مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فلا محيص إلّا بأن يصار إلى أنّ مقدار اليوم بليلته ليس دورة المعدّل مع مطالع مقوّم الشّمس فيها ، بل هي مع مغارب المقوّم النّهارىّ ومطالع المقوّم اللّيلىّ. وذلك ، مع أنّه على خلاف صرائح عباراتهم ، تصادمه الضّرورة القاطعة بأنّ المعدّل ، إذا أتمّت الدّورة ثمّ طلعت مطالع ما سارته الشّمس فيها ، ينتهى مركز الشّمس إلى أفق الشّرق ، وقبل ذلك يكون تحت الأفق.

وما يقتضيه الفحص البالغ هو أنّ قوس مسير الشّمس في منطقة البروج من حين طلوع نقطة من المعدّل كانت ، مع مركز الشّمس على أفق الشّرق إلى حين غروب تلك النّقط ، إنّما تعتبر في مقدار اليوم بليلته بالجزئيّة ، أعنى في زمان مفارقة مركز الشّمس أفق الشّرق إلى عوده إليه باعتبار الطلوع ، فيكون المعتبر هناك مطالع تلك القوس لا غير. وأمّا فى مقدار النّهار ، أعنى زمان ما بين كون مركز الشّمس على أفق الشّرق وبين كونه على أفق الغرب ، فإنّما تعتبر تلك القوس باعتبار الغروب ، فيكون جزء قوس النّهار مغاربها.

فزمان ما بين طلوع مركز الشّمس إلى طلوع آخر ، ليس هو مجموع زمانى الطّلوع إلى الغروب ثمّ الغروب إلى الطّلوع ، إذ لا يتوقف ذلك على اعتبار الغروب أصلا.

نعم هو دورة من المعدّل مع مجموع قوس مسير الشّمس في منطقة البروج من حين غروب نقطة من المعدّل هي مع مركز الشّمس على أفق الشّرق إلى حين طلوعها. فكلّ من القوسين إنّما يتوقف عليها الطّلوع إلى الطلوع باعتبار المطالع.

وملخّص القول : أنّه تطلع نقطة من المعدّل مع مركز الشّمس وتتحرّك بحركة المعدّل إلى أن تصل إلى أفق الغرب ، وتغرب بعد ذلك مغارب ما سارته الشّمس في تلك المدّة بحركتها الخاصّة من منطقة البروج ، فتغرب مركز الشّمس ويتمّ زمان النّهار وقوسه ، ثمّ تغرب نقطة من المعدّل مع مركز الشّمس وتتحرك إلى أن تصل إلى أفق الشّرق ، فتتمّ دورة المعدّل وتطلع بعد ذلك مطالع مجموع ما سارته الشّمس في تلك الدّورة بحركتها الخاصّة من منطقة البروج ، فتطلع مركز الشّمس من أفق الشّرق ثانيا ويتمّ مقدار اليوم بليلته ، أعنى زمان ما بين طلوع مركز الشّمس اليوم آخر.

فإذن لا فساد في عدم مساواة مقدار اليوم بليلته لهذا المعنى لمجموع مقدارى

٥٠١

زمانى النّهار واللّيل. فتدبّر وأحسن إعمال رويّتك.

(٤ ـ القوس جزء أو كلّ)

ثمّ مهما استيقنت وتيقّنت ، تحقّق لديك : أنّه إن اعتبرنا قوس النّهار ، بما هي به جزء من مقدار اليوم بليلته ، بمعنى زمان ما بين الطّلوعين ، مركز الشمس ، كان المعتبر فيها ما سارته الشّمس بحركتها الخاصّة من منطقة البروج من حين طلوع نقطة من المعدّل مع مركزها إلى حين غروب تلك النّقطة بحسب المطالع ؛ وإن اعتبرناها على معنى أنّها مقدار ما بين طلوع مركز الشّمس وغروبها ، كان المعتبر فيها هي بعينها تلك القوس الّتي سارتها الشّمس بحركتها التّقويميّة من حين طلوع نقطة من المعدّل مع مركزها إلى حين غروب تلك النّقطة ، لكن لا بحسب المطالع ، بل بحسب المغارب.

فحينئذ لو صيّر إلى مسلك الحكيم المحقق وشيعته من اعتبار تلك القوس بحسب المطالع ، لسانح أيضا باعتبار ، وإن كان المصير إلى ما ذهبنا إليه أسوغ وأولى.

(٥ ـ سؤال)

فعلى ما حققناه ، لو سئل وقيل : هل مقدار اليوم بليلته ، أى زمان ما بين طلوعى مركز الشّمس ، يخالف مجموع مقدارى قوسى النّهار واللّيل ، أى زمانى ما بين طلوع مركز الشّمس وغروبها ، ثمّ ما بين غروبها وطلوعها.

(٦ ـ جواب)

يجاب ويقال : نعم ، ويستغرب أشدّ الاستغراب. وذلك من خواصّ كون الأفق مائلا ومن الغرائب اللّازمة لميلان الآفاق المائلة. كما أنّ كون حركة الشمس في الليل عن معدّل النّهار ، مثلا ، على مجموع قوس ما من منطقة البروج غير مساوية لضعف حركتها في اللّيل عنه على نصف تلك القوس ، من خوّاص كون منطقة البروج مائلة عن معدّل النّهار غير مساوة لضعف ارتفاع ساعة ، بل أقلّ منه ، من خواصّ مثل ذلك التّقاطع بين الأفق ومعدّل النهار. فإنّ ذلك يقتضي أن تكون القسىّ الواقعة من دائرة نصف النّهار ، بل من دائرة الارتفاع بين المنتظرات المارّة بأطراف القسىّ المتساوية المتتالية المفصولة بها من معدّل النّهار فوق الأفق متخالفة المقدار بالتّصغر والعظم ، أعظمها ما يقرب من الأفق.

٥٠٢

كما أنّ القسىّ الواقعة من المارّة بالأقطاب الأربعة بين مدارات الميول لأطراف القسىّ المتساوية المتتالية المفصولة بها من منطقة البروج مخالفة ، أعظمها ما يقرب من المعدّل ، لما في خامس ثالثة «أكر ثاوذوسيوس» ، وجيب مجموع القوسين المختلفين أصغر من ضعف جيب الأعظم منهما. وإن استندت تلك المخالفة إلى غير ذلك أيضا ، كان جيب ضعف القوس أصغر من ضعف جيب القوس ، كما برهنّا عليه في رسالتنا : «جيب الزّاوية» ،

فيشمل الحكم ما إذا تساوت القسىّ الواقعة من دائرة الارتفاع بين تلك المنتظرات ، كما في خطّ الاستواء من تلك الجهة ، كما يشمل الآفاق المائلة من الجهتين ، وككون جيب ارتفاع ساعة منضمّا إلى ارتفاع جيب ارتفاع الأخرى أصغر في الرّؤية ممّا إذا انفرد لقربه من الأفق ورؤيته أعظم ممّا إذا بعد عنه ، فيظهر الحكم حينئذ في جميع الآفاق مع قطع النّظر عن تخالف جيب ضعف القوس وضعف جيب القوس أيضا.

ثمّ على ما حقق ، يتفرع مسألة غريبة أخرى ، هي أنّ مقدار اليوم إذا أخذ المبدأ من الغروب. مثلا ، إذا كانت الشمس في أولى السّرطان عند الطلوع ، كان مقدار اليوم بليلته إذا أخذ المبدأ من الطلوع دورة من المعدّل ومطالع الدّرجة الأولى من السّرطان ؛ وإذا كانت عند الغروب كذلك ، وأخذ المبدأ من الغروب ، كان مقداره دورة من المعدّل ومغارب الدّرجة الأولى من السّرطان. وقد تبيّن أنّ مطالع القوس في آفاق المائل لا تساوى مغاربها. فقد اختلف مقدار اليوم بليلته في أفق واحد والشمس في موضع واحد من جهة اختلاف المبدأ.

فربما يسأل أنّ مقدارا واحدا ، هل يمكن أن يخالف نفسه في الكميّة بسبب اختلاف اعتبار المبدأ. ويجاب بالإمكان ، ويستغرب غاية الاستغراب. وفي المقام دقّة وغموضة مع لطافة ونفاسة. فتلطّف في سرّك وتبصّر في تخيّلك كى تتجلّى عليك خبيئة المرام من جلباب الكلام. والحمد لواهب الفكر ومفيض الإلهام.

كتابخانه مجلس شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ١٢٣١).

٥٠٣

(٢)

مفهوم الوجود والماهيّة

اعلم أنّ كلّ ممكن ، سواء كان أزليّا أو حادثا ، يكون بالنّظر إلى ذاته لا شيئا صرفا ، فإذا حصل له الشّيئيّة والكون الخارجىّ والحقيقة الخارجيّة المتأصّلة ، فلا يكون ثبوت شيء من تلك الأمور في ذاته مع قطع النّظر عن الغير ، وإلّا يلزم أن يكون واجبا بالذّات وموجودا بالذّات ، فيلزم الانقلاب ، وهو محال بالبديهة.

إذا تمهّد هذا ، فنقول : لا شكّ أنّ السّماء والأرض وغيرهما من الحقائق الخارجيّة لمّا لم يكن لها باعتبار ذاتها حقائق وأمور خارجيّة ، فيكون جميعها أثر الجاعل في الخارج ، فقد تحقّق أثر الجاعل في الخارج.

ولمّا لم يكن بين الحقائق الخارجيّة وبين وجوداتها الخارجيّة اثنينيّة خارجيّة ، لأنّ الوجود الخارجىّ ليس أمرا انضماميّا ، كالسّواد والبياض ، على ما عرفت مشروحا صحفنا الحكميّة ، فبقى احتمالان :

أحدهما : أن يكون أثر الجاعل الحقائق الخارجيّة ، والوجود يكون أمرا انتزاعيّا ، وزيادة الوجود على الماهيّة في الذّهن فقط ، على ما قال المحقق الفريد في «التجريد» ، بقوله : «وزيادته في التّصوّر». وقد بسطنا تحقيق ذلك وحقّقنا الأمر في ذلك في مزبوراتنا حقّ التّحقيق والبسط.

وثانيهما : أن يكون أثر الجاعل نفس الوجودات الخارجيّة ، والماهيّات تكون أمرا انتزاعيّا ، على عكس ما هو التّحقيق. وهذا الاحتمال باطل ، لأنّ المفروض أنّ الماهيّة أمر انتزاعىّ والوجود الممكن أمر متأصّل.

وعلى هذا ، لقائل أن يقول : إنّ الماهيّة التي تكون من الانتزاعيّات لا تخلو من أن تكون شيئا في الخارج ، [أو تكون لا شيئا في الخارج] ؛

فإن كانت شيئا في الخارج يلزم أن يتحقّق الاثنينيّة الخارجيّة من الماهيّة والوجود الخارجىّ ، فيلزم أن يكون الوجود الخارجىّ أمرا انضماميّا ، وقد عرفت أنّه يلزم منها مفاسد كثيرة ، على ما ذكرنا في حاشية «الأفق المبين».

٥٠٤

وإن كانت لا شيئا في الخارج ، فتكون الماهيّة من الأمور العامّة ، ليس لها تحصّل في الخارج ، كالوحدة والكثرة والإمكان وغيرها من الأمور العامّة ، وهي لا تكون داخلة تحت المقولة ، هي الموجودات الخارجيّة دون الماهيّات.

فالوجود بالنّسبة إلى الوجودات الممكنة المتحقّقة في الخارج لا يخلو من أن يكون لفظيّا أو معنويّا. والأوّل باطل ، على ما ثبت بالبرهان أنّ الوجود مشترك معنوىّ. وإذا كان الوجود مشتركا معنويّا بين الوجودات المحصّلة الخارجيّة ، فيكون للوجود مفهوم ، وهو ظاهر ، ومعبّر عنه أيضا. وذلك المعبّر عنه أمر متحصّل في الخارج ، كما هو ، لا المفروض.

وذلك الأمر المتحصّل لا يخلو من أن يكون كليّا طبيعيّا موجودا في الخارج ، أو لا يكون كليّا طبيعيّا ، بل يكون جزئيّا حقيقيّا متشخّصا بذاته. وكلّ واحد منهما باطل.

[١] أمّا الأوّل ، فلأنّه إذا كان كليّا طبيعيّا ، فلا بدّ أن يكون جنسا طبيعيّا أو نوعا طبيعيّا. وكلا هما باطل ، لأنّه يلزم أن يكون الوجود جزءا جنسيّا بالقياس إلى الممكن ، أو تمام ماهيّة الممكن. فيلزم أن لا يكون الممكن ممكنا ، لأنّ نسبة الوجود إلى الممكن نسبة إمكانيّة ، ونسبة الجنس إلى ما هو جنس له ونسبة النّوع إلى ما هو نوع له ، نسبة الذّاتىّ إلى ذى الذّاتىّ. ولا شكّ أنّ نسبة الذّاتىّ إلى ذى الذّات ليست نسبة إمكانية. كما لا يخفى على المتتبّع ؛ فيلزم أن يكون نسبة الوجود إذا كان للممكن نسبة غير إمكانيّة ، والنّسبة الغير الإمكانيّة قاطعة للاحتياج إلى العلّة ، فيلزم انقلاب الماهيّة.

وأيضا ، كلّ أمر يكون نسبة الوجود إليه ضروريّة ذاتيّة يلزم أن يكون أزليّا وسرمديّا ؛ كما أنّ القدم إذا كان ضروريّا ذاتيّا لأمر ، يلزم أن يكون أزليّا سرمديّا ، كالممتنع بالذّات ، فإنّ عدمه لمّا كان ضروريّا ذاتيّا له يكون أزليّا سرمديّا. فيلزم أن يكون جميع الموجودات المتحققة في الخارج أزليّا سرمديّا ، ولم يتحقق وجود حادث أصلا ، فيلزم قدم العالم بجميع أجزائه ، وهو باطل اتّفاقا وبديهة.

ولا يجوز أن يكون الوجود نوعا طبيعيّا ، وإلّا يلزم أن يكون تابعا تحت جنس ، والحال أنّ الوجود ليس له جنس ، لأنّه لا أعمّ من الوجود ، فبقى أن يكون الوجود إذا كان كليّا طبيعيّا يكون جنسا عاليا يندرج تحته جميع الوجودات الممكنة ، سواء كانت

٥٠٥

الوجودات وجودات جوهريّة أو عرضيّة ، لأنّه لا أعمّ من الوجود ، ليصير الوجود الجنس العالى إلّا واحدا ، إذ يكون جميع الأشياء المحصّلة داخلة ، تحت جنس واحد ؛ فيلزم أن يكون جميع الأشياء المحصّلة ، كانواع الجواهر وأجناس الأعراض وأنواعها ، داخلة تحت جنس واحد ؛ فيلزم أن لا يتحصّل المقولات المتباينة بالجنس ، والحال أنّ الجنس العالى إمّا اثنان ، وهو الجوهر والعرض ، أو عشرة ، كما هو المشهور.

وأيضا ، كما كان الوجود مفهوما واحدا مشتركا معنويّا ، ولا يكون لمفهوم الواحد إلّا المعبّر عنه الواحد ، لا المتعدّد ؛ فإذا كان المعبّر عنه بذلك المفهوم الواحد واحدا ، فيلزم أن يتحقّق ذلك المعبّر عنه الواحد أينما ينتزع ذلك المفهوم الواحد ، ولا شكّ أنّ ذلك المفهوم الواحد ينتزع من الواجب ، جلّ شأنه.

وأيضا ، المفروض أنّ المعبّر عنه بذلك المفهوم الواحد هو الجنس الطبيعىّ ، فيلزم أن يتحقق ذلك الجنس الطبيعىّ في الواجب ، جلّ شأنه. وهو أيضا باطل ، لأنّه قد ثبت بالبرهان أنّ الواجب ، جلّ شأنه ، ليس له ماهيّة كليّة أصلا ، لا الماهيّة الكليّة الجنسيّة ولا الماهيّة الكليّة النّوعيّة.

[٢] وأمّا الثّاني ، وهو أن لا يكون المعبّر عنه بمفهوم الوجود كليّا ، بل يكون جزئيّا حقيقيّا متشخّصا بذاته ، فهو باطل أيضا من وجوه :

الأوّل ، أنّ كلّ أمر يكون تشخّصه بذاته ، لا يجوز أن يكون تشخّصه عين ذاته لا معلول ذاته ، وإلّا يلزم أن يكون الشيء علّة لتشخّصه ؛ وذلك باطل ، لأنّ علّة التّشخّص يجب أن تكون متشخّصة في مرتبة العلّة ، فلا بدّ من تشخّص سابق على المعلول. فذلك التّشخّص السّابق إن كان عين اللّاحق يلزم الدّور أو غيره ، فننقل الكلام إليه ، وهكذا ، فيلزم الدّور أو التّسلسل ؛ ولا جزء ذاته ، وإلّا يلزم أن يكون ذلك الجزء متشخّصا بذاته ، لا الشيء الذي يكون ذلك الجزء جزءا منه. فيكون ذلك الشّيء مركّبا من جزءين ، أحدهما متشخّص بذاته ، والآخر غير متشخّص بذاته.

وعلى أىّ تقدير ، فنقول : لا جائز أن يكون شيء من الممكن بحيث يكون التشخّص عين ذاته ، لأنّ كلّ أمر يكون التّشخّص عين ذاته يكون الوجود أيضا عين ذاته ، لأنّ الشيء اذا كان متعيّنا بذاته يكون أمرا متحصّلا كمال التّحصّل في مرتبة ذاته ، لأنّه لا تحصّل أتمّ

٥٠٦

من التّحصّل التّعيّنى. وإذا كان الشّيء له كمال التّحصّل في مرتبة الذّات يكون له الوجود ، وكلّ أمر يكون له الوجود والتّعيّن فى مرتبة الذّات يكون واجب الوجود بالبديهة ، لأنّ نسبة الوجود والتّعيّن إليه حينئذ تكون مثل نسبة الإنسانيّة إلى الإنسان ، ولهذا تكون عينيّة التّشخّص وعينيّة الوجود من خواصّ الواجب ، جلّ شأنه.

والثّاني ، أنّه إذا لم تكن الماهيّات امورا متحصّلة في الخارج بل تكون من الانتزاعيّات فقط ، كالأمور العامّة ، وتكون المتحصّلات الخارجيّة منحصرة في الوجودات المتشخّصة بذاته ، فيلزم أن لا يكون الكلّىّ الطّبيعىّ موجودا في الخارج ، لأنّ المفروض أنّ الأمور المتحصّلة في الخارج منحصرة في الأمور المتشخّصة بذاته. والكلّىّ الطّبيعىّ ليس متشخّصا بذاته ، فلا يكون الكلّىّ الطبيعىّ موجودا في الخارج أصلا ؛ فيلزم أن يسقط مطلب «ما» ، وينحصر المطلب في مطلب «من» ، والحال أنّ القوم قاطبة جعلوا أمّهات المطالب أربعة: مطلب ماء الشّارحة ، ومطلب هل البسيطة ومطلب ماء الحقيقيّة ، ومطلب هل المركّبة ، على ما حقّق في مقامه.

والثّالث ، أنّ المفروض هو أنّ الأمور المتحصّلة في الخارج إنّما هي الوجودات المتكثّرة ، فيكون كلّ واحد من تلك الوجودات معبّرا عنه بمفهوم الوجود الّذي هو المشترك المعنوىّ ، فيلزم أن يكون المفهوم واحدا ، والمعبّر عنه متعدّدا ، وقد عرفت أنّ المفهوم الواحد لا يكون له إلّا المعبّر عنه الواحد. فخذ ما آتيناك واذهب إلى ما أريناك ، وكن من الشاكرين.

(٣)

رسالة في القدرة أيضا من مؤلّفاته ، أعلى الله درجته.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال خاتم الحكماء المتألهين ، سيّد المدقّقين ، ثالث المعلّمين ، قدّس الله روحه : سألت ببيت المقدس الشّريف عن حقيقة القدرة والإرادة والدّاعى وتحقيق المذهب على سبيل الإجمال. فأجبنا بما هذه صورته :

«القدرة» تؤثّر وفق الإرادة ، فخرج عنها ما لا تأثير له ، كالعلم ، إذ لا تأثير له وإن توقّف تأثير القدرة عليه ، وما يؤثّر لا وفق الإرادة ، كالطبيعة للبسائط العنصريّة ، وهى في

٥٠٧

الحيوان كيفيّة نفسانيّة مصحّحة للفعل وعدمه ، تعلّقها بالطرفين على السّواء ؛ ومن الواجب تعالى ليست مندرجة تحت إحدى المقولات ، بل هى كون ذات الواجب تعالى بذاته ، بحيث يصحّ عنه صدور الفعل وعدمه ، من دون أن يكون مصداق الحمل هناك قيام عرض به تعالى.

و «الإرادة» صفة تخصّص تعلّق القدرة بأحد طرفي المقدور ، كذا فسّرها المتكلّمون ؛ فقيل : إنّه شوق متأكّد ، وقيل : إنّها مغايرة للشوق ، فإنّها هى الإجماع وتصميم العزم. وربما يفرق بينهما بأنّ الإرادة ميل اختيارىّ والشّوق ميل جبلىّ طبيعىّ.

وقال المحقق الطوسىّ ، رحمه‌الله ، في «شرح رسالة مسألة العلم» (ص ٤٤) :

«إنّ صحّة الصّدور واللّاصدور هو المسمّى بالقدرة ، وهى لا تكفى في الصّدور إلّا بعد أن يترجّح أحد الجانبين على المسمّى بالإرادة ، والتّرجيح إنّما يكون بالقصد ، وهو المسمّى بالإرادة».

والتّحقيق : أنّ الإرادة في الحيوان كيفيّة نفسانيّة حاصلة عن شوق منبعث عن اعتقاد جلب ملائم للغرض أو منافر في العقل. ومن الواجب تعالى هى كون ذاته تعالى بحيث يخصّص تعلّق القدرة بأحد طرفي المقدور حسب تعلّق عنايته به ، وهى بحسب اصطلاحهم علمه بالنّظام الأكمل.

و «الدّاعى» ، هو المرجّح لتخصيص الإرادة أحد طرفي المقدور لتتعلّق القدرة به ، وهو غير لازم التّحقّق في أفعال الواجب تعالى عند الأشاعرة ، لإمكان ترجيح المختار أحد المتساويين بمحض الإرادة من دون المرجّح.

وممّا لا بدّ منه عند الحكماء والمعتزلة ، بشهادة العقل بامتناع التّرجيح بلا مرجّح مع استلزام التّرجيح بلا مرجّح ، وهو بديهىّ الامتناع عند العقلاء كافّة. لكنّ الحكماء حكموا بأنّ الدّاعى عين ذاته تعالى ، والمعتزلة يقولون بزيادة الدّاعى على ذاته وعلى علمه تعالى. فمنهم من يقول : إنّه مصلحة راجعة إلى شخص من أشخاص الموجودات ، ومنهم من يقول : إنّه ذات الوقت ، ومنهم من يقول بامتناع وجود المعلول من ذلك الوقت ، فتأمّل في ضبط هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام. تمّت بعون الله الملك المتعال.

٥٠٨

(٤)

رسالة في علم الواجب أيضا من مؤلفاته برد الله تعالى مضجعه الشّريف

بعد الحمد لمفيض العلم وواهب العقل ، والصّلاة على أفضل المرسلين وآله الطّاهرين ، يقول أحوج الخلق إلى الله الغنىّ محمّد بن محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى :

ضابط مقام التّحقيق في علم الواجب أن يقال : العلم قد يطلق على المعنى المصدرىّ الإضافىّ المعبّر عنه بالفارسيّة بدانستن ؛

وقد يطلق على ما هو مبدأ الانكشاف ، وهو صفة وملكة تقوم بالمجرّد ، فيصحّ إطلاق العالم عليه ؛

وقد يطلق على الصّورة الحاضرة من الشّيء عند المجرّد. وهذا المعنى الأخير هو المراد في قولهم : «العلم متّحد مع المعلوم بالذّات والماهيّة ، مخالف له بالاعتبار».

والعلم بالمعنى الأوّل ، لا يصلح أن يكون عين الواجب تعالى ، ولا شيئا من الماهيّات الحقيقيّة.

وعلمه تعالى ، بالمعنى الثّاني ، بذاته تعالى مفصّلا أى باعتبار ذاته ومن حيث إنّه مصداق للصفات الحقيقيّة ، وبما سواه من المعلومات مجملا ومفصّلا ، أى علما إجماليّا وعلما تفصيليّا عين ذاته ، بمعنى أنّه لا يجب أن يقوم به تعالى مبدأ الانكشاف حتى يطلق عليه العالم ، كما في الممكنات من المجرّدات ، بل ذاته تعالى بعين ذاته مبدأ انكشاف ذاته ومعلوماته من دون قيام صفة وملكة ، به يكون منشأ الانكشاف ، فالأثر المرتّب على منشأ الانكشاف يترتّب في الواجب على نفس ذاته ، فيكون ذاته بهذا الاعتبار علما وعالما. وعلمه بهذا المعنى لا يكون عين معلوماته ، بل عين أحد معلوماته ، وهو ذاته تعالى. فذاته تعالى معلوم وعلم وعالم باعتبارات.

وعلمه تعالى ، بالمعنى الثّالث ، بذاته وبمعلوماته على سبيل الإجمال ، عين ذاته. فإنّه تعالى لمّا كان بذاته علّة للمعلومات ، كان حضور ذاته بعينه حضور ذوات جميع معلوماته على الاجمال ؛ وهذا العلم الإجمالىّ علم بسيط وحدانىّ إجماليّ

٥٠٩

كمالىّ ، لا بالقوّة على ما توهّم ، من حلّ معارضة وهمه عقله ، وهناك أيضا يتّحد العلم والعالم والمعلوم. ولا فساد فيه ، كما يظهر على ذوى الفطرة القويمة.

وأمّا علمه تعالى بالمعنى الثّالث بمعلولاته على سبيل التّفصيل ، فليس عينه ، بل عين معلولاته ، ويتّحد هناك العلم والمعلوم فقط.

وعلمه تعالى بالمعلومات ليس بأخذ صورة المعلوم ـ كعلمنا بالأمور الخارجة من ذواتنا الغير الصّادرة عنّا ـ فإنّ معلومنا من هذه الأمور بالذّات هى الصّورة الذّهنيّة ، والأمر الخارجىّ معلوم بالعرض ـ بل علمه تعالى بالأمور العينيّة والصّورة الإدراكيّة بنفس ذواتها كعلمنا بأنفسنا وصفاتنا النفسانيّة ، والصّورة الذّهنيّة المرتسمة في عقولنا ، والصّورة المرتسمة في القوى الآليّة للنفس ، لا تصوّرها لها ؛

فتكون معلولاته من الأمور العينيّة والصّور الإدراكيّة في معلوميّتها له تعالى ، أو الصّور المعقولة المرتسمة في الآلات في معلوميّتها لنا. فاحفظ ذلك ، لئلا تزلّ قدمك كسائر أقدام العقول والأفهام.

ثمّ قد يقال : إنّ علم النّفس أيضا بجميع الأشياء حضورىّ ، بناء على أنّ العقل ليس هو النّفس ، بل هو قوّة للنفس ، كما أنّ الوهم والخيال وغيرهما آلات لها ؛ والمجرّدات ترتسم من العقل ، كما أنّ المادّيّات ترتسم من الآلات ، والقوى والعقل وسائر القوى حاضرة مع ما فيها عند النفس ، فيكون علم النّفس بما فيها علما حضوريّا.

ولا يعجبنى هذا الكلام ، فإنّه ، مع ما فيه ، من ظاهر الأمر ، يزيّفه أنّ النفس ليست قاهرة مع القوى بتلك المثابة ، وإلّا كانت عالمة بحقائق ما هى عليه في نفس الأمر من مبدأ الفطرة ، لكونها حاضرة عندها ، فلا يحتاج في العلم بحقائقها إلى اكتساب وفكر أصلا ، فإنّ العلم الحاصل بالاكتساب ما يكون علما تجدّديّا ، والعلم التّجدّدىّ لا يكون علما حضوريّا. كما ارتكز من مدارك المحققين ، على ما فصّل في زبرهم ، فتأمّل. والسّلام على من اتّبع الهدى. تمّت الرّسالة بعون الله الملك الوهّاب.

(٥)

برهان أخصر وأمتن لتوحيد البارى تعالى.

ثمّ أقول : أخصر براهين أعلى المطالب وأمتنها ، على ما استفدت من كلمات المعلّم

٥١٠

الثّالث المقلّب بالشّيخ الرّئيس ، هو أن يقال : إنّ مفهوم واجب الوجود ـ وهو شيء ما ثبت له وجوب الوجود ، أى شيء ما قام به وجوب الوجود ـ إنّما يطلق بالحقيقة على ما عرض له وجوب الوجود ، أى شيء ما قام به وجوب الوجود. والبارى تعالى ليس شيئا ما قام به وجوب الوجود ، بل هو الواجب الوجود البحت بنفس ذاته ، لا بوجوب ثابت له زائد على ذاته.

ولا نعنى بذلك أنّ مفهوم وجوب الوجود الذي هو أمر اعتبارىّ ، عين ذاته تعالى ، بل المراد أنّ ذاته تعالى ينوب مناب وجوب الوجود ، بمعنى أنّ مصداق حمل واجب الوجود عليه تعالى هو نفس ذاته ، لا قيام وجوب وجود به.

فالمحمول عليه تعالى حقيقة هو الحقيقة الواجبة الوجود بنفس ذاتها ، لا يجوز أن يكون عرضيّا لذات الواجب تعالى ؛ ضرورة أنّ ثبوت العرضىّ في نفسه وللمعروض ، معلّل ، إمّا بنفس المعروض ، أو بأمر خارج عن ذاته.

فلو كانت حقيقة الواجب الوجود بنفسه طبيعة عرضيّة لذاته تعالى لكان ثبوت هذه الحقيقة له تعالى معلّلا : إمّا بذاته ـ وحينئذ يلزم تقدّمه بالذّات على ذلك الثّبوت ، فلا يكون في مرتبة التّقدّم ، أعنى مرتبة ذاته تعالى ، واجبا بالذّات ، ضرورة عدم المعلول في مرتبة وجود العلّة ووجوبها ـ وإمّا بغيره تعالى ، وحينئذ يلزم احتياجه تعالى في حقيقة وجوب وجوده إلى غيره ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وأقول : أيضا العرضيّات لا تثبت للماهيّة من حيث هى ، بل من حيثيّة أخرى غير حيثيّة الذّات. فلو كانت الحقيقة الواجبة بذاتها من عرضيّاته تعالى لكانت مسلوبة عنه تعالى من حيث نفس ذاته ، فلم يكن في حدّ ذاته واجب الوجود ، بل يكون شيئا ما متصفا بذلك ، هذا خلف.

فاتّضح بذلك : أنّ طبيعة الواجب الوجود المحمول عليه تعالى حقيقة ـ أى الحقيقة الواجبة بنفس ذاتها ، لا بوجوب زائد على الذّات ثابت لها بالمعنى الذي قرّرناه ـ ليست عرضيّة لذات الواجب تعالى ، فإمّا أن تكون ذاتيّة له تعالى أو نفس ذاته تعالى ، لا سبيل إلى الأوّل ، لاستحالة التّركيب ، فتعيّن الثّاني.

ووقتئذ نقول : قد تقرّر أنّ تشخّص الواجب تعالى نفس ذاته. وأنا أبرهن عليه بأن

٥١١

أقول : لو لم يكن تشخّص الواجب تعالى عين ذاته ، لاحتاج في وجوده إلى ذلك التّشخّص ، ضرورة ، لا في نفس حقيقته ، ضرورة أنّ الشّيء لا يحتاج في نفس ماهيّته إلى التّشخّص ، بل في وجوده ، فكان وجوده ما به الاحتياج إلى الشّخص دون نفس الذّات ، فلم يكن وجوده عين الذّات ، هذا خلف

فتشخّصه وتعيّنه عين ذاته تعالى ، بمعنى أنّ ذاته تعالى متشخّص بذاته ، من غير عروض تشخّص ومشخّص له تعالى ، يعنى مصداق حمل المتشخّص عليه هويّته البسيطة ، لا عروض تشخّص له.

ولمّا كانت الحقيقة الواجبة بنفس ذاتها على المعنى المتقرّر نفس ذاته تعالى ، فكانت تلك الحقيقة والطبيعة أيضا متشخّصة بنفسها من غير عروض مشخّص وتشخّص لها ، فلا يتصوّر فرض صدقها على كثيرين ، بمعنى تجويز العقل ذلك ، إذ العقل لا يجوّز صدق المتشخّص بذاته على كثيرين.

وهذا معنى ما تسمعهم يقولون : «ليس للواجب تعالى مفهوم كلّىّ يندرج حقيقته تحت ذلك المفهوم ، لا بحسب الواقع ولا بحسب التصوّر أيضا» ، فإنّهم صرّحوا بأنّ الفرض الواقع في تعريف الكلّىّ بمعنى تجويز العقل ، لا الاختراع. وحقيقة الواجب تعالى متشخّص بذاته ، فلا يفرض العقل صدق حقيقته تعالى على كثيرين.

والحاصل : أنّه لو تعدّد الواجب لكانت حقيقة الواجب الوجود وطبيعة وجوب الوجود ، أى الحقيقة الواجبة ، بنفسها ، لا بوجوب قائم بها ، محمولة عليها قطعا. وقد عرفت أنّها ليست عرضيّة ولا ذاتيّة لذات واجب الوجود ، بل عين ذاته ونفس حقيقته ، فتكون هذه الطبيعة والحقيقة نفس ذاتيهما ، مع أنّ فرض صدقها على المتكثّر بالعدد محال ، فضلا عن صدقها بحسب الوجود الواقعىّ ، لكونها متشخّصة بنفس ذاتها ، فاعرف ، فإنّه لطيف.

وظهر في تضاعيف تقرير الكلام : أنّ إطلاق وجوب الوجود عليه تعالى مجاز. معناه : أنّ الأثر المترتّب على وجوب الوجود مترتّب على نفس ذاته تعالى ، كما أنّ إطلاق الوجود المطلق عليه كذلك أيضا.

وأمّا إطلاق واجب الوجود عليه ، فاعتبار نفس ذاته ، يعنى : مصداق الحمل ، ليس

٥١٢

أمرا غير ذاته. كما أنّ إطلاق الموجود المطلق عليه بهذا الاعتبار أيضا.

وأمّا الحقيقة الواجبة بذاتها ، فلا فرد لها سوى ذات الواجب تعالى. وإطلاق الفرديّة هاهنا على سبيل التجوّز. فإنّ الحقيقة بنفسها عين ذات البارى ، لا كلّىّ صادق عليه وعلى غيره ، تعالى عنه.

وأمّا الواجب الوجود ، بمعنى شيء ما ثبت وعرض له وجوب الوجود ، فليس محمولا عليه تعالى أصلا. فاحفظه ، فإنّه حقيق بالحفظ ، والحمد لله ربّ العالمين على نعمائه الخارجة عن جهات الإحصاء.

(٦)

حدوث العالم ، او الجمع بين الرأيين للحكيمين

كتبه للسّيد منصور الكيلانيّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أحمد الله ربّى حمدا فوق حمد الحامدين ، كما يليق بكرم وجهه وعزّ جلاله. وأصلّي على سيّدى ومولاى سيّد المرسلين وخاتم النبيّين وسادتى الطاهرين من عترته الأكرمين صلاة تبذّ صلوات المصلّين إزاء لشروق مجدهم وسطوع كمالهم.

ثمّ أقول : المشهور لدى العلماء والحكماء ، أنّ القول بأنّ العالم بأسره متعلّق الصّنع ، وأنّ الجاعل الحقّ ، جلّ سلطانه ، صانع إيّاه جميعا بإبطال العدم الدّارج والإخراج إلى الوجود العاقب على ما أجمعت عليه الفرق من أهل الملل والأديان وأصحاب المذاهب والشّرائع ، انّما القائل به من أئمّة الفلسفة إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ وأستاذوه الأساطين من قبل.

فأمّا معلّم المشّائين أرسطوطاليس وأشياعه فليسوا يؤمنون بذلك ، بل إنّما يقولون بالتّشطير فى العالم بالقياس إلى الصّنع والإبداع ، قائلين إنّ البارى الفعّال ، عزّ سلطانه ، ليس هو بصانع لجملة العالم قاطبة ، بل هو مبدع للسرمديّات صانع للكائنات.

وعلى ذلك بنى شريكنا السّابق ، شيخ مشائيّة الإسلام فى كتبه ، وعمل النّمط الخامس من كتاب «الاشارات» فى الصّنع والإبداع ، وجعل الصّنع إيجاد الحادث المسبوق بالعدم ، بخلاف الإبداع ، على ما هو سبيل الفلسفة المشّائيّة المشهوريّة.

٥١٣

وإنّ أقدم اللّذين من رؤساء الحكماء فى الإسلام شاركانا من قبل فى تعليم الحكمة وتقويمها وتصحيح الفلسفة وتتميمها ، وهو الشّيخ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابىّ ، أصرّ واستمرّ فى كتاب «الجمع بين الرأيين» على أنّ معلّم المشّائية أرسطاطاليس لم يخالف أستاذه إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ ، فى حدوث العالم وكون البارى الحقّ صانعا له، على أنّ صدوره عن إحداث البارئ الصّانع ، جلّ سلطانه ، إيّاه دفعة لا بحركة ولا بزمان ولا آن ، وأنّه لم يجز فى أقاويله قطّ ما يستفاد منه القول بقدم العالم.

بل إنّما فى أقاويله نفى البدو الزّمانىّ عن العالم. ومعناه : أنّه محال أن يكون لحدوث العالم بدء زمانىّ وأن يكون حدوثه حدوثا زمانيّا فى زمان أو آن وعلى سبيل تدريج وتكوّن شيئا فشيئا أو على سبيل الكون دفعة آنيّة ، بل إنّما حدوث الكلّ عن إرادة البارئ ، سبحانه ، وعن إبداعه ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان وآن ولا عن شيء ومادّة. وذلك هو بعينه ما ذهب إليه أفلاطون وبيّنه فى كتبه وجاءت به الشّرائع.

وليس لأحد من أهل المذاهب والنّحل والشّرائع. وسائر الطّرائق من العلم بحدوث العالم وإثبات الصّانع وتلخيص أمر الإبداع وأنّ الصّانع ، جلّ جلاله ، أحدث العالم عن إرادته لا بزمان وحركة ولا عن شيء أصلا ، ما لأرسطاطاليس وقبله لأفلاطون ولمن سلك سبيلهما.

وقال : «إنّ الّذي دعى هؤلاء إلى هذا الظنّ القبيح المستنكر بأرسطاطاليس الحكيم، هو ما قاله فى كتاب «طوبيقا» : انّه قد تكون مسألة واحدة يؤتى بكلا طرفيها بأقيسة جدليّة. مثال ذلك : هل العالم قديم أم ليس بقديم؟

وقد ذهب على هؤلاء المختلفين أنّ الّذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى الاعتقاد ؛ وأنّ غرض أرسطوطاليس فى كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان أمر العالم ، لكنّ غرضه بيان أمر القياسات المتركّبة من المقدّمات الجدليّة. وكان قد وجد أهل زمانه يتناظرون فى أمر العالم : هل هو قديم أو محدث ، كما كانوا يتناظرون فى اللّذة ، هل هي خير أم شرّ ، وكانوا يأتون على كلا الطّرفين من كلّ

٥١٤

مسألة منهما بقياسات ذائعة. فظاهر أنه لا يمكن أن ينسب إليه الاعتقاد بأنّ العالم قديم ، بهذا المثال الّذي أتى به فى هذا الكتاب.

وممّا دعاهم إلى هذا الظنّ أيضا ما يذكره فى كتاب «السماء والعالم» : «أنّ الكلّ ليس له بدء زمانىّ» ، فيظنّون عند ذلك أنّه يقول بقدم العالم. وليس الأمر كذلك ، إذ قد تقدّم فبيّن فى ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعيّة والإلهية ، أنّ الزمان إنما هو عدد حركة الفلك وعنه يحدث ، وما يحدث عن الشيء لا يشمل ذلك الشّيء.

ومعنى قوله : «أنّ العالم ليس له بدء زمانىّ» ، أنّه لم يتكوّن أوّلا فأوّلا بأجزائه ، كما يتكوّن البيت مثلا ، أو الحيوان الّذي يتكوّن أوّلا فأوّلا بأجزائه ، فإنّ أجزاءه يتقدّم بعضها بعضا بالزمان ، والزّمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن يكون لحدوثه بدء زمانىّ. وتصحّح بذلك أنّه إنّما يكون عن إبداع البارئ ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، وعن حركته حدث الزّمان» ، (الجمع بين الرأيين ، ص ١٠٠ ـ ١٠١).

فهذا ما أزمع عليه هذا الشّيخ الحكيم الشّريك مجامع همّته وألقى عليه شراشر رويّته وإنّا نحن قد تجشّمنا حكاية عبارته على ما هي عليه بألفاظها وتراتيبها فى كتابنا «الصراط المستقيم» ، وفى غيره من كتبنا.

ثم أوردنا أنّ كلامه ممّا يحوج صيرفىّ القوّة النّظريّة إلى نقده.

فما حكى عن أرسطاطاليس ، من نفى البدء الزّمانىّ عن الكلّ ، فهو أمر مستبين لا يكاد يستنكره أحد من أولى العقل الصّريح ولا يتعداه الحقّ الصّراح. وذلك ممّا عليه اتفاق الحكيمين الإمامين بل الحكماء الأثبات والعقلاء الثّقات جميعا.

ورهط من أبناء سبيل الحقيقة يجرى فى كتبهم وأقاويلهم أنّه قد انعقد إجماع أئمّة الحكمة على قدم العالم. ويعنون بذلك نفى الحدوث الزّمانىّ فى زمان أو فى آن عن الإنسان الكبير الّذي هو جملة نظام العالم ، وإبطال حدوث الكلّ عن عدم ممتدّ زمانىّ يسبق الوجود سبقا مكمّما زمانيّا وعن إحداث تدريجىّ وتكوين بحركة ، كما فى فعل الهيولانيّات وأفاعيلها.

ولا يزيغ عن السبيل ولا يذهب إلى القول بحدوث الكلّ حدوثا زمانيّا كيانيّا فى

٥١٥

زمان أو آن عن عدم ممتدّ لا إلى بداية إلّا فريق من المتهوّسين فى الدّورة اليونانيّة وجماهير المتكلّفين فى الملّة الاسلامية. ومن يفقه أنّ الزّمان نفسه لا يعقل له وجود ولا عدم فى زمان أو آن وكذلك الجواهر المجرّدة المفارقة لعالمى الزّمان والمكان ليس يتفوّه بتسويغ ذلك.

وأمّا ما خمّن : «أنّ أرسطاطاليس يعنى بإثبات القدم نفى البد الزمانىّ ويقنعه ذلك ، وأنّه ليس يحيد عن سبيل استاذه إمام الحكمة فى حدوث الكلّ عن إرادة البارى ، جلّ سلطانه ، وإبداعه وإحداثه إيّاه دفعة لا بزمان وحركة».

فذاك قول مبهرج وظنّ بهرج. أليس أرسطاطاليس فى غير موضع واحد من كتبه الإلهيّة والطبيعيّة ينصّ على أنّ الإنّيّات الشّريفة المبدعة ليست مسبوقة بعدم فى الأعيان أصلا ، بل إنّما مسبوقيّتها بذات الفاعل الأول فقط ، وتأخّرها عن الحق الأول تأخّر بالذّات لا غير ، وأنّ الكائنات الفاسدة كائنة عن الفاعل الأول الحقّ من بعد لا كونها فى الأعيان الخارجة ومتأخّرة عنه ، سبحانه ، تأخّرا بالذات وتأخّرا بالوجود فى الأعيان جميعا ، ولا اختلاف عليه فى ذلك أصلا.

ولم يدع الظّانّين به أنّه يقول بأزليّة العالم إلى ظنّهم. هذا ما قاله فى كتاب «طوبيقا». كيف وليس فى ما قاله فى كتاب «طوبيقا» ، إلّا أنّ مسألة قدم العالم أو حدوثه بكلا طرفيها جدليّة البيان غير برهانية التبيان. إذ بيانات الأقوام المتناظرين عليها فى كلا الطرفين قصاراها أن تكون دلائل احتجاجيّة من مقدّمات ذائعة غير مقنعة ولا مثلجة إلّا للقلوب المشهوريّة وقياسات جدليّة محمودة من أوضاع مسلّمة متسلّمة من الخصوم ، غير مقنعة إلّا للعقول الجمهوريّة ، ولم يأت الفريقان ولا واحد منهما بأقيسة برهانيّة حقيقيّة وبراهين يقينيّة فاعلة نافذة القضاء على العقول الصّريحة الحقّة والقرائح الشاهقة الملكوتية.

ولقد اكثر شريكنا الماتع البارع أيضا من التّنصيص على ذلك فى كتبه ومعمولاته ، واستكثر من تكريره فى طوبيقا «الشفاء» وطبيعيّة وإلهيّة ، وفى كتاب «النجاة» وفى كتاب «التعليقات» وفى كتاب «المبدأ والمعاد» وفى رسالته المعمولة فى «قدم العالم».

وفى أولى طوبيقا «الشفاء» ، فى فصل الفرق بين المقدّمة الجدليّة والمطلب الجدليّ ،

٥١٦

نقل عن التعليم الأول :

«أنّ المطلب الجدليّ هو ما قد اختلف فيه فريقان من الفلاسفة واستمرّ فيه التشاجر والتناظر فى ما بينهم ، وبالجملة ما يقع فيه شكّ وهو فى نفسه موضع الشكّ ، إمّا لتقاوم الحجج وتكافئها وإمّا لفقدان الحجج فى الطرفين جميعا ، مثل حال العالم : أهو أزليّ أم ليس؟ وإمّا لبعد الحجج فيه عن الأمر المشهور. وهو ما لا يكون عليه قياس من المشهورات ويكون القياس عليه من الأوّليّات بعيدا ، مثل : أنّه هل زاوية نصف الدائرة قائمة أم لا؟ والأحرى أن يكون ما تبعد حجّته ليس بمطلب جدلىّ ، لأنّ إلى البرهان عليه سبيلا من الأوليّات ، وإن كان بعيدا فهو فى نفسه ليس بموضع الشك» ، (ص ٧٦).

فقد استبان أنّ أزليّة العالم وحدوثه مطلب جدلىّ فى زعم ارسطاطاليس ، لأنه فى نفسه موضع الشّكّ ، على ما قاله فى «التعليم الأول» ، فكيف يكون هذا الكلام منه داعيا إلى أن يظنّ به القول بأزليّة العالم.

ولا أيضا دعى هؤلاء الظانّين بالمعلّم أرسطاطاليس هذا الظنّ إلى ظنّهم هذا ما قاله فى كتاب «السماء والعالم» : «أنّ الكلّ ليس له بدء زمانىّ».

فمن المنصرح للعقل الصّريح الملقّح بلقاح الحكمة : أنّ ذلك إنّما يحيل ، كما ذكره هذا الشّريك الشّيخ المعلّم أن يكون لحدوث الكل بدء زمانىّ من عدم ممتدّ موهوم مستمرّ إلى حين وجود العالم على ما هو الطريقة المعروفة المألوفة للطبائع العاميّة الوهمانيّة والمسلوكة لأمم من الأوائل من متفلسفة الفلسفة المشوّشة النيّة فى العصور اليونانيّة وغيرهم ولجماهير الأواخر من متكلّفة المتوهّمين المنتمين إلى الملّة الحنيفيّة الإسلاميّة ، لا أن يكون حدوث الكلّ من بعد العدم الصّريح الباتّ السّاذج فى متن الواقع وحاقّ الأعيان الخارجة لا بزمان ومكان ولا بامتداد ولا بلا امتداد عن علم البارئ الفعّال ، سبحانه ، وعنايته وإرادته وفعاليّته وإبداعه وإحداثه إياه دفعة دهريّة ، لا بزمان وآن ولا بحركة ورويّة وتفكر وهمامة ، على ما هو مذهب إمام اليونانيّين أفلاطون الإلهيّ ومن ساهمه من أئمّة الحكمة الحقّة السّويّة.

ولكنّهم إنّما دعاهم إلى هذا الظنّ بأرسطاطاليس المعلّم ما قد تكرّر منه فى كتاب

٥١٧

«اثولوجيا» وفى كتاب «مطافوسيقا» وفى سائر كتبه ورسائله الإلهيّة والطبيعيّة وفى مفاوضاته ومياوماته إلى ذى القرنين الإسكندر بن فيلقوس ملك الروم بعبارات شتّى وتعبيرات تترى :

إنّ البارئ الحقّ ، سبحانه ، هو الفاعل الأوّل للعقل والنّفس والطبيعة وسائر الأشياء كلها. وهو ليس يفعل أفاعيله شيئا فشيئا بحركة وتدريج ، بل إنّما يفعل فعله من الصّدر إلى السّاقة دفعة واحدة ، لأنّه ليس يلقى بصره فى فعله وصنعه إلى شيء وراء ذاته ولا ينتظر أمرا غير علمه بوجه الخير فى نظام الوجود ، الذي هو عين ذاته ، غير أنّه يفعل الكائنات الدّاثرة دفعة واحدة دهريّة ، والإنيّات المبدعة الشريفة الثابتة دفعة واحدة سرمديّة ؛ وأنّ الكائنات والدّاثرات بالقياس إلى البارئ ، سبحانه ، وفعله وصنعه إيّاها فى حيّز الدّهر ، والإنيّات الثابتة الشّريفة ، وإبداعه إيّاها فى حيّز السّرمد ، وأنّ الرّءوس الثلاثة التي عنها الكون ، وهي مبادئ الكائنات ، هي الهيولى والصّورة والعدم لا بزمان ولا بمكان ، وأنّ الزمان سرمديّ الوجود ، والحركة الّتي هي محلّ الزّمان ومنها وجود الزّمان سرمديّة الوجود ، والطبيعة الخامسة خلقها الله ، سبحانه ، بالأبد لا بالزمان ، وأنّ الكائنات بالقياس إلى عالم الثّبات فى حيّز الدّهر وبقياس بعضها إلى بعض فى حيّز الزّمان ، والثّابتات كلّها فى حيّز السّرمد ؛ وأنّ النّفس ما دامت منغمسة فى جنبة البدن فهى فى حيّز الزّمان ، فإذا فارقت الجهات والأبعاد ورجعت إلى عالمها صارت إلى حيّز الدّهر ؛ وأمّا العقل فإنّه يكون فى حيّز السّرمد.

وأيضا النّقل المستفيض المتواتر عن كبراء تلامذته وأصحابه وشركائه وأترابه ، كثامسطيوس وثاوفرسطس والإسكندر الأفروديسىّ ، وكبرقلس وديوجانوس وزينون والشّيخ اليونانىّ : أنّه أجهر وأعلن بحيوده عن سبيل أستاذه أفلاطون الإلهيّ فى إثبات حدوث العالم وإحالة حوادث لا أوّل لها.

وحكى يحيى النحويّ ، وهو من قدماء فلاسفة الإسلام وكبرائهم عن برقلس : أنّ أوّل من قال بقدم العالم ووجود حوادث متسابقة لا أوّل لها هو أرسطاطاليس.

٥١٨

وهذا أمر قد أطبقت عليه مهرة حملة العلم والفلسفة العارفون بمذاهب الأوائل وطرائقهم وإثبات الأخباريّين من ثقات المورّخين المستقصين لأحوالهم وأقوالهم.

واستصحّه شريكنا الشّيخ البارع الرّئيس وغيره من شركائنا البارعين. وكذلك الشهرستانىّ صاحب «الملل والنحل» ، وقد فصّل القول فيه تفصيلا بالغا فى كتاب «نهاية الإقدام» ، وفى كتاب «الملل والنحل» وفى كتاب «المصارعة».

ونحن نقول : إنّ كلمات أرسطاطاليس فى هذه المسألة العوصاء الّتي هي أساس الأسس وأسّ الأساس متدافعة متناقضة جدا ، ولا يكاد يعلم ممّا قد وقع إلى وبلغنى من كتبه ومقالاته وزبره ومعمولاته اعتقاده الّذي كان يؤثره ويدين به فى هذه المسألة ، وقد نصصنا فى كتبنا وصحفنا على أنّ ما احتجّ أفلاطون :

«أنّه إذا صحّ حكم الحدوث على كل واحد واحد ، صحّ لا محالة على الجميع وعلى الطبيعة المشتركة بتّة» مستقيم الصحّة مستيقن الاستقامة فى الحدوث الدّهريّ ، لا فى الحدوث الزّمانىّ بحسب صحّة تجدّد الكون فى امتداد سيلان التقضّى والتّجدّد ؛ وأوضحنا الأمر بانحفاظ الطبيعة الورديّة فى تعاقبات أفراد الورد على الاستمرار المتصل المحدود مدّة محدودة ، لا قبلها. ومن هناك سمّيناه : البرهان الورديّ».

وأمّا أصحاب المدارك العاميّة الوهمانيّة من الجماهير والمتكلفين فقد حرّفوه عن موضعه وبه قاسوا الأمر فى الحدوث الزّمانىّ أيضا. وذلك إن هو إلّا قياس فاسد وتخمين باطل وتحريف قبيح ، لا يصغى إليه ولا يعذر عليه.

وبالجملة ، تسوية سطح الحجّة ونصب مقياس اليقين وإيفاء حقّ القول الفصل وإنضاج نىّ الأمر من سبيل العقل المضاعف فى مسألة حدوث العالم والإتيان بالبرهان اللّمّىّ الباتّ الفاصل عليها من جملة ما قد كانت مرهونة بذمّتنا ومخصوصة من رحمة الله وعنايته وفضل الله وطوله بقسطنا. وقد بسطنا تعليمها وتتميمها وتصحيحها وتقويمها فى كتبنا وصحفنا ومقالاتنا ومعلّقاتنا. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

كتب بيمناه الدّاثرة مسئولا أحوج المربوبين إلى الربّ الغنىّ محمد بن محمد ،

٥١٩

يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا فى عام ١٠٢٠ من الهجرة المقدّسة. وهو من اماجد الأولاد الرّوحانيّة وأفارد الأصحاب الرّوعانيّة محفوفا بالسّعادة الأبديّة والبهجة الإلهيّة (١).

(٧)

(تعليقة على الجمع بين الرأيين للفارابى)

«لا شكّ أنّ حدوث الكلّ من إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، هو الحدوث الدّهرىّ للكلّ بتّة. ولكنّ النّظر فى أنّ أرسطاليس يقول به وفاقا لأستاذه الأكرم الإمام أم لا؟ فإنّ عدم القول بالحدوث الزمانىّ لا يستلزم القول بالقدم الدهريّ أصلا. والذي يظهر من أقاويل أرسطوطاليس أنّه لا يقول بحدوث الكلّ حدوثا دهريّا ، أى : حدوثه عن إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، بل يقوم بقدم بعض العالم ، أعنى المبدعات قدما دهريّا.

أيضا منه : فالمشهور عند أرسطاطاليس أنّ الصّنع والإبداع متقابلان متباينان بحسب المفهوم وبحسب التّحقّق جميعا. فالصّنع هو الإيجاد المسبوق بالعدم ، بخلاف الإبداع. والبارى الأوّل ، سبحانه ، صانع الكائنات التي هي الحوادث ، ومبدع المبدعات التي المعلومات السّرمديّة. فهو تعالى غير صانع للعالم بأسره ، بل إنّه صانع لبعض العالم ، ومبدع لبعضه. والشّيخ الرّئيس قد اقتفى أثره فى كتاب «الإشارات» وعمل النمط الخامس فى الصّنع والإبداع. وأمّا عند أفلاطون وشيعته ، فالعالم بأسره محدث مصنوع ، صانعه وموجده من بعد عدمه هو الله ، سبحانه ، والكائنات حادثة حدوثا زمانيّا أيضا ، ومسبوقة بمادّة ومدّة بخلاف المبدعات ، والشّيخ المصنّف قد حاول بيان اتّفاق الحكيمين إطباقا على القول الأخير». نقل بواسطة من خطّه ، رحمه‌الله تعالى.

(٨)

تعليقة على أنموذج العلوم للدوانيّ

هو المتوكل عليه في جميع أمورى قال العلم المحقق الدّوانىّ في رسالة «أنموذج العلوم» : «المسألة التاسعة من المنطق :

__________________

(١) السيد الفاضل الكامل الأصيل النبيل اليلعميّ الألمعىّ اللّوذعيّ ، لا زال كاسمه الشريف منصورا ، «منه».

٥٢٠