مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

نعم هذا القول المغلط يعضل به الأمر بالمتكلّمين ، حيث يضعون أنّ للمعلولات عدما قبل وجودها مستمرّا غير متناه ، متخلّلا بينهما وبين البارى تعالى ، يتوهّم بحسبه أزمنة موهومة غير متناهية يعبّر عنها بالأزل ويمكن وجود حركة في كلّ جزء من أجزاء ذلك الأزل الموهوم ، فليس لهم عن ذلك محيص.

والشيخ أيضا لم يورده على أنّه نظر برهانىّ ، بل إنّما أورده على أنّه مسكّت للمتوهّمين مبكّت للمتكلمين على قانون الجدل. [٢٢٩ ب].

قال في إلهيّات «النجاة» في عنوان الفصل المعقود لبيان هذه الشكوك (ص ٢٥٧) : «إنّ المخالفين يلزمهم أن يضعوا وقتا قبل وقت بلا نهاية وزمانا ممتدّا في الماضى بلا نهاية ، وهو بيان جدلىّ إذا استقصى قاد إلى البرهان».

وما قال في («التعليقات» ، ص ١٣٨) : «الزمان لا يمكن رفعه عن الوهم ، فإنّه لو توهّم مرفوعا ، لأوجب الوهم وجود زمان يكون فيه الزمان مرفوعا لهذا أثبت المعتزلة هاهنا امتدادا ثابتا بين الأوّل وبين خلق العالم ، وسمّوه «اللّاوجود».

وهذا مثل ما أثبت خلأ يكون فيه وجود العالم ، وإنّه إذا توهّم العالم [٢٣٠ ظ] مرفوعا ، وجب وجود الأبعاد ، فإنّه يتوهّم دائما فضاء غير متناه. ولذلك يتوهّم امتدادا ثابتا. وكلاهما محال. وفي امتناع ارتفاعهما عن الوهم دليل على أنّ الزمان سرمديّ والعالم سرمديّ ، وأنّ الأوّل يتقدّم عليهما بذاته لا غير. ولا يمكن أن يتوهّم الوهم الزمان إلّا شيئا متقضّيا سيّالا لا يثبت على حال وعندهم أنّ هذا الامتداد الثابت هو وعاء الزمان. وهو محال ، إذ هو نفس الزمان ، فإنّه متقضّ متجدّد سيّال ، فإنّ ذلك الجزء من الامتداد ، الذي كان فيه مثلا زمان الطوفان ، هو غير الجزء الذي [٢٣٠ ب] فيه هذا الوقت لا محالة» ؛ فإنّما هو من تنصيصاته على أنّ ذلك مذهب استدلالىّ يصحّ على قوانين الجدل بناء على مسلّمات الأقوام المذعنة للأوهام ، لا على مسالك البرهان حسب ما تقتضيه الحكمة الحقّة النضيجة.

[٢٩] حكومة

كأنّ طريق التهوّس بالقدم سبيل بتّه ما حصّلناه. وأمّا ما تشبّث به المتكلمون ، «من إنكار وجود الزمان رأسا تارة ، وجعل تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض قسما آخر

٤٦١

غير التقدّم الزمانىّ سمّوه التقدّم بالذات ، ووضع أنّ تقدّم عدم الزمان بل عدم [٢٣١ ظ] الشيء مطلقا على وجوده من قبيل ذلك أخرى» ، فأوهام ضعيفة لا تسمن ولا تغنى من جوع.

[٣٠] استقصاء فلسفىّ

نقول ، على سبيل ما قاله الشيخ في «الشفاء» وغيره : إنّما يكون الشيء في الزمان على الأصول التي سلفت بأن يكون له معنى المتقدّم والمتأخّر اللذين من جهة التغيّر. وكلّ ما له في ذاته ذلك المعنى ، فهو إمّا حركة أو ذو حركة. أمّا الحركة فذلك لها من تلقاء وجودها وأمّا المتحرّك فذلك له من تلقاء الحركة. وقد يقال لأنواع الشيء ولأجزائه ولنهاياته إنّها في الشيء.

فاذن ، المنتسبات إلى الزمان [٢٣١ ب] بالفيئيّة ، على معنى أنّ وجودها يكون في الزمان ، هي أمّا أوّلا ، فأقسامه ، وهي الماضى والمستقبل والساعات والأيّام والشهور والسنون وأطرافه ، وهي الآنات ؛ وأمّا ثانيا ، فالحركات ؛ وأمّا ثالثا ، فالمتحرّكات. فالمتحركات فى الحركة ، والحركة فى الزمان ، فالمتحرّكات بوجه ما في الزمان.

وكون الآن فيه ككون الوحدة في العدد ، وكون الساعات والأيّام والماضى والمستقبل فيه ، ككون أنواع العدد ، من الاثنين والثلاثة والأربعة ولوازمها من الزوج والفرد فيه ، وكون الحركة فى الزمان لكون العرض المعروض لعدد في ذلك العدد ، كالعشرة الأعراض [٢٣٢ ظ] في العشريّة ، وكون المتحرك فيه ككون موضوع العرض المعدود في العدد ، كالموضوع للأعراض العشرة في العشريّة والذوات الحادثة أيضا في الزمان ، لاختصاصها بأزمنة مخصوصة ، وكونها في الزمان أيضا ككون معروض نوع العدد في العدد.

وأمّا ما هو خارج عن هذه الجملة ، كالأمور التي لا تقدّم فيها ولا تأخّر من جهة التغيّر بوجه ، فإنّه ليس في الزمان أصلا وإن كان مع الزمان. فليس كلّ ما وجد مع الزمان فهو فيه. أفليس الإنسان موجودا مع الخردلة وليس فيها ؛ وما له تقدّم وتأخّر من جهة [٢٣٢] لا من جهة ما هو ذات وجوهر ، كالفلك فهو من جهة ما لا يقبل تقدّما وتأخّرا ليس في زمان ، وهو من الجهة الأخرى في الزمان.

٤٦٢

ثمّ معيّة ما هو خارج عن الزمان بالقياس إلى الزمان ليست معيّة زمانيّة ، بل نحو آخر منها ليست بالانطباق على الزمان أو على طرفه.

وما يتحقق بينه وبين الزمان هذه المعيّة الغير الانطباقيّة ، إمّا أن يكون له اقتران طبيعىّ بالزمان ، كأن يكون فاعلا له كالمبدإ أو حاملا لمحلّه كالفلك الأقصى ، فيكون معيّتهما معيّة سرمديّة أو دهريّة بالطبع على أنّ بينهما تضايفا بالفعل دون مجرّد الفرض [٢٣٣ ظ] لا على الاتفاق البحت ، بل من جهة تلك العلاقة الطبيعيّة ومن جهة حصول الوجود لهما جميعا ؛ وإمّا أن لا يكون له ذلك ، كالنفس المجرّدة لفلك الثوابت مثلا ، فتكون معيّتهما دهريّة غير طبيعيّة ، بل على الاتفاق البحت من جهة حصول الوجود لهما فقط.

والمعيّة الزمانيّة إمّا نفس الفيئيّة ملحوظة على اعتبار آخر ، هو اعتبار المقارنة لما هو منتسب إلى الزمان بالفيئيّة معه بحسب حصول الوجود ، كمعيّة الحركة والزمان ؛ أو راجعة إليها ، كمعيّة المتحرك والزمان أو الحركتين أو المتحركين أو الحادثين المختصّين [٢٣٣ ب] بزمان معيّن.

فهذه المعيّة هي على سبيل التضايف الطبيعىّ من حيث الحامليّة والمحموليّة ، كالمعيّة بين السواد من حيث هو محمول والجسم من حيث إنّ الجسم هو حامل ، أو بين السواد والشكل من حيث إنّ الجسم حامل لهما ، فهى إنّما تكون بالطبع لا على مجرّد الاتفاق البحت من حيث حصول الوجود لهما لا غير.

ولعلّ سلوك سبيل الحكمة الفلسفيّة على هذه البضاعة لم يتفق لأحد بعد الرئيس من أصحاب الصناعة ، فقد اختلف نمط القول فيه في «النجاة» و «الشفاء» ، وبهمنيار لم يطق تحصيل الغرض على وجهه في «التحصيل» فأتى [٢٣٤ ظ] بما شاء.

[٣١] استصباح

على ما حصّلناه ، من الحكمة اليمانيّة النضيجة المنضجة بإنضاجات القوّة العقلانيّة ريثما أدّت إليه القياسات البرهانيّة والإضافات الربّانيّة ، يشبه أن يكون للحدوث ثلاثة معان محصّلة :

أحدها مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم بالذات ، ويقال له عند الفلاسفة الحدوث

٤٦٣

الذاتىّ ، ولا ينافى وجود الحادث أزلا وأبدا بوجود علّته الموجدة له دائما.

وثانيها مسبوقيّة وجود الشيء بعدمه مسبوقيّة دهريّة وسرمديّة لا زمانيّة ، بأن يكون الشيء معدوما في الواقع بأصل العدم الصرف [٢٣٤ ب] الغير المتصف بالاستمرار ومقابله ، ثمّ قد أخرج من صرف العدم إلى الوجود. ويشبه أن يكون أحقّ ما يصطلح عليه في تسميته هو الحدوث الدهريّ.

وثالثها مسبوقيّة وجود الشيء بعدمه مسبوقيّة زمانيّة ، بأن يتقدّم وجوده شطر من الزمان ، وهو المسمّى عند الجمهور بالحدوث الزمانىّ. ولا شطط أن يصطلح على جعل الحدوث الزمانىّ للقدر المشترك بين الأخيرين ، إلّا أنّه ليس ممّا تحدو عليه ضرورة عقليّة أو شرعيّة ، فلا جناح في الاصطلاح الأوّل ، وكأنّ الحقّ لا يتعداه.

وكذلك القدم بإزاء تلك المعانى يطلق [٢٣٥ ظ] على معان ثلاثة ، القدم الذاتىّ ، وهو بأن لا يكون وجود الشيء مسبوقا بالعدم مسبوقيّة بالذات. والقدم الدهريّ ، وهو بأن لا يكون وجود الشيء مسبوقا بعدمه في الواقع أصلا ، سواء سبق عدمه وجوده سبقا بالذات أو لم يسبق ، ويستلزمه في التحقق القدم الذاتىّ دون العكس. والقدم الزمانىّ ، وهو بأن لا يكون وجود الشيء مسبوقا بشطر من الزمان والحركة ، سواء كان مسبوقا بالعدم في الواقع أوّلا. وعلى هذا المعنى تتصف به المفارقات ، ويستلزمه في التحقّق القدم الدهريّ دون العكس.

ولو فسّر [٢٣٥ ب] القدم الزمانىّ بمقارنة وجود الشيء للزمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده لم يصحّ اتصاف المفارقات الغير الزمانيّة به حقيقة اللهمّ إلّا على تكلّف ، بل يختصّ صحّة الاتصاف به حينئذ بالزمانىّ ، كالحركة. ثمّ لو جعل الحدوث الزمانىّ للقدر المشترك بين المعنيين كان القدم الزمانىّ بإزائه عدم كون وجود الشيء مسبوقا بعدمه في الواقع أصلا. وظاهر أنّه حينئذ لا يكون مسبوقا بشطر من الزمان والحركة.

ثمّ القديم الزمانىّ عند المتهوّسين بالقدم يطلق تارة بالقياس وتارة مطلقا. فالقديم بالقياس هو شيء زمانه [٢٣٦ ظ] في الماضى أكثر من زمان شيء آخر. والقديم مطلقا هو الذي وجد في زمان ماض غير متناه. والمتكلمون يجعلون القديم ما يكون موجودا في أزمنة موهومة مقدّرة غير متناهية لا بداية لأوّلها.

٤٦٤

[٣٢] حكمة إلهيّة

أتفطنت ممّا قرع سمعك : أنّ الزمان والحركة التي هي محلّه أخرجا من العدم في الواقع إلى الوجود. فهما بجميع أجزائهما مسبوقان بالعدم. والبارى تعالى أخرجهما بهويّتهما الاتصاليّتين من العدم البحت والليس المطلق إلى الأيس والوجود في وعاء الدهر مرّة واحدة. فكلّ جزء منفصل بحسب الوهم عمّا يسبقه ، يتقدّمه بحسب وجوده [٢٣٦ ب] في نفسه شطر من الزمان والحركة ، لا بحسب نسبته إلى بارئه ، فلا يتخلّل بين شيء من تلك الأجزاء وبين بارئها زمان ولا آن أصلا. وسنبرهن من ذى قبل إن شاء الله تعالى على أنّ مفارقات المادّة من الطبائع الإمكانيّة أيضا كذلك. فإذن الممكنات طرّا حادثة حدوثا دهريّا.

ثمّ هي على أضرب : منها حوادث زمانيّة يسبق وجود كلّ منها شطر من الزمان والحركة ، وهي الحوادث الكونيّة الماديّة ، ومنها زمانيّة تتصف بالمقارنة للزمان والانطباق عليه ، لكنّها ليست ممّا يتقدّم وجوده شطر من الزمان ، كالحركة التي هي فلا محلّ الزمان معنى [٢٣٧ ظ] تتصف بالحدوث الزمانىّ ، بل هي قديمة زمانيّة ، على أنّها موجودة في جميع أجزاء الزّمان ، وإن كانت حادثة دهريّة موجودة بعد عدمها في الواقع ، ومنها مفارقات غير زمانيّة هي أيضا حوادث دهريّة ، وهي موجودات إبداعيّة ولا تتصف بشيء من القدم والحدوث الزمانيّين ، إلّا على أحد التّفسيرين للقدم الزمانىّ ، إذ على التفسير الآخر يشترط في مفهوميهما جميعا كون الشيء زمانيّا. ولو اصطلح على إدراج الحدوث الدهريّ في المسمّى بالحدوث اصلا ، بل كانت الزمانىّ لم يتصف شيء من الممكنات بالقدم الزمانىّ بجملة آحادها [٢٣٧ ب] هي حوادث زمانيّة.

لكن ما نطقت به ألسنة الشرائع المتلقّاة من قبل السّانّين الشارعين المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ليس إلّا أنّ العالم بجميع أجزائه حادث ، بمعنى أنّه كان معدوما ، وقد أخرجه مبدعه من العدم إلى الوجود ، لا أنّ كلّ ممكن يتقدّم وجوده شطر من الزمان والحركة. كيف وهذا ممّا لا ينبغى أن يسبق إليه وهم أصلا ، فإنّ من الممكنات نفس الزمان والحركة ، ولا أنّ كلّ ممكن يجب أن يطلق عليه لفظة الحادث الزّمانىّ ، [٢٣٨] فإنّ الفرض إنّما تعلّق بإثبات ذلك المعنى المحصّل من

٤٦٥

الحدوث ، أى الوجود بعد العدم ، لا بإطلاق لفظ الحادث الزمانىّ أو عدمه. فبعد وضوح المقصود لا صادّ عن أن يصطلح على ما يراد. كما أنّ القدم قد يطلق اصطلاحا على المعنى الإضافىّ ويتّصف به بعض الممكنات بالنّسبة إلى بعض. ثمّ عند الفلاسفة ربّما يعدّ نفس الزمان من المبدعات ، وإنّه ليتلى عليك من ذى قبل ، إن شاء الله ، القول في الإبداع ومقابلاته.

[٣٣] مصباح عقلىّ

فإذن ، ما أسهل ما يتأتى لك أن تتعرف أنّ مجموع الزمان ، [٢٣٨ ب] على الحكمة اليمانيّة ، مسبوق بالأزل الغير الزمانىّ ، لا بأزل زمانىّ ، وكلّ جزء منفصل منه عند الوهم عمّا سبقه من أجزاء الزمان مسبوق بحسب وجوده في نفسه بأزل زمانىّ هو مجموع الزمان السابق عليه ، لا الأزمنة الغير المتناهية في الماضى ، على ما يراه المتهوّسون بالقدم.

وأمّا بحسب نسبته إلى بارئه فلا يسبقه أيضا إلّا الأزل الغير الزمانىّ ، أى الأزل السرمديّ ، فان مسبوقيّته بذلك الامتداد الزمانىّ إنّما هو لأنّ هويّته الشخصيّة اقتضت أن يختصّ هو بحسب وجوده في نفسه [٢٣٩ ظ] بذلك الحدّ ، فيسبقه ما وراء ذلك الحدّ من امتداد الزّمان ، ويقع بينه وبين ما يختصّ بحدّ آخر شطر منه ضرورة. فأمّا من لا يختصّ بالوقوع في حدّ أو في مجموع الامتداد ، فلا يمكن أن يتخلّل بينه وبينه شطر من الزمان أو حدّ من حدوده.

فإذن ، سبق البارى تعالى على شيء من أجزاء الزّمان ليس تقدّما بالزمان ، بل إنّما هو تقدّم سرمديّ ، كسبقه على مجموع الزّمان المتّصل الشّخصىّ من غير تفاوت يقتضيه ذات السّابق الأوّل تعالى. ومع ذلك ، فإنّ كلّ جزء من الأجزاء المنفصلة وهما [٢٣٩ ب] عمّا يسبقها لا يوجد في نفسه إلّا بعد انقضاء ذلك السّابق الممتدّ. فلو كان لم؟ إلّا الأزل السّرمديّ. وسبيل الحركة وكلّ جزء من أجزائها وجميع الحوادث الزمانيّة بسلسلتها ، وكلّ واحد من آحادها فى ذلك المعنى هو بعينه سبيل الزمان وكلّ جزء من أجزائه.

وهذا ممّا يحوج تصوّره إلى تلطيف للقريحة وتنزيه للغريزة وتقويم للفكر وتقديس للسّر. وبالجملة ، لا يتخلّل بينه تعالى وبين شيء ما من الأشياء ، أصلا ، آن أو

٤٦٦

زمان ، لكونه غير مختصّ بزمان أو بمجموع الأزمنة ، فتقدّمه [٢٤٠ ظ] على أيّ شيء كان إنّما هو التقدّم السّرمديّ من جهة سبق الوجود والتقدّم بالذات أيضا من جهة العلّيّة ، فإذن لا يكون شيء بالقياس إليه أشدّ تأخّرا من شيء ، بل الحادث اليومىّ والحادث الأمسىّ بل الأزل والأبد في مرتبة واحدة من التأخّر عنه. نعم بعض الأشياء بحيث لا يوجد في نفسه إلّا بعد انقضاء زمان وحركة ، وأمّا المتقدّمات الزمانيّة فبعض المتأخّرات عنها ربما يكون أشدّ تأخّرا بالنسبة إليها من بعض آخر. فعيسى ، مثلا ، أشدّ تأخّرا بالنسبة إلى نوح من موسى ، صلوات الله تعالى على نبيّنا وعليهم.

وهذا كما [٢٤٠ ب] أنّ تقدّم البارى تعالى على المكان ليس تقدّما مكانيّا ، ولا على شيء من أجزاء المكان. والمكان وأجزاؤه سواسية في نحو التأخّر عنه ، وأنّ شيئا من المكانيّات لا يكون أقرب إليه أو أبعد عنه من مكانىّ آخر ، كما يكون ذلك في المكانيّات بقياس بعضها إلى بعض.

[٣٤] تبصير تفريعىّ

فلعلّك إذن تتفطّن أنّه لمّا كانت أجزاء الزمان حاضرة عند البارى تعالى دفعة ، فلا تتمايز هناك أوّليّة عن آخريّة. فكلّ زمان فإنّ نسبة أوّله إليه تعالى كنسبة آخره. فكما أنّه بأوّله [٢٤١ ظ] ينتهى إليه تعالى فكذلك بآخره منته إليه وسبيل الزمانيّات كلّها بالنسبة إليه ذلك. وأمّا ما ليس بزمانىّ فإنّ أوّله بعينه هو آخره ، وهو ينتهى إليه تعالى ، فهو أوّل كلّ شيء وآخره فهو الأول والأخر على الإطلاق.

وهذا معنى آخر لأوّليّته وآخريّته غير ما ارتسم في أكثر الأذهان ، وغير ما حصّله الحكماء المحصّلون ، من جهة أنّه تعالى فاعل الوجود وغايته على الإطلاق ، وغير ما نحقّقه عند تحقيق سلسلة البدو والعود إن شاء الله.

ولقد أنلناك بذر الفحص ، [٢٤١ ب] فأنت منه في روضة التحقيق على طلع مبين ، فلا عليك إذن إلّا اجتناء ثمرة الحقّ من شجرة اليقين.

[٣٥] خصومة جدلية على أسلوب برهان

يا زمرة المتهوّسين بالقدم ، يا أسارى الطبيعة الوهمانيّة؟ ألستم تجعلون البارى

٤٦٧

متقدّما على الحادث الزمانىّ ، الذي يوجد من بعد ، وهو معدوم بالفعل ، فذلك أمر من أوائل القطعيّات؟

ثمّ ألستم جعلتم الاتّصاف بالتقدّم الزمانىّ مقصورا على الزمانيّات فقط ، والأوّل تعالى غير داخل فيها ، فإذن لا يكون تقدّمه على الحادث زمانيّا. وكيف يكون زمانيّا ، واتصاف [٢٤٢ ظ] غير أجزاء الزمان بالتقدّم الزمانىّ إنّما هو بالعرض ، بمعنى المقارنة لأجزاء الزمان المتصفة به حقيقة. وليس لوجود الواجب زمان يتصف هو من جهته بذلك ؛

وليس تقدّما بالعليّة ، لامتناع تخلّف المتأخّر بالعليّة عن المتقدم بها في الوجود الخارجىّ قطعا ، ولا تقدّما بالطبع ، إذ العقل يجد بينهما غير التقدّم بالطبع تقدّما آخر بحسب عدم الاجتماع في الوجود ؛

وبهذا الوجه بعينه ؛ ليس ذلك تقدّما بالشرف ولا بالمكان أو بالرتبة ، فيكون لا محالة تقدّما آخر خارجا عن الأقسام الخمسة. لكن لا على نحو ما تخيّله المتكلمون ، بل بحسب السرمديّة [١٤٢ ب] وعدمها. فلم اشمأزّت قلوبكم إذا قيل : إنّ الواجب تعالى متقدّم على الزمان ، بل على العالم كلّه ، ذلك التّقدّم ، فهل ذلك إلّا معاداة الحكمة ومعصية العقل وطاعة الوهم ، فأنتم إذن عصاة العقل وخصماؤه وولاة الوهم وأصدقاؤه.

[٣٦] استشهاد واستغراب

أليس مثبتو الوجود للزمان من المتهوّسين بالقدم ، وهم أسراء الوهم ، يجعلونه موجودا في نفسه مطلقا ، لا في زمان أو في آن ، فإنّ ذلك إنّما يلزم استيجابه في الوجود الزمانيات دون الزمان نفسه. كما أنّ المكان موجود في نفسه ، لا في مكان أو في حدّ من حدوده ، فإن ذلك [١٤٣ ظ] إنّما يستوجب في المكانيّات لا في المكان نفسه ، وقد سبق ذلك في المنقول عن «الشفاء» ، وشحن به كتب المتهوّسين بالقدم. ثمّ أليست نسبة العدم إلى الشيء ، شاكلتها في ذلك شاكلة نسبة الوجود إليه.

فإذن ، أليس لنا أن نقول : لمّا كان الزمان معدوما كان معدوما في نفسه ، لا في زمان أو في آن ، كما أنّ المكان حيث يكون معدوما يكون معدوما كذلك ، فاستفتهم : أمعدوميّة المكان وراء الفلك الأقصى عبارة عن عدمه هناك في مكان أو في حدّ من

٤٦٨

حدوده ، أم المكان معدوم وراء محدّد الجهات في نفسه ، فكذلك الزمان ، [١٤٣ ب] وراء امتداده في جانب البداية معدوم في نفسه عدما صرفا ، بمعزل عن الامتداد ومقابله.

ثمّ من المستغرب ، يا أسراء الوهم ، أنّ معلّمكم ورئيسكم ومن هو فى طبقتهما منكم لا يذهلون عن تلك الحقائق ، ومع ذلك فإنّهم يستنكرون الحقّ وهم لا يستشعرون.

أفليس رئيسكم يقول في («التعليقات» ، ص ٤٣) : «متى هو الكون في الزمان ، والزمان الواحد يصحّ أن يكون زمانا لعدّة كثيرة بالتحقيق. فأمّا متى كلّ واحد منها فإنّه يخالف متى الاخر ، فإنّ كون كلّ واحد منها في ذلك الزمان هو غير كون الآخر. والأين هو كون الشيء في المكان ، [١٤٤ ظ] ومعناه في وجوده فيه ، وهو وجود نسبىّ ، لا وجود على الإطلاق ، وهو مختلف فيه ، فإنّ كون زيد في السوق غير كون عمرو فيه ، والكون في الزمان غير نفس الزمان. وإذا بطل كون الواحد في زمان لم يبطل كون الآخر ، والزمان ليس وجوده في زمان ، فكذلك ليس بعدم في زمان».

هذا قوله بألفاظه ، ثمّ يقول في «التعليقات» أيضا : «الوهم يثبت لكلّ شيء متى ، ومحال أن يكون في للزمان نفسه متى ، والدهر وعاء الزمان ، لأنّه محاط به».

وأ ليس تلميذه بهمنيار يقول في الفصل الآخر من المقالة الثانية [١٤٤ ب] من إلهيّات كتاب «التحصيل» ، (ص ٤٦٢) : «ومعلوم أنّ الزمان ليس وجوده في زمان حتى يكون عدمه في زمان آخر».

وأمثال ذلك في صحفهم غير محصورة ، فكيف يحصّلون ذلك في أبعاض الزمان وينقبضون عنه في الزمان نفسه ؛ فليت شعرى ما خطبكم ، أيّها المتهوّسون بالقدم ، تكتمون الحقّ وأنتم تشعرون.

[٣٧] تسوية برهانية فيها حكمة ربانيّة

يا أيّها المتهوّسون بالقدم ، أنسيتم ما أدركتموه بعلومكم البرهانيّة : أنّه لو وقع أحد في الفلك الأقصى ، فأراد أن يمدّ يده وراء سطح المحدّد ، لم يمكن أن تذهب يده وتنبسط [٢٤٥ ظ] ، لا لمانع مقداريّ ، بل لعدم فضاء وجهة وبعد ، لانتهاء الجهات مع الأبعاد ؛ فكذلك عند عدم الزمان لا يمكن أن يقع شيء في ذلك العدم ، بحيث يتوسّط بين البارى تعالى وبين الزمان ، فيتأخر عنه تعالى ويتقدّم على الزمان تقدّما

٤٦٩

سرمديّا ، لأنّ هناك عدما صرفا ، لا غير. وإنّما كان يمكن ذلك لو كان يتصوّر في ذلك العدم امتداد يعقل بحسبه واسطة يقع فيها ذلك الشيء وطرفان يقع فيهما البارى والزمان. وذلك بحت كذب الوهم وصرف توهّم المحبوس في سجن الهيولى ومحض ظنّ المستوطن في كورة الزمان [٢٤٥ ب].

فأمّا من يطير بجناح العقل في فضاء القدس فلا يصاد بشبكة الطبيعة وبرّة الوهم. نعم قد يتصوّر ذلك التوسيط بحسب التقدّم والتأخّر بالعليّة وبالطبع ، فيقال : لعلّ المتأخّر بالعليّة أو بالطبع عن المبدأ الأوّل تعالى ، كالعقل أو النفس أو جرم الفلك الأقصى أو حركته ، يتقدّم بالعليّة أو بالطبع على الزمان. ثمّ يشبه أن يكون أمر الزمان مناسبا لأمر المكان في أكثر الأحكام ،

فكما يمكن أن يقع مكانيّان [بينهما] قسط من المكان في زمان واحد ، فكذلك يمكن وقوع زمانيّين بينهما قسط من الزمان في مكان واحده ، وكما لا يتصوّر [٢٤٦ ظ] فوق محدّد الجهات امتداد مكانىّ أو لا امتداد كذلك ، إذ ليس وراءه خلأ ولا ملأ ؛ كذلك ليس يتصوّر وراء مجموع الزمان امتداد زمانى ولا لا امتداد كذلك ، إذ ليس فوقه ممتدّ ولا غير ممتدّ ، فلا يصدق هناك الّا امتداد مطلقا عدوليّا على أنّ له موضوعا هناك ، بل إنّما يصدق سلبا بسيطا في نفسه ، إذ هناك عدم صرف لا يتصف بالامتداد واللّاامتداد ، فإذن اللّاامتداد الزمانىّ لا يتصوّر هناك أصلا ، فضلا عن الامتداد.

وكما أنّ المكان موجود في نفسه بجميع أجزائه وإن لم يجتمع المكانيّات في شيء منها ، فكذلك الزّمان موجود في نفسه بجميع [٢٤٦ ب] أجزائه وإن لم يكن ذلك بالقياس إلى الزّمانيّات. فهذا ضرب من النّظر فيه نمط من التحصيل.

[٣٨] اقتصاص وحكومة

ما جبّ عرق إعضالها من شبه المتهوّسين بالعدم يقرب مسلكها من رابعة شبهات أبرقلس ، وهي تسع ، وما لفّقها الشيخ الرئيس وتلونا عليك إبطالها أيضا مستنبطة منها ومن التاسعة.

وعبارة أبرقلس في تقرير الرابعة على هذا السبيل : «إن كان الزمان لا يكون موجودا إلّا مع الفلك ، ولا الفلك إلّا مع الزمان ، لأنّ الزمان هو العادّ لحركات

٤٧٠

[٢٤٧ ظ] الفلك. ثمّ لا جائز أن يقال : متى وقبل إلّا حين يكون الزمان ، ومتى وقبل أبديّ ، فالزمان أبدىّ ، فحركات الفلك أبديّة ، فالفلك أبديّ».

والتاسعة هي قوله : «لن يتوهّم حدوث العالم إلّا بعد أن يتوهّم أنّه لم يكن ، فأبدعه تعالى ، وفي تلك الحالة التي لم تكن ، لا يخلو من حالات ثلاث : إمّا أنّ البارى تعالى لم يكن قادرا فصار قادرا ، وذلك محال ، لأنّه قادر لم يزل ؛ وإمّا أنّه لم يرد ، وذلك محال أيضا ، لأنّه مريد لم يزل ؛ وإمّا أنّه لم تقتض الحكمة ، وذلك محال ، لأنّ الوجود أشرف ، [٢٤٧ ب] من العدم على الإطلاق».

ولعلّ درء سائر تلك الشّبهات وحسم جميع ما أعضل الشيء فيه بالمتهوّسين بالقدم يستبين لديك سبيله على مسلك التحصيل ، حيث يحين حينه من ذى قبل ، إن شاء الله. وأبرقلس من أفاضل تلامذة إمام الحكمة ، أفلاطون الإلهيّ.

وعلى ما وصل إلينا ، من برعة المترجمة لأقوال الفلاسفة ومهرة المورّخة لأحوالهم ، القول في قدم العالم وأزليّته ، بعد إثبات الصانع والقول بالعلّة الأولى ، إنّما ظهر بعد معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطاطاليس ، لأنّه خالف القدماء [٢٤٨ ظ] صريحا وأبدع المقالات على قياسات ظنّها حجّة وبرهانا ؛ فنسج على منواله من كان من تلامذته ، وصرّحوا القول فيه ، مثل الإسكندر الإفروديسىّ وثامسطيوس وفرفوريوس شرّاح كلام أرسطاطاليس ، ومثل الشيخ اليونانىّ وديوجانس والإسكندر الرّومى ، وصنّف أبرقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه المسألة كتابا ، وأورد فيه تلك الشّبه ، وإلّا فالقدماء ما أبدوا في العالم إلّا القول بالحدوث ، والمتعصّبون لأبرقلس يمهّدون له الأعذار فى إيراد تلك الشبهات [٢٤٨ ب].

ثمّ فلاسفة الإسلام ، من معلّميهم ورؤسائهم ، صيّروا أنفسهم كالمقلّدين للمعلّم أرسطاطاليس ، لا يخالفون طوره ولا ينحرفون عن سبيله ، فهذا ما قد استبان لى من تتبّع كتبهم وكلامهم. وعليه استقرّ أيضا رأى الشّهرزوريّ صاحب «الشجرة الإلهيّة» ، والشهرستانىّ صاحب «الملل والنحل».

وأمّا الشّيخ المعلّم أبو نصر الفارابىّ ، فقد قال في مقالته في («الجمع بين الرأيين» ، ص ١٠٠ ـ ١٠٤) بهذه العبارة :

٤٧١

«إنّ ممّا يظنّ بأرسطوطاليس أنّه يرى أنّ العالم قديم ، وبأفلاطون على خلاف رأيه وأنّه كان يرى أنّ العالم محدث. فأقول [٢٤٩ ظ] : إنّ الذي دعى هؤلاء إلى هذا الظنّ القبيح المستنكر بأرسطاطاليس الحكيم ، هو ما قاله في كتاب «طوبيقا» إنّه قد توجد قضيّة واحدة بعينها ، يمكن أن يؤتى على كلا طرفيها بقياس من مقدّمات ذائعة ، مثال ذلك : «هل العالم قديم أم ليس بقديم».

وقد ذهب على هؤلاء المختلقين ، أمّا أوّلا ، فإنّ الذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى الاعتقاد ؛ وأيضا ، فإنّ غرض أرسطوطاليس في كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان أمر العالم ، لكنّ غرضه بيان أمر القياسات المتركّبة من المقدّمات الذائعة ، وكان قد [٢٤٩ ب] وجد أهل زمانه يتناظرون في أمر العالم : «هل قديم أم محدث» ، كما كانوا يتناظرون في اللّذة : «هل خير أم شر» ، وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كلّ مسألة منهما بقياسات ذائعة. وقد بيّن أرسطاطاليس في ذلك وفي غيره من كتبه : أنّ المقدّمة المشهورة لا يراعى فيها الصدق والكذب ، لأنّ المشهور ربّما كان كاذبا ، ولا يطرح لكذبه. وربّما كان صادقا ، فيستعمل ، لشهرته في الجدل ، ولصدقه في البرهان. فظاهر أنّه لا يمكن أن ينسب إليه الاعتقاد بأنّ «العالم قديم» ، بهذا المثال الذي أتى به في هذا الكتاب.»

«وممّا [٢٥٠ ظ] دعاهم إلى ذلك الظنّ أيضا ما يذكره في كتاب «السماء والعالم» : أنّ «الكلّ ليس له بدء زمانيّ» ، فيظنّون عند ذلك : أنّه يقول بقدم العالم. وليس الشيء كذلك ، إذ قد تقدّم فبيّن في ذلك الكتاب وفي غيره من الكتب الطبيعيّة والإلهيّة : أنّ الزمان إنّما هو عدد حركة الفلك ، وعنه يحدث ، وما يحدث عن الشيء لا يشمل ذلك الشيء. ومعنى قوله : «إنّ العالم ليس له بدء زمانىّ» ، أنّه لم يتكوّن أوّلا فأولا ، بأجزائه ، كما يتكوّن البيت مثلا ، أو الحيوان الذي يتكوّن أوّلا بأجزائه ، فإنّ أجزاءه يتقدّم بعضها [٢٥٠ ب] بعضا بالزّمان والزّمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن يكون لحدوثه بدء زمانىّ. ويصحّ بذلك أنّه إنّما يكون عن إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، وعن حركته حدث الزمان.»

«ومن نظر في أقاويله في كتابه المعروف ب «أثولوجيا» لم يشتبه عليه أمره في

٤٧٢

إثباته الصّانع المبدع لهذا العالم ، فإنّ الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى. وهناك تبيّن أنّ الهيولى أبدعها البارى ، جلّ ثناءه ، لا عن شيء ؛ وأنّها تجسّمت عن البارى ، سبحانه ، وعن إرادته ؛ ثمّ ترتّبت. وقد بيّن أيضا [٢٥١ ظ] في «السماع الطبيعى» : أنّ الكلّ لا يمكن أن يكون حدوثه بالبخت والاتفاق ؛ وكذلك في العالم جملة. يقول في كتاب «السماء والعالم» : «ويستدلّ على ذلك بالنظام البديع الذي يوجد لأجزاء العالم بعضها مع بعض». وقد بيّن هناك أمر العلل ، كم هي ، وأثبت العلّة الفاعلة ؛ وقد بيّن هناك أيضا أمر المكوّن والمحرّك ، وأنّه غير المكوّن والمتحرّك.»

وكما أنّ أفلاطون في كتابه المعروف ب «طيماوس» بيّن أنّ كلّ مكوّن فإنّما يكون عن علّة مكوّنة له اضطرارا ، وأنّ المكوّن لا يكون علّة لكون ذاته ؛ كذلك أرسطاطاليس بيّن في كتاب «أثولوجيا» : «أنّ الواحد موجود [٢٥١ ب] في كلّ كثرة» ، ثمّ بيّن أنّ الواحد الحقّ هو الذي أفاد سائر الموجودات الواحديّة. ثمّ بيّن : أنّ الكثير بعد الواحد لا محالة ، وأنّ الواحد تقدّم الكثير. ثمّ بيّن أنّ كلّ كثرة تقرب من الواحد الحقّ ، كان أقلّ كثرة ممّا يبعد عنه ؛ وكذلك بالعكس. ثمّ ترقّى بعد تقديمه هذه المقدّمات إلى القول في أجزاء العالم الجسمانيّة والروحانيّة ؛ وبيّن بيانا شافيا أنها كلّها حدثت عن إبداع البارى لها ، وأنّه ، عزوجل ، هو العلّة الفاعلة ، الواحد الحقّ ومبدع كلّ شيء ، على حسب ما بيّنه أفلاطن في كتبه في الرّبوبيّة ، مثل «طيماوس» و «بوطيقا» وغير ذلك [٢٥٢ ظ] من سائر أقاويله.»

«وأيضا ، فإنّ «حروف أرسطاطاليس في ما بعد الطبيعة» إنّما يترقى فيها من المقدّمات الضروريّة البرهانيّة إلى أن يبيّن وحدانيّة البارى ، جلّ وعزّ ، في «حرف اللّام» ، ثمّ ينحدر راجعا في بيان صحّة ما قدّمه من تلك المقدّمات إلى أن يستوفيها. وذلك ممّا لا يعلم أنّه يسبقه إليه من قبله ، ولم يلحقه من بعده إلى يومنا هذا. فهل يظنّ بمن هذا سبيله أنّه يعتقد نفى الصّانع وقدم العالم؟»

«ولأمونيوس رسالة مفردة في ذكر أقاويل هذين الحكيمين في إثبات الصّانع ، استغنينا ، لشهرتها ، [٢٥٢ ب] عن إحضارنا إيّاها في هذا الموضع.»

«ولو لا أنّ هذا الطريق الذي نسلكه في هذه المقالة هو الطريق الأوسط ، فمتى ما

٤٧٣

نكبّناه كنّا كمن ينهى عن خلق ويأتى بمثله ، لأفرطنا في القول وبيّنا أنّه ليس لأحد من أهل المذاهب والنحل والشرائع وسائر الطرائق ، من العلم بحدوث العالم واثبات الصّانع وتلخيص أمر الإبداع ، ما لأرسطاطاليس ، وقبله لأفلاطون ، ولمن يسلك سبيلهما» «ولو لا ما أنقذ الله أهل العقول والأذهان بهذين الحكيمين ومن سلك سبيلهما ممّن أوضحوا أمر الإبداع بحجج واضحة [٢٥٣ ظ] مقنعة ، ـ وإنّه إيجاد الشيء لا من شيء ، وأنّ كلّ ما يتكوّن عن شيء ما ، فإنّه يفسد لا محالة ، إلى ذلك الشيء ، والعالم مبدع من غير شيء ، فمآله إلى غير شيء ، في ما شاكل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما مملوّة منها ، وخصوصا ما لهما في الربوبيّة وفي مبادى الطبيعة ؛ ـ لكان النّاس في حيرة ، فطرق البراهين الحقيقيّة مستفادة من عند الفلاسفة الذين تقدّمهم هذان الحكيمان ، أعنى أفلاطون وأرسطوطاليس.»

«وأمّا طرق البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع فمستفادة [٢٥٣ ب] من عند أصحاب الشرائع الذين عوضدوا بأنواع الوحى والالهامات. ومن كان هذا سبيله ومحلّه من إيضاح الحجج وإقامة البراهين على وحدانيّة الصانع الحقّ ، وكان لأقاويله في كيفيّة الإبداع وتلخيص معناه ما لأقاويل هذين الحكيمين ، فمن المستنكر أن يظنّ بهما فساد يعترى ما يعتقدانه ، وأنّ رأييهما مدخولان في ما يسلكانه» ، انتهى قول المعلّم الثاني للحكمة بألفاظه [بتفاوت وتلخيص في العبارات].

والذي أنا أراه ، هو أنّ كلام هذا الحكيم المبرّز يشبه أن يكون ممّا يحوج صرفىّ القوّة الفطريّة [٢٥٤ ظ] إلى نقده ، فالذى ذكر ـ من اتّفاق الحكيمين على أنّ العالم ليس له بدء زمانىّ ، يعنى : لم يتقدّمه زمان ـ فذلك حقّ لا يسع ذا قسط صالح من الحكمة أنّ يستنكره ويتعدّاه. ثمّ يتصوّر بعد ، هناك ، افتراق من جهة القول : بأنّ ما ليس له بدء زمانىّ من العالم ، له بدء غير زمانىّ من تلقاء المسبوقيّة بالعدم في الأعيان ، على سياق معنى حصّلته من الحدوث الدّهريّ ، لا من تلقاء المسبوقيّة بذات الفاعل فقط ، والتأخّر عن العدم بالذات لا غير ، على ما هو شأن الحدوث الذاتىّ أو عدم القول [٢٥٤ ب] بذلك القول ، بل الاقتصار على المسبوقيّة بالعدم من تلقاء الحدوث الذاتىّ فقط.

فإن أراد : «أنّ المعلّم أرسطاطاليس لا يقتصر في حدوث العالم على الأخير ، بل

٤٧٤

يذهب إلى الحدوث الدهريّ أيضا ويقنع بالقدم الزمانىّ على معنى أنّه لم يتقدّم الكلّ شطر من الزمان» ؛ فكلام أرسطاطاليس في كتبه ناصّ على أنّه لم يشعر بذلك أصلا. ألم يقل في كتاب «أثولوجيا» من الحرف اللّام ، عند إثبات كون الحركات سرمديّة : «أنّ صدور الفعل عن الحقّ الأوّل إنّما يتأخّر لا بزمان بل بحسب الذات ، والفعل ليس مسبوقا بالعدم ، بل هو مسبوق [٢٥٥ ظ] بذات الفاعل فقط». ثمّ تلامذته وشيعته أطبقوا على ذلك. وكلّ ما استدلّوا به على قدم العالم ناسج على منوال عدم الشعور بذلك المعنى من الحدوث. ولعلّ هذا الحكيم المبرّز أيضا لم يتفطّن لذلك ولم يقصده بقوله هذا.

وإن أراد «أنّ إمام الحكمة أفلاطون ، أيضا لم يدّع إلّا الحدوث الذاتىّ. وإنّما لم يطلق لفظ القدم هناك ، نظرا إلى أنّ كون العالم ليس له بدء زمانىّ ممّا لا يستوجب إطلاق القديم عليه ، مع كونه مسبوقا بالعدم بالذات وبذات الفاعل أيضا ، وكأنّ هذا [٢٥٥ ب] هو الذي عناه». فإنّه ومن في طبقته في التحصيل قلما يستصحّون إطلاق القديم بلا تقييد على المحدث المسبوق بالعدم بالذات.

وكذلك ترى الشيخ الرئيس يقول في «أجوبة المسائل العشر» ، (ص ٨٠) : «كلّ ما تعلّق وجوده فهو مسبوق في ذاته ، وكلّ مسبوق في ذاته فهو غير قديم. اللهمّ إلّا أن يعنى بالقديم ما لم يسبق بزمان. إمّا على الإطلاق وإمّا بالقياس».

ويقول في «الشفاء» و «النجاة» ص ... : «كلّ معلول محدث وليس حدثه إنّما هو في آن في الزمان فقط ، بل هو محدث في جميع الزمان والدهر».

فأقول : إنّ أفلاطون الإلهيّ قد صرّح في كتابه الذي يسمّى «فإذن» وفي كتابه الذي يدعى («طيماوس» ، ٢٥٦ ظ) وبالجملة في أكثر ما وصل إلى من كتبه وكلامه ، أو بلغنى من قبل ناقلى أقواله : بأنّ العالم اوجد بعد ما لم يكن في الأعيان ، بل كان الموجود موجده فقط ، حيث قال بهذا العبارة :

[ص ...] «إنّ للعالم مبدعا محدثا أزليّا واجبا بذاته ، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلّية ، كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل».

وأحال وجود حوادث لا أوّل لها. لكنّه بيّن امتناع ذلك بما يحوج إلى تدقيق للنظر يخرجه عن الحمل على سياق ما يتكلّفه المتكلّمون ، من شمول حكم كلّ

٤٧٥

واحد واحد لمجموع الآحاد ، وسوف نحقّقه من ذى قبل [٢٥٦ ب] إن شاء الله تعالى. وأثبت جوهرا سمّاه العنصر الأوّل ، وأطلق لفظ الإبداع عليه ، وقد أخرجه عن الأزليّة بذاته ، بل جعل وجوده بوجود واجب الوجود ، كسائر المبادى التي ليست زمانيّة ، ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زمانىّ.

قال : «فالبسائط حدوثها حدوث إبداعىّ غير زمانىّ ، والمركّبات حدوثها بوسائط وسائط حدوث زمانىّ».

وقال : «الشيء الذي لا حدوث له هو وجود البارى تعالى. والشيء الحادث الذي ليس بباق هو وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حاله واحدة. والشيء الحادث [٢٥٧ ظ] الموجود بالفعل. وهو أبدا بحال واحد هو وجود البسائط والمبادى التي لا تتغيّر من الجواهر العقليّة التي هي فوق الزمان».

وقال : «إنّه لم يسبق العالم زمان ، ولكنّه حادث أبدع ، ولم يكن فى الوجود شيء ، ولم يبدع عن شيء» ، فإذن لا يكاد يصحّ اتفاق الحكيمين في أمر الحدوث.

ويشبه أن يكون هذا الحكيم المبرّز قد أخذ هذا الحكم من فرفوريوس الشارح لكلام أرسطاطاليس ، حيث قال : «إنّ الذي يحكى عن أفلاطون عندكم ، من أنّه يضع للعالم ابتداء زمانيّا ، [٢٥٧ ظ] ، فدعوى كاذبة. وذلك أنّ أفلاطون ليس يرى : أنّ للعالم ابتداء زمانيّا ، [٢٥٧ ب] لكن ابتداء من جهة العلّة ، ويزعم : أنّ علّة كونه ابتداؤه. وقد رأى أنّ المتوهّم (عليه خ) في قوله : «إنّ العالم مخلوق وإنّه أحدث لا من شيء إنّه خرج من لا نظام إلى نظام» غلط. وذلك لأنّه لا يصحّ دائما أنّ كلّ عدم أقدم من الوجود في ما علّة وجوده شيء آخر غيره ، ولا كلّ سوء نظام أقدم من النظام. وإنّما يعنى أفلاطون : إنّ الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود ، إنّ وجدانه لم يكن من ذاته ، لكن سبب وجوده من الخالق.

وكأنّ فرفوريوس إنّما لم يهتد إلى ما رامه أفلاطون ، إمّا ذهولا [٢٥٨ ظ] عن المعنى المحصّل في المسبوقيّة بالعدم ، وإمّا تشوّقا وتهوّسا بإثبات القدم ، على أنّه أقلّ تحصيلا من سائر تلامذة أرسطاطاليس ، وليس بعيد الغور طويل الأمد في التحقيق ، كأترابه. أفترى الشيخ الرئيس ما يصنع به في «الشفاء» و «الاشارات» ، وقلّما

٤٧٦

يتّكل عليه في شرح كلام أرسطاطاليس ، بل أكثر تعويله على سامسطيوس.

وأمّا ما قاله صاحب الأنوار والإشراقات في «حكمة الإشراق» ، (ص ١٩) : «إنّ الاختلاف بين متقدّمى الحكماء ومتأخّريهم إنّما هو في الألفاظ واختلاف عاداتهم في التصريح والتعريض. والكلّ قائلون [٢٥٨ ب] بالعوالم الثلاثة ، متفقون على التوحيد ، لا نزاع بينهم في اصول المسائل». ففسّر الشارح [وهو قطب فلك التحقيق منه رحمه‌الله] ذلك بقوله : «أي في المسائل المهمّة التي هي الأمّهات ، كقدم العالم وصحّة المعاد وثبوت السعادة والشقاوة ، وأنّه تعالى عالم بجميع الأشياء ، وأنّ صفاته عين ذاته ، وأنّه يفعل بالذات ؛ وأمثال ذلك من الأصول الحكميّة وأمّهاتها. وأمّا الفروع ، فقد يقع الخلاف فيها ، لاختلاف مآخذها».

فالمراد بقدم العالم فيه إنّما هو نفى البدء الزمانىّ عنه ، يعنى أنّه لم يتقدّمه شطر من الزمان أصلا. ولا شكّ أنّه [٢٥٩ ظ] متفق عليه بين الفلاسفة. لا يستنكره من له قسط من تحصيل الحكمة ، بل بضاعة من غريزة العقل. وأمّا إثبات البداية له ، على المعنى المحصّل الذي سمّيناه الحدوث الدهريّ ، فدقيق غامض ، لم يتعرّفه الجمهور لدقّته وغموضته. إنّ معلّم الفلسفة المشائيّة ومن تأخّر عنه إلى يومنا هذا لفى غفلة عنه ، لمحوضة عقليّته وشدّة ارتفاعه عن الوهم. وأيم الله ، إنّه لمن أمّهات المسائل وعويصاتها. ولكن يعسر إليه بلوغ الطبيعة الوهميّة بنقيصاتها. فصقالة الجوهر القابل لفيض [٢٥٩ ب] العقل إنّما إكسيرها رفض البدن الغليظ السابل لفطرة النفس ، و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، («الحديد» ٢١)».

[٣٩] ذيل

ما أصحّ قول الشيخ الرئيس في «التعليقات» ، (ص ٨٥) : «المحدث ، إن عنى به كلّ ما له أيس بعد ليس مطلقا ، أى بعد أن كان معدوم الذات لا معدوما في حال من أحواله. وإن لم يكن في الزمان ، كان كلّ معلول محدثا ، وإن عنى به كلّ ما وجد في زمان ووقت قبله [فبطل] لمجيئه بعده ، أو تكون بعديّته بعديّة لا تكون مع القبليّة موجودة ، بل ممايزة له في الوجود ، لأنّها زمانيّة».

فلا يكون كلّ معلول محدثا [٢٦٠ ظ] ، بل المعلول الذي سبق وجوده زمان ، و

٤٧٧

سبق وجوده لا محالة حركة وتغيّر ؛ لو كان يشعر أنّ هناك قسما آخر يتوسّط القسمين ، هو أن يعنى بالمحدث كلّ ما سبق وجوده عدم واقعىّ في الأعيان ، فتكون أيسيّته بعد ليسيّة مطلقة سرمديّة ، لا بحسب الذات فقط في اعتبار العقل ، بل واقعة في الاعيان خارج الأذهان ، على أن تكون البعديّة ممايزة للقبليّة ، لا ممايزة زمانيّة ، بل سرمديّة ، فيكون كلّ معلول محدثا على هذا النحو أيضا ، كما أنّه محدث بحسب الذات ، والحوادث الزمانيّة محدثة على الأنحاء الثلاثة جميعا.

ثمّ لو تفطّن [٢٦٠ ب] لذلك لم يردف قوله ب «بأنّ العالم ليس وجد بعد أن لم يكن موجودا بعديّة حدثت مع بطلان معنى هو القبليّة» ، فيكون قد وجد وجودا زمانيّا متقدّرا يكون فيه القبل متقدما على البعد ويكون القبل باطلا لمجيء البعد.

فكأنّه قد استبان لديك : أنّ بعض ما يوجد بعد أن لم يكن ، ليس يوجد وجودا زمانيّا متقدّرا ، كالزمان نفسه ، وهو مسبوق بجميع أجزائه بالعدم ، لا بأن ينتهى إليه طرفه فقط.

[٤٠] ختام

ذكر المشّاءون : أنّ الموجودات ، منها ما هي متحققة الوجود محصّلته ، ومنها ما هي أضعف في الوجود والزمان من الأمور الضعيفة [٢٦١ ظ] الوجود ، كالحركة والهيولى. وقيل في «الشفاء» : «الزمان يشبه أن يكون أضعف وجودا من الحركة».

وكأنّ المعلّم الأوّل أخذ هذا المعنى من قول أستاده إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ في أسئلته عن تلميذه طيماوس : «ما الشيء الكائن ولا وجود له ، وما الشيء الموجود ولا كون له». يعنى بالأوّل الحركة المكانيّة والزمان ، لأنّه لم يؤهّله لاسم الموجود ؛ ويعنى بالثانى: الجواهر العقليّة التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة ، وحقّ لها اسم الموجود ، إذ لها السرمد والبقاء والدهر.

ثمّ من الأمور المتعلّقة بالزمان : أنّ الزمان محسوس لنا من وجه [٢٦١ ب] ومعقول من وجه ، فإنّ كلّ إحساس يتبعه تعقّل ـ و «من فقد حسّا فقد علما» ، ـ ومعقول للبارى تعالى من كلّ وجه. فلذلك لا يكون المدرك الزمانىّ لنا إلّا بالحسّ والتخيّل ، ويكون للبارى تعالى على المعقوليّة الصرفة. وعقل البارى له أتمّ وأرفع من إدراكاتنا العقليّة بما لا يحصى وأشدّ وأقوى منها بما لا يتناهى.

٤٧٨

ومن المباحث المتعلّقة بالزمان : أنّ الزمان ليس بعلّة لشيء من الأشياء ، بل إنّما تتوقف الحوادث على حصص من الحركة التي هي محلّه. فلذلك تختصّ وجوداتها بالأزمنة المعيّنة على مجرّد أن تكون هي ظروفا وأوقاتا [٢٦٢ ظ] لها ، لا على أن تكون هناك عليّة وتسبّب. لكنّه إذا كان الشيء مع استمرار الزمان يوجد أو يعدم ، ولم تر له علّة ظاهرة ، نسب الناس ذلك إلى الزمان ،

إذ لم يجدوا هناك مقارنا غير الزمان أو لم يشعروا به. فإن كان الأمر محمودا مدحوا الزمان ، وإن كان مذموما ذمّوه. لكنّ الأمور الوجوديّة في أكثر الأمر ظاهرة العلل ، والعدم والفساد خفىّ العلّة ، فإنّ سبب البناء معقول ، وسبب الانتقاض والاندراس مجهول في الأكثر.

وكذلك إن شئت استقريت جزئيّات كثيرة ، فيعرض أن يكون أكثر ما ينسب إلى الزمان [٢٦٢ ب] هو من الأمور العدميّة والفساد ، كالنسيان والهرم والانتقاص ووهن المادّة وغير ذلك. فكذلك صار الناس يولعون بذمّ الزمان وهجوه. ولكلّ من تلك الأعدام والفسادات علل وأسباب في عالم الطبيعة. هذا على ظاهر الفلسفة.

وأمّا على ما أدّى إليه الفحص التحقيقىّ ، كما أشرنا إليه ، فشيء من العدميّات لا يستند إلّا إلى علّة عدم علّة الوجود أو عدم علّة استمراره. وكلّ عدم وإن كان طارئا في ظاهر الأمر فهو أزليّ في نفسه ، لأنّه عبارة عن عدم تحقّق الوجود في زمان ذلك العدم ، والوجود غير متحقق في زمان ذلك العدم من الأزل ، إذ الوجود [٢٦٣ ظ] إنّما يتحقق في زمان الوجود ولا يرتفع تحقّقه في ذلك الزمان أصلا ، بل قد لا يستمرّ ، فلا يتحقق الوجود في زمان آخر ، فيبقى الشيء على عدمه الأزلىّ في ذلك الزمان ، لعدم تحقّق ما يستوجب فيضان الوجود فيه عن العلّة ، فينقطع استمرار الوجود بعدم فيضانه ، فيظنّ أنّه قد انقطع الوجود بأن ارتفع وحدث عدم ، وليس كذلك ؛ فكلّ عدم وفساد في اندراس ووهن في المادّة ، فإنّما يكون على ذلك السبيل.

وذلك كلّه على مسلك الحكمة وما يذهب إليه الحكماء. ورهط من المتكلّمين يجعلون الأعدام والفسادات وتخصيصات الوجودات بتأثيرات العلّة [٢٦٣ ب] من قبل خصوصيّات الأوقات.

٤٧٩

وأمّا أنا فلا أقلّد في ما أعتقده إلا الحقّ ولا أتّبع إلّا البرهان. فللحقّ أهل يجدون العقل عليه دليلا ، وللباطل أهل لا يستطيعون إلى الحقّ سبيلا. ولو لا أنّ ثبّتنى ربّى لقد كدت أركن إليهم شيئا قليلا.

وإذ قد بلغ فحص الحقّ بنا إلى هذا النصاب ، فلنختم عليه التّرعة الأولى ، من المساق الأوّل ، ونأخذ في ابتداء القول من التّرعة الثانية. وعالم العقل لنا بفضل الله ورحمته كالمشرعة ، والقوّة النظريّة كانسانيّة. فقد تولّينا أرصادا عقليّة رصدنا فيها مسير كوكب التحقيق في فلك الحكمة وسير نجم الحقّ على معدّل نهار التحقيق بآلات رصديّة [٢٦٤ ظ] ، من تقويم الفكر وتلطيف السرّ وتهذيب النفس وتخليص العقل عن الوهم صالحة للرصدين الحدسىّ والفكريّ ، متخذين ، ذات شعبتين ، من النفس المجرّدة ، وذات حلق من القوّة العاقلة ، وذات ثقبتين من القوّة النظريّة ، وأسطرلابا من العقل الخالص ، وربعا مجيّبا من السّرّ النقيّ ، ومقياسا من البرهان الصريح ، وفرجارا من الوجد أن الصحيح ، ومسطرة من سلامة الفطرة واستقامة الفطنة ، وحلقة إسكندريّة من دائرة اليقين على جيب النظر البالغ وقطر القول المبين.

ولا بدّ لمدرك الحقّ من أن يضع لزنة العلم ميزانا [١٦٤ ب] من الطبع المستقيم ، ومعيارا من الذوق السليم مع إهمال لجانب البدن ورفض لجهة الطبيعة. فليكن عندك سنّة عقليّة في مطالعة هذه التّرعة ، بل ترع هذا الكتاب على العموم لا تتعدّاها ، هي أنّه متى ما ضاق عليك الأمر في نيل المرام وإذعان الحقّ من بعد فقه الكلام.

فعليك أن تهاجر كورة الطبيعة وتجاهد بغاة العقل ، من القوى الوهميّة والخياليّة ، وترفض أعداء الله فيك ، من الدواعى الجسميّة والصوارف البدنيّة وتستهتك الجلابيب الجسدانيّة والغواشى الهيولانيّة وتستحقر البهجة [٢٦٥ ظ] الجسديّة واللّذة المزجيّة. فعساك تنفصل عن عالم الغرور ، وتتصل بالملإ الرفيع حول حضرة القدس بالأفق الأقصى ، وتفارق أصفاق إقليم الزور ، وتتمسّك بجناب ربّك الأعلى ، فيتيسّر لك أن تشاهد فضاء الملكوت من كوّة النفس الناطقة عين العقل المستفاد. وهناك يتهيّأ لعقلك أن يسبح في نهر علم اليقين ، فيصل إلى شاطئ حقّ اليقين.

وإذ دريت أنّ مغناطيس درك الحقّ هو صدع غيم القلب بالبروق الخاطفة

٤٨٠