثبات أزليّة الحوادث وجودا ، فلا بدّ أن يتمهّد مقدّمة ، وهى أنّ كلّ ما لا يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون موجودا أزلا وأبدا ، وإلّا لكان معدوما

٥٢٩

في وقت ، فيكون عدمه أمرا واقعيّا. وإذا فرضنا وجوده بعد العدم كان مستلزما لرفع أمر واقعىّ هو العدم ، فيكون خلاف المفروض. فثبت أنّ كلّ ما يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون موجودا أزلا وأبدا.

ثمّ أقول : الحوادث اليوميّة لا يكون وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، وكلّ ما لا يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون موجودا أزلا وأبدا ، فالحوادث اليوميّة موجودة أزلا وأبدا. أمّا الكبرى ، فلما ثبت في المقدّمة الممهّدة. وأمّا الصّغرى ، فلأنّه لو لم يكن وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ لكان مستلزما ، فيكون وجودها ملزوما للرفع. وإذا كان ملزوما للرفع كان ملزوما لاستلزام الرفع ، إذ ملزوم الشّيء ملزوم لاستلزامه ، والّا لم يتحقق الملازمة بينهما ، فيكون الاستلزام لازما لوجودها. وقد ثبت فى موضعه أنّ عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ، فيكون عدم استلزام الوجود مستلزما لعدم الوجود. وهذا مناقض لما ثبت في المقدّمة ، من أنّ عدم استلزام الوجود مستلزم لأزليّة الوجود. وهذا المحال إنّما نشأ من نفى عدم استلزامها ، فيكون عدم استلزامها للرفع حقّا ، فيكون أزليّتها حقّا ، وهو المطلوب.

والجواب : أنّ عدم استلزام الوجود الّذي هو ملزوم للوجود غير عدم استلزام الوجود الّذي هو ملزوم للعدم. إذ الأوّل بمعنى أنّ هاهنا وجودا متحقّقا غير مستلزم للرفع. والثاني بمعنى أن ليس هاهنا وجودا ولا استلزاما. والحاصل : أنّ الأوّل ينفى الاستلزام والثّاني ينفى الاستلزام والوجود. والسّرّ في ذلك : أنّ الأوّل يرجع إلى موجبة معدومة مقتضية لوجود الموضوع ، وهو «الوجود مستلزم» ، والثاني إلى سالبة بسيطة غير مقتضية له ، وهو «الوجود ليس بمستلزم».

وإن أريد : به إثبات أزليّة الحوادث عدما ، فأقول في تمهيد المقدّمة : كلّ ما لا يكون عدمه مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون معدوما أزلا وأبدا ، وإلا لكان موجودا في وقت ، فيكون وجوده أمرا واقعيّا. فإذا فرضنا عدمه بعد الوجود كان مستلزما لرفع أمر واقعىّ هو الوجود ، فيلزم المفروض.

ثمّ أقول : الحوادث اليوميّة لا يكون عدمها مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فيكون معدوما أزلا وأبدا. وإنّما قلنا : «إنّ عدمها غير مستلزم لرفع أمر واقعىّ» ، إذ لو كان

٥٣٠

مستلزما له لاستلزم ، فيكون الاستلزام لازما للعدم. فعلى تقدير عدم الاستلزام يلزم عدم العدم الذي هو الوجود ، وهذا مناقض لما ثبت في المقدّمة الممهّدة ، من أنّ عدم استلزام العدم ملزوم للعدم أزلا وأبدا.

والجواب : أنّ هناك الاستلزام منتف ، والعدم متحقق ، وهاهنا الاستلزام والعدم كلاهما منتفيان.

وإن أريد : إثبات أزليّة الحوادث مطلقا ، فتمهيد المقدّمة : أنّ كلّ ما لا يكون مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب الوجود أو العدم يكون أزليّا بحسب الوجود أو العدم ، وإلّا لكان موجودا أو معدوما فى وقت ، فيكون وجوده مستلزما لأمر واقعىّ هو العدم ، أو عدمه مستلزما لرفع أمر واقعىّ هو الوجود ، فيلزم خلاف المفروض.

ثمّ إنّ الحوادث لا تكون مستلزمة لرفع أمر واقعىّ بحسب الوجود أو العدم ، فيكون أزليّته بحسب الوجود أو العدم. وإنّما قلنا : إنّها لا تكون مستلزمة للرفع بحسب الوجود أو العدم ؛ إذ لو كانت مستلزمة لاستلزامه بحسبهما ، فيكون عدم عدم الاستلزام مستلزما لعدمهما بحسبهما ، وإذا انتفى الشيء بحسب الوجود أو العدم لا يكون أزليّا بحسب الوجود أو العدم. فذلك مناقض للمقدّمة الممهّدة ، من أنّ عدم الاستلزام ملزوم للأزليّة ، إذ هاهنا ملزوم لعدم الأزليّة.

والجواب : أنّ هناك شيئا بحسب الوجود أو العدم غير مستلزم للرفع ، وهاهنا لا شيء بحسب الوجود أو العدم ، ولا استلزام ذاتيّ. وإنّى تفرّدت بهذا التحقيق والتّفصيل ، بعون الله الملك الجليل.

من إفادات ثالث المعلّمين ، قدوة المجتهدين ، السّيّد السّند ، الكامل الأمجد ، العالم الرّبّانىّ ، خاتم المحققين ، مير محمد باقر الدّاماد الحسينىّ العلوىّ. (كتابخانه آستان قدس ، مجموعه ، ٢٥١).

(١٤)

فحص تحقيقىّ فى حلّ مغالطة الاستلزام

قد يكون اللّزوم بين الشيء ولازمه باعتبار خصوصيّة ذاتى الملزوم واللّازم من دون ملاحظة أمر آخر ، كما بين الأربعة والزّوجيّة ؛ وقد يكون لا بخصوص ذلك الاعتبار ،

٥٣١

بل من حيث لزوم ذلك اللّازم لما هو لازم لذلك الشّيء باعتبار خصوص ذاته ، كما بين الأربعة ولزوم الزّوجيّة لها. فإنّ امتناع الانفكاك بين الأربعة وهذا اللزوم ، إنّما هو من حيث إنّ امتناع الانفكاك بين الأربعة والزّوجيّة يستلزم ذلك ، حتّى لو أمكن أن يكون امتناع الانفكاك بين الأربعة والزّوجيّة مع إمكان انفكاك ذلك اللزوم عنها لما استلزمت الأربعة ذلك اللزوم. وكذا الكلام فى لزوم اللزوم إلى غير النّهاية.

وبعد ذلك نقول : إنّ التّلازم بين الشّيء ولازمه الأولىّ الذّاتىّ ، كالأربعة والزوجيّة ، يقتضي انعكاس التلازم بين نقيضيهما. وأمّا التلازم بين الشّيء ولازمه الغير الذّاتىّ فقد لا يقتضي انعكاس التّلازم بين النقيضين. وذلك إذا كان نقيض اللّازم مستلزما لرفع التّلازم الأصليّ بين العينين ، فإنّ انعكاس التّلازم بين النّقيضين إنّما هو على تقدير بقاء التّلازم بين العينين. مثلا ، التّلازم بين الأربعة وبين لزوم الزوجيّة لها لا يقتضي التلازم بين نقيضيهما ، كما أنّ التّلازم بين أربعة والزّوجيّة يقتضي ذلك. وذلك لأنّ عدم لزوم الزوجيّة للأربعة ، أعنى نقيض اللازم ، يقتضي بطلان أصل الملازمة بين الأربعة والزّوجيّة ، فيبطل الملازمة بين الأربعة وبين ذلك اللزوم أيضا ، فإنّ هذه الملازمة إنّما كانت من حيث الملازمة الأولى. فلا يبقى نقيض اللازم نقيضا للّازم ولا نقيض الملزوم نقيضا للملزوم ، حتى يكون بينهما تلازم. فظهر أنّ عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة لا يقتضي عدم الأربعة بخلاف عدم الزّوجيّة ، فإنّه يقتضي عدم الأربعة.

وعند إتقان هذا التحقيق يظهر وجه الغلط فى الشّبهة المستصعبة المشهورة الدّائرة على ألسنة الأذكياء بالصّعوبة. وتقريرها أن يقال : كلّما لم يكن وجود الشّيء مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب نفس الأمر كان ذلك الشّيء موجودا بالفعل دائما ، لكن كلّ ممكن ليس وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب نفسه ، فيكون كلّ ممكن موجود دائما ، هذا خلف.

أمّا المقدّمة الأولى ، فلأنّ الشّيء الغير المستلزم وجوده لرفع الأمر النفس الأمرىّ لو لم يكن موجودا دائما كان معدوما وقتا ما بحسب نفس الأمر قطعا ، فكان وجوده مستلزما لرفع عدمه ، وإلّا اجتمع النقيضان ، فيلزم خلاف الفرض.

٥٣٢

وأمّا المقدّمة الثانية ، فلأنّه لو كان وجود ممكن ما مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب نفس الأمر كان مستلزما لذلك الاستلزام أيضا. فكان عدم ذلك الاستلزام مستلزما لعدم ذلك الممكن ، لتعاكس الملازمة بين نقيض الملزوم واللازم.

وقد ظهر من بيان المقدّمة الأولى : أنّ عدم ذلك الاستلزام مستلزم لوجود ذلك الممكن ، فيلزم اجتماع النّقيضين ، هذا خلف. فلاح أنّ وجود شيء من الممكنات ليس مستلزما لرفع أمر واقعىّ فى نفس الأمر.

ووجه ظهور الغلط أنّ استلزام وجود الممكن لاستلزامه رفع الأمر الواقعىّ إنّما هو من حيث الملازمة الأولى ، وعدم ذلك الاستلزام يقتضي بطلان أصل الملازمة بين وجود الممكن وبين ذلك الرّفع ، فيبطل الملازمة بين وجوده وبين ذلك الاستلزام أيضا. فعدم ذلك الاستلزام لا يستلزم عدم ذلك الممكن قطعا ، على ما تحقق. فأتقن ذلك ولا تتّبع خطوات الأوهام.

وأمّا ما يقال ، فى المشهور فى دفع تلك الشّبهة من : «أنّ عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر واقعىّ محال ؛ فجاز أن يستلزم ، على ما مرّ تحقيقه ، عدم ذلك الممكن ، وإن كان ذلك أيضا محالا ، لجواز استلزام المحال محالا آخر» ؛ فيقدحه : أنّ جواز استلزام المحال محالا آخر إنّما يتصوّر لو لم يكن بين المحالين تناف ، كما تقرّر فى مظانّه. وأمّا إذا تحققت المنافاة بين المحالين ، كما بين عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر واقعىّ وبين عدمه على ذلك التّقدير ، فلا يتصوّر الملازمة بينهما. وهذا أمر كتب القوم به مشحونة.

وأيضا ، معنى جواز استلزام المحال محالا ، هو أنّ أحد المحالين على تقدير تحقّقه جاز أن يستلزم عند تحقّقه تحقّق محال آخر. وأمّا مفهوم المحالين ، فلا يصحّ الحكم باللزوم بينهما إلّا أن يكون بينهما علاقة الملازمة. والمأخوذ فى المغالطة هو اللزوم بين مفهوم عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر واقعىّ وبين مفهوم عدم الممكن بالفعل بحسب التّحقيق ، لتحقّق الملازمة بين مفهوم ذلك الاستلزام وبين مفهوم وجود الممكن بالفعل بحسب التّحقق ، وانعكاس التّلازم بين نقيضى الاستلزام وبين مفهوم وجود الممكن بالفعل بحسب التّحقق وانعكاس التّلازم بين نقيضى المتلازمين ، فأحسن التّدبّر. م ح ق ، رحمه‌الله تعالى.

٥٣٣

(١٥)

جواب المغالطة المشهورة لابن كمونة

قد تمهّد للمغالطة المشهورة لابن كمونة مقدّمة ، هى أنّ عدم استلزام الشّيء لرفع أمر واقعىّ مستلزم وجود هذا الشّيء ، لأنّه لو لم يستلزم الوجود لكان محقّقا مع العدم ، والعدم لا محالة يكون حينئذ أمرا واقعيّا ، والوجود يرفع هذا العدم ، فيلزم استلزام الوجود لرفع الأمر الواقعىّ الّذي هو العدم. وهو خلاف المفروض ، لعدم استلزام الوجود لرفع أمر واقعىّ مستلزم للوجود.

إذا تمهّد هذا ، فنقول : المعدومات مطلقا موجودة ، لأنّ وجودها ليس مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، وكلّ ما ليس وجوده مستلزما لرفع امر واقعىّ فهو موجود.

أمّا المقدّمة الثّانية ، فهى ظاهرة ، بناء على ما مهّد. وأمّا الأولى ، فلأنّه لو لم يكن حقّا لكان نقيضه حقّا. وهو أنّ وجودها مستلزم لرفع أمر واقعىّ ، وإذا كان وجودها مستلزما لرفع واقعىّ لكان مستلزما لذلك الاستلزام أيضا ، فيكون استلزام رفع الأمر الواقعىّ لازما للوجود ، فعدم الاستلزام مستلزم للعدم ، بناء على أنّ نقيض اللّازم ملزوم لنقيض الملزوم ، وقد سبق فى ما سبق أنّ عدم الاستلزام مستلزم الوجود ، هذا خلف.

حلّه : أنّ عدم الاستلزام الّذي فى ما سبق مباين للاستلزام الّذي هاهنا. وذلك أنّ المراد فى ما سبق عدم الاستلزام بمعنى أن لا يكون أصل الاستلزام متحققا بين الوجود والارتفاع. لكن ليس الوجود والارتفاع متحققين حتى يتحقق الاستلزام. ولنورد لتوضيحه مثلا : أمّا عدم الاستلزام المذكور أوّلا ، فلعدم الاستلزام الّذي بين طلوع الشمس ووجود اللّيل. وأمّا عدم الاستلزام المذكور ثانيا ، فلعدم الاستلزام الّذي بين طلوع الشمس ووجود النّهار. م ح ق. انتهى (حكمت بوعلى سينا ، ج ٣ ، ص ١٨٣).

(١٦)

تعليقة

الحقّ أنّ انتفاء أحد الأجزاء ليس علّة لعدم المركّب ، بل هو مقارن لعلّته ، فإنّ علّة عدم المركّب انتفاء علّته التامّة ، وانتفاء أحد الأجزاء مقارن لانتفاء العلّة التامّة ولازم له.

٥٣٤

وما يقال ، من «أنّ ارتفاع الجزء بعينه ارتفاع الكلّ ، فانتفاء أحد الأجزاء إمّا عين انتفاء المركّب أو عين انتفاء علّته التامّة» ، فلا ثقة به ، إذ لو كان كذلك كان أمر واحد عين العلّة والمعلول معا ، لأنّه جزء المركّب. كما أنّه جزء للمركّب كذلك هو جزء لعلّته التّامّة ، فكان عدمه عين عدم المركّب وعين عدم علّته التامّة ، وعدم العلّة علّة لعدم المعلول ، فكان عدم ذلك الجزء بعينه علّة ومعلولا من جهة واحدة. وهو باطل ، فإنّ تغاير الحيثيّة التّعليليّة لا يفيد فى كون الشيء علّة ومعلولا ، والحيثيّة لم تختلف التّقييديّة هاهنا ، فتأمّل وكن على بصيرة فى أمرك. «ح م ق. أيّده الله.»

(كتابخانه آستان قدس. ضميمه اعتقاد الحكماء سهروردى ، شماره ١٧٩٢).

(١٦) سدرة المنتهى

والاعتصام بالمنّان القديم

الحمد لله العزيز العليم ، المهيمن العظيم ، الّذي أنزل كتابه الحكيم نورا ساطعا بالبرهان ، فظلّت أحداق العقلاء لمساطع أشعّته عبّدا ، وفجرا صادعا بالتّبيان ، فطلّت أعناق المصاقع دون سطاع بلاغته خضّعا ، ويخرّون للأذقان سجّدا ، وابتعث من بوتقة بطحاء العزّ والشرف وسرّة بطاح العلم والحكمة رسولا كريما ، فتضاءل العقول في معاهد شرعته ومماهد سنّته قنّتا وركّعا وسجّدا ، واستخلف له من صميم خاصّته الأقربين أوصياء أنجبين وأئمة أكرمين ، حديثهم بين ، ويقينهم عيان. تأتيهم أفواج سرّ الغيب في أنفاث روح القدس شرّعا وصدّعا. فهم تراجمة الوحى وأمناء السّرّ وقرناء الكتاب الكريم ، صلّى الله عليه وعليهم أتمّ الصّلاة وسلّم أطيب التّسليم.

وبعد ، فإنّ دانق سبيل معرفة الله وخادم دين رسول الله ، أفقر المفتاقين وأحوج المربوبين إلى رحمة الله ، الحميد الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له نشأتيه بالحسنى وسقاه من كأس المقرّبين ممّن له لديه لزلفى ، وجعل خير يوميه غده ، ولا أو هن من الاعتصام بحبل فضله العظيم يده ، يقول : معشر المتعطّشين ومعاشر المتنشطين ، طالما أصبحت مهجكم العطشى ظامئة الأكباد ، وأضحت أفئدتكم اللوعى خامئة الأدماغ ، أنتم في مهمه الشوق هائمون ، و

٥٣٥

على مشاره اللوعة دائمون ، أشواق عقولكم متمدّدة الأعناق ، راصدة الأقطار ، وأرواق قلوبكم متقلبة الأحداق ، شاخصة الأبصار.

فها سلسبيل من رحيق متشوّقكم ، وزنجبيل من عتيق مترقّبكم ، جدول فيض من نعمة الله ، ونهر رشح من رحمة الله ، فلذة ممّا قد امتنّ به على من فضله العظيم ، وخصّنى به من منّه القديم ، موسوما ب «سدرة المنتهى» ، في تفسير كتابه العزيز ، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيلا من ربّ السّماوات العلى. وتلك الفلذة هى ما يتعلّق منه بأمّ الكتاب وسورتى الجمعة والمنافقين ، لما أنّا بحول الله تعالى وقوّته وفضله ورحمته ، وأيده ومنّه وعونه وعصمته ، في مثل هذا الزّمان وشنئاته ، نقيم صلاة الجمعة وفريضتها ، ونحيى شعارها ووظيفتها ، وإنهنّ ملاك هذه الصّلاة وقوامها ، وبهنّ نظامها وتمامها.

فلنفض الآن في أجراء هذا النّهر الإلهيّ والجدول السّماوىّ ، راجين من فضل الله العظيم أن يتمّ لنا نعمته وينشر علينا رحمته ، فيأخذ بجنانى وهمّى وبنانى وقلمى إلى إتمام أصل الكتاب ، إنّه الكريم الوهّاب.

وعسى إن شاء الله العزيز أن سيقرع السّمع عن كثب من صقع فضاء الرّحمة وعرش سماء التّوفيق ، هتاف غيبىّ وخطاب قدسىّ ؛ أن قد آن آنه وحان حينه وحضر أوانه وجاء إبانه ، وأعظم علما ليس بالظّن أنّه ... إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا ..... ممّا يتعاطاه علم ، لا على سبيل التّصوير ، كما ربّما يظنّ ، بل على أنّ في ذمّته أن يتعاطاه وإن كانت مباديه أو ضاعا ومصادرات في هذا العلم ، البحث عن الوحى والإيحاء وإنزال الكتاب وتنزيله.

فمن الدّائر على الألسن أنّ وصف القرآن بالنّزول الّذي لا يتّصف به إلّا المتحيّز بالذّات دون الأعراض ، وسيّما غير القارّات ، كالأصوات ، إنّما هو بتبعيّة محلّه ، سواء أخذ حروفا ملفوظة أو معانى محفوظة ، وهو الملك الذي يتلقف الكلام من جناب الملك العلّام تلقّفا سماعيّا أو يتلقى تلقّيا روحانيّا أو يتحفّظه من اللوح المحفوظ ، ثمّ ينزل به على الرّسول ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا يتمشى هذا النّمط إلّا على القول بتجسّم الملائكة. وأمّا الخارجون عن دائرة التحصيل ممشاهم ذلك.

٥٣٦

فأمّا على ما هو صريح الحقّ وعليه الحكماء الإلهيّون والمحصّلون من أهل الإسلام : أنّ الملائكة على قبائل ، سفليّة وعلويّة ، أرضيّة وسماويّة ، جسمانيّة وقدسانيّة ، وفي القبائل شعوب وطبقات ، كالقوى المنطبعة والطبائع الجوهريّة ، وأرباب الأنواع والنّفوس المفارقة السّماويّة والجواهر العقليّة القادسة بطبقات أنواعها وأنوارها ، ومنها روح القدس النّازل بالوحى النّافث في أرواح أولى القوّة القدسيّة ، بإذن الله سبحانه.

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر ، ٣١] ، وفي الحديث عنه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ «أطّت السّماء ، وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع» [الدّرّ المنثور ، للسيوطى ، بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٩٩].

فالأمر غير مستتبّ ، اللهمّ إلّا أن يسمّى ظهورهم العقلانىّ لنفوس الأنبياء ، عليهم‌السلام ، نزولا ، تشبيها للهبوط العقلىّ والاعتلاق الرّوحانيّ بالنّزول الحسّىّ والاتصال المكانىّ ، فيكون قولنا : «نزل الملك» استعارة تبعيّة ، وقولنا : «نزل الفرقان» مجازا مرسلا بتبعيّة تلك الاستعارة التبعيّة.

قلت : لا يطمعنّ منّى أحد من النّاس أن أستصحّ ذلك بجهة من الجهات ، وإنّ فيه شقّا لعصا الأمّة بفرقها المفترقة وأحاديثها المتواترة وخرقا للقوانين العقليّة الفلسفيّة ، وفسخا للضوابط المقرّرة البيانيّة. فالأمّة مطبقة على أنّ النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يرى جبرئيل وملائكة الله المقرّبين ، عليهم‌السلام ، ببصره الجسمانيّ ، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم القدسىّ بسمعه الجسمانيّ ؛ وقوائم الحكمة قائمة بالقسط أنّه إنّما ملاك الرّؤية البشريّة والإبصار الحسّىّ انطباع الصّورة في الحسّ المشترك. وإنّما المبصر المرئىّ بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدى الحسّ صورته الذّهنيّة المنطبعة.

وأمّا ذو الصّورة بهويّته العينيّة ومادّته الخارجيّة فمبصر بالعرض ، مرئىّ بالمجاز وإن كان مثوله العينىّ شرطا بالإبصار ، والجليديّتان هما وسيلتا التأدية ، لا لوحا الانطباع ، وعلى هذه السّنّة شاكلة السّمع أيضا ، والإفاضة مطلقا من تلقاء واهب الصّور.

فإذا كانت النّفس واغلة الهمّة في الجنبة الجسدانيّة ، طفيفة الانجذاب إلى صقع

٥٣٧

الحقّ وعالم القدس ، لم يكن لبنطاسياها سبيل إلى التّطبّع بالصّورة من تلقاء واهب الصّور ، إلّا من مسلك الحاسّة الظاهرة ومثول المادّة الخارجيّة بين يدها.

فأمّا إذا كانت قدسيّة الفطرة ، مستنيرة الغريزة في جوهر جبلّتها المفطورة ثمّ فى سجيّتها المسكوبة ، صارت نقيّة الجوهر ، طاهرة الذّات ، أكيدة العلاقة بعالم العقل ، شديدة الاستحقاق لعلم الحسّ ، قاهرة الملكة ، قويّة المنّة على خلع البدن ورفض الحواسّ والانصراف إلى صقع القدس حيث شاءت ومتى شاءت بإذن ربّها ، وقوّتها المتخيّلة أيضا قليلة الانغماس في جانب الظّاهر ، قويّة التلقّى من عالم الغيب ، فإنّها تخلص من شركة الطّبيعة ، وتعزل اللّحظ عن الجسد في اليقظة ، فترجع إلى عالمها ، وتتّصل بروح القدس وبمن شاء الله من الملائكة المقرّبين ، وتستفيد من هنالك العلم والحكمة بالانتقاش على سبيل الرّشح ، مرآة مجلوّة حوذى بها شطر الشّمس.

ولكن حيث إنّها يومئذ فى دار غربتها بعد بالطبع ، ولم تنسلخ عن علاقتها الطبيعيّة بتدبير جيوشها الجسديّة وأمورها البدنيّة ، تكون مثلها في ما تناله بحسب ذلك الشّأن وتلك الدّرجة ، تحوّل الملك لها على صورة مادّيّة متمثّلة في شبح بشرىّ ، ينطق بكلمات إلهيّة مسموعة منظومة. كما قال عزّ من قال : «فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويّا [مريم ، ١٧]. وأعنى بذلك ارتسام الصّورة في لوح الانطباع ، لا من سبيل الظاهر والأخذ عن مادّة خارجيّة ، بل بالانحدار إليه من الباطن ، والحصول عن صقع الإفاضة.

فإذن في السّماع والإبصار المشهوريّين يرتفع المسموع والمبصر من الموادّ الخارجيّة الى لوح الانطباع ، ثمّ منه إلى الخيال والمتخيّلة ، ثمّ يصعد الأمر إلى النّفس العاقلة.

وفى إبصار الملك وسماع الوحى ، وهما الإبصار والسّماع الصّريحان ينعكس الشّأن ، فينزل الفيض إلى النفس من عالم الأمر ، فهى تطالع شيئا من الملكوت مجرّدة غير مستصحبة لقوّة خياليّة أو وهميّة أو غيرهما. ثمّ يفيض عن النّفس إلى القوّة الخياليّة ، فتخيّله مفصّلا منضما بعبارة منظومة مسموعة ، فتمثّل لها الصّورة في الخيال من صقع الرّحمة وعالم الإفاضة ، ثم تنحدر الصّورة المتمثّلة والعبارة المنتظمة من الخيال والمتخيّلة إلى لوح الانطباق ، وهو الحسّ المشترك ، فتسمع الكلام وتبصر

٥٣٨

الصّورة. فهذا أفضل ضروب الوحى والإيحاء.

ويقال : إنّه مخاطبة العقل الفعّال للنفس بألفاظ مسموعة مفصّلة ، وله أنحاء مختلفة ومراتب متفاصلة ، بحسب درجات للنفس متفاوتة. وقد يكون في بعض درجاته لا يتخصّص المسموع والمبصر بجهة من جهات العالم بخصوصها ، بل الأمر يعمّ الجهات بأسرها في حالة واحدة.

وفي الحديث : «إنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف يأتيك الوحى؟ قال : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدّ على ، فيفصم عنّى ، وقد وعيت عنه ما قال ؛ وأحيانا يمثّل إلى الملك رجلا ، فيكلّمنى ، فأعى ما يقول» [بحار الانوار ، ج ١٨ ، ص ٢٦٠. عن المناقب لابن شهرآشوب ،]

وربما تكون النّفس المتنوّرة ، صقالتها في بعض الأحايين أتمّ ، وسلطانها على قهر الصّوارف الجسدانيّة والشّواغل الهيولانيّة أعظم ، فيكون عند الانصراف عن عالم الحسّ والاتّصال بروح القدس استئناسها بجوهر ذاته المجرّدة منه بالشّبح المتمثّل فتشاهده ببصر ذاته العاقلة ، وتستفيد منه وهو في صورته القدسيّة ، كما ورد في الحديث : «إنّ جبرئيل أتى النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مرّة في صورته الخاصّة كأنّه طبق الخافقين» [بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٢١٥].

ثمّ دون هذه الضّروب لسائر درجاته ما يتّفق له من القوّة القدسيّة نصيب مرتبة النبوّة أن يرى ملائكة الله ويسمع كلام الله ، ولكن في النّوم ، لا في اليقظة.

وسبيل القول فيه أيضا ما دريت ، إلّا أنّ الأمر هناك ينتهى إلى القوّة المتخيّلة ويقف عندها بمحاكاتها وتنظيمها وتفصيلها ، لما قد طالعته النفس من عالم الملكوت من دون انحدار الصورة المتمثّلة والعبارة المنتظمة منها إلى الحسّ المشترك.

فأمّا الرّؤيا الصالحة لنفوس العرفاء والصّالحين فواقعة في هذا الطريق ، غير واصلة إلى درجة النّبوّة وبلوغ الغاية. وفي الحديث : «إنّها جزء من ستّة وأربعين أو سبعين جزءا من النبوّة» ، على اختلافات الرّوايات.

وقصاراها في مرتبة الكمال وأقصاها للمحدّثين ـ بالفتح ، على البناء للمفعول ، من التحديث ـ وهم الّذين يرفضون عالم الشهادة ، ويصعدون إلى عالم الغيب ، فربما

٥٣٩

يسمعون الصّوت في اليقظة من سبيل الباطن ، ولكنّهم لا يعاينون شخصا متشبّحا. وفي كتاب الحجّة من كتاب «الكافي» لشيخ الدّين أبى جعفر الكلينىّ ـ رضى الله عنه ـ باب في الفرق بين الرّسول والنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمحدّث ، وأنّ الائمة ، عليهم‌السلام ، محدّثون مفهّمون ، [الكافي ، ج ١ ، ص ٢٧٠].

وإذ قد انصرح لك من المسألة من سبيلها ، فقد استبان أنّ قولنا : «نزل الملك» ، مجاز عقلىّ مستعمل طرفاه في معنييهما الحقيقيّين ، والتجوّز فيه في الإسناد ، إذ النزول حقيقة منسوب إلى الصّورة المتشبّحة المتمثّلة ، وقد اسند بالعرض إلى الجوهر المجرّد القدسىّ ، وهو الملك. وليس هو من الاستعارة في شيء أصلا ، كما قولنا : «تحرّك جالس السفينة» ، وقولنا : «أنا متحرّك» و «أنا ساكن» ، وقولنا : «رأيت زيدا» إذا عنينا به شخصه الموجود في الخارج بهويّته العينيّة ، لا صورته الذهنيّة المرئيّة المنطبقة في الحسّ المشترك ، وسائر المقولات في وجود الاتّصافات بالعرض كلّها على هذه الشاكلة.

وأمّا «نزل الفرقان» ، فمجاز مرسل ، لاتّباعه استعارة تبعيّة ، بل من حيث إنّ النازل على الحقيقة محلّه ، وهو تلك الصّورة البشريّة المتشبّحة النّازلة ، أو تجوّز عقلىّ ، لا في شيء من الطرفين بل في الإسناد ، على أنّ الأصوات والحروف والألفاظ ليست أعراضا حالة في لسان المتكلم ، بل هى تقطيعات عارضة للهواء من تلقاء حركة اللّسان.

إن قلت : بنيت الأمر في ما أفدت على القول بالانطباع في باب الرؤية ، فما سبيل القول هنالك على المذهبين الآخرين ، وهما خروج الشّعاع ، أى في فيضانه من المبدأ الفيّاض منبثّا في الهواء المتوسّط بين الجليديّة وسطح المرئىّ على هيئة المخروط وحصول الإضافة الإشراقيّة للنفس المستوجبة للانكشاف الإبصارىّ ما دامت المقابلة بين المرئىّ والجليديّة على ذلك الهيئة.

قلت : لست اكترث لذلك ، إذ إنّما يسمّى ذلك الخلاف وتثليث القول في الموادّ الخارجيّة والرؤية من مسلك الجليديّة ، ومن مذهب الظّاهر ، لا في الإبصار من سبيل الباطن ومذهب الغيب من دون الأخذ من مادّة خارجيّة. ثمّ الآراء الثلاثة متحاذية الأقدام في تطابق اللوازم واتحاد الأحكام ، حذو القذّة بالقذّة ، والسّواد الأعظم على مسلك الانطباع. ويشبه أن يكون الحقّ لا يتعدّاه.

٥٤٠