مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

يرسمان ذينك الممتدّين في الأعيان يرسمانهما في الأذهان أيضا تدريجا ، ولكنّهما يتحققان هناك على قرار الذات واجتماع الأجزاء بحسب البقاء دون [١٩٤ ظ] الحدوث ولا كذلك في الأعيان.

هذا ما استقرّت عليه آراء الأقدمين حتّى الشيخ الرئيس ومن تأسّى به من المحصّلين. وأمّا القاصرون عن سلوك سبيل التحصيل ، كعامّة المتأخّرين ، فإنّهم يقتصرون في الحركة القطعيّة ومقدارها من الزمان على الموجود في الأذهان.

[١١] استبصار

أليس إذا لم يتحقق الحركة القطعيّة في الأعيان أصلا يكون المتحرك ليس ينال بحركته شيئا من المسافة المتصلة في شيء من زمان الحركة أصلا ، ضرورة انطباقها على الحركة المعدومة المنطبقة على الزمان المعدوم ، فلم يصدق أنّه نال [١٩٤ ب] مسافة ما متصلة في زمان ما متصل بحركة ما متصلة ، بل هو يتوسّط أبدا بين حدود المسافة ، لا على أن يقطع شيئا من أجزائها في الأعيان قطعا متصلا أو قطوعا منفصلة. نعم يرتسم في الخيال من ذلك التوسّط متصل ، فيكون قد مرّ في الأعيان على متصل ويكون لم ينله بقطعة متصلا ، فهل يسع عقلك أن يصدّق فيه وهما.

[١٢] ظلمة وهم وإلاحة إزاحة

كأنّك تتوهّم أنّه لا يعقل حصول الشيء الواحد في نفسه على سبيل التدريج ، لأنّ [١٩٥ ظ] الحاصل في الجزء الأوّل من الزمان لا بدّ وأن يكون مغايرا لما يحصل في الجزئىّ الثاني منه ، لامتناع أن يكون الموجود عين المعدوم ، فيكون هناك أشياء متغايرة غير صالحة للانقسام متعاقبة ، لا يتصل بعضها ببعض اتصالا حقيقيّا ، لاستحالة اتصال الموجود بالمعدوم كذلك ، وكلّ واحد منها حاصل دفعة لا تدريجا.

فهذا الشكّ قد عرض لبعض أهل التهويل والتهويش من متقدّمة الفلاسفة ، فتشبّث به أفضل الدين الغيلانىّ وافتتن عليه مثير فتنة التشكيك في «المباحث المشرقية» ، ثمّ تفصّى [١٩٥ ب] انتهاجا لطريقة بهمنيار في «التحصيل» بالتزام أنّه لا يوجد من الحركة في الأعيان إلّا التوسّطيّة البسيطة ، وأمّا القطعيّة المتصلة فلا تتحقق

٤٤١

إلّا في الذهن. قال : «فهذا ما عندى في هذا الموضع المشكل العسر».

والمتأخّرون أزاغهم ذلك عن الحقّ ، فتوغّلوا في الزيغ أمد الغاية. أو لم تستغرب أنّهم كيف ولم لم يتفطّنوا انتهاض الشبهة عليهم أيضا حيث يعترفون بحدوث ارتسامها في الذهن على التدريج؟ فهل للتشكيك اختصاص بأحد الوجودين ، أو يسع مطلق حصول الشيء الوحدانىّ تدريجا. فإذا يشبه [١٩٦ ظ] أن يكون ما يزاح به عن المقامين هو أنّ وجود الشيء بتمامه في الآن أخصّ من وجوده بتمامه مطلقا ، فإنّ ذلك قد يكون في الزمان لا في آن ، ووحدة الشيء لا تأبى ذلك أصلا. والتدرّج في الحدوث لا ينافي وجود الشيء المتصل الواحد في نفسه بتمامه في مجموع الزمان الذي هو أيضا متصل واحد شخصىّ ، بل إنّما ينفى وجوده بهويّته الامتداديّة في آن أو شيء من أبعاض ذلك الزمان المنطبق عليه ، ولا استيجاب لكلّ حادث أن يكون لحدوثه بتمامه ابتداء غير منقسم على أن يختصّ وجوده [١٩٦ ب] بهويّته الامتداديّة لو كانت له ذلك بآن يتحقق فيه.

قال الشيخ في طبيعيات («الشفاء» ، (ص) : «المتصل لا أجزاء له بالفعل ، بل يعرض أن تتجزأ لأسباب تقسم المسافة ، فتجعلها بالفعل مسافات على أحد أنواع القسمة ، وما بين حدود ذلك أيضا مسافات لا يشتمل عليها آن وحركة على النحو الذي قلنا إنّه تكون في آن ، بل الحركة التي على نحو القطع ويكون الزّمان مطابقا لها ، ولا يكون المعنى الذي سمّيناه آنا هو متكثّر فيها بالفعل ، لأنّ ذلك لا يتكثّر بالفعل إلّا بتكثّر المسافة بالفعل. وإذا لم يكن متكثّرا بالفعل وكانت الحركة على [١٩٧ ظ] الموضوع الواحد ، أعنى المسافة ، حقّا موجودة ولم تكن كثيرة بالعدد ، كانت بالضّرورة واحدة بالعدد».

وقال بهمنيار في «التحصيل» ، (ص ٤٣٧) بعد ما حسبه إبطالا للتشكيك : «والحركة الفلكيّة ـ بالمعنى الذي تحققته ، أعنى ما يكون بين ماض ومستقبل ـ واحدة باقية فيه أبدا ما تحرّك، وأمّا الذي بمعنى القطع فيشبه أن يكون وحدته بالفرض ، لأنّ كلّ دورة إنّما تتحدّد بالفرض ، وبالجملة فإنّ وحدة الحركة مثل وحدة المسافة ، أعنى وحدة الاتصال».

٤٤٢

[١٣] تسديد

فأنت إذن لست تزاغ عن الحقّ بما يوهمه ظاهر كلام الشيخ [١٩٧ ب] : إنّ الحركة اسم لمعنيين : الأوّل ، الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدأ إلى المنتهى. وذلك ممّا لا حصول له في الأعيان ؛ لأنّ المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى ، فالحركة لم توجد بتمامها ، وإذا وصل فقد انقطع وبطل. فإذن لا وجود له في الأعيان بل في الذهن. وذلك لأنّ للمتحرّك نسبة إلى المكان الذي تركه وإلى المكان الذي أدركه. فإذا ارتسمت صورة كونه في المكان الأوّل في الخيال ، ثمّ قبل زوالها عن الخيال ارتسمت صورة كونه في المكان الثاني ، فقد اجتمعت الصورتان في الخيال ، فحينئذ [١٩٨ ظ] يشعر الذهن بالصورتين معا على أنّهما شيء واحد. الثاني ، هو الأمر الوجوديّ في الخارج ، وهو كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى ، وهو حالة موجودة مستمرّة ما دام الشيء يكون متحركا ، وليس في هذه الحالة تغيّر أصلا. نعم قد يتغيّر حدود المسافة بالفرض ؛ لكن ليس كون المتحرك متحركا ، لأنّه في حدّ معين من الوسط ، وإلّا لم يكن متحركا عند خروجه منه ، بل لأنّه متوسّط على الصفة المذكورة ، وتلك الحالة ثابتة في جميع حدود ذلك الوسط ، وهذه الصورة توجد في المتحرك في آن ، لأنّه يصحّ [١٩٨ ب] أن يقال له ، في كلّ آن يفرض ، : إنّه في حدّ متوسّط لا يكون قبله ولا بعده فيه.

والذي يقال ، من أنّ كلّ حركة ففى الزمان ؛ فإمّا أن يعنى بالحركة الأمر المتصل ، فهو في الزمان ووجوده فيه على سبيل وجود الأمور فى الماضى ، لكن تباينها بوجه آخر. فإنّ الأمور الموجودة في الماضى قد كان لها وجود في آن من الماضى ، وكانت حاضرة فيه ، ولا كذلك هذا ؛ وإمّا أن يعنى بها المعنى الثاني ، فيكون كونه في الزمان ، لا على معنى أنّه يلزمه مطابقة الزمان ، بل على معنى أنّه لا يخلو من حصول قطع ذلك القطع [١٩٩ ظ] مطابق الزمان ، فلا يخلو من حدوث زمان ، ولأنّه ثابت فى كلّ آن من ذلك الزمان فيكون ثابتا في هذا الزمان بواسطة.

فقد استبان لديك أنّ ما قصد نفيه أنّما هو وجود الحركة المتصلة في الأعيان على سبيل قرار الذات واجتماع الأجزاء في الآن ، لا الوجود في مجموع زمان الحركة

٤٤٣

على وجه الانطباق ، كما أعلن به في خواتم كلامه على التنصيص. ومن ثمّ عبّر بهمنيار في («التحصيل» ، ص ...) عن المقصود ثمّة بقوله : و «بان أيضا أنها ليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا ، ولا يكاد يصحّ أنّ يراد بالوجود في مجموع الزمان على المطابقة على سبيل وجود [١٩٩ ب] الأمور في الماضى هو الوجود في الأذهان. فكيف وقد بيّن أنّ هذه الحركة المتصلة توجد في الذهن على سبيل قرار الذات كما توجد الأمور في الآن الحاضر ، لا على نحو الأمور في الماضى.

ثمّ قد تلى عليك في مسلف الكلام أنّه ناصّ على وجود الزمان الممتدّ في الأعيان. فكيف يكون ما لا يوجد في الخارج يتقدّر بالزمان الموجود في الأعيان وينطبق عليه ، بل الحركة عنده محلّ الزمان الممتدّ الموجود وعلّته. فالعدم كيف يكون محلا للموجود وعلّة له ، فإذن الحركة القطعيّة المتصلة موجودة في الأعيان ، كالزمان ، لكن وجودها [٢٠٠ ظ] في الأعيان إنّما هو في الزمان الماضى.

وفي (نقد المحصل) (ص ١٨٥) لخاتم الحكماء : إنّ وجودها في الأعيان لا يكون إلّا في الماضى أو في المستقبل. وأمّا الحال فهو نهاية الماضى وبداية المستقبل ، وليس بزمان. وما ليس بزمان لا يكون فيه حركة ، لأنّ كلّ حركة في زمان. وكذلك سائر الفصول المشتركة للمقادير الأخر ليست بأجزاء لها ، إذ لو كانت الفصول المشتركة أجزاء للمقادير التي هي فصولها لكانت القسمة إلى قسمين ، قسمة إلى ثلاثة أقسام. وقسمة إلى خمسة أقسام. هذا خلف. فإذن الحاضر ليس بحركة ، والماضى من الحركة لم يكن موجودا في آن [٢٠٠ ب] حاضر ، بل إنّما كان بعضه بالقياس إلى آن قبل الحال مستقبلا وبعضه ماضيا ، وصار في الحال كلّه ماضيا. وهكذا في المستقبل ، وفي الآن الواصل بين الماضى والمستقبل ، لا يمكن أن يتحرّك ، فإنّ الحركة إنّما تقع في زمان ، وليس شيء من الزمان بحاضر ، لأنّه غير قارّ الذات».

[١٤] تأييد

ألم يقل الشيخ في المقالة الثانية في طبيعيات («النجاة» ، ص ١٠٥) : «فالحركة وجودها في زمان بين القوّة المحضة والفعل المحض ، وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا». وليس يعنى بذلك وجودها في الأذهان.

٤٤٤

كيف والحركة ممّا يحصل بالفعل في الذهن حصولا قارّا مستكملا ؛ ولا بالحركة معناها التوسّطيّة ، إذ هي أمر بسيط يحصل [٢٠١ ظ] بتمامه بعد نهاية زمان السكون ، ولا يعقل لذلك التوسّط أجزاء ، فلا يصحّ الحكم بأنّه من الأمور الغير القارّة إلّا من جهة أحواله ونسبه. ونظر الشيخ في أصل الوجود وأنّه ليس حصولا قارّا. ولذلك قال هناك بعد شطر من الكلام : «فالحركة هي ما يتصوّر من حال الجسم ، لخروجه عن هيئة قارّة يسيرا يسيرا. وهو خروج من القوّة إلى الفعل ممتدّا لا دفعة» ، (ص ١٠٧). فتدبّر عساك تراك من المستبصرين.

[١٥] تكملة

الزمان الممتدّ والحركة المتصلة كما يوجد أن في الأعيان ، كذلك يرتسمان في الأذهان من راسميها المتحققين [٢٠١ ب] من حيث ثبات تحقّقهما واختلاف نسبتهما إلى حدود المسافة وما يرتسم منهما في الذهن قارّ الذات بحسب الوجود البقائى هناك. وأمّا حدوث الارتسام فى الذهن فعلى التدريج في مجموع الزمان الممتدّ الموجود في الأعيان المطابق لذلك المرتسم فى الذهن. وأمّا في أيّ آن من الآنات فلا يرتسم من ذلك المرتسم جزء أصلا ، إذ كلّ من أجزائه زمان أو حركة ، فكيف يطابق الآن ، بل الآن إنّما يطابق طرف ذلك المرتسم الذي هو آن أيضا أو حدّ من حدود الحركة المتصلة. فإذن الزمان الممتدّ موجود في الأعيان [٢٠٢ ظ] ومرتسم في الأوهام أيضا من الآن السيّال ، وكذلك الحركة القطعيّة المتقدرة به من الحركة التوسطيّة. فاتّخذ ذلك مطيّا يعوزك امتطاؤه في ما انيلك إيّاه بالأسفار العقليّة من الأفكار العرشيّة.

[١٦] تسجيل

أليس مجرّد عدم الاجتماع بحسب الحدوث إذا لم يكن هناك تعاقب في البقاء ممّا لا يحقق معنى كون الشيء غير قارّ الذات. أفليس هذا المعنى يتحقق في المقادير القارّة عندهم ، كالجسم التعليمىّ ، إذا تحققت حركة في الكم ، كما في النموّ ، بل في التخلخل والتكاثف الحقيقيّين ، ولا يفضى ذلك إلى الخروج عن قرار الذات ، [٢٠٢ ب] فالمرتسم من الزمان أو الحركة في الذهن من حيث كونه تدريجىّ

٤٤٥

الحدوث فقط على معنى أنّ أجزاءه المفروضة متعاقبة في ذلك الارتسام الذي هو نحو وجودها. ثمّ هي توجد باقية معا هناك ممّا يصحّ أن يعدّ في ما ليس قارّا الذات. فلو لم يكن الأمر على سبيل ما حصّلناه ، من وجود الممتدّ المتصل منهما في الأعيان ، لا على جهة قرار الذات ، لم يكد يصحّ الحكم ، منهم بوجود العرض الغير القارّ ، ولا الإصرار ، في الإنكار عليهم في ذلك لخصمائهم.

[١٧] نكتة

الراسم لهما في الذهن إنّما هو التوسّط المذكور ، والآن السيّال بحسب وجودهما في الأعيان مستمرّين [٢٠٣ ظ] غير مستقرّى النسبة إلى حدود المسافة ، كما على ما حصّله محققوهم ، لا بحسب إدراكنا لهما كذلك ، كما ربّما يذهب إليه بعض الأوهام ، وكذلك الأمر في رسم القطر النازل خطّا مستقيما في الحسّ المشترك والنقطة الدائرة بسرعة خطّا مستديرا. فالمشاهد هو الخطّ المستقيم والخطّ المستدير ، لا القطر والنقطة ، وهما راسماهما من جهة الوجود في الأعيان مع تبدّل الأمكنة والأيون والسّموت. ثمّ كما يكون ذلك الارتسام في الأوهام الخياليّة ، فكذلك يكون في النفوس المنطبعة الفلكيّة أيضا. فيرتسم فيها الزمان [٢٠٣ ب] وحركة معدّل النهار التي محلّه من حيث كون الراسمين في الأعيان على الجهة المذكورة.

[١٨] إنارة تبصيريّة

أليس إذا تحقّق لديك : أنّ الزمان على أصول الفلسفة بهويّته الامتداديّة من الأزل إلى الأبد واحد شخصىّ موجود في وعاء الدهر ، لا تكثّر فيه إلّا بحسب ما يعرض له من الانفصال في الأوهام ، لأسباب مؤدّية إلى انقسامات وهميّة. ولا يثلم ذلك في وحدانيّته وشخصيّته في نفسه بحسب الأعيان. وكذلك الحركة. ثمّ إذا فرضت فيهما أجزاء كانت هي متعاقبة التحقّق حدوثا وبقاء باعتبار وجوداتها في أنفسها [٢٠٤ ظ] بالنسبة إلى ما في أفق الزمانيّات وبقياس بعض تلك الأجزاء إلى بعض ، ومن جهة نسبتها إلى الآن. وأمّا بحسب الثبوت الرابطىّ ، أعنى وجودها لمبدئها وحضورها عنده ، وبالجملة بالنسبة إلى المرتفع عن كورة الزمانيّة ، بل باعتبار الوجود في نفسه

٤٤٦

في وعاء الدهر ؛ فلا تعاقب بينها أصلا ولا بين الزمانيّات مطلقا ، بل هي سواسية الإقدام في الحضور والتحقّق بحسب ذلك الاعتبار ؛ استشعرت أنّ الموجود الغير القارّ إنّما يكون له وصف عدم قرار الذات حدوثا وبقاء بحسب الوقوع في الافق الزمانىّ. وأمّا بالقياس إلى عرش وعاء الدهر وبالنسبة [٢٠٤ ب] إلى المراتب المتعالية عن الزمان ، لإحاطتها به ، فهو قارّ الذات على وصف اجتماع الأجزاء المفروضة في الحضور والتحقّق. وكذلك حال المرتسم في المشاعر من الطبيعة الغير القارّة برسم راسمها بالقياس إلى تلك الجنبة الرفيعة القدسيّة. وأمّا بالنسبة إلى ما يقع في قطر الزمان فإنّما يصف بعدم قرار الذات من جهة الحدوث فقط دون البقاء.

فإذن قولهم «ما يتجدّد من الزمان إنّما يوجد على سبيل وجود الأمور في الماضى» يعنى به أنّه إنّما يتمّ وجوده ويبقى في وعاء الدهر فقط ؛ وما يوصف من غير الزمان بالمضىّ فإنّما يقصد أنّه يوجد [٢٠٥ ظ] في شطر مخصوص أو حدّ معيّن من الزمان مضى ، والماضى بذاته إنّما هو زمان. وأمّا الحركة وغيرها فإنّما تتصف بالمضىّ بمقارنة الزمان لا بالذات ، كما أسلفناه. وقد صرّح بذلك في طبيعيات «الشفاء» وغيره. وقال في إلهيّات «الشفاء»: «الماضى إمّا بذاته وهو الزمان ، وإمّا بالزمان وهو الحركة ، وما فيها ومعها.

[١٩] تنظير استشهادىّ

أسمعتهم يقولون : إنّ للمنتسب إلى الزمان أسوة في الأحكام بالمنتسب إلى المكان ، فاعتبر ، في الحكم بأنّ الزمان قارّ الذات باعتبار وعاء الدهر غير قارّ الذات باعتبار افق وجوده الذي هو وعاء الزمانيّات ، من أنّ الجسم [٢٠٥ ب] المتصل يعدّ قارّ الذات من حيث تجتمع أجزاؤه بحسب الوجود في وعاء الزمان أو الآن وإن لم تكن مجتمعة باعتبار نسبة الوجود إلى وعاء المكان بحيث تجتمع في حدّ واحد من حدوده. أفليست أجزاء الجسم المتمكن إذا كانت تدرك أنفسها وأمكنتها كانت تزعم أنّ أمكنتها غير قارّة الذات ، من حيث إنّ أجزاء المكان غير مجتمعة التحقق بالنسبة إلى شيء من أجزاء المتمكن ، فالزمان ، سبيله بحسب وجوده في نفسه في وعاء الدهر لا في زمان ، سبيل المكان بحسب وجوده في نفسه لا في مكان ، و

٤٤٧

الحركة القطعيّة بما فيها أو معها من الأمور الزمانيّة بحسب [٢٠٦ ظ] وجودها في مجموع زمان ما ، لا في شيء من أجزائه أو حدوده ، كالمتمكن بحسب الوجود في مجموع المكان ، لا في جزء منه أو حدّ من حدوده ، والآنات بما يختصّ بها من الآنيّات كحدود المكان بالنسبة إلى حدود المتمكن.

[٢٠] إشارة ملكوتيّة

أليس ما يكون حالا أو مستقبلا من الزمان بالنسبة إلينا ربما يكون ماضيا بالنسبة إلى من سيوجد ، والماضى بالنسبة إلينا مستقبلا بالنسبة إلى بعض من قبلنا ، فلا ثقة بالحكم على الزمان الماضى بالعدم على الإطلاق ، بل بالإضافة فقط ، لأنّه يختلف بالقياس إلى الأشخاص الزمانيّة ، والمحيط بافق الكلّ لا يحكم على شيء منها [٢٠٦ ب] بالعدم ، بل باختصاص الوجود بحدّ معيّن ، فليس يعرض لشيء من الأمور المتعاقبة المخرجة من اللّيس إلى الأيس بتأثير جاعلها عدم في وعاء الدهر وبالنسبة إلى المبدأ ، بل إنّما اختصاص لكلّ من الحوادث الزمانيّة بجزء من أجزاء الزمان أو حدّ من حدوده.

فإذن العدم إنّما يرجع إلى غيبوبة زمانىّ عن زمانىّ ، أو عدم تحقّق ما هو مختصّ بحدّ من حدود الامتداد في حدّ آخر ، والعدم الطارئ في ما يعرضه انقطاع الوجود مرجعه إلى عدم تحقق الوجود في زمان ذلك العدم ، وهو عدم أزليّ مستند إلى عدم علّة الوجود في ذلك الجزء من الزمان ، لا إلى رفع الوجود عن زمان [٢٠٧ ظ] الوجود ، فيشتمل على التناقض. فالوجود المتحقق لا يرتفع قطعا ، بل إنّما لا يتحقق فيضان الوجود عن الجاعل في ما بعد ، وبينهما فرقان مبين.

[٢١] كلمة عقليّة

لعلّك إذن تفقه سرّ قولهم : «القضيّة المطلقة العامّة إمّا صادقة أزلا وأبدا وإمّا كاذبة غير متحققة الحكم دائما ، على تقدير أنّ يصار إلى جعل الإطلاق العامّ في القضيّة مقابل التوجيه تقابل العدم والملكة ، فيكون عنوانا لعدم ملاحظة شيء من الجهات ، لا تقييدا بجهة ما هي الإطلاق. وهو مسلك الشيخ الرئيس ومن يضاهي ، اتّباعا لما أخذه ثامسطيوس من كلام [٢٠٧ ب] المعلّم أرسطوطاليس ويشبه أن يكون هو التحقيق. و

٤٤٨

ربما تعدّ المطلقة في الموجّهات توسّعا ، كما تعدّ السالبة في الحمليّات ، فلا يوثق بما يقال في دوام صدقها مع الذهول عن ذلك الأصل. ولقد تحقق ، أيضا لديك في ما تأسّس من قبل ، أنّ مفاد المطلقة العامّة الفعليّة والدائمة إنّما هو التحقّق في أحد الأزمنة وفي جميع الأوقات في الموضوعات الزمانيّة ، لا في نفس الزمان ولا في ما يرتفع عنه.

[٢٢] نقاوة عرشيّة

فإذن تحقق لديك أنّ ما لا يتعدّى طور الحقّ في تحقيق علم المبدأ الأوّل تعالى ، يشبه أن يكون هو ما ذهبت إليه [٢٠٨ ظ] محققة الأوائل من الفلاسفة ومحصّلة القدماء من الحكماء ، حسب ما تلى عليك مفصّلا. وتلخيصه : أنّ علمه تعالى ، بحسب الأخيرة من المراتب التفصيليّة بجميع المعلومات من الموجودات العينيّة والصور الإدراكيّة الأذهان ، هو عين وجود تلك المعلولات في الأعيان وعين صور تلك المدركات في الأذهان.

فكلّ موجود عينىّ شخصىّ بحسب وجوده العينىّ إذا اعتبر ذلك وجود إله في نفسه معلوم ، وبحسب ذلك الموجود بعينه إذا اعتبر أنّه وجود رابطىّ له ، أعنى بذلك أنّ يلحظ أنّه بعينه وجود ذلك الموجود لبارئه المجرّد ، أى حضوره [٢٠٨ ب] عنده علميّة حضوريّة لبارئه تعالى. وكذلك الصورة الإدراكيّة باعتبار وجودها في أنفسها في الذهن معلومة ، وباعتبار أنّ ذلك بعينه وجود رابطىّ لها للمبدإ الأوّل تعالى ، أى حضور لها عنده صورة علميّة حضوريّة له تعالى. فجميع معلوماته تفيض عنه منكشفة عليه ، وفيضانها عنه بعينه معلوميّتها ومعقوليّتها له ، وعلمه بكلّ موجود كلّىّ أو شخصىّ علم به من طريق العلم بأسبابه المؤدّية إليه. وهذا علم تعقّلي وإن كان بالجزئىّ بجزئيّته وشخصيّته. فمعلوماته بأسرها مترتّبة في علمه تعالى من تلك الجهة الترتّب [٢٠٩ ط] السببىّ والمسبّبىّ.

وأمّا الترتّب التعاقبىّ بين الحوادث الزمانيّة المتعاقبة من جهة تعاقب الأجزاء المفروضة للزمان والحركة ، فلا يكون بالنسبة إليه وبالقياس إلى علمه قطعا ، بل إنّما يجرى ذلك بين تلك الأجزاء بما يختصّ بها من الحوادث الزمانيّة باعتبار وجوداتها في حدود أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض في وعاء الوجود الزمانىّ ، وهي بذلك

٤٤٩

الاعتبار معلومات ، لا باعتبار وجودها لمبدئها وحضورها عنده ، وهي بذلك الاعتبار علوم وصور علميّة ، وإن كان وجودها لمبدئها ، أعنى حضورها عنده ، هو بعينه [٢٠٩ ب] وجوداتها في حدود أنفسها. فإهمال الاعتبارات افق اختلال الحكمة. نعم هو يعلم تعاقب تلك المتعاقبات بعضها بالقياس إلى بعض وما يتخلّل بينها من الأزمنة على ما هي عليه. والعلم بالزمانيّات على هذا السبيل علم تعقليّ متعال عن شوائب التغيّرات اللازمة للمعلوم الزمانيّة. فاذن علمه تعالى بجميع الجزئيّات الشخصيّة والمتشخّصات الزمانيّة بهويّاتها وشخصيّاتها علم عقلىّ على نحو ما يحكى عنه الإدراك التعقّلىّ للمعقولات الكلّيّة الغير المتغيّرة من سبيلين.

ونعم ما عبّر به عن المقصود قول بهمنيار في «التحصيل» (ص ٥٧٤) كونه واجب الوجود [٢١٠ ظ] بذاته هو بعينه كونه مبدءا للوازمه ، أى معقولاته. فإذا وصف بأنّه يعقل هذه الأمور ، فإنّه يوصف به ، لأنّه يصدر عنه هذه ، لا لأنّه محلّها ، ولوازم ذاته هي صور معقولاته ، لا على أنّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها ، بل نفس تلك الصور تفيض عنه ، وهي معقولة له. فنفس وجودها عنه نفس معقوليّتها له ، فمعقولاته إذن فعليّة.»

وقول خاتم الحكماء في («شرح الاشارات» ، ج ٣ ، ص ٣٠٦) : «قد علمت أنّ الأوّل تعالى عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلّا في اعتبار المعتبرين ، [٢١٠ ب] ، على ما مرّ ؛ وحكمت بأنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل. فإذا حكمت بكون العلّتين ، أعنى ذاته وعقله لذاته ، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير ، فاحكم بكون المعلولين أيضا ، أعنى المعلول الأوّل وعقل الأوّل تعالى له ، شيئا واحدا في الوجود ، من غير تغاير [يقتضي كون أحدهما مباينا للأوّل والثاني متقررا فيه]. وكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريّا محضا ، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك. فإذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه ، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحلّ ذات الأوّل ، تعالى عن ذلك.

ثمّ لمّا كانت الجواهر العقليّة تعقل ما ليس بمعلولات لها ، بحصول [٢١١ ظ] صور فيها. وهو تعقل الأوّل الواجب ، ولا موجود إلّا وهو معلول للأوّل الواجب ؛ كانت جميع صور الموجودات الكليّة والجزئيّة ، على ما هي عليه الوجود ، حاصلة فيها. و

٤٥٠

الأوّل الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور ، لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور ، وكذلك الوجود على ما هو عليه. فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة ، فهذا أصل إن حققته وبسطته ، انكشف لك كيفيّة إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكليّة والجزئيّة إن شاء الله تعالى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ، انتهى. فضمّ ذلك إلى أشباهه ممّا حكى سالفا عن الحكماء المحققين ، واهتد إلى الحقّ سبيلا [٢١١ ب].

[٢٣] استبصار عقلىّ

ألم يستبن لبصيرتك : أنّ ما تحقّق لديك ـ من وجود الزمان الممتدّ في نفسه على أنّه متصل واحد موجود في وعاء الدهر تجتمع أجزاؤه الفرضيّة في الوجود معا بالقياس إلى المبدأ الأوّل والمراتب العالية عن الزمانيّة ، وإن لم تكن مجتمعة بالنسبة إلى الزمانيّات ، وفي حدّ واحد من حدوده ؛ وكذلك الحركة المتصلة التي هي محلّه وعدم تعاقب الحوادث الزمانيّة بحسب وجوداتها العينيّة بالقياس إلى بارئها يستنهض برهان التطبيق والتضايف وبرهان الحيثيّات وغيرها من التي اقيمت [٢١٢ ظ] لدى المتهوّسين بالقدم وغيرهم من أئمّة الفلسفة الذين هم الحكماء الأصول على بطلان اللّانهاية في الكم المتصل ، كالمقدار الموجود في الكم المنفصل كمراتب الأعداد المجتمعة الوجود ، وفي الموجودات المجتمعة المترتبة وضعا أو الترتّب السّببىّ والمسبّبىّ بالطبع أو بالعليّة هناك أيضا.

فتنتهض تلك البراهين لإبطال كون الزمان والحركة لا بداية لهما في جانب الأزل ، وكون الحوادث المتسلسلة المتعاقبة غير متناهية لا أوّل لها ، فيلزم أن يكون امتداد الزمان ومحلّه من الحركة في جانب [٢١٢ ب] الأزل متناهيا ، كما أنّ الأبعاد الجسمانيّة أو المجرّدة المشغولة بها متناهية. وكذلك الحوادث المترتّبة المتعاقبة في أفق الزمان لا في وعاء الدهر وبالقياس إلى المبادى المفارقة منتهية إلى أوّل لا يتقدّمه حادث آخر زمانىّ.

فالآن حصحص الحقّ وبطل تشبّث المتهوّسين بالقدم في مصادمة البرهان بأنّ الموجود الغير القارّ بالذات وإن كان كمّا متصلا لكنّه لا يوجد بتمامه دفعة ، والأمور

٤٥١

المتعاقبة وإن كان لها عدد مترتّب الذات بالطبع لكنّها غير موجودة معا.

فهل حكم التطبيق وتكافؤ المتضائفات [٢١٣ ظ] في العدد وتناهي المحصور بين حيثيّة ما وأيّة حيثيّة كانت وغير ذلك ، مقتصر على ما يوجد بتمامه في حدّ من حدود الامتداد وعلى الموجود بجميع آحاده معا بالقياس إلى زمانىّ ما ، أو يشمل ذلك والموجود بتمامه في نفسه وما يوجد بجميع آحاده معا بحسب الواقع بالقياس إلى من يحيط بالزمان؟ أم هل أظنّك شاكّا في ضوء الحقّ بعد ما سطح صبح اليقين. فإذن قطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله ربّ العالمين.

[٢٤] وهم وإزاحة

لعلّك تقول : امتداد الزمان بحسب حضوره عند المبدأ الأوّل لا تكون أجزاؤه مترتّبة ، [٢١٣ ب] إذ لا ترتّب ولا تعاقب بذلك الاعتبار ، إذ لا تدريج من تلك الجهة ، بل الكلّ بذلك الاعتبار يتحقق معا دفعة. والترتّب إنّما هو باعتبار كونه تدريجيّا. وإنّما ذلك بحسب أصل الوجود في نفسه وأخذه مقيسا إلى شيء من الزمانيّات أو الآنات ، وبحسب ذلك الاعتبار لا يوجد ذلك الامتداد بتمامه. وكذلك الأمر في الحوادث المتعاقبة ، وحيث لا تدرّج ولا ترتّب ، لا جريان لحكم التطبيق.

فيقال لك : ألم يتل عليك أنّ المبدأ الأوّل تعالى ، بل المفارقات العقليّة ، يدرك ترتّب أجزاء الزمان والحوادث الزمانيّة [٢١٤ ظ] وتعاقبها بقياس بعضها إلى بعض ، على ما هي عليه ؛ وإن لم يكن ذلك بالقياس إلى المدرك وإدراكه ، فهو يعلم التدرّج فيها باعتبار ما يكون ، على أنّ هناك ترتّبا سببيّا ومسبّبيّا بحسب حضور المدركات عند المبدإ تعالى ، وإن يكن لها تعاقب زمانىّ بالنسبة إليه ؛ فإنّ أجزاء الزّمان ، كما يتقدّم بعضها على بعض تقدّما زمانيّا من حيث التدرّج ، فكذلك يتحقق بينها التقدّم والتأخّر بالطبع أيضا من حيث إنّ كلّا منها يتوقّف عليه ما بعده. وهي وإن لم يجر بينها التقدّم والتأخّر الزمانيّان من حيث تعاقب لها [٢١٤ ب] بحسب حضورها عند بارئها ، لكنّها تتصف بالتقدّم والتأخّر بالطبع بحسب ذلك الحضور ، فإنّ علمه تعالى بكلّ شيء إنّما يكون من جهة العلم بأسبابه المؤدّبة إليه. وكذلك حال الحوادث المتسلسلة المتعاقبة.

ثمّ إنّ وجود امتداد الزمان الذي هو مقدار متصل واحد في نفسه بحسب الواقع

٤٥٢

في وعاء الذهن يستقلّ بجريان حكم التطبيق فيه من دون أن يخرج إلى توهّم أجزاء موهومة فيه بقطع اتصاله في الوهم. فإذن الممتد الوحدانىّ المتصل الموجود في نفسه من الزمان في الأعيان متناه في جهة الأزل ، وكذلك المتصل الموجود [٢١٥ ظ] من الحركة ، فإنّ الحركة المتصلة موجودة في نفسها ، إلّا أنّ ظرف وجودها الزمان ، لا الآن. فإذن قد ثبت أنّ لهما بداية.

[٢٥] إشراق برهانىّ

أليس إذا كانت الحركة التوسّطيّة الراسمة لمحلّ الزمان من الحركة الفلكيّة والآن السيّال الراسم للزمان الذي هو مقدار حالّ فيها أزليّتين لا بداية لوجودهما ، على ما يراه المتهوّسون بالقدم ؛ استوجب ذلك أن يكون المرتسم من كلّ منهما في المدارك الخياليّة أو النفوس المنطبقة الفلكيّة ممتدّا متصلا غير متناهي المقدار [٢١٥ ب] في جانب الأزل تدريجيّا بحسب حدوث الارتسام قارّ الذات بحسب أنّ ما يرتسم في الذهن تدريجا يبقى بتمامه فيه دفعة واحدة وبجميع أجزائه الفرضيّة معا.

ثمّ أليس مقتضى البراهين امتناع لا تناهي المقدار المتصل المرتسم على اتصاله بتمامه في المدارك الوهمية والخياليّة والنفوس المنطبعة والقوى الجسمانيّة ، كما في المقدار الموجود في الأعيان ، كذلك [أى الموجود بتمامه معا. منه رحمه‌الله]. وكذلك لا تناهي الصور الإدراكيّة المترتّبة المنطبعة في الأذهان مجتمعة ، كما في الأعداد المترتّبة الموجودة في الأعيان معا.

وأ ليس الحكماء جميعا ، [٢١٦ ظ] بل المتهوّسون بالقدم قاطبة لا يفصلون بين الصور الإدراكيّة المنطبعة في الأوهام وبين المعدودات أو الأعداد الموجودة في الأعيان في حكم امتناع اللّانهاية مهما تشاركت في استجماع وصفى الترتّب والاجتماع لكن في الانطباع في الأوهام لتلك وفي الوجود في الأعيان لهذه ، ولا بين الكم المتصل المرتسم على امتداده في الذهن والكم المنفصل المنطبع فيه في ذلك الحكم إذا كان المرتسم فيه على قرار الذات بتمامه دفعة واحدة ، والمنطبع على اجتماع الآحاد المترتّبة المنطبعة معا على التفصيل ؛ ويستيقنون امتناع التسلسل واللّانهاية في الأمور [٢١٦ ب] الذهنيّة والكم المتصل المتخيّل ناصّين على أنّ جواز التسلسل فى

٤٥٣

الاعتباريّات العقليّة يرجع معناه إلى عدم تحصّله هناك ، لانقطاع ملاحظة العقل.

فإذن ، يشبه أن لا يسعهم إلّا الاعتراف بحقّ القول : إنّ الآن السيّال والتوسّط الموجودين من الزمان والحركة في الأعيان ليسا أزليّين ، بل لوجودهما في الماضى بداية ، وكذلك الحوادث المادّيّة المترتّبة المتعاقبة ، المسبوق كلّ منها بالزمان والحركة الدوريّة. فلعلّ هذا سبيل النضج للفلسفة اليونانيّة ومسلك الحقّ في الحكمة اليمانيّة ، وما ذا بعد الحقّ إلّا الضّلال ، [٢١٧ ظ].

[٢٦] شكّ وتحقيق

ربما يستكن هوى التشكيك في يسرّك ، فتقول : كما يبتّ حكم البرهان امتداد الزمان والحركة ولا تناهيهما من جانب الأزل ، ويبطل أزليّة وجود التوسّط والآن السيّال ، فكذلك يبتّ ذلك فيهما من جانب الأبد ، ويبطل أبديّة وجود هذين أيضا من دون فارق ، ضرورة أنّ الماضى والمستقبل كليهما موجودان على وصف الوحدة الاتصاليّة ومتصفان بالحضور عند البارى تعالى معا دفعة ، فيلزم أن ينتهى الزمان في جانب الأبد إلى حيث لا يستمرّ بعده أصلا. وقد وضع من قبل : أن المتهوّسين بالقدم إنّما [٢١٧ ب] زاغوا عن الحقّ في حكمهم بأزليّة الزمان ، لا في استيجاب أن لا ينقطع في جانب الأبد ولا يقف على حدّ لا يتعدّاه استمرارا ، بل يشبه أن يكون ذلك هو سبيل الصواب ؛ فإنّ فيض المبدأ الدائم لا يقصر عن الاتصال وجود الجواد الحقّ لا يتعطّل عن الإفاضة.

وكأنّه قد نطق بذلك كريم التنزيل أيضا في قوله ، عزّ من قائل ، (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) («الكهف» ، ١٠٩). فإنّ كلمات الرّبّ يشبه أن تكون هي معلولاته من الموجودات المتسلسلة إلى الأبد.

فيقال لك : إنّ الموجود التدريجىّ وجود الماضى منه في جانب الأزل [٢١٨ ظ] يتصوّر اللانهاية فيه ويبطل بالبرهان ؛ وأمّا المستقبل في جانب الأبد فإنّما يعقل أن يكون غير متناه على معنى أنّه لا يقف عند حدّ لا يستمرّ الوجود على وصف الاتصال بعده ، لا أن يكون له لا تناه بالفعل ، وإلّا لم تكن موجوديّة على سبيل

٤٥٤

التدريج. نعم ، كلّ ما يوجد من ذلك المتصل يتمّ وجوده في الماضى على الاتصال ، كما سبق في ما نقل عن «الشفاء» ، وتستمرّ موجوديّته بعده أيضا على جهة الاتصال. فكلّ ما يخرج من القوّة إلى الفعل متناه أبدا لا يشكّ في ذلك.

وأمّا ما يمكن له بحسب القوّة البحتة أن يخرج من القوّة إلى الفعل ، فيظنّ [٢١٨ ب] أن له لا نهاية وإن كان الخارج منها إليه بالفعل متناهيا. وهو صرف وهم كاذب ، فإنّ ما يوصف باللانهاية ليس في قوله «أن يخرج إلى الفعل». فما يمكن له بحسب القوّة ذلك محكوم عليه بالتناهي قطعا ، إلّا أنّ مرتبة تناهيه غير متعيّنة بالوقوف عند حدّ أخير أصلا ، فإنّما يصحّ أن يسلب عنه التناهى إلى النهاية الأخيرة ، لا تناهي الكميّة بالمعنى الذي له بحسب الحقيقة. فهناك مغالطة باشتراك الاسم ، وقد بسط الشيخ تحقيق ذلك في كتبه ، كالشفاء والنجاة.

فإذن المستقبل الحاضر مع الماضى عند البارى تعالى هو ماله إمكان الفعليّة ، وهو [٢١٩ ظ] متناهي الكميّة ، لا إلى نهاية أخيرة معيّنة.

فإن رجعت : بأنّ ما يوجد من الزمان تدريجا حاضر بماضيه ومستقبله عند البارى تعالى دفعة ، فالحاضر عنده دفعة إمّا متناه عند حدّ معيّن ، وقد فرض خلافه أو غير متناه ، فيجرى فيه حكم البرهان.

قيل لك : هو غير متناه عند حدّ معيّن. وذلك ليس بلا تناه بل أعمّ منه. والسرّ فيه، على ما أدّى إليه الفحص البالغ والبحث الحاسم والنظر السائغ ، هو أنّ المستقبل لمّا كان حادثا زمانيّا كان وجوده في نفسه متوقّفا على ما يتقدّمه من الزمان.

فالبارى تعالى يعلمه قبل حدوثه على أنّه مستقبل [٢١٩ ب] بالنسبة إلى بعض الزمانيّات ، لا بالقياس إليه ، بإحدى مراتب العلم السابقة على وجود المعلوم في نفسه عينا. ثمّ إذا وجد في نفسه عينا حضر بعين وجوده العينىّ عند بارئه.

فكان ذلك بعينه صورة علميّة لبارئه ، لا على أن يتجدّد له في علمه شيء لم يكن يعلمه ، أو يحكم عليه بالحاليّة بالنسبة إليه بل بالنسبة إلى ما يقارنه من الزمانيّات فقط ، ثمّ لا ، يرتفع ذلك الوجود عن الأعيان أصلا ، بل يبقى في وعاء الدهر على وصف المضىّ بالنّسبة إلى من يتأخّر عنه من الزّمانيّات فقط ، لا بالنسبة إلى من يرتفع

٤٥٥

عن الزمان ، فيكون [٢٢٠ ظ] بقاؤه في الأعيان على سبيل وجود الأمور في الماضى بالنسبة إلى زمانىّ ما ، لا غير. وهكذا إلى ما لا يقف على حدّ.

فإذن لا ينفذ حكم البرهان إلّا في الماضى ، من حيث كونه موجودا في نفسه عينا بحسب وعاء الدهر وبالقياس إلى المبدأ دون المستقبل الذي لا وجود له في نفسه بعد.

ثمّ لو بنى الكلام سلوكا لمسلك الجدل على تسليم أنّ ما يمكن أن يخرج إلى الفعل في الأبد يوصف باللّاتناهي ، والخارج بالفعل إلى الفعليّة متناه أبدا. قيل أيضا : إنّ المستقبل باعتبار حضوره عند المبدأ وإن صحّ وصفه باللّانهاية ، لكن ذلك ليس اعتبار وجوده [٢٢٠ ب] في نفسه ولا يكون هو بذلك الاعتبار موصوفا بالاستقباليّة ، وأمّا بحسب وجوده في نفسه فانّه متناه قطعا ، إلّا أنّه مستمرّ على الاتصال على أن لا يقف تناهيه عند حدّ أصلا ، بل يسيل على الاتصال إلى ما بعده أيضا.

ونظير ذلك من وجه : هو أنّ انقسامات الجسم المتصل الواحد غير متناهية في القسمة الفرضيّة العقليّة الكليّة ، وأقسامه الغير المتناهية بالعدد بحسب تلك القسمة داخلة في ملاحظة العقل بالفعل على أنّها غير متناهية بالعدد. وأمّا انقساماته الفعليّة بحسب القسمة الوهميّة الجزئيّة فهى متناهية بالعدد [٢٢١ ظ] غير متناهية ، على معنى أنّ مرتبة تناهيها غير متعيّنة ، لأنّ القسمة لا تقف عنده وإن كان كلّ ما يخرج منها إلى الفعل متناهية.

والفرق أنّ العقل لا يلحظ تلك الانقسامات إلّا نحوا إجماليّا ، لقصورها عن الإحاطة بما لا يتناهى تفصيلا. والبارى وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، فله الإحاطة التفصيليّة.

وبما حقّق أمر المستقبل من الزمان تحقّق أمر الحوادث المترتبة المتعاقبة في الأبد على القوانين البرهانيّة والجدليّة ، والمطلب رفيع السمك غائر العمق. فولّ وجهك شطر الخوض في النظر كى تدرك سمكه وغوره.

[٢٧] حكومة

كأنّ سبيل إبطال ما يهواه المتهوّسون بالقدم هو [٢٢١ ب] ما سلكناه على قواعد حكميّة تحصيليّة. وأمّا ما يتكلفه المتكلمون ، من إنفاذ حكم البرهان في ما لا يترتّب أولا يوجد دفعة واحدة من الأمور الغير المتناهية ؛ فيلتئم ، إمّا من ذائعات محمودة ، و

٤٥٦

إمّا من مقدّمات سوفسطائيّة. وليس شيء منها ببرهانىّ ، على ما حققه الشيخ الرئيس في «الشفاء» و «النجاة» وغيرهما.

وأمّا قولهم : «الحركة تقتضى المسبوقيّة ، والأزليّة تنافيها» ، ففيه سخافة ظاهرة ، إذا لمسبوقيّة إنّما هي في الحركات الحادثة وفي أبعاض الحركة الأزليّة التي هي أشخاص لماهيّة نوعها ، ولا ينافي ذلك وجود حركة قبل حركة لا إلى أوّل [٢٢٢ ظ] على أن يكون كلّ منها حادثة والنوع أزليّا محفوظا بتعاقبها. وكذلك الشخصيّة المتصلة لا إلى أوّل ، بحيث يمكن تحليلها إلى أبعاض غير متناهية في جانب الأزل.

وتشبّث مثير فتنة التشكيك في «المحصل» (ص ٢٠٠) : «بأنّ ماهيّة الحركة بحسب نوعها مركّبة من أمر يتقضّى ومن أمر يتحصّل ، لأنّها لا بدّ أن تكون منقسمة إلى أجزاء لا يجوز اجتماعها ، والمتحصّل مسبوق بالمتقضّى ، فماهيّتها إذن متعلقة بالمسبوقيّة ، وماهيّة الأزليّة منافية لذلك المعنى». فاسد ، بما حصّل ناقده (ص ٢٠١) : «إنّ التركّب ، من أمر تقضّى وأمر حصل ، يرجع إلى أشخاصها ، لا إلى نوعها».

والنوع باق مع المتقضّية [٢٢٢ ب] والحاصلة ، فإنّ الحركة لا تنقسم إلّا إلى أجزاء كلّ واحد منها حركة. فكلّ من المتقضّى والمتحصّل جزئيّ من جزئيّات ماهيّة الحركة ، وهي مستحفظة بكلّ منهما. وكذلك إذا قسم ذلك المتقضّى إلى جزءين ، يتقدّم أحدهما على الآخر ، وكلّ منهما جزئيّ لماهيّة الحركة الموجودة.

فإذن ، مسبوقيّة المتحصّل بالمتقضّى لا تستلزم إلّا مسبوقيّة فرد من ماهيّة الحركة بفرد آخر منها ، لا مسبوقيّة الماهيّة. ثمّ الزمان هو المتقضّى المتجدّد بالذات ، لا الحركة ، على ما تعرّفت. فالأحرى بذلك النظر ذاك ، لا هذه.

وما سبقت إليه أوهام [٢٢٣ ظ] : «أنّ كلّ جزئيّ من جزئيّات الحركة لمّا كان حادثا كان مسبوقا بعدم أزليّ ، فيجتمع عدمات تلك الجزئيّات في الأزل ، فلا توجد ماهيّة الحركة في الأزل ، إذ لو وجدت كان ذلك بعين وجود جزئيّ من جزئيّاتها ، فكان قد اجتمع وجود ذلك الجزئىّ وعدمه معا في الأزل» ؛

فلعلّك تجده أسخف من إخوانه ، فإنّ الأزل ليس وقتا محدودا وزمانا معيّنا تجتمع فيه عدمات الحركات بأسرها ، حتى لو وجد فيه شيء منها جامع وجوده

٤٥٧

عدمه ، بل معنى كونها أزليّة أنّ تلك العدمات لا بداية لها ولا ترتّب بينها ، بخلاف وجوداتها ، فإنّ لها بداية وترتّبا ، فليس يفرض شيء من أجزاء الأزل إلّا وينقطع فيه شيء من تلك العدمات التي لا بداية لها بوجود من تلك الوجودات ، وليس لأجزاء الأزل أوّل في جانب الماضى.

فإذا وجد في كلّ منها حركة وانقطع فيه عدمها ، لم يكن هناك محذور. إلّا أنّ الوهم ، لقصوره عن إدراك الأزل ، يحسب أنّه وقت معيّن يجتمع فيه وجود الحركة وعدمها.

وأمّا أنّ كلّ ما يقبل الزيادة والنقصان ، ففى طبيعته استيجاب أن يكون له بداية ، فيشبه أن يكون أوهن من ظنونهم في هذا المقام.

[٢٨] صديع نور عقلىّ لصدع غيوم وهميّة

السبق الذي لا يجتمع بحسبه السابق والمسبوق إن كان بحيث يمكن بحسبه تصوّر مرور ممتدّ غير قارّ الذات بهما فهو سبق زمانىّ ، ومعروضه بالذات أجزاء الزمان. وإنّما يوصف غيرها به من حيث مقارنته لما هو معروضه حقيقة.

وإن كان بحيث لا يستوجب تخلّل زمان أو آن بينهما ، ولا يمكن للعقل بمعونة الوهم تصوّر مرور متصل غير قارّ الذات بهما ، بل إنّما كانت السابقيّة والمسبوقيّة بحسب صرف وجود السابق وعدم المسبوق من دون أن يتصوّر هناك استمرار [٢٢٤ ب] أو لا استمرار ، لكونهما معا غير زمانيّين أو لكون السابق وحده غير زمانىّ ؛ كان ذلك قسما آخر من السبق ، ويشبه أن يكون أحرى ما يسمّى به التقدّم السرمديّ أو الدهريّ.

فالعقل إنّما يحكم هناك بأنّ ذات السابق متقدّمة بأن كانت متحققة دون المسبوق ثمّ تحقق المسبوق ، لا على أن يمكن أن يتخلّل بينهما زمان أو آن ، فالوجود أعمّ من أن يكون تحققا صرفا أو تحققا في زمان أو آن. وكذلك العدم.

فإذن تصدّعت غيوم أوهام المتهوّسين بالقدم ، حيث يستدلّون على أزليّة الزمان وأبديّته بأنّه لو وجد بعد عدمه ، [٢٢٥ ظ] أو عدم بعد وجوده ، لزم أن يسبق عدمه وجوده أو وجوده عدمه سبقا لا يجتمع معه السابق والمسبوق. وذلك سبق زمانىّ ليس معروضه حقيقة إلّا أجزاء الزمان ، فيكون الزمان موجودا على تقدير عدمه.

ومن ثمّة قال معلّم الفلسفة المشائيّة أرسطوطاليس : «من قال بحدوث الزمان فقد

٤٥٨

قال بقدمه من حيث لا يشعر».

فقد ظهر أنّ اللازم على ذلك التقدير إنّما هو وجود الزمان بعد بحت عدمه الصرف ، لا على أن يكون عدما مستمرّا ، إذ ذلك إنّما يكون من جهة مقارنة الزمان ، أو غير مستمرّ، إذ ذلك إنّما يكون من [٢٢٥ ب] جهة مقارنة الآن.

وحيث يقولون : الزمان لا يتقدمه إلّا بارئه فقط بالذات ، إذ لو كان قد سبقه لا بذاته فقط ، بل بذاته وبالزمان بأن كان وحده ولا زمان ولا حركة. ولا شكّ أنّ لفظة «كان» يدلّ على أمر مضى وليس الآن ، وخصوصا ويعقبه قولك «ثمّ» ، فقد كان كون قد مضى قبل خلق الزمان ، وهو متناه حين ابتداء الزمان ، فقد كان إذن زمان قبل الزمان والحركة ؛ لأنّ الماضى إمّا بذاته ، وهو الزمان ، وإمّا بالزمان وهو الحركة وما فيها ومعها.

والشيخ الرئيس بسط التطويل فيه في طبيعيّات «الشفاء» [٢٢٦ ظ] ، و «النجاة» وإلهياتهما. وقال في «التعليقات» ، الزمان غير محدث ، لأنّه لا يصحّ أن الخالق يتقدم على الزمان بزمان آخر. فإن لم يكن الحدوث بسبب تقدّم الزمان ، بل بسبب تقدّمه بشيء آخر ، فهو شيء لا نعرفه. فلعلّك تقول لهم : البارى يتقدم الزمان بذاته ويصرف وجوده في الواقع وعدم الزمان ووجوده بإيجاد البارى له من غير وصف مضى وامتداد وغير ذلك من أوصاف الزمانيّات.

ومن المستغرب أنّ الشيخ الرئيس ممّن ينزّه وجود البارى تعالى عن ذلك كلّه ، ولم يجعل تقدّمه على كلّ جزء [٢٢٦ ب] حادث من أجزاء الزمان تقدّما بالزمان ، مع أنّ ذلك ليس تقدّما بالذات فقط ، ضرورة أنّ المتقدّم قديم والمتأخّر حادث زمانىّ ، بل يضعه خارجا عن التقدّم الذي يكون لبعض الزمانيّات بالنسبة إلى بعض آخر. ثمّ إنّه لم يستطع عند تحصيل تقدّمه تعالى على مجموع الزمان إلى الحقّ سبيلا.

وأمّا ما تمسّك به الرئيس في طبيعيّات «الشفاء» و «النجاة» وإلهيّاتهما. وفي «التعليقات» أيضا ، من «أنّه إذا فرض الزمان حادثا والحركة حادثة كان الذي يسبقهما ليس لا شيئا مطلقا» ، فإنّه لم ينازع أحد من المتكلمين [٢٢٧ ظ] في أنّه لا يمتنع في قدرة الله تعالى إيجاد حركة أو حركات في ذلك العدم الذي يقولونه تنتهى مع بداية الزمان الحادث والحركة الحادثة.

٤٥٩

فإن فرضنا وجود عشرين حركة تنتهى مع بدايتهما ووجود عشر حركات تنتهى أيضا مع بدايتهما ، لم يصحّ أن يقال : إنّ مطابق الحركتين من ذلك العدم واحد ، بل يجب أن يكون مطابق الحركات العشرين مخالفا لمطابق الحركات العشر ، واللاشيء المطلق ليس فيه اختلاف. وليس الاختلاف بينهما إلّا اختلافا مقداريّا سيّالا ، وهو الزمان ، فيكون قد سبق الزمان الحادث [٢٢٧ ب] والحركة الحادثة زمان ، والزمان مقدار الحركة ، فيكون قد سبق الزمان زمان والحركة حركة ، ولا بدّ من وجود متحرّك مع الحركة ، وقد منعنا أن يكون المفارق الذي لا علاقة له مع المادّة متحرّكا ، فيجب أن يكون المتحرك جسما أو جسمانيّا.

وإن منع أن يكون في قدرة الله تعالى إيجاد حركات قبل بداية الزمان الذي يفرض حادثا والحركة الحادثة فرضا ، كان تحكّما عجيبا ، وتقدير الحركات بذلك العدم فهو مساو لتقدير الخلأ في باب أنّه لا شيء مطلقا ، فعساك تراه بيّن السّخافة على طريقتنا العقلانيّة [٢٢٨ ظ] البرهانيّة من الحكمة اليمانيّة ، فإنّ وجود الحركة مع عدم امتداد زمانىّ من الممتنعات بالذات ، إذ الانطباق على الزمان مأخوذ في المفهوم من طبيعة الحركة.

وكما أنّ المسبوقيّة بالعدم مأخوذ في طبيعة الحدوث فقدم الحادث من حيث هو حادث مستحيل بالذات. والممتنع بالذات ، لا يتعلق به القدرة ، لا لضيق القدرة وقصرها ، بل لنقص ذلك الممتنع بحيث لا يقبل تعلّق القدرة به ، لأنّه ليس في نفسه شيئا حتى يتعلّق به قدرة ، فكذلك وجود الحركة بلا زمان محال ، فلا يمكن إيجاد الحركة [٢٢٨ ب] إلّا مع إيجاد الزمان ، ووراء وجود الزمان ليس إلّا وجود صرف للمبدإ وعدم صرف للزمان. وليس هناك امتداد موهوم ولا مقابله.

وإنّما ذلك بحت حكم الوهم الغلوط الذي هو سوفسطائىّ الحكمة وإبليس الفطرة. وهذا كما أنّ وراء محدّد الجهات ليس ملأ ولا فضاء ، بل عدم صرف. والوهم يغلط فيتوهّم هناك فراغا محدودا وبعدا موهوما. فكما لا يستوجب حكم إبليس الوهم هناك تقدّرا للعدم ، فكذلك لا يستوجب تقدّرا وراء أفق الزمان الذي هو محدّد جهات [٢٢٩ ظ] التقضّى والتجدّد والمضىّ والحاليّة والاستقبال.

٤٦٠