مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

ليس يظهر له شيء منها عن ذواتها داخلة في الزمان والآن ، بل عن ذاته ، والترتيب الذي عنده شخصا فشخصا بغير نهاية ، فعالم علمه بذاته هو الكلّ الثاني لا نهاية له ولا حدّ. وهناك [١٦٠ ظ] الأمر».

فهذه أقوالهم بألفاظهم. وليس فيها ما يوهم نفى العلم بالجزئيّات أصلا ، فانظر إلى بعض أعاظم المتحذلقين ، كالشيخ الغزالىّ وأترابه ، كيف يجرّءون أنفسهم على تحريف الكلم وترجيف القلم بالتّشنيع حيث لا يفقهون قولا ولا يعقلون دليلا ولا يدركون غورا ولا يهتدون سبيلا. واستفت الذين يظنّون بهم انّهم أحبار الأمّة وائمّة الدين وحجج الإسلام ، أهم أشدّ ضلالة أم أنتم؟ بل أنتم قوم تجهلون.

[٢٤] إحصاف

إنّ من حصيف البيان قول رئيس الحكماء في («التعليقات» ، ص ١٢٢) : «الأوّل يعقل ذاته ويعقل لوازمه ، وهي المعقولات الموجودة [١٦٠ ب] عنه ، ووجودها معلول عقله لها ، ويعقل لوازم تلك الموجودات ، ومن لوازمها الزمان والحركة. وأمّا الفاسدات فإنّه يعقلها فاسدة من جهة أسبابها وعللها ، كما تعقل أنت فاسدا إذا عقلته من جهة أسبابه. مثال ذلك : إنّك إذا عقلت انّه كلّما تعفّنت مادّة في عرق يتبعها حمّى ، وتعلم مع ذلك من الأسباب والعلل أنّ شخصا ما يوجد تحدث فيه هذه ، فتحكم أنّ ذلك الشخص يحمّ. فهذا الحكم لا يفسد وإن فسد الموضوع.

وشيء آخر : وهو أنّ المعقولات التابعة للمحسوسات [١٦١ ظ] ممّا لم يدرك بعلّة ، فإنّ كلّ ما نحسّ به نعقله من وجه ، وإن لم يكن معقولا من جهة العلل والأسباب ، فإنّه زمانىّ متغيّر. وبالحقيقة ، المدرك الزمانىّ يكون بالحسّ والتخيّل ، إذ نحن ليس يمكننا أن نصادف شيئا جزئيّا إلّا في زمان. والأوّل حكمه بخلاف حكمنا ، فإنّ الزمان هو معقول له من كلّ وجه ، وهو محسوس لنا من وجه ومعقول من وجه. والمشخّصات أيضا معقولة من وجه ما ، فإنّ وضعا ما أوجبه سبب من الاسباب يمكن أن يعقل ذلك السبب كليّا ، والوضع كليّا.

والأوّل لمّا عقل هذه [١٦١ ب] الأشياء على تراتيب وجودها أدركها كلّها على تراتيبها. والشخص وإن كان في الوجود شخصيّا ، فإنّ ذلك الشخص عقلىّ عنده من

٤٢١

حيث أدركه من أسبابه وعندنا أيضا لو أنّا أدركنا علل شخص ما ، كنّا نحكم بأنّه كلّما وجدت تلك العلّة وجد شخص ، تلك العلل علل شخصيّته. لكنّا لا نعلم أىّ سبب يتأدّى إلى وجوده هذه الأسباب ، فإنّ الأسباب السابقة غير متناهية. وعند الأوّل تلك الأسباب على نظامها وتراتيبها معقولة له. فلا يعزب عن علمه شيء من الموجودات» ، هذه ألفاظه.

وقال خاتم الحكماء في («نقد المحصل» ، ص ٢٩٥) : «الفلاسفة لا يزعمون أنّه عالم بكلّ المعلومات مطلقا ، بل يقولون : إنّه تعالى يعلم جميع الجزئيّات من حيث هي معقولات ، لا من حيث هي جزئيّات متغيّرة. قالوا : المدرك للجزئيّات الزمانيّة [١٦٢ ظ] من حيث هي متغيّرة ، يجب أن يكون زمانيّا ذا آلة ، قابلا للتغيّر ، وهو شبيه بالإحساس وما يجرى مجراه. وهو تعالى منزّه عن هذا النوع من الإدراك ، كما أنّه منزّه عن الإحساس والذوق والشمّ والإشارة الحسّيّة. هذا هو مذهبهم» ، انتهى.

[٢٥] تكملة

ما ألطف ما أورد لتلخيص عرض المرام وتحصيل غرض المقام ، أعنى كلام خاتم الحكماء في «شرح رسالة مسألة العلم» (ص ٣٨) ، فلا بأس بأن يتلى عليك ، لما فيه من عظيم النفع ولطيف القول ، مع ما في المطلب من غوامض الفكر ومداحض الوهم. ولذلك آثرنا في ما [١٦٣ ظ] قصصناه عليك من ترادف العبارة وسياقة الإطناب وإن كان فيه اجتياز عن طريقة طور الكتاب. قال :

«أمّا علم البارى تعالى بالجزئيّات ، فقيه خلاف بين المتكلمين والفلاسفة. وذلك أنّ المتكلمين قالوا : إنّ البارى تعالى يعلم الحادث اليومىّ على الوجه الذي يعلمه أحدنا أنّه موجود في هذا الوقت ولم يكن موجودا قبله ويمكن أن يوجد بعده أولا يمكن. ثمّ إذا نبهوا بوجوب تغيّر العلم بالمتغيّرات حسب تغيّرها ، التزم بعضهم جواز التغيّر في صفات الله تعالى أو في بعضها. فقال القائلون بالإضافات فقط : إنّ تغيّر [١٦٣ ظ] الإضافات في صفات الله جائز عند جميع العقلاء ، كالخالقيّة والرازقيّة بالإضافة إلى كلّ شخص. وقال غيرهم : يجوز أن يكون ذاته تعالى محلّا للحوادث ، كما جوّز طائفة من الحكماء كونها محلّا قابلا لصور المعلومات غير المتغيّرة. ومن لم

٤٢٢

يجوّز التغيّر في صفاته تعالى عاند في هذا الموضع وأنكر التغيّر أصلا ، وقال : بأنّ الشيء سيوجد هو العلم بوجوده حين وجد ، إلى أمثال ذلك من التمسّكات الواهية.

وأمّا الحكماء ، فالظاهريّون من المنتسبين إليهم قالوا : إنّه تعالى عالم بالجزئيّات على الوجه الكلّىّ ، لا على الوجه الجزئىّ. فقيل لهم : لا يمكن أن تنكروا وجود الجزئيّات على الوجوه الجزئيّة المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة [١٦٣ ب] إلى البارى تعالى الذي هو مبدؤه وعلّته الأولى ، وعندكم أنّ العلم التّام بالعلّة التامّة مستلزم للعلم التامّ بمعلومها ، وأنّ علم البارى تعالى بذاته أتمّ العلوم. فأنتم بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيّات على الوجوه الجزئيّة المتغيّرة وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ، إذ من الممتنع أن يستثنى من الأحكام الكليّة العقليّة بعض جزئيّاتها الداخلة فيها ، كما يستثنى من الأحكام النقليّة بعضها ، لتعارض الأدلّة النقليّة بعضها لتعارض الأدلّة السمعيّة. فهذا هو المذاهب المشهورة.

وأمّا التحقيق في هذا الموضوع [١٦٤ ظ] فيحتاج ، كما قيل ، إلى لطف قريحة. ولنقدّم لبيانه ما نحتاج إليه فيه ، فنقول : إن تكثّر الأشياء إمّا أن يكون بحسب حقائقها أو يكون بحسب تعدّدها مع اشتراكها في حقيقة واحدة ، والكثرة المتفقة الحقيقة إمّا أن تكون آحادها غير قارّة ، أى لا توجد معا أو تكون قارّة ، أى توجد معا.

والأوّل من هذين القسمين لا يمكن أن يوجد إلّا مع زمان أو في زمان ، فإنّ العلّة الأولى للتغيّر على هذا الوجه في الوجود هي الموجود غير القارّ لذاته الذي يتصرّم ويتجدّد على الاتصال ، وهو الزمان ، ويتغيّر بحسبه ما هو فيه أو معه تغيّرا [١٦٤ ب] على الوجه المذكور.

والثاني لا يمكن أن يوجد إلّا في مكان أو مع مكان ، فإنّ العلّة الأولى للتكثّر على هذا الوجه في الوجود هي الوجود الذي يقبل الوضع لذاته ، أى يمكن أن يشار إليه إشارة حسّيّة. ويلزمه التجزّي بأجزاء مختلفة الأوضاع بالمعنى المذكور وبالمعنى الذي يكون لبعض الأجزاء نسبة بأن يكون في جهة من الجهات منه وعلى بعد من تلك الأبعاد غير تلك الجهة والبعد. وكلّ موجود يكون شأنه كذلك فهو مادّيّ.

والطبائع المعقولة إذا تحصّلت في أشخاص كثيرة تكون الأسباب الأول لتعيّن

٤٢٣

أشخاصها ، [١٦٥ ط] وتشخّصها هي إمّا الزمان ، كما للحركات ، أو المكان ، كما للأجسام ، أو كلاهما ، كما للأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع من الأنواع وما لا يكون مكانيّا ولا زمانيّا ، فلا يتعلّق بهما ، ويتنفّر العقل من إسناده إلى أحدهما ، كما اذا قيل : الإنسان من حيث طبيعة الانسانيّة متى يوجد أو أين يوجد ، أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون وأيّ بلدة يكون. بلى إذا تعيّن شخص منها كهذا الإنسان أو هذه الخمسة والعشرة فقد يتعلق بهما بسبب تشخّصهما.

وكون الأشخاص المتفقة الحقائق زمانيّا أو مكانيّا لا يقتضي كون المختلفة الحقائق غير زمانىّ وغير مكانىّ ، فإنّ كثيرا [١٦٥ ب] منها يوجد أيضا متعلّقا بالزمان والمكان ، كالاجرام العلويّة بأسرها ، وكليّات العناصر السفليّة.

وإذا تقرّر هذا ، فلنعد إلى المقصود ونقول : إذا كان المدرك أمرا يتعلّق بزمان أو مكان ، فإنما تكون هذه الادراكات منه بآلة جسمانيّة لا غير ، كالحواسّ الظاهرة والباطنة أو غيرها ، فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ويحكم بوجودها ، ويفوته ما كان في زمان غير ذلك الزمان ويحكم بعدمه ، بل يقول : إنّه كان أو سيكون وليس الآن ، ويدرك المتكثّرات التي يمكن له أن يشير إليها ويحكم عليها بأنّها في أيّ جهة منه وعلى أيّ مسافة إن بعد [١٦٦ ظ] عنه.

وأمّا المدرك الذي لا يكون كذلك ويكون إدراكه تامّا ، فإنّه يكون محيطا بالكلّ ، عالما بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون من المدّة بينه وبين الحادث الذي يتقدمه او يتأخّر عنه ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ؛ بل بدل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ الماضى ليس موجودا في الحال ، يحكم هو بأنّ كلّ موجود هو في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزّمان من الأزمنة التي قبله أو بعده ، ويكون عالما بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينها [١٦٦ ب] جميعا على الوجه المطابق للوجود ، ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ، لأنّه ليس بزمانىّ ولا مكانىّ ، بل نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة. وإنّما يختصّ بالآن ، أو

٤٢٤

بهذا المكان ، أو بالحضور والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم قدّاميّ أو خلفىّ أو تحتيّ أو فوقىّ ، من يقع وجوده في زمان معيّن أو مكان معيّن.

وعلمه بجميع الموجودات أتمّ العلوم وأكملها. وهذا هو المفسّر بالعلم بالجزئيّات على الوجه الكلىّ ، وإليه اشير بطىّ السّماوات التي هي جامعة الأمكنة والأزمنة ، كلّها ، كطىّ السّجلّ للكتب. فإنّ القارى للسجلّ يتعلّق [١٦٧ ظ] نظره بحرف حرف على الولاء ويغيب عنه ما تقدّم نظره إليه أو تأخّر عنه. أمّا الذي بيده السّجلّ مطويّا تكون نسبته إلى جميع الحروف نسبة واحدة ولا يفوته شيء منها.

وظاهر أنّ هذا النوع من الإدراك لا يمكن إلّا لمن يكون ذاته غير زمانىّ وغير مكانىّ ، ويدرك لا بآلة من الآلات ولا بتوسّط شيء من الصور ؛ ولا يمكن أن يكون شيء من الأشياء ، كليّا كان أو جزئيّا ، على أيّ وجه كان ، إلّا وهو عالم به ، فلا تسقط من ورقة إلّا يعلمها ، ولا حبّة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ، إلّا وجميعها مثبت عنده في الكتاب المبين ، الذي هو [١٦٧ ب] دفتر الوجود ، فإنّ وجود كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل ، أو يوصف بهذه الصفات ، على أيّ وجه كان ، مثبت في جوهر عقلىّ يعبّر عنه بالكتاب المبين. أمّا العلم بالجزئيّات على الوجه الجزئىّ المذكور ، فهو لا يصحّ إلّا لمن يدرك إدراكا حسّيّا بآلة جسمانيّة في وقت معيّن ومكان معيّن.

وكما أنّ البارى تعالى ، يقال : إنّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ، ولا يقال : إنّه ذائق أو شامّ أو لامس ، لأنّه منزّه عن أن تكون له حواسّ جسمانيّة ، ولا يثلم ذلك في تنزيه ، بل يؤكّده ؛ فكذا نفى العلم بالجزئيّات المشخّصة ، على الوجه المدرك بالآلات الجسمانيّة عنه ، لا يثلم في تنزيهه ، بل يؤكّده [١٦٨ ظ] ولا يوجب ذلك تغيّرا في ذاته ولا في صفاته الذاتيّة التي يدركها العقول. إنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والإضافات التي بينه وبينها فقط. فهذا ما عندى من التحقيق في هذا الموضع» ، انتهى بعبارته.

[٢٦] إيهام وتبيين

ربّما يتوهّم أنّى ، بما حقّقت سابقا مستفيدا من الشيخ الرئيس ومن في طبقته ،

٤٢٥

خالفت سياق كلام هذا الحكيم المحقق ، حيث جعلت نسبة الزمانيّات إلى الزمان مقصورة على الفيئيّة. وهذا المحقق أخذ الزمانىّ على الأعميّة من أنّ يوجد في الزمان أو معه. وأيضا جعلت نسبة حامل محلّ الزمان ، أعنى الفلك الأقصى المتحرّك بالحركة اليوميّة [١٦٨ ب] إلى الزمان ، بالمعيّة الغير الزمانيّة ، لا التي تكون للزمانيّات ، وهو عدّ الأجرام العلويّة بأسرها من الزمانيّات وجعل كلّ مكانىّ زمانيّا. فيكون نسبة جميع الفلكيّات إلى الزمان نسبة متقدّرة زمانيّة.

فيبيّن وجه الإزاحة : بأنّ هذا المحقق إنّما عنى بهذه المعيّة المعيّة الزمانيّة. وهي إمّا نفس الفيئيّة ، كمعيّة الحركة والزمان ، أو راجعة إليها ، كمعيّة المتحرك والزمان أو المتحركين. وإنّما عنيت بحامل محلّ الزمان ، في نفى المعيّة الزمانيّة عنه بالنسبة إلى الزمان ، نفس ذات الفلك الأقصى مع قطع النظر عن كونه متحرّكا لا مع اعتبار الحركة. فإنّه أيضا ينسب بذلك الاعتبار إلى الزمان بالفيئيّة [١٦٩ ظ] المعبّر بها عن النسبة المتقدّرة الانطباقيّة ، والزمانىّ هو ما يصحّ أن يتعلق بالزمان بالفيئيّة أو المعيّة المنتهية إليها أخيرا ، سواء كان ذلك له بالذات أو باعتبار معروضيّة الحركة ، فالمعتبر في ما ليس بزمان هو نفى ذلك التعلّق بحسب الأمر مطلقا لا بالنظر إلى الذات من حيث هي فقط.

فإذن ، الجسمانيّات بأسرها من الأجرام العلويّة والسفليّة جميعا ، مع جميع ما يتعلّق بالمادّة وجودا ، ذاتا أو فعلا ، وحدوثا وبقاء جميعا زمانيّات. وكيف يكون شيء مكانيّا ولا يكون زمانيّا ، وكلّ مكانىّ فإنّه ذو وضع ، والوضع يتشخّص بذاته وبالزمان ، [١٦٩ ب]. والزمان يتشخّص بالوضع ، وكلّ زمان له وضع مخصوص ، لأنّه تابع لوضع مخصوص من الفلك. والمكان يتشخّص أيضا بالوضع ، فإنّ لهذا المكان نسبة إلى ما يحويه مغاير نسبة المكان الآخر إلى ما يحويه. وهذه المعانى ستنكشف من ذى قبل ، إن شاء الله تعالى.

[٢٧] وهم وكشف

أرأيت بعض أولى الاعتياد بدقّة النظر وسعة التعقّل ، [هو الحكيم الفاضل شمس الدين محمد الخفريّ في حاشية إلهيّات شرح التجريد. منه رحمه‌الله]. كيف ضاق عقله وقصر نظره ، فتوهّم : أنّ علمه تعالى بالجزئيّات الزمانيّة باعتبار وجودها العينىّ ،

٤٢٦

وهو عبارة عن حضورها ، بل الحاضر بذلك الاعتبار زمانىّ ، أى واقع في الزمان ، فإنّ الحوادث لمّا كانت مختصّة بأزمنة معيّنة كان كلّ منها حاضرا في وقته ، [١٧١ ب] لا فى الوقت المتقدّم على ذلك الوقت ولا في الوقت المتأخّر عنه ، فيكون حضورها باعتبار الوجود العينىّ مختصّا بتلك الأزمنة المعيّنة. ولا يخلو إمّا أن تكون تلك الحوادث بعينها باعتبار الوجود العينىّ علما بها أو حضورها باعتبار ذلك الوجود علما بها. وعلى التقديرين كان العلم بها باعتبار الوجود العينىّ زمانيّا ، أى واقعا في الزمان. فعلمه تعالى الحادث المتعلق بالحادث باعتبار وجوده العينىّ مخصوص بالزمان ومختلف بالمضىّ والحاليّة والاستقبال. نعم ، العلم المقدّم على الإيجاد ليس زمانيّا ولا تغيّر فيه أصلا.

وهو : إمّا إجماليّ هو عين ذات الواجب الوجود تعالى. ولا يخفى أنّ الجزئيّات باعتبار هذا العلم [١٧٠ ب] معلومة على الوجه الجزئىّ. فإن قيل : إنّها باعتبار هذا العلم معلومة على الوجه الكلىّ. فهو إنّما يصحّ بتأويل.

وإمّا تفصيلىّ ، وهناك لا يحتاج في تصحيح ذلك القول إلى تأويل أصلا. فإنّ الجزئيّات قبل الإيجاد الخارجىّ إنّما تعلم على الوجه الكلىّ ، فإنّ كلّ شخص من الأشخاص قبل الإيجاد يكون معلوما بوجه كلّىّ منحصر في شخص ، وفي وقت الإيجاد يكون معلوما بذاته على وجه يكون مانعا من وقوع الشركة فيه.

وكأنّك بما أوتيت لو حصّلته كدت تقول : يا أيّها المتوهّم ، ألم تفقه ، من تضاعيف أقوال الحكماء بمناطيق عباراتهم ، فضلا عن أساليب إشاراتهم ، أنّ الحوادث الزمانيّة [١٧١ ظ] المترتّبة المتسلسلة إنّما تتعاقب في الوجود ويتقدّم بعضها على بعض تقدّما زمانيّا بالنسبة إلى الداخل فقط ، أى باعتبار أن يؤخذ وجود بعضها بالقياس إلى وجود بعض آخر أو يؤخذ جميع السلسلة بالنسبة إلى أمر آخر زمانىّ.

وأمّا بالنّسبة إلى ما ليس بزمانىّ ، كالبارى تعالى ويكون لا محالة خارجا عن السلسلة

بأسرها ، ولا يتصوّر له اختصاص بشيء من الأزمنة قطعا ؛ فلا تعاقب لها في الوجود ، ولا تقدّم لشيء منها على شيء ولا تأخّر أصلا ، بل الجميع متساوية الإقدام في الحضور لديه ، فإنّ الزمان لا يتّصف بالمضىّ [١٧١ ب] ومقابليها مقيسا إلى ذاته

٤٢٧

تعالى ووجوده ، فهو يتنزّه عن أن يقال : بعض الأزمنة ماض وبعضها مستقبل وبعضها حال بالنسبة إليه ، بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة ، كما تحقق.

فتقدّم وقت على وقت إنّما يصحّ بالنظر إلى هويّتى الوقتين بحسب وقوعهما في امتداد الزمان. وأمّا بالقياس إلى من هو محيط بهما معا ، فلا يصحّ ذلك وإن صحّ اختصاص كلّ منهما بحدّ معيّن من ذلك الامتداد. والحوادث وإن كان وجودها العينىّ هو بعينه علم المبدأ الأوّل بها ، لكن وجودها العينىّ لباريهما ـ أعنى وجودها الرابطىّ ـ هو عين معلوميّتها له ، وبذلك الاعتبار لا يلحقها تقدّم وتأخّر ، [١٧٢ ظ] بل إنّما يلحقها ذلك باعتبار وجودها في أنفسها بالنظر إلى هويّاتها المختصّة بحدود معيّنة مقيسا بعضها إلى بعض. وهي بهذا الاعتبار معلومات ، لا صور علميّة. فإذن المعلومات زمانيّة ، والعلم بها غير زمانىّ ، ومع ذلك فإنّ وجودها في الأعيان هو نفس معلوميّتها.

وهذا ممّا يحوج إلى تلطيف للسرّ وتنزيهه عن الوهم ، فليتدرّج إليه من تصوّر الأمر في المكانيّات. أليس كلّ منها في نفس يتقدّم بالمكان على الآخر أو يتأخّر عنه. ولا يمكن ذلك لها بالقياس إلى البارى تعالى ، إذ لا يختلف نسبتها المكانيّة في الحضور عنده بالقياس [١٧٢ ب] إليه تعالى ، وإن اختصّ كلّ منها بمكان معيّن.

ثمّ يا صاحب الوهم ، ما قصدت بالعلم المقدّم على الإيجاد ، إن عنيت بذلك التقدّم الزمانىّ ، فلا يسوغ وصف ذاك العلم به أصلا ، فكيف والإجمالىّ منه عين ذاته تعالى ، كما اعترفت به ؛ والتفصيلىّ منه يكون على الوجه الكلىّ حسب ما اقتضاه نظرك ، فلا يكون شيء منه زمانيّا. وذلك التقدّم لا يتّصف به إلّا الزمانيّات ؛ وإن عنيت به التقدّم السرمديّ على سياق ما حصّلناه من نضيج الحكمة ، فقولك : إنّه ليس زمانيّا ، صحيح ، لكنّ العلم الحادث حين الإيجاد على زعمك أيضا ليس بزمانىّ ، ولا بمختلف [١٧٣ ظ] بالتقدّم والتأخّر الزمانيّين أصلا ، لما تعرّفت ، فتفقّه ولا تكن كمن يصطاد حمام حرم الحكمة بشبكة الوهم فيضلّ ضلالا بعيدا.

[٢٨] زيادة كشف وإيقان

أما قرع سمعك ، بل استبان لديك ، أنّ التقدّم والتأخّر الزمانيّين يرجعان إلى زمانى المتقدّم والمتأخّر ، وإنّما يكون اتصاف غير أجزاء الزمان بهما بالعرض ، فإنّ مفاد

٤٢٨

الحكم بهما أنّ متى المتقدّم قبل متى المتأخّر ، وكذلك المعيّة الزمانيّة هي كون متى أحد المعين هو بعينه متى الآخر. فما لا يكون زمانيّا لا يصحّ وصفه بشيء من هذه المعانى أصلا. فالمتصف بهما [١٧٣ ب] مقصور عند الحكماء على الزمانيّات لا يتعدّاها.

فإذن تقدّم ذات البارى تعالى ووجوده وعلمه على شيء من الحوادث الزمانيّة ، كالذى يوجد من بعد ، وهو معدوم بالفعل مثلا ، ليس تقدّما زمانيّا ، فكيف وليس لوجوده أيضا ولا تعالى زمان يتصف هو باعتبار ، بذلك التقدّم ؛ ولا أيضا مكانيّا ، وهو ظاهر ؛ ولا تقدّما بالعليّة ، لامتناع تخلّف المتأخّر بالعليّة عن المتقدم بها في الوجود ، الخارجىّ قطعا ، ولا بالطبع ، لأنّ العقل يجد هناك نحوا آخر من التقدّم غير ما بالطبع يأبى عن المعيّة في الوجود ؛ ولا بالشرف لذلك بعينه ، فيكون هو لا محالة [١٧٤ ظ] تقدّما آخر خارجا عن الاقسام الخمسة يسمّى على طور حكمتنا التقدّم السرمديّ.

والفلاسفة لم يذهبوا عن ذلك ، بل هم ناصّون عليه في هذا المقام ، ثمّ إنّهم ناسون له عند تهوّسهم بإثبات القدم وحين عدّهم أقسام التقدّم والتأخّر.

[٢٩] نصّ ورصّ

قال الشيخ الرئيس أبو على في كتاب («التعليقات» ، ص ١٥٨) : «واجب الوجود يجب أن تكون لوازمه ، وهي معلوماته ، معه ، لا تتأخّر عنه تأخّرا زمانيّا ، بل تأخّر المعلول عن العلّة». وقال (ص ٥٨) : «المعلومات لم تزل كائنة له معلومة له ، وكلّها متميّزة عنده ، أى يعلم كلّ واحد منهما متميّزا عن الآخر». [١٧٤ ب].

وقال (ص ١٥٢) : «الأوّل هو السبب في لزوم المعلومات له ووجوبها عنه ، لكن على ترتيب ، وهو ترتيب السّبب والمسبّب ، فإنّه مسبّب الأسباب ، وهو سبب معلوماته ، فيكون بعض الشيء متقدّما علميّته له على بعض». وقال (ص ١٥٢) : «العقل البسيط هو أن يعقل الشيء ولوازمه إلى أقصى الوجود معا ، لا بقياس وفكر وتنقّل في المعقولات ومعرفة الشيء أوّلا واللوازم ثانيا». ثمّ قال (ص ١٥٢) : «فهذا النّحو من التعقّل [بسبب] تعقّل الأول لذاته ولوازم عنها وللموجودات كلّها : حاصلها وممكنها [و] أبديّها ، وكائنها وفاسدها ، وكليّها وجزئيّها ، فإنّه [١٧٥ ظ] يعقلها كلّها معا على الترتيب السببىّ والمسبّبىّ ، وهو يعقلها من ذاته ، لأنها فائضة عنه وذاته مجرّدة. فهو عاقل ذاته وذاته

٤٢٩

معقولة ، فهو عاقل ومعقول ، والموجودات كلّها معقولة له على أنّها عنه ، لا فيه».

ثمّ قال (ص ١٥٣) : «نفس تعقّله لذاته هو وجود هذه الأشياء عنه ، ونفس وجود هذه الأشياء نفس معقوليّتها له على أنّها عنه». ثمّ قال : «وجود هذه الموجودات عنه وجود معقول ، لا وجود موجود من شأنه أن يعقل أو يحتاج إلى أن يعقل».

وقال (ص ١٥٤) : «كون هذه الصور موجودة عنه هو نفس علمه ، بها ، وعلمه بأنّه [١٧٥ ب] يلزم عنه وجودها ، هو مبدأ لوجودها عنه ، وليس يحتاج إلى علم آخر يعلم به أنّه مبدأ لوجودها عنه. فهذه المعقوليّة هي نفس هذا الوجود ، وهذا الوجود هو نفس هذه المعقوليّة». وقال (ص ١٥٥) : «الموجودات معلولة له لا محالة ، وإذا قلنا : إنّه يستفيد علم الأشياء من وجودها ، يلزم أن يستفيد معقوليّة الأشياء من وجوداتها التي هي معلولة له ، فتكون معقوليّة الشيء بعد وجوده ، وذلك محال».

ثمّ قال (ص ١٥٦) : «الأوّل تعالى لا يستفيد علم الموجودات من وجودها ، فإنّه يفيدها الوجود ، فهو يعقلها فائضة عنه. ففى عقله لذاته عقله لها ، إذ هي لازمة له ، وهو [١٧٦ ظ] يوجدها معقولة ، لا أنّه يوجدها ويكون من شأنها أن تعقل».

ثمّ قال (ص ١٥٦) : «إن قال قائل : إنّه هل يعلمها قبل وجودها حتى يلزم من ذلك إمّا أن يعلمها ، وهي في حال عدمها ، أو يلزم إمّا أن يعلمها حال وجودها حتى يكون يعلمها من وجودها. كان قوله ذلك محالا ، ولأنّ علمه بها هو نفس وجودها ، ونفس كون هذه الموجودات معقولة له هو نفس كونها موجودة ، وهو يعلم الأشياء لا بأن تحصل فيه فيعلمها ، كما نعلم نحن الأشياء من حصولها ووجودها ، بل حصولها هو علمه بها ؛ ويعلمها بسيطة ؛ لا بأن يعلم الأسباب ويجمعها ، فيستنتج [١٧٦ ب] منها العلم ، كما نحكم نحن بأنّ هذا كذا ، وكلّما كان كذا فهو كذا ، فيكون في علمنا به تكرار أو استنتاج للآخر من الأوّل ، بل يعلم هذه الأشياء من ذاته ولازمه ولازم لازمه ، فيكون علمه بها على ما هي عليه علما بسيطا على الترتيب السببىّ والمسبّبىّ».

وقال فيه أيضا (ص ١٩١) : «كلّ ما كان وجوده لذاته فوجوده معقوليّته لذاته ، وكلّ ما كان وجوده لغيره فوجوده معقوليّته لغيره. ولمّا كان واجب الوجود مبدءا لجميع الموجودات على ترتيب الموجودات وكان عاقلا لحقيقة ذاته ، كان عاقلا

٤٣٠

أيضا للوازمه ، لأنّ ما يعقل شيئا بالحقيقة ، فإنّه يعقل لوازمه ، ووجود لوازمه [١٧٧ ظ] أيضا هو معقوليّتها ، فلا يجوز أن يقال : إنّه عقلها ، فوجدت ، ولا أنّها وجدت فعقلها ، وإلّا كان يلزم محالان : أحدهما أنّه يتسلسل إلى ما لا نهاية له ، فإنّه كان يسبق كلّ وجود لازم عقل واجب الوجود له ، ويسبق كلّ عقل واجب الوجود لتلك اللوازم وجودها» ، انتهى بألفاظه.

والمعلّم الثاني أبو نصر الفارابىّ قال في («الفصوص» ، ص ١٠٣) : «هو ـ أى البارى تعالى ـ آخر ، من جهة أنّ كلّ زمانىّ يوجد زمان يتأخّر عنه ، ولا يوجد زمان يتأخّر عن الحق». وقال أيضا (ص ١٠١) : «وهو أوّل ، من جهة أنّ كلّ زمانىّ ينسب إليه يكون بعد ، فقد وجد زمان لم يوجد معه ذلك الشيء ؛ ووجد ـ أعنى الحقّ الواجب تعالى ـ معه [١٧٧ ب] لا فيه».

والمعلّم الأوّل أرسطوطاليس في «أثولوجيا» ـ بعد أن ذكر أنّه ينبغى لك أن تنفى عن وهمك كلّ كون بزمان حتّى تعرف المبدعات التي كوّنت من مبدعها بغير زمان ـ قال (ص ١١٤) : «فعلّة الزمان لا تكون تحت الزمان ، بل تكون بنوع أعلى وأرفع ، كنحو الظّل من ذى الظّل». ثمّ قال : (ص ١١٤) : «ولذلك صار ذلك العالم محيطا بجميع الأشياء التي في هذا العالم. وهذه الصور في ذلك العالم من أوّلها إلى آخر إلّا أنّ ما هناك بنوع أعلى وأرفع».

وقال فيه أيضا (ص ١١٠) : «وذلك العالم ساكن دائم السكون ، لأنّه في غاية الإتقان والحسن ، فلا يحتاج إلى الحركة بأن ينتقل من حال إلى حال. ولو أراد الحركة [١٧٨ ظ] والانتقال لم يقدر على ذلك ، لأنّ الأشياء كلّها فيه ، وليس شيء منها خارجا منه فينتقل إليه».

وقال فيه أيضا (ص ١٣٠) : «العلّة الأولى واقفة ساكنة في ذاتها وليست في دهر ولا زمان ولا في مكان ، بل الدّهر والزّمان والمكان وسائر الأشياء إنّما قوامها وثباتها به. وكما أنّ المركز ثابت قائم في ذاته ، والخطوط الخارجة من المركز إلى محيط الدائرة كلّها إنّما تثبت وتقوم فيه ، وكلّ نقطة أو خطّ في دائرة أو سطح فإنّما قوامه وثباته بالمركز ، فكذلك الأشياء العقليّة والحسّيّة. ونحن أيضا قوامنا وثباتنا بالفاعل

٤٣١

الأوّل ، وبه نتعلق ، وإليه [١٧٨ ب] نرجع ، وإن نأينا عنه وبعدنا. فإنّما مصيرنا إليه ومرجعنا ، كمصير خطوط الدائرة إلى المركز وإن بعدت ونأت» ، انتهى.

وأنصّ من ذلك كلّه ، على ما ريم تحقيقه بالتفصيل المشبع ذا هو قول شيخ الحكماء الإلهيّين ، صاحب الأنوار والإشراقات في كتابه الموسوم ب (ص ٣٠٧) «المشارع والمطارحات» حيث قال في أوّل فصول المشرع الثالث من الإلهيّات ، بعد ذكر أقسام التقدّم والتأخّر بإزاء المتقدّم : «وكذا مع وليس كلّ شيئين ليس بينهما تقدّم وتأخّر زمانىّ هما معا زمانا ، فإنّ المفارق بالكليّة لا يتقدّم على زيد مثلا زمانا ولا يتأخّر عنه وليس معه بالزمان أيضا ، وكذا غيره. فاللذان هما معا بالزمان يجب أن يكونا زمانيّين. كما أنّ اللذين هما معا في الوضع والمكان [١٨٩ ظ] يجب أن يكونا مكانيّين» ، انتهى بألفاظه.

وخاتم الحكماء في «نقد المحصل» (ص ١٢٨) ، حيث أثار صاحب «المحصل» فتنة التشكيك معترضا على الفلاسفة بقوله : «إنّ تقدّم عدم الحادث على وجوده ، لو وجب أن يكون بالزمان لكان تقدّم عدم كلّ واحد من أجزاء الزمان على وجوده بالزمان ، ولكان تقدّم البارى تعالى على هذا الجزء من الزمان بالزمان ، فيلزم أن يكون الله تعالى زمانيّا ، وأن يكون الزمان زمانيّا ، وهما محالان». قال : إنّهم ـ أى الفلاسفة ـ يقولون : القبليّة والبعديّة تلحقان الزمان لذاته ولغير الزمان بسبب [١٧٩ ب] الزمان ، والوجود والعدم لمّا لم يدخل الزمان في مفهومهما احتاجا في صيرورتهما بعد وقبل إلى زمان. أمّا أجزاء الزمان فلا تحتاج إلى غير أنفسها ، ولا العدم بالقياس إليها في كونه قبل أو بعد إلى غيرها. وأمّا البارى تعالى وكلّ ما هو علّة الزمان أو شرط وجوده فلا يكون في الزمان ولا معه إلّا في التوهّم حيث يقيسه الوهم على الزمانيّات. فهذا ما قالوه هاهنا». انتهى قوله.

وقال فيه أيضا ، حيث أعاد صاحب «المحصّل» (ص ١٩٩) ذكر هذا الوهم ، أعنى أنّ تقدّم البارى تعالى على أجزاء الزمان كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر ، وهو الذي [١٨٠ ظ] سمّوه المتكلّمون التقدّم بالذات : «قد سبق ما يرد عليه. والحقّ أنّ البارى تعالى ليس بزمانىّ ، والزمان من مبدعاته ، والوهم يقيس ما لا يكون في الزمان

٤٣٢

على ما في الزمان ، كما مرّ في المكان. والعقل كما يأبى عن إطلاق التقدّم المكانىّ على البارى تعالى ، كذلك يأبى عن إطلاق التقدّم الزمانىّ عليه ، بل ينبغى أنّ يقال : إنّ للبارى تعالى تقدّما خارجا عن القسمين وإن كان الوهم عاجزا عن توهّمه» نجزت عبارته.

وقال فيه أيضا ، حيث أورد صاحب «المحصل» عند نفى وجود الإضافات : إنّ كلّ حادث يحدث [١٨٠ ب] فإنّ الله تعالى يكون موجودا معه في ذلك الزمان. فلو كانت تلك المعيّة صفة وجوديّة ، لزم حدوث الصفة في ذات الله : «هم ـ أى الحكماء ـ يقولون : إنّ لله تعالى صفات إضافيّة ، كالأوّل والآخر والخالق والرازق والمبدع والصانع وغير ذلك ، ويلتزمون القول بهذه الصفات غير المعيّة الزمانيّة لله تعالى» هذه ألفاظه. (تلخيص المحصل ، ص ١٣٢).

وقد سبق عن «شرح حكمة الاشراق» أنّه يمتنع اتصاف المفارقات بالتقدّم الزمانىّ والمعيّة الزمانيّة. وقال شارح «حكمة الإشراق» في المقالة الخامسة من الفنّ الأوّل من الجملة الثانية في الفلسفة الأولى [١٨١ ظ] من كتاب «درّة التاج» (ص ٥٠٩) ما ترجمته هذه العبارة : «ليس أنّ كلّ شيئين ليس بينهما تقدّم وتأخّر زمانيّان يلزم أن يكونا معا المعية الزمانيّة ، إذ الأشياء التي وجودها ليس زمانيّا لا يعرضها التقدّم والتأخّر الزمانيّان ولا المعيّة الزمانيّة ، فإنّ كلّ شيئين هما معا بالزمان يجب أن يكونا زمانيّين ، كما أنّ الأمور التي ليست بمكانيّة لا يكون بينها تقدّم وتأخّر مكانيّان ولا معيّة مكانيّة».

[٣٠] استيثاق فيه ميثاق

أليس قد تحقق بهذا التحصيل والتفصيل : أنّ تقدّم البارى تعالى على كلّ جزء من أجزاء الزمان وكلّ واحد من الحوادث [١٨١ ب] الزمانيّة المقارنة لها تقدّم آخر خارج عن الأقسام الخمسة أدّت إليه الفلسفة وأذعنت به الفلاسفة. وكذلك معيّته تعالى بالنسبة إلى شيء من تلك الأمور. فاتّخذ ذلك ميثاقا لك عندهم لا ينسونه إلى أن نأتى بالنظر في ما يتشبثون به عند تهوّسهم بإثبات القدم.

٤٣٣

فصل (٥)

في تحقيق الأزل والأبد والبقاء والسرمديّة وتفصيل تناهي الامتداد الزمانىّ و

إحصاء المنتسبات إلى الزمان بالفيئيّة وبيان أنحاء الحدوث وذكر نيط بها القصد

من محصّلات الاصول ومكمّلات الفصول [١٨٢ ظ].

[١] دعامة استنتاجيّة

ألسنا قد تلونا عليك من قبل ، ما إن أخذت الفطانة بيدك لفطّنك أنّ الدّوام يقال على ما بحسب الوجود الزمانىّ وعلى ما بحسب الوجود الغير الزمانىّ بمعنيين مختلفين ، فإنّ الدّوام الزمانىّ هو المساوق لاستمرار الوجود وامتداده من حيث المقارنة للزمان بجميع أجزائه ، ويقابله اللّادوام من جهة المقارنة للآن أو لبعض أجزاء الزمان فقط ، وهو اللّادوام الزمانىّ ، أى من أزله إلى أبده. والدوام الغير الزمانىّ أعلى من أن يتصف بذلك ، فهو ما للشيء بحسبه صرف الوجود الذي لا يعقل [١٨٢ ب] فيه امتداد واستمرار أصلا ولا مقابلاهما ، بل يكون محيطا بذلك كلّه ، سواء كان ذلك الوجود في الأعيان أو في الأذهان ، ويقابله اللّادوام من جهة سبق العدم في ذلك الطرف بحسب الواقع سبقا سرمديّا لا زمانيّا ، وهو اللادوام الغير الزمانىّ.

[٢] تبصرة وإشارة

إنّك سوف تعلم ، بما نبرهن عليه ، إن شاء الله سبحانه ، أنّ الدوام بالمعنى الأخير ، ولنصطلح على تسميته دواما سرمديّا ، لا يثبت لشيء من الطبائع الإمكانيّة ، مفارقات عقليّة كانت أو زمانيّات مادّيّة ، بل إنّما استأثر به مبدعها الواجب الوجود تعالى شأنه. لكنّ العقليّات [١٨٣ ظ] تتصف بأنّها موجودة مع الزمان بجميع أجزائه معيّة غير انطباقيّة بل دهريّة. فلو أنّك سمّيت هذه دواما دهريّا فوق الزمانىّ ودون السرمديّ ، لكنت من الأمر في مساغ. فقد اصطلحت الفلاسفة بإطلاق الدهر على نسبة ما مع الزمان من الأمور الثابتة إليه في الثبات ، على ما سلف ، فهذا سبيل الحكمة النضيجة. والمتهوّسون بالقدم يجعلون الممكن القديم بالزمان سرمديّ الوجود وتأخّره عن مبدعه بالذات فقط ، ويعبّرون عن الدوام بالسرمديّة. فلقد صدر من المعلّم الأوّل في

٤٣٤

كلماته ، [١٨٣ ب] ومن المعلّم الثاني في تعليقاته ، وتكرّر من الشيخ الرئيس في كتبه.

قال خاتم الحكماء في «شرح الإشارات» (ج ٣ ، ص ١١٩). «وإنّما عبّر عن الدوام هاهنا بالسرمد ، لأنّ الاصطلاح ، كما وقع على إطلاق الزمان على النسبة التي تكون لبعض المتغيّرات إلى بعض في امتداد الوجود ، فقد وقع على إطلاق الدهر على النسبة التي تكون للمتغيّرات إلى الأمور الثابتة ، والسرمد على النسبة التي تكون للامور الثابتة بعضها إلى بعض».

[٣] تلويح

وهناك قسم آخر هو الدّوام بالذات ، وهو القدم الذّاتىّ ، ومرجعه إلى عدم مسبوقيّة الوجود بالعدم بالذّات. وإنّما يتحقّق إذا كان [١٨٤ ظ] الوجود واجبا بذاته ، ويقابله اللّادوام بالذّات ، أعنى المعبّر عنه في لسان الفلسفة بالحدوث الذّاتي ، وهو مسبوقيّة وجود الشّيء بالعدم بالذّات ويستغرق الطبائع الإمكانيّة ، مفارقاتها ومادّياتها على الإطلاق. فكما إذا تسرمد الوجود بحسب الواقع تحقق الدّوام السرمديّ ، فكذلك إذا تسرمد الوجود بالذّات تحقّق الدّوام الذّاتىّ. وحيث يحين حينه من ذى قبل يبسط القول فيه على مسلك التّحصيل إن شاء الله العزيز الجميل.

[٤] إيماض

كأنّك ، بما لاح لك ممّا قرع سمعك ، [١٨٤ ب] مستأنس بعزيزتك بمسلك العقل، آنس ببصيرتك لمشهد الحقّ. فلا بأس إن تلونا عليك : أنّ الأزل على ضربين ، زمانىّ وأرفع منه. فأمّا المرتفع عن محتد الزّمانيّة ، فهو ما بحسب صرف وجود المبدأ الأوّل تعالى وجودا متقدّسا عن الامتداد والاستمرار ، ومقابليهما اللّذين باعتبار عدم البقاء ، تعالى عن ذلك ، بل محيطا بالاستمرار وبكلّ ما تسعه الشّيئيّة وصرف عدم الزمان عدما بمعزل أيضا عن ذلك كلّه ، متقدّما على وجوده تقدّما سرمديّا لا زمانيّا ، والزمان بنفس امتداده الاتصالىّ وبجميع أجزائه الممكن الانحلال هو إليها ، لا بطرفه ، فقد [١٨٥ ظ] مسبوق بهذا الأزل ، ولا شطط ، سمّى الأزل السرمديّ.

وأمّا الأزل الزمانىّ. فهو عبارة عن أزمنة في جهة الماضى إلى حيث لا يتقدّمها

٤٣٥

شطر من الزمان أصلا أو شيء آخر يسعه أو يستمرّ أو لا يبقى ، كوجود أو عدم يطاوع انطباقا على ممتدّ أو طرفه بالمقارنة ، فيعقل فيه بحسب ذلك استمرارا ولا بقاء. وعلى ذاك يقاس في معنيى الأبد ، إلّا أنّ الزّمان في جهة الأبد لا يجب أن ينتهى إلى حيث لا يلحقه تحقّق شطر آخر منه ، وأزليّة البارى تعالى وأبديّته دوامه السرمديّ بالمعنى المسلف عقد الاصطلاح عليه ، [١٨٥ ب] فهذا سبيل نضبح الفلسفة اليونانيّة لتستوى حكمة يمانيّة.

[٥] اقتصاص

المتهوّسون بالقدم يجعلون الأزل مقدارا من الزمان في الماضى لا بداية له أصلا ، والأبد مقدارا منه في المستقبل لا ينتهى إلى حيث لا يستمرّ بعده ، والأزليّة حقيقتها استمرار الشيء في الأزمنة المقدّرة بحيث لا يكون له أوّل. والأبديّة استمراره في الآتية من الأزمنة بحيث لا يقف عند حدّ. والسرمديّة كون الشيء غير منقطع الأوّل والآخر. وربّما يطلق عندهم الأزليّة على كون الشيء لا أوّل لوجوده ولا يتعلق وجوده بالزمان ، كما في المفارقات ، [١٨٥ ظ] والأبديّة على نظيره. وربّما يقتصر فيهما على الأخير ، فيستعمل كلّ من الأزليّات والأبديّات حيث تستعمل أخراهما.

قال الشيخ الرئيس في («التعليقات» ، ص ١٨٨) ـ بعد ذكر الصفات الإضافيّة للمبدإ الأوّل تعالى ـ : «وأيضا له صفات عدميّة ، أعنى لا صفتيّة ، كالوحدة ، فإنّ معناها أنّه موجود لا شريك له ، أو لا جزء له. وإذا قيل أزليّ ـ أى إنّه لا أوّل لوجوده ـ فإنّه يسلب عنه الحدوث أو وجودا متعلّقا بالزمان. وهذه السلوب والإضافات ، لا تتكثّر بها الذات ، فإنّ الإضافة معنى عقلىّ لا وجود له في ذات الشيء. والنفى والسلب معان [١٨٦ ب] عدميّة ، بل رفع الصفات عن الشيء. ولكن لمّا كان لمثل هذه السلوب ألفاظ محصّلة ، مثل الوحدة والأزليّة ظنّ أنّها صفات محصّلة. وقد تكون ألفاظ محصّلة ومعانيها غير محصّلة ووجوديّة ، بل سلبيّة ، وقد تكون ألفاظ غير محصّلة ومعانيها محصّلة ووجوديّة انتهى.

[قال فالأوّل كالوحدة والزوج والفرد ، والثاني كاللاأعمى ، أى البصير ، منه رحمه‌الله].

وأمّا المتكلّمون ، فإنّهم ، إلّا شرذمة من المنتمين إليهم ، يتوهّمون أنّ بين وجود

٤٣٦

المبدأ تعالى وبين حدوث العالم عدما للعالم مستمرّا لا إلى نهاية. فيتخيّلون بحسبه أزمنة موهومة غير متناهية ، يعبّرون عنها بالأزل. وهل ذلك إلّا من خداج النحيزة [١٨٧ ظ] وفساد العزيزة وعقوق العقل وإطاعة الوهم.

[٦] حكاية فيها دراية

اختلفت كلمة الأشعريّ والكعبىّ وطائفة من قوميهما في إثبات البقاء على أنّه معنى زائد على نفس الوجود الواقع في الزمان الثاني في الواجب تعالى وفي الممكنات جميعا ، أو نفيه في الواجب تعالى فقط أو في الممكنات أيضا. وصاحب «المحصل» ارتضى الأخير. وشيء ممّا أوردوه لا يرجع إلى تحصيل يستحسن القول فيه على تفصيل.

والحقّ ما حقّقه خاتم الحكماء المحقّقين في («نقد المحصل» ، ص ٢٩٣) ، حيث قال ، وفق أسلوب الحكمة [١٨٧ ب] : «والتحقيق فيه : أنّ البقاء مقارنة الوجود لأكثر من زمان واحد بعد الزّمان الأوّل. وذلك لا يعقل في ما لا يكون زمانيّا. واعتبر الحكم بكون الكلّ أعظم من جزئه ، فإنّه لا يمكن أن يقال : إنّه واقع في زمان أو في جميع الأزمنة ، كما لا يقال : إنّه واقع في مكان أو في جميع الأمكنة. وإذا كان الحكم كذلك ، فما يتوقّف عليه الحكم ، كالتصوّرات ، أولى بأن يكون كذلك. وعلّة الزمان لا تكون زمانيّا ، فكيف مبدأ الكلّ. فإذن اتصافه بالبقاء نوع من التشبيه بالزمانيّات. وأمّا كون البقاء باقيا [١٨٨ ظ] أو غير باق ، فإن كان باقيا فبقاؤه إمّا بذاته أو بغير ذاته ، فحكمه حكم الأمور الاعتباريّة التي توجد في العقل وتنقطع عند عدم الاعتبار».

وقال الشيخ الغزالىّ في («شرح الأسماء الحسنى» ، ص ١٥٩) : «الباقى هو الموجود ، الواجب وجوده بذاته. ولكنّه إذا أضيف في الذهن إلى الاستقبال سمّى باقيا ، وإذا أضيف إلى الماضى سمّى قديما. والباقى المطلق هو الذي لا ينتهى تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ، ويعبّر عنه بأنّه أبديّ ، والقديم المطلق هو الذي لا ينتهى تقدير تمادى وجوده في الماضى إلى أوّل ، ويعبّر عنه بأنّه أزليّ. وقولك «واجب الوجود [١٨٨ ب] بذاته» متضمّن لجميع ذلك. وإنّما هذه الأسامى بحسب إضافة هذا الوجود في الذهن إلى الماضى والمستقبل. وإنّما يدخل في الماضى والمستقبل المتغيّران ، لأنّهما عبارتان عن الزمان ولا يدخل في الزمان إلّا التغيّر والحركة ، إذ الحركة بذاتها

٤٣٧

تنقسم إلى ماض ومستقبل ، والمتغيّر يدخل في الزمان بواسطة التغيّر.

فما جلّ عن التغيّر والحركة فليس فيه ماض ومستقبل ، فلا ينفصل فيه القدم عن البقاء ، بل الماضى والمستقبل إنّما يكون لنا إذا مضى علينا أو فينا أمور ، وستتجدّد أمور. ولا بدّ من أمور تحدث شيئا بعد شيء ، حتى تنقسم إلى ماض [١٨٩ ظ] قد انعدم وإلى حاضر ، وإلى ما يتوقع تجدّده من بعد. فحيث لا تجدّد ولا انقضاء فلا زمان. وكيف لا ، والحقّ تعالى قبل الزمان ، وحيث خلق الزمان لم يتغيّر من ذاته شيء ، وقبل خلق الزمان لم يكن للزمان عليه جريان ، وبقى بعد خلق الزمان على ما عليه كان. ولقد أبعد من قال : البقاء صفة زائدة على ذات الباقى ، وأبعد منه من قال : القدم وصف زائد على ذات القديم. وناهيك برهانا على فساده ما لزمه من الخبط في بقاء البقاء وبقاء الصفات وقدم القدم وقدم الصفات». انتهى.

ولقد أصاب في أخذ هذا الأصل من الفلاسفة [١٨٩ ب] ، لكنّه خبط في جعل الحركة بذاتها منقسمة إلى الماضى والمستقبل ، فإنّ ذلك إنّما هو من جهة الزمان ، كما سلف تحقيقه ، ولم يحصّل معنى قبليّة الحقّ بالنسبة إلى الزمان على اصل حكمىّ يوثق بأن ينبى عليه إشراق عقلىّ. كيف يكون البارى تعالى زمانيّا ، وهو محدث الزمان ومبدعه ، بل موجد ما هو محدث الزمان ، ومحدث الشيء لا يكون مشمولا له ، فضلا عمّن يوجد محدثه.

وهذا المعنى ممّا نبّه عليه معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطوطاليس في كتاب «السماء والعالم» وفي غيره من الكتب الطبيعيّة والإلهيّة ، حيث بيّن أنّ الزمان إنّما هو عدد حركة [١٩٠ ظ] الفلك وهو يحدث عنه ، وما يحدث عن الشيء لا يشمله. فإذن البارى تعالى خارج عن الزمانيّات وأرفع من أن تجرى عليه أحكامها.

[٧] استيناف

أليس لهذا الأصل الحكمىّ ـ أعنى أنّ البارى تعالى أعلى من أن يوصف بالبقاء ، بل هو محيط بالبقاء ، على أن تكون الأكوان الزمانيّة منه ، كنحو الظلّ من ذى الظلّ ، بل ما هناك أرفع وأشدّ مرّات متضاعفة اللّانهاية أشباه وأتراب في مراتب الحكمة ، كما يقال : إنّ ذات المبدأ الأوّل تعالى أعلى من أن يوصف بالتماميّة ، بل هو فوق التمام ، وأنّه

٤٣٨

تعالى أعلى من أن يوصف [١٩٠ ب] بالاختيار ، فضلا عن الإيجاب ، وإنّ علمه ، جلّ ذكره ، أجلّ من أن يوصف بالصدق. وإنّما هو الحقّ ، بمعنى أنّه نفس الواقع ؛ لا المطابق للواقع ، على ما ذكره المعلّم أرسطوطاليس في خواتيم كتاب («اثولوجيا» ، ص ...). ومن هناك يعلم الحال في المراتب العالية على الزمان من المفارقات أيضا. وهذه المعانى مضمون عليها بالبسط في كلامنا من ذى قبل.

ثمّ إنّ الأمر في كلّ ما نصف به المبدأ تعالى من الصفات الحقيقيّة يشبه أن يكون كما قيل في البقاء ، فإنّ كلّ ما يعقل لنا من تلك الصفات طبيعة إمكانيّة يتقدّس عنها جناب قدس الأوّل [١٦١ ظ] تعالى ، وما في عالم الربوبيّة حقيقة قائمة بالذات مجهولة الكنه واجبة الوجود ، لا سبيل للعقول إلى اكتناهها.

فما مثلنا في توصيف الربّ بالأشرف من طرفي التقابل ، طنّا منّا أنّ الكمال مقصور على ذلك ، إلّا مثل البعوضة إذا توهّمت أنّ الكامل ليس إلّا من له جناح ، فأثبتت للبارى تعالى جناحا.

وهذه حكمة إلهيّة نطق بها سيّدنا ومولانا محمد بن على الباقر ، عليهما صلوات الله وتسليماته ، حيث قال : «هل يسمّى عالما إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقدرين. وكلّ ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ [١٩١ ب] معاينه مخلوق مصنوع منكم مردود إليكم ، والبارى واهب الحياة ومقدّر الموت ، ولعلّ النّمل الصّغار تتوهّم إنّ الله تعالى زبانيتين ، فإنّهما كمالها ، وأنّ عدمهما نقصان لمن لا تكونان له» ، هكذا حال العقلاء في ما يصفون الله تعالى به. في ما أحسب ، وإلى الله المفزع» ، («بحار الأنوار» ، ج ٦٩ ، ص ٢٩٣) ، («الأربعين للشيخ البهائى» ، ص ١٦) ، فتبصّر ، إنّك إذن لمن المهتدين.

[٨] تبصير تنبيهىّ

كأنّك إذن تنبّهت أنّ ما أشير إلى التنزيه عنه في كريم التّنزيل بقوله عزوجل من قائل : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات ، ١٨٠) ، هو ما يصفه به الواصفون من المؤمنين ، حسب ما أدركه الحكماء [١٩٢ ظ] الراسخون ، فضلا عمّا يقول الظالمون من المشركين على ما وقف عنده القشريّون. فسبحانه سبحانه ، تلاشى الكلّ في جبروته وتفاشى الرّضاض في العقول من رهبوته. أشهد أنّ كلّ مفهوم أو موجود معقول

٤٣٩

أو محسوس من لدن عرشه العظيم إلى قرار أرضه باطل ، ما خلا وجهه الكريم.

[٩] ضابط تفصيلىّ

فإذن لا يجوز أن يطلق عليه تعالى اسم على سبيل التوصيف إلّا إذا صحّ اتصافه تعالى بمفهومه. ولمّا كانت أسماؤه توقيفيّة ، فلا يجوز أيضا أن يطلق عليه لفظ تسمية إلّا أن يكون قد سبق ورود إذن بذلك [١٩٢ ب] من قبل شارع وسانّ. فأسماؤه تعالى ، منها ما يصحّ إطلاقه عليه تسمية وتوصيفا معا ، كالعالم والقادر ، ومنها ما إنّما يجوز إطلاقه تسمية فقط ، لا توصيفا ، كالباقى والدائم ، إذا اشتقّ من الدّوام الزمانىّ ، ومنها ما لا يجوز ذلك إلّا توصيفا ، لا تسمية ، كواجب الوجود ومرادفات أسمائه الحسنى من سائر اللغات ، مثل خداى وتنگرى ودانا وتوانا. والله عليم بحقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

[١٠] تمهيد تذكيرىّ

ألست قد تعرّفت أنّ الزمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده موجود واحد شخصىّ بهويّته [١٩٣ ظ] الامتداديّة ، على ما أسّسته محصّلة الفلاسفة وأذعنت به طائفة من متفلسفتهم ، وهو الذي يأذن به الحقّ المنضبح للحكمة ، ووجوده على امتداده الاتصالىّ إنّما هو في وعاء الدهر ؛ وكذلك الحركة القطعيّة التي هو مقدار لها موجودة في شخص مجموع الزمان على سبيل الانطباق عليه ، وهي بذلك تفارق مقدارها ، أعنى الزمان ، فإنّه موجود في نفسه ، لا في زمان آخر أو في حدّ من حدوده ، وهي ذات المقدار ، أعنى الحركة موجودة في الزمان. وهذا كما أنّ المتمكّن موجود في المكان ، والمكان موجود في نفسه لا في مكان آخر ولا في حدّ من [١٩٣ ب] حدوده. ولكلّ من ذينك الممتدّين في الأعيان راسما بسيطا. والرّاسمان هما الآن السيّال والحركة التوسطيّة البسيطة المنطبقة عليه.

فهل تذعن أنّ هناك كونا في الوسط مستمرّ الذات غير مستقرّ النسبة إلى حدود المسافة ، وتقطع بذلك تلك المسافة في الأعيان على سبيل قطوع منفصلة. ثمّ ليس هناك قطع للمسافة متصل منطبق عليها. فإذن أنت لمن همج المتفلسفين. ثمّ إنّهما كما

٤٤٠