مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

ليست تدافع الأزليّة الدّهريّة ، على ما تلونا عليك في ما سلف ، لكنّا قد برهنّا على الحدوث الدّهريّ في جانب الوجود من مسالك حكميّة قويمة.

إيماض

(٣٣ ـ المسبوق بالمادّة مسبوق بالمدّة أيضا)

إنّ المسبوق بالمادّة في الوجود يجب أنّ يكون مسبوقا بالمدّة أيضا في الأعيان [٢٢ ظ]. أليس قد كان عدمه قبل وجوده قبليّة يتخلّف بحسبها البعد عن القبل في الوجود ، ويصحّ تصوّر وقوعهما في حدّين يمرّ بها امتداد. فالقبليّة والبعديّة على هذه السّنّة وإن كانتا عقليّتين ، لكنّهما بحسب وقوع الأشياء في الأعيان. فليس لهما بدّ من معروض بالذّات متحقّق في الأعيان بتّة.

وليس الجاعل والمجعول بما هما ذاتان وبما هما جاعل ومجعول ، فهما ليسا من تلك الحيثيّة بالاقتران في الوجود وبقاء الأوّل بعد الأخير ، حتى يكون بالإضافة إليه تارة قبل ، وتارة مع ، وتارة بعد ، ولا المعدوم والموجود بما لهما العدم والوجود. فالعدم والوجود بما هما عدم ووجود ، ليسا يأبيان الانعكاس بالقبليّة والبعديّة على التعاقب أو من بدء الأمر.

فإذن ليس المعروض بالذّات إلّا الكميّة المتّصلة على سبيل التّقضّى والتّجدّد بذاتها. فأجزاؤها الممكنة الانفراض متعيّنة القبليّة والبعديّة بهويّاتها ، وكلّ منها قبل وقبليّة وبعد وبعديّة بنفس ذاتها. وما عداها من الأشياء إنّما ينسب إليها ذلك النّحو من القبليّة والبعديّة بالعرض بحسب المقارنة للقبل والبعد بالذّات. فتلك الكميّة المتّصلة هي الّتي نسمّيها الزّمان والمدّة.

وبالجملة ، قاطبة الأمور الّتي هي غير الكم الغير المستقرّ بنفس ذاته حتّى الحركات لا تكون قبلا وبعدا إلّا بحسب الوقوع في جزءين أو حدّين منه. فالحركتان المعيّنتان المتعاقبتان لا يمتنع بالنّظر إلى نفس هويّتهما أن تكونا معا في وقت واحد ، أو أن تنعكسا في التّعاقب باستبدال الوقتتين ؛ بل إنّما ذلك الامتناع بحسب هويّتي زمانيهما ، لا غير.

فإذن ، قد استبان وجود الزّمان الممتدّ قبل الحادث ومعه واتّصاله بالذّات أيضا. إذ مناط القبليّة على تلك الشّاكلة إنّما هو كون القبل والبعد أجزاء هويّة متّصلة على

٤١

التّصرّم والتّجدّد بالذّات. فالامور المتفاصلة ، كالآنات ، لا تعرضها [٢٢ ب] القبليّة والبعديّة إلّا إذا كان هناك كمّ متصل لا على قرار الذّات بتّة.

إيماض

(٣٤ ـ الحركة والزّمان سابقة على الحدوث)

وهناك تبيان من مسلك آخر ، فإنّ تعاقبات الحوادث وتخصصاتها بأوقاتها المتسابقة المتلاحقة مع كون الفعّال المختار الّذي هو فاعل الحقائق وواهب الصّور (١) حكيما في وجوده ، مريدا بحكمته ، متكبّر المجد عن مصنوعاته ، مستوى النّسبة إلى مجعولاته ، ممتنع التّغيّر في ذاته وصفاته ، سرمديّ الفعليّة من جميع جهاته.

ومن المستحيل أنّ يرجّح المختار بإرادته لا بمرجّح ويخصّص لا بمخصّص ، وإلّا استلزم أن يترجّح الشّيء ويتخصّص لا بمرجّح ومخصّص. وهو فطرىّ الفساد ، إجماعىّ الاستحالة. إنّما تكاد تستتبّ لو حصلت هناك أسباب متعاقبة تهيّئ المادّة للتغيّرات وتعدّها لقبول الفيوض بالاستعدادات ، فيكون كلّ سابق علّة لاستعداد المادّة لقبول اللّاحق. فهو لا محالة واجب الانتهاء إلى اللّاحق. فلا يصحّ أنّ تكون تلك المتعاقبات آنيّات متفاصلات الوجود ، وإلّا لم يكن يجب لوجود شيء منها أن يكون متعلقا البتة بوجود الآخر ، فلم يكن السّابق واجب الانتهاء إلى اللّاحق ، فلم يكن علة معدّة له ، وإنّما تتجدّد المعدّات المتعاقبة بما له تجدّد الحدوث بذاته ، وهو الحركة.

فإذن ، لا ينتظم أمر الحدوث إلّا بالحركة المتّصلة المنحفظة التّجدّد المستمرّة الاتّصال إلى حين فيضان الحادث ، فلا حدوث في أفق التّغيّر لو لا الحركة. فقد تبيّن سبق الحركة على الحدوث واتّصالها من هذه الجهة ، فاستبان سبق الزّمان واتّصاله أيضا لانطباقها عليه بتّة.

__________________

(١) بشركاء الصّناعة يعنون ، بواهب الصّور : الجوهر المفارق الّذي هو الفعّال ، وقد عبّر عنه لسان الوحي بروح القدس. وأما أنا فلست أستحل أن يطلق «واهب الصّور» على غير الوهّاب الحقّ ، إلّا أن يقيّد بإذن الله. بحيث أذكر «واهب الصّور» على الإطلاق فإنّما أعنى به «البارئ الخلّاق. وإذا رمت العقل المفارق ، قلت : الّذي يهب الصّور بإذن ربّه ، اقتداء بالتّنزيل الكريم : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (كهيعص ، ١٩). منه ، دام ظلّه العالي.

٤٢

تنبيه

(٣٥ ـ إثبات اتّصال الزّمان والحركة من المبادى لإثبات اتّصال الجسم)

إنّ اثبات اتّصال الزّمان والحركة من ذينك المسلكين من المبادى لإثبات اتّصال الجسم ونفي جزء لا يتجزّأ في المسافة.

وربّما يبيّن الامتداد في العدم السّابق : بأنّ من الجائز أنّ يقطع [٢٣ ظ] متحرّك ما مسافة ، فيكون حدوث الحادث مع انقطاع حركته ، فتنفرض بين ابتداء الحركة وأوّل الحدوث في ذلك العدم قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ، فتكون هي متّصلة اتّصال المسافة والحركة. و : بأنّ المعدّات المتعاقبة قبل حدوث الحادث ليست آنيّات ، وإلّا لتشافعت الآنات واستلزمت أجزاء لا تتجزى في الحركة والمسافة ، وعلى هذا فاثبات اتّصال الجسم من مباديه.

تشريق

(٣٦ ـ الاستمرار يتصوّر بمقارنة الزّمان)

لعلّ من فطريّات القريحة المستضيئة : أنّ الامتداد لا يتحصّل من اللّاامتداد والمقدار من اللّامقدار. فإذن استمرار العدم أو الوجود إنّما يتصوّر بمقارنة الزّمان الممتدّ بذاته لا بمقارنة الآنات متتالية ، وكذلك أمر المقادير القارّة.

إيماض

(٣٧ ـ الاتصال الزّمانيّ مادىّ الهويّة)

أليس حيث لا تغيّر لا تجدّد وتصرّم ، ولا تغيّر إلّا لذي قوّة التّغيّر ، فإذن الاتّصال الزّمانىّ مادىّ الهويّة متعلق الوجود بحركة ، وموضوع الحركة وحقيقته كميّة الحركة المتّصلة اتّصالها المسافيّ وعددها إذا انفصلت إلى متقدّمة ومتأخّرة في متقدّمة المسافة ومتأخّرتها ، وجملة المتحرّكات مسبوقة الوجود إليه بالفيئيّة. فمحلّه أظهر الحركات الوضعيّة المستديرة ، وهي أسرع الحركات وأقدمها بالطّبع ، وحامل محلّه الفلك الأقصى ، وهو أوسع الأجرام وأقدمها طبعا.

تشريق

(٣٨ ـ الفلك الأقصى محدّد الجهات)

٤٣

فالفلك الأقصى بكميّة جرمه محدّد جهات الامتدادات القارّة ومنتهى مسالك الأبعاد المكانيّة. فليس فوق محدّب سطحيه إلّا اللّيس البحت المعبّر عنه باللّاخلاء واللّاملاء المكانيّ والمرتفع عنه في الوجود وراء ذلك كلّه ، ومحيط بالجميع على سبيل واحد وإضافة متشابهة ، وبكميّة حركته محدّد جهات التّقضّيات والتّجدّدات وأفق مذاهب الامتدادات [٢٣ ب] الغير القارّة والاستمرارات الزّمانيّة ، فليس قبل وجودها إلّا سنخ العدم الصريح المعبّر عنه باللّاخلاء واللّاملاء الزّمانيّ ، والمتقدّس عنها بالوجود أرفع من تلك الأطوار ، ومبصر وجود الكلّ معا على نسبة مستقرّة غير مختلفة وسنّة قارّة غير متبدّلة.

تشريق

(٣٩ ـ سبق المادّة في الحدوث الزّمانيّ لا في الدّهريّ)

أما عندك الآن من المنصرح : أنّ سبق المادّة على وجود الشّيء في الأعيان إنّما هو في الحدوث الزّمانيّ فقط ، لا في الحدوث الدّهريّ أيضا؟ أليس ذلك لتعاقبات الحوادث وترتّب القبليّات والبعديّات واستمرار عدم الحادث قبل الحدوث استمرارا امتداديّا. والحدوث الدّهريّ بمعزل عن تلك الأمور ، فجميع الحوادث بحسبه كشيء واحد محتشد الأجزاء في الحدوث معا في الدّهر ، بعد العدم الصّرف الدّهريّ الّذي يستحقّه طباع الإمكان ، كما يستحقّ العدم بالنّظر إلى نفس مرتبة الذّات حين الوجود بإفاضة الفاعل بحسب الحدوث الذّاتيّ. فالمادّة إنّما تتقدّم على ذى المادّة في حدوثه الزّمانيّ بالزمان وبالطّبع جميعا ، وأما في الحدوث الدّهريّ بالطّبع فقط ، لا بالدّهر أيضا. وكذلك بعض المبدعات النّوريّة على بعض وعلى الكائنات.

تعقيب

(٤٠ ـ حدوث العالم لا زمان قبله)

لا يزعجنّ الشكّ سرّك : أنّ حدوث جملة العالم في الدّهر بعد العدم يستوجب وجود الزّمان قبل وجوده. أما تحققت أنّ الزّمان مقدار استمرار التّغيّر ، وهو التّقضّي والتّجدّد؟ فإذا استمرّ تغيّر ، أي : تقضّ وتجدّد ، استوجب وجود الزّمان بتّة. ولا تغيّر

٤٤

في الحدوث الدّهريّ ، فضلا عن استمرار التّغيّر. فلم يكن في كتم العدم (اللّيس ب) الباتّ ومتن الانتفاء البحت شيء يتغيّر من صرف العدم إلى صريح الوجود ، وينتقل من اللّاشيئيّة إلى الشّيئيّة ، ويتوارد عليه اللّيسيّة والأيسيّة ، فيتقدّر ذلك التّغيّر ويتعلّق ذلك الانتقال بزمان [٢٤ ظ] أو آن.

إنّما ذلك ظنّ حزب الوهم ، وحسبان أمّة الطّبيعة وليس في العدم ما ينتقل من اللّيس إلى الأيس. بل الجاعل الحقّ المتقدّس عن شوب التغيّر ووصمة الانتقال ، قد فعل قاطبة الذّوات من المبدعات والكائنات في وعاء الدّهر ، دفعة واحدة دهريّة ، لا دفعة متقدّرة زمانيّة ، فشغل أيسها حيّز اللّيس ، وأبطل تحقّقها صدق عقد العدم مطلقا ، لا عن حدّ الوجود فقط ، لكنّها في أنفسها بحيث إذا لا حظها العقل المرتضع من ثدي الحكمة ، حكم أنّها مجعولة من تلقاء الجاعل ، وقد أخرجت من جوف العدم الخالص وجوّ اللّيس البحت ، إذ لم يكن في الوجود إلّا الجاعل.

ذنابة

(٤١ ـ أقسام المجعولات)

إنّ المجعولات ، منها : ما لا يصحّ له في وجوده انتقال من حال إلى حال ، فهو فعل محض وثبات صرف ، لا يتعلّق بحسب وجوده في نفسه بالزّمان أو الآن ، كما لم يتعلّق بذلك بحسب وجوده ، بالقياس إلى الجاعل وصدوره عنه. ومنها : ما له في وجوده أن يتغير ، فينتقل من شأن له بالفعل إلى شأن له بالقوّة ، أو بالعكس ؛ وهذا القبيل يتعلّق ، لا محالة ، بحسب وجوده في نفسه ، بزمان أو آن ، وبمادّة أو موضوع ، وإن لم يكن بحسب وجوده بالقياس إلى الجاعل متعلّقا بذلك ، فلذلك كان له مدّة في نفسه ، ولم يكن بينه وبين الجاعل مدّة ، وله في نفسه مادّة ؛ وليس بحسب صدوره عن الجاعل ووجوده بالقياس ، أي : حضوره بذاته عنده تكتنفه غواشي المادّة. فلذلك لم تكن ماديّته وزمانيّته بهذا الاعتبار ، بل بحسب اعتبار ذاته في ذاته.

تتمة

(٤٢ ـ اقسام الجائزات والممكنات)

٤٥

إنّ من الجائزات : ما بحسب جوازه الذّاتيّ تامّ الصّلوح لقبول الفيض ؛ فإن لم يكن متعلّق الهوية بالمادّة [٢٤ ب] ، كالجواهر العقليّة ، كان له البداية الإبداعيّة الدّهريّة ؛ وإن كان متعلّق الوجود بالمادّة ، كحركات الأفلاك وكصورها الطبيعيّة ، كان له البداية الاختراعيّة الدّهريّة. ومنها : ما ليس يتمّ له صلوح قبول الفيض بالفعل إلّا بالإمكان الّذي به معنى الاستعداد ، وهو الكائن ؛ وله بحسب حدوثه في الدّهر بداية اختراعيّة دهريّة ، وبحسب حدوثه في الزّمان بداية تكوينيّة زمانيّة.

فالحوادث مبدعات ومخترعات ومكوّنات. والجعل والتأثير إحداث في الدّهر وهو إما الإبداع أو الاختراع ، وإحداث في الزّمان وهو الصّنع والتكوين. وأفضل الضّروب : الإبداع ، فإنّه تأييس مطلق عن ليس مطلق. والأجدر باسم الإبداع : هو جعل نفس الماهيّة جعلا بسيطا. فلعلّ هذا نصاب العلم وأمد الحكمة. والحمد لله ربّ العالمين ، واهب العقل وولىّ العصمة.

٤٦

السّقاية الثّالثة

فيها إثبات الهيولى الأولى الدّاخلة في تجوهر الجسم ،

والحاملة لتكوّن الكائن وفساد الفاسد

إيماض

(١ ـ موضوع العلوم في العلم الأعلى)

إنّما النّظر في تقرّر الحقائق وأحوال كلّ حقيقة في نحو وجودها على ذمة «العلم الّذي فوق الطبيعة» ، ولا شغل لذمم العلوم الجزئيّة بشيء من ذلك أصلا ، فضلا عن نفس موضوع وأجزائه. بل إثبات موضوعات جملة العلوم بأسرها على «العلم الأعلى» ، إذ موضوعه مطلق الحقيقة المتقرّر بما هي حقيقة متقرّرة ، بخلاف سائر العلوم. فإثبات الهيولى والصّورة وخواصّهما ليس من الحكمة الطبيعيّة ، بل من «الحكمة فوق الطبيعة». وكذلك [٢٥ ظ] : هل الجسم متألّف من أجزاء لا تتجزّى أم لا؟ بل ممتدّ متّصل ، فتلك من أحوال الجسم بما هو متقرّر ، لا من حيث هو واقع في التّغيّر ، أو مشتمل على المادّة ، أوله طبيعة.

وإنّما المتعلق بالطبيعيّات ما يستدل به على وجوده بالبيانات الطبيعيّة ، من جهة حركاته وقواه وأفعاله. فأمّا القول في التناهي واللاتناهي فعلى سبيلين : من جهة المقدار والجسم من حيث هو جسم ، ومن جهة أحوال الجسم من حيث هو متحرّك أو ساكن ، ومن حيث أفعاله وتأثيراته ، وبالجملة الأخيرة من علم الطبيعة وفي السّماع الطبيعيّ.

إيماض

(٢ ـ الجسم الطبيعيّ محسوس من جهة عوارضه)

إنّ الجسم الطبيعىّ ليس بمحسوس صرف أو معقول صرف ، بل هو محسوس من

٤٧

جهة عوارضه ، معقول من جهة ذاته ؛ فالحسّ ينال أعراضه ، كالسطوح والألوان والأشكال مثلا. فإذا أدّاها إلى العقل حكم بوجوده موضوعا لها ، فلذلك استغنى عن الإثبات ، لا لكونه محسوسا في ذاته.

فلمّا استبان بطلان متحيّز بالذّات لا يتجزّى أصلا ، ضرورة أنّ ما منه إلى جهة ما غير ما منه إلى سائر الجهات بتّة ، بان أنّ بين سطوح الجسم الفارد جوهرا متصلا بذاته ، ثخينا ممتدا بجوهره في الأبعاد ، منبسطا في الامتدادات ، وهو بجوهر ذاته يقبل القسمة لا إلى نهاية ، وما يخرج إلى الفعل من انقسامات في طباعه قوّة قبولها متناهية العدد بالفعل ، غير متعيّنة ، مرتّبة التناهي بالوقوف عند نهاية أخيرة لا تتعدّاها. وكذلك شاكلة جملة المتّصلات من المقادير القارّة ، والمقدار الغير القارّ ، والحركات القطعيّة المتّصلة. فعلى ذلك اتّفاق الرّاسخين وإجماع المحصّلين.

إيماض

(٣ ـ الهيولى الاولى ولها قوّة القبول)

ثمّ اختلفت فئون من الأواخر [٢٥ ب] والأوائل ، فصارت المشّائية وقرمهم ومقرمهم أرسطوطاليس إلى أنّ هناك جوهرا آخر ذا وحدة شخصيّة مبهمة ، طباعه قوّة قبول الاتّصال والانفصال ، وفعليّة استعداد حمل الصّور ، ولا نهاية قوّة الانفعال ، يحلّه الجوهر المتّصل ، فيتجوهر منهما الجسم ، وهو الهيولى الاولى الباقية بشخصيّتها في الاتّصالات والانفصالات. والجوهر المتصل غير منحفظ الوجود الشخصىّ ، بل متبدّل التشخّص ومتوارد الأشخاص عليها.

والرواقية والإشراقية وإمامهم وعصامهم أفلاطون الإلهيّ : إلى أنّ الجوهر المتصل هو نفس حقيقة الجسم ، وهو المحفوظ بهويّته الشّخصيّة في الاتّصال والانفصال ، أي : الوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة ، وهما عرضان متواردان عليه في وحدته الشّخصيّة المستمرّة الانحفاظ بعينها أبدا.

وبالجملة ، كلّ ما يقال في الجوهر المبهم بالقياس إلى الصّور الجوهريّة ، يقال فيه بالقياس إلى الأعراض المتبدّلة ، ولا تزول الصّورة الشّخصيّة الجوهريّة. ولا هناك جوهر آخر أصلا. فهذا تحديد حريم المتنازع فيه ، فلنرصد الحقّ بالنظر الغائر والفحص البالغ.

٤٨

إيماض

(٤ ـ الاتّصال على أقسام)

إنّ «الاتّصال» يقع في الصّناعة على معنيين ، باشتراك اللّفظ : إضافىّ لا يعقل إلّا بين شيئين ، متّصل ومتّصل به ، ويطلق على كون المقدار متّحد النهاية بمقدار آخر ، وعلى كون الجسم بحيث يتحرك بحركة جسم آخر ؛ وحقيقىّ يوصف به الشّيء لا بقياسه إلى غيره. وهو أيضا بمعنيين : أحدهما نفس متّصليّة الشّيء ، أي : كونه بذاته مصداق حمل الممتدّ في الأبعاد عليه ، فبحسبه جوهر الذّات متّصل واتصال باعتبارين ، والمتّصل بهذا المعنى هو صورة الجسم الطبيعىّ وفصله [٢٦ ظ]. والآخر كون الشّيء في ذاته بحيث يصحّ تحليله إلى أجزاء وهميّة متشاركة في حدود مشتركة. والمتّصل بهذا المعنى فصل الكم ولازم للمتّصل الّذي هو صورة الجسم في الوجود.

إيماض

(٥ ـ الجسم الطبيعى وأحكامه)

إنّما للجسم الطّبيعىّ ، بما هو جسم طبيعىّ ، أن يكون سنخ طبيعته وجوهر ماهيّته ممتدّا في الجهات الثّلاث على الإطلاق. فهذا له في مرتبة ذاته ، لأنّه من مقوّمات ماهيّته. وليس له من تلك الحيثيّة أن يتعيّن البتة تماديه فيها باللّانهاية أو بالنهاية ، وبامتدادات بخصوصها في النهاية. بل التناهي عارض يلزمه في الوجود ، لا في التّوهّم. وتخصّص الامتدادات أمر يلحقه بعد مرتبة الذّات بخصوصيّات لاحقه. فجسم لا يخالف جسما بحسب الاتّصال الذّاتيّ الجوهريّ بالمفاوتة بالعظم والصّغر والكليّة والجزئيّة.

ثمّ إذا اعتبر تعيّن الامتدادات ، لحق إمكان انفراض الأجزاء المشتركة في الحدود المشتركة ، وعرض الاتّصال بالمعنى الّذي هو مبدأ فصل للكم ومصحّح قبول المساواة والمفاوتة. وهذه المرتبة هي الّتي يقال لها الجسميّة.

فإذن ، الجسم التعليمىّ مرتبته تعيّن امتدادات الجسم الطّبيعيّ وليس هناك ممتدّان بالذّات : جوهريّ وعرضىّ ، بل إنّما الممتدّ بالذّات الجوهر المتّصل ، وليس له بحسب تلك المرتبة أن يكون ممسوحا. فإذا تعيّن في تماديه فصحّ أن يمسح بكذا كذا مرّة أو مرّات غير متناهيّة إن توهّم لا متناهيا ، كان جسما من باب الكميّة التعليميّة.

٤٩

وكذلك السطح قد يلحظ بما هو الممتدّ في بعدين فقط على الإطلاق ، ولا يتعلّق به القدر والمساحة ، وقد يعتبر بما يعرضه تعيّن الامتداد ، فيكون ممسوحا ، لكنّه بكلا الاعتبارين خارج عن حقيقة الجسم وعرض من أعراضه. بخلاف الممتدّ في الأبعاد الثّلاثة ، فإنّه بالاعتبار الأوّل [٢٦ ب] مقوّم حقيقته وبالاعتبار الأخير من عوارض ذاته.

إيماض

(٦ ـ الجسم الطبيعىّ لا يتبدّل)

فإذن الجسم الطبيعىّ (التعليميّ ل) حقيقته مقدار الجوهر الممتدّ في تعيّن امتداداته ، فليس يمكن أن يفارقه في التّوهّم. لكنّهما يفارقان المادّة في الوهم ، فيلحظان لا بالتفات إلى المادّة. وأمّا بحسب الوجود فالتعليميّة في الجوهريّة الممتدّة ، وهي في المادّة البتة.

ثمّ تبدّل أشكال جسم بعينه ، كالتّكعيب والتّدوير على الشّمعة الواحدة ، ليس يستوجب تبدّل الجسم التعليمىّ بشخصه ، كما ليس يستوجب ذلك في الجسميّة الطّبيعيّة. إنّما المتغيّر هناك مقدار ذهاب الجوانب في الجهات ، لا مقدار شخص الجسم بهويّته. فما ينقص من بعض الأقطار يزداد بإزائه في بعض آخر ، ومقدار الكلّ ثابت على شخصيته غير متغيّر في المساحة.

إيماض

(٧ ـ الجوهر المتّصل)

ليس يتصوّر أنّ يعرض المقدار ما ليس بمتّصل في ذاته. فالاتّصال بالذّات مصحّح كون الشّيء معروض المقدار ، فالمقادير القارّة عارضة للجوهر المتّصل بالذّات ، والحركة متّصلة من جهة المسافة ، وبحسب اتّصالها المسافيّ صالحة لأن تتكمّم بالزّمان وتتقدّر به. فإذن جملة المقادير منتهية إلى التّعلّق باتّصال الجوهر المتّصل بالذّات أخيرا.

إيماض

(٨ ـ قسمة للأجزاء المقداريّة)

ضروب القسمة إلى الأجزاء المقداريّة : انفكاكيّة تحدث اثنينيّة بالفعل في الأعيان ، ووهميّة جزئيّة لا تخرج إلى الفعل في التوهّم إلّا جزئيّات ، متناهية العدد بالفعل

٥٠

منقسمة بالإمكان لا إلى نهاية ، وفرضيّة عقليّة كليّة ، تستوعب جملة الأجزاء الممكنة الانفراض بلا تناه بالفعل في لحاظ العقل ، ولكن على الوجه الإجماليّ البسيط. والافتراق في الانفكاكيّة بالكسر والقطع. وأمّا اختلاف عرضين قارّين ، مثلا ، كما في البلعة ، فليس منه الافتراق في الأعيان ، بل يستوجب افتراض [٢٧ ظ] الانفصال في الوهم بحسب عروضهما بالفعل في الأعيان.

والقسمة بضروبها إنّما ترد على الجوهر المتّصل في درجة جسميّته التّعليميّة. إلّا أنّ الافتراقيّة الفكيّة تلحقها لاستعداد المادّة ، وهي الّتي تقبلها وتنحفظ معها ، وليس لنفس الكميّة تهيّؤ قبولها ، فهي بالحقيقة من عوارض المادّة ، وإن كانت الكمية قد هيّأتها لقبولها. والوهميّة الجزئيّة تلحقها لنفس مقداريّتها. فهي من عوارض المقدار التّعليميّ ، بحسب نفس مرتبته.

وأمّا الافتراضيّة العقليّة الكليّة ، فإنّها وإن لحقت المقدار التّعليمىّ ، لكن مصحّح اللّحوق ومناط الصّلوح مطلق الامتداد الّذي هو شأن نفس الجوهر المتّصل في مرتبة الذّات مع عزل اللّحظ عن التعيّنات.

وشعوب الأجسام في قبول ضروب الانقسام على شاكلة واحدة ، ولكن بما هي أجسام. فإن اتّفق أن كان جسم ما ، كالفلك ، مثلا ، بحيث تلزمه في الوجود أبعاد بعينها. فيتأبّى الافتراق الفكّيّ ، فليس ذلك له بما هو جسم ومن تلقاء سنخ طباع الجسميّة ، بل لطبيعة أخرى حافظة لكمالاته الثّانية. والمقدار الغير المستقرّ ، أعني الزّمان ، أيضا ليس يقبل الافتراق في الخارج ، بل إنّما الضّربين الأخيرين في الوهم فقط ، لا لأنه مقدار ، بل لخصوص حقيقته ولوجوب اتّصال الحركة الّتي هي محلّه على الدوام والاستمرار من قبل النّفس الّتي لحاملها.

إيماض

(٩ ـ الأجزاء المقداريّة)

إنّ اسم الجزء يقع على ما يتركّب منه الشّيء وعلى ما يقسم إليه وإن لم يكن تركّبه منه ، كالجزء المقداريّ. فالأجزاء المقداريّة أجزاء المتّصل بحسب الانفصال والانحلال إليها ، وليست هي أجزاء جوهر الماهيّة ، بل إنّما جزئيّتها بالنّسبة إلى الهويّة

٥١

الشّخصيّة ، وهي لا تحصل إلّا بعد حصول الكلّ. فلذلك ليست هي أجزاء على الحقيقة ، بل على المسامحة والتّشبيه. وهي متوافقة [٢٧ ب] وموافقة للكلّ في الماهيّة ، ومتشاركة في الاسم والحدّ.

إيماض

(١٠ ـ وجود الأجزاء المقداريّة)

أليس [من] فطريّات القريحة الصحيحة أنّ الموجود ، كما يستحيل أن يكون تركّبه من المعدوم الصرف ، كذلك يستحيل أنّ يكون انحلاله إلى المعدومات الصرفة. فالأجزاء المقداريّة لها نحو من الوجود في الأعيان بتّة ، أفكيف تكون ليسيّات صرفة ، وربّما تقع موضوعات لموجبات عقود خارجيّة صادفة ، كما إذا تسخّن بعض متّصل ما وتبرّد بعضه ، مثلا ، وليس يصحّ أنّ تكون مفروزة الوجود عن الكلّ. أفيعقل الاتّصال الواحدانيّ وهناك ذوات متوازرة متباينة ، فهي لا محالة موجودة بعين وجود الكلّ ، لا من حيث هي برءوسها اتّفق أن كان لها في الأعيان وجود واحد كما هو سنّة الطبائع المحمولة ، بل من حيث إنّها أبعاض ذلك المتّصل الّذي هو موجود واحد برأسه. فإذن ، وجودها في الأعيان بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. ثمّ إذا طرأ الانفصال شوهدت ذوات متباينة ، فيكون الوجود هناك قد تعدّد بالضّرورة.

وبالجملة ، الوجود هو نفس الموجوديّة المصدريّة وليس يتصوّر له تخصّص وتكثّر إلّا بالإضافة إلى موضوعات متكثّرة ، فهما اتّحدت الذوات توحّد الوجود ومهما تباينت تكثّر. فإذن ، الاتّصال والانفصال مصيرهما إلى توحّد الوجود وتكثّره. ففصل المتّصل تكثير الواحد ، ووصل المنفصلين توحيد الكثير ، فالقسمة بالحقيقة تحويل الوجود الواحد إلى وجودات متكثّرة. ومن هناك يتبرهن أنّ الواحد بالاتصال لا يختلف بالحقيقة ولا يتصل ما لا يتشابه بالطّبيعة. فالمتصل الواحد أجزاؤه المقداريّة جميعا ، بل قاطبة المتّحدات في الوجود متحدة بالماهيّة متشابهة بالطّبيعة بتّة [٢٨ ظ].

إيماض

(١١ ـ هويّة الشّيء وتعيّنه)

هل قرع سمعك قول شركائنا الذين سبقونا بالصناعة : «هويّة الشّيء وتعيّنه ووحدته

٥٢

وتشخّصه وخصوصيّة وجوده المنفرد له كلّها واحد». فهو الحقّ وعليه الفتوى. لست أقول: التشخّص بعينه هو الوجود بالحمل الأوّليّ الذّاتيّ ؛ بل إنّ تشخّص الشّيء من جهة نحو وجوده الّذي يخصّه العقل به ، ممتازا عن وجودات الأشياء ، مباينا في الحمل ، بما له من الخواصّ واللوازم والأعراض اللاحقة الّتي هي أمارات الوحدة الشّخصيّة من تلقاء اقتضاء جوهر الماهيّة أو بحسب استعداد المادّة. وإنّما مبدأ شخصيّة نحو الوجود ، أي امتناع حمله على كثيرين ، ارتباطه بالموجود الحقّ المتشخّص بنفس ذاته ارتباطا خاصّا يجهل كنهه ويعلم خصوصه بالبرهان. أليس العقل الصّريح الّذي لم يكدر بصحابة الطّبيعة يحكم أنّ الكليّات المتضامّة متناهية وغير متناهيّة ، ككلّ واحد في عدم إفادة الشّخصيّة. فلو كان لكلّ شيء ماهيّة كليّة لاستحال حصول الجزئيّة. فشيء ممّا يقع تحت مقولات الجائزات لا تكون بحسبه الشخصيّة. فإذن ، شخصيّة الأشياء بالمشيّئ المبدع المتشخص بالذّات ، كما وجودها ووجوبها به.

وتشخّص الشّيء هو نحو وجوده الّذي يخصّه العقل به فائضا عن مبدعه. فإن كان من الأنوار المفارقة كان جوهر حقيقته بحسب جوازه الذّاتيّ صالحا لقبول التشخّص والوجود من جاعله ، فهو بذاته يفعل ماهيّته وشخصيّته ؛ وإن كان ممّا كونه للمادّة ، فتهيّؤه للقبول بحسب ما يستأنف لمادّته من الاستعداد. وبالجملة ، تعدّد الوجود تكثّر الأشخاص الموجودة ، وتوحّده توحّد الشّيء بالشّخصيّة. فإذ ، الاتّصال والانفصال توحّد الوجود وتكثّره ، فالوحدة الاتّصاليّة ، لا محالة ، مساوق الحصول للوحدة الشّخصيّة ، والكثرة الانفصاليّة للكثرة الشّخصيّة. فإذن ، قسمة المتصل مطلقا تحويل الوحدة الشّخصيّة [٢٨ ب] إلى الكثرة الشّخصيّة.

فقد استبان : أنّ الأجزاء المقداريّة متأخّرة عن الكلّ في الوجود ، والصّورة الاتّصاليّة ، ممتنعة البقاء مع طروء الانفصال ، سواء كان ذلك في الأعيان أو في الوهم.

تنبيه

(١٢ ـ أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات)

فالجسمان ليس شيء منهما بجزء جسم ما إلّا على سبيل الفرض ، لا بالفعل. وأمّا الشّجرة ، مثلا ، فجسم واحد بالطّبع ، لا وحدة مقداريّة ، بل على نوع آخر. فالنار جزء ،

٥٣

من شجرة واحدة ، لا من جرميّة واحدة ومن مقدار واحد ، فليتحرّز من أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات.

تشريق

(١٣ ـ التشخّص وحكمه)

تعالوا أتل عليكم ما علّمنى ربّى من أمر «التشخّص». لعلّ لبّ القول وكنه المسألة أنّ النظام الجمليّ لعالم التقرّر بشخصيّته الّتي هو عليها أكمل النّظامات الممكنة ، ومن المستحيل بالذّات نظام آخر فوقه أو في رتبته بحسب الكمال ، ولك علينا تبيانه من ذي قبل إن شاء الله تعالى. فعناية البارئ الجواد ، عزّ اسمه ، إذ هو تامّ وفوق التمام ، قد أوجبت أن يفعله بذاته. فإذن ، النظام الجمليّ الواقع بنفسه مرتبط بالمبدع الحقّ. وهو ، سبحانه ، بنفس ذاته لا بتوسط أمر ما ، إذ لا خارج أصلا ، فاعله ومقتضيه ، فالنظام الوحدانىّ الجمليّ مرتبط بوحدته وهويّته بالواحد الحقّ المتشخّص بذاته ، فهو ، لا محاله ، موجود شخصيّ بالذّات ، ونحو وجوده فائضا عنه سبحانه هو تشخّصه ومبدأ شخصيّته.

وأمّا وكلّ من أجزاء نظام الكلّ من المفارقات والهيولانيّات فيتشخّص بالصّدور عن جاعله جزءا من النظام الجمليّ الواحد بالشخص. أفيتصوّر جزء الشّيء الشّخصيّ المتميّز عن سائر أجزائه في الوجود بما هو جزؤه الخاصّ المتميّز إلّا شخصيّا.

فإذن ، الأشياء إذا انبسطت وتفاصلت في لحاظ العقل وبانت عن المبدأ الأوّل ، صحّ تعليق [٢٩ ظ] البعض بالبعض. فيقال في بادي اللّحظ : هذا من ذاك ، ولأجل ذلك ابتداء بلا واسطة ، وإن انتهى الاستناد إليه ، سبحانه ، أخيرا بالضّرورة البرهانيّة.

وأمّا إذا لوحظت جملتها بحسب النظام المتّسق الجمليّ الواحد ، فليس هناك إلّا موجود واحد بالنظام ، متكثّر بالتأليف ، مستند بجميع أجزائه إلى الجاعل مرّة واحدة ، ومتشخص به ، فيكون هو الفاعل والغاية على الإطلاق ، وهو الوجود والتشخّص القائم بالذّات ، ولا وجود ولا تشخّص ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم. فهذا سرّ عظيم ربوبىّ قد انساق القول إلى تقديمه على حيّزه ، وأوصيكم بصونه إلّا عمّن يستأهله بسعة تعقّله واستضاءة سريرته.

٥٤

إيماض

(١٤ ـ الوحدة الشّخصيّة)

أليس قد آن لك أن تتعرّف أنّ الوحدة الشّخصيّة تختصّ من بين أنواع الوحدة بأنّها ليست بحيث يمكن أن يزول عن موضوعها ، فتتعقّب عليه الكثرة الشخصيّة المقابلة ، بل هي ومقابلتها ممتنعتا التعاقب على موضوع واحد. أعني : أن كلّ واحدة منهما بطباعها تتأبّى إلّا أن يكون زوالها بزوال المعروض. إنّما احتمال التوارد شاكلة سائر أنواع الوحدة والكثرة ، فقد دريت أن الوحدة الشّخصيّة مساوق الوجود. ومن المتهافت أن يبطل نحو وجود الشّيء وتستمرّ ذاته ، فلا يتصوّر توارد وجودات على شيء ما بعينه بحركة ولا لا بحركة.

وأيضا الوحدة الشخصيّة مفهومها عدم الانقسام إلى الجزئيّات ، كما الوحدة الاتّصاليّة مفهومها عدم الانقسام بالفعل إلى الأجزاء المقداريّة. فإذا أمكن زوالها عن الموضوع مع استمرار الذّات بتعقّب الكثرة الشّخصيّة المقابلة لصحّ صيرورة الجزئيّ كليّا. وهذا أصل ليس يستنكره أحد من حزب الحقيقة [٢٩ ب].

تشريق

(١٥ ـ التعاقب والتبادل)

تحققن : أنّه لا فرق هناك في الاستحالة بين التعاقب التعقّبيّ من بعد الحصول والتبادل

الابتدائيّ من بدء الفطرة ، فالبيانان ناهضان في الصّورتين ؛ بل إنّ كون الشّيء بحيث لا يأبى أن يكون له في ابتداء الفطرة هذا النحو من الوجود أو ذاك ، وحقيقة الجزئيّة أو طبيعة الكليّة أشهد بفساد نفسه من الّذي على سبيل التعاقب.

ثمّ لو كان لمفهوم ما صلوح أن يكون من أوّل الفطرة إمّا على طباع إمكان تكثّر الأشخاص أو على طباع امتناع الحمل على كثيرين ، كان إنّما له بحسب الذّات الطباع المشترك دون شيء من الخصوصيّتين. فيكون كلّ من الأمرين بخصوصه له ، لا بنفس الذّات ، بل بمقتض من خارج. فيكون الجزئيّ جزئيّا لا بالذّات بل بعلّة ، والكلّيّ كليّا لا بالذّات بل بعلّة ، ولعلّ تسويغ ذلك إثم مبين.

٥٥

سياقة

(١٦ ـ كلّ جسم فارد متحصل الذّات من جوهرين)

أما تهيّأت الآن لسلوك السّبيل بالبرهان ، أليس إذا انفصل جسم فارد أو اتصل جسمان فاردان ، تبدّل نحو وجود جوهره المتّصل بالذّات ، فزالت وحدته الشخصيّة ، فانعدمت ، لا محالة ، ذات موضوعها ، أعني شخص الجوهر المتّصل بالذّات. فإذن ، لو لم يكن يبقى جزء آخر جوهريّ من شخص الجسم ، لكان عند الانفصال يبطل بالمرّة ، وذلك نسخ حكم العقل وفسخ إجماع الفريقين. فإذن ، كلّ جسم فارد متحصّل الذّات من جوهرين ينعدم أحدهما بشخصيّة هويّته وينحفظ وجود الآخر مستمرّا بوحدته الشّخصيّة ، وهو الهيولى الأولى.

تشريق

(١٧ ـ الاتصال لا يقبل الانفصال)

وبما أريناك السبيل بزغ النهج إلى أن يستتمّ مسلك الشركاء السالفين أيضا. وهو أنّ الاتّصال لا يقبل الانفصال ، ولا في قوّته ذلك ، إذ هو عدمه ، والشّيء لا يقبل عدمه ، ولا [٢٩ ظ] نفسه ، إذ لا يعقل كون الشّيء قابلا لنفسه. فإذن ، لا بدّ من القابل للاتّصال والانفصال قبولا يكون هو بعينه الموصوف بالأمرين.

ويزاح تشكيك المستنكرين : «أنّ الاتّصال بالمعنى الإضافىّ يقابله الانفعال. وأمّا بمعنى الطّبيعة الجوهريّة الممتدّة بنفس ذاته في الأبعاد ، فليس يتأبّى الاتّصال والانفصال والوحدة والتّعدّد.» فالغلط من اشتراك اللفظ بأنّ الانفصال عدم الاتّصال الإضافيّ ومستوجب انعدام الاتّصال الجوهريّ الواحد بالشخص ، لأنّه مساوق زوال الوحدة الشّخصيّة أيضا ، لا مناط انتفاء الوحدة الاتّصاليّة فقط. فالاتصال الحقيقيّ الواحد بالشخص أيضا ليس يقبل الانفصال والاتّصال الإضافيّين بين أجزائه المقداريّة ، فالتخبّط من نقص الفحص وسوء الاعتبار. وأمّا أنّ الأعدام لا تستدعي ثبوت محالّ تقبلها فإنّما يصحّ مطلقا في السّلوب الصّرفة لا في أعدام الملكات ، إذ لها حظّ ما من الثبوت إلّا إذا لوحظت بما هي أعدام.

٥٦

إيماض

(١٨ ـ الأجسام الذّيمقراطيسيّة)

حوول استنهاض التبيان في الأجسام الذّيمقراطيسية : بأنّ القسمة الوهميّة أو الفرضيّة أو الّتي باختلاف عرضين قارّين أو إضافيّين تحدث في كلّ من تلك الأجسام كثرة متشابهة للكلّ في الطّباع ، وإن كان حصولها على الانفراز بالفعل في الذّهن ، والأفراد المتشابهة بالماهيّة متضاهية في الأحكام بحسب جوهر الحقيقة.

فإذ تلك الأجسام مفترقة الذّوات متفارزة الوجودات في الأعيان بحسب الذّات فما ينحلّ إليه كلّ منها من الأقسام الذّهنيّة صحيحة الافتراق فى الأعيان بحسب الذّات بتّة وإن صدّها عن ذلك عروض صوادم من خارج. فإذن ، قبول القسمة الوهميّة بالفعل يكشف قوّة قبول القسمة الافتراقيّة ، فيتمّ نفاذ حكم البرهان.

وكذلك [٣٠ ب] ، إذ الأقسام الذهنيّة من كلّ من تلك الأجسام موجودة في الأعيان على وصف الاتّصال ، فتلك الأجسام أيضا غير مستنكفة بحسب طباعها عن قبول الاتّصال في الأعيان بتّة ، وإن عاقها عن الالتحام بالفعل لحوق عوائق خارجة. فإذن ، اتّصال كلّ واحد واحد من تلك الأجسام الصغار بالفعل في قوّة قوّة كلّ اثنين منها على قبول الاتّصال ، فينتهض البرهان من هذا السّبيل أيضا.

وأمّا ابتناء ذلك كلّه على كون تلك الأجسام متفقة بالطّبيعة فممّا لا يستضرّ به ، إذ ليس النّظر في الجسم البسيط الفارد ، فكيف تأتلف من طبائع مختلفة على أنّ من يختلق هذا القول يقول بتشابه الطّبيعة. ثمّ لو كان هناك اختلاف بالطّباع لم يكن من تلقاء طبيعة الامتداد الّذي هو الجوهر الممتدّ ، فهي في نفسها واحدة وإليها النّظر في الاتّصال والانفصال، بل هي طبيعة نوعيّة محصّلة.

تشريق

(١٩ ـ انفصال الأجسام)

كأنّك بما آتيناك مستسهل ما عضّل عليهم الأمر أنّ للأجسام الذّيمقراطيسيّة انفصالا خلقيّا ، وكلّ منها متّصل اتصالا من بدء الفطرة. فمقتضى كون كلّ ما لفرد ما من أفراد الطّبيعة بالفعل لسائر الأفراد بالقوّة بحسب نفس الطّبيعة ليس إلّا إمكان الاتّصال

٥٧

الفطريّ لها بدلا عن الانفصال ، والانفصال الفطريّ لكلّ واحد منها بدلا عن الاتّصال من ابتداء الخلقة لا على سبيل التعاقب ، ومناط انتهاض البرهان قوّة قبول الانفصال والاتّصال الطاريين دون الخلقيّين.

أمّا تحقّقت : أنّ الوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة في قوّة الوحدة الشّخصيّة والكثرة الشّخصيّة بحسب الاستلزام في التّحقّق. لست أقول بحسب المفهوم. والوحدة الشّخصيّة ومقابلتها مصطدمتان في إمكان التّوارد على معروض واحد تعقّبيّا وتبادلا ابتدائيّا. فإذن ، التبيان ينتهض بلا امتراء فيه قطعا [٣١ ظ].

إيماض

(٢٠ ـ القسمة الوهميّة)

أليس قبول القسمة الوهميّة مساوق قوّة قبول القسمة الافتراقيّة في الأعيان بالنّظر إلى نفس الطّبيعة الامتداديّة بما هي هي. فالصورة الجرميّة الممتدّة بذاتها ليست بحسب نفس طبيعتها تأبى قبول الانفصال الانفكاكيّ ، وإن صدّها عن فعليّة الانفكاك صادّ خارج عن طباعها ، لازم كالصّورة النوعيّة الفكيّة ، أو زائل كالصّلابة والصّغر في بعض الأجسام ، مثلا. فلو لم يكن هناك صلوح لقبول الانفكاك في نفس الأمر وقوّة عليه بحسب طباع الجسميّة ، كان توهّم الانفصال من الأوهام الاختراعيّة كفرض انقسام الجواهر المفارقة.

ومن المستبين : أنّ الانفصال الوهمىّ من الفروض الانتزاعيّة ، ولا سيّما إذا فرض عرض سار في بعض الفلك بحسب الأعيان ، وآخر سار في بعضه الآخر. فإذن ، نهوض التبيان في الأجسام برمّتها فلكيّة وعنصريّة على سبيل واحد.

إيماض

(٢١ ـ الهيولى وما تقوم به)

إذا استبان وجود ما له قوّة قبول الوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة ـ وهو الهيولى الاولى ـ فمستبين : أنّ ما به تقوم تلك القوّة لا يصحّ أن يكون من الأمور البائنة عن الصّور الجرميّة ، بل يجب أنّ يكون من مقارناتها بتّة. فالهيولى إمّا أنّها حالّة في الصّورة الجرميّة ومن المستحيل أن يبقى الحالّ مستمرّا فتترادف عليه أفراد المحلّ ،

٥٨

وإمّا أنّها محلّها ، وهو الحقّ. وأيضا هي ناعتة للجوهر الباقي ، والمنعوت ، لا محالة ، محلّ للناعت ، لكنّها ليست طبيعة ناعتيّة بحسب نفس ماهيّتها المرسلة ، فتلك شاكلة الأعراض. بل إنّما ناعتيّتها بحسب هويّتها الشّخصيّة فحسب.

والصّورة الجرميّة طبيعة نوعيّة قد تمّ تحصّلها ، وإنّما بقي لها أن تختلف بالخارجات عنها ، كمشخّصاتها من الأعراض ومقارناتها من الصّور النّوعيّة ، لا بالفصول المضمّنة في طبيعة الجنس متحدة [٣١ ب] معها في الوجود وفي اللحاظات ، اللهمّ إلّا في لحاظ التّعيّن والإبهام. فهناك يلحظ تمايز ما ، لا على أنّها أمور لحقتها من خارج.

ولعلّ الغريزة العقليّة تحكم أنّ أفراد الطّبيعة المحصّلة ، كما لا تختلف بالعرضيّة والجوهريّة ، فكذلك لا تختلف بالحلول واللاحلول. فإذن ، طبيعة الصّورة الجرميّة بهويّاتها الشّخصيّة لا يصحّ أن تختلف بالقياس إلى الهيولى بالاستغناء والفاقة ، بل هي سواسية الأفراد في الافتقار إليها لتقوم فيها بالهويّة الشّخصيّة ، فلكيّة كانت أو عنصريّة.

إيماض

(٢٢ ـ تشخّص الهيولى)

أليس قد بان لك أنّ الوجود والتّشخّص والوحدة الشّخصيّة متساوقات ، وتشخّص الشّيء هو نحو وجوده الخاص مرتبطا بالموجود الحقّ المتشخّص بذاته ، فاحكم : أنّ للهيولى في ذاتها تشخّصا محفوظا ووحدة شخصيّة باقية بعينها في الاتّصال والانفصال ، وليست هي في نفسها وبهويتها الشّخصيّة متصلة ولا منفصلة ، بل هي الحامل لصورة واحدة متصلة في الاتّصال ولصورتين متصلتين في الانفصال ، فهي القابل للوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة. فلا محالة ، لها تشخّصات بالعرض من تلقاء الصّور الشّخصيّة الّتي هي محمولاتها على التّرادف ، وليس يصادم شيء منها وحدتها الشخصيّة الذّاتيّة ، بل يحصّلها ويعيّنها.

فإذن ، هيولى كلّ هويّة جرميّة بعينها واحدة شخصية في ذاتها ، وإنّما تستحقّ بوحدتها الشّخصيّة أن تحمل من الصّور الجرميّة (١) ما قسطها من المقدار تلك المرتبة

__________________

(١) أليس من المستبين : أنّ الإبداعيات كلّ ما يمكن بالنظر إلى ذواتها من الكلمات هي تستحقّه في فطرتها ـ

٥٩

المساحيّة بعينها ، سواء كانت في اتّصال واحد أو في اتّصالات متعدّدة ، أيّ عدد كان ، بعد أن يضبطها جميعا ذلك القسط المساحىّ بعينه.

فإذن ، طبيعة الصّورة الجرميّة الّتي حظّها في المساحة ذلك القسط بعينه مقوّمة لوحدة هيولاها الشّخصيّة الذّاتيّة ، وكلّ من تعيّناتها بحسب المراتب الاتّصاليّة والانفصاليّة لا إلى نهاية محمولة فيها ومتقوّمة بها ومحصّلة [٣٢ ط] لوحدتها الشّخصيّة الذّاتيّة المبهمة بالقياس إلى التشخّصات الّتي لها بالعرض ، وكلّ من تلك المراتب بتعيّنها الشخصيّ ترفع ذلك الإبهام.

شك وتحقيق

(٢٣ ـ المادّة لا تقبل الانفصال)

أظنّ المتشكّكين ليجتذبنّ سرّك بتشكيكهم : أنّه إذا طرأ الانفصال ، فمادّة كلّ من الهويّتين الحادثتين : إمّا هي بعينها مادّة الأخرى ، وتأباه الفطرة والبرهان. وإمّا غيرها : فإمّا هما موجودتان بالفعل قبل الانفصال أيضا ، فتكون كلّ مادّة مشتملة بالفعل على موادّ متكثّرة إلى لا نهاية ، إزاء للانقسامات الممكنة لا إلى نهاية ؛ وإمّا حادثتان حين الانفصال ، فتنفصل المادّة أيضا إلى جزءين هما المادّتان. فلم يكن بدّ من مادّة أخرى للمادّة ، وإلّا كان الانفصال انعداما للصورة والمادّة بالمرّة ، فيساق النّظر إلى انقسام تلك المادّة أيضا إلى مادّتى المادّتين ، وهكذا إلى لا نهاية.

فتحققن : أنّ المادّة بحسب وحدتها الشّخصيّة الذّاتية ليست تتهيّأ لقبول شيء من الانفصالات أصلا ، بل إنّما تقبل الانقسام بحسب وحدتها الشّخصيّة بالعرض ، من تلقاء وحدة الصّورة المتّصلة الّتي هي حاملتها. فهيولى الذّراع من الصّورة الجرميّة مثلا هويّة شخصيّة واحدة لا تأبى اتّصال الذّراع ممتدّا واحدا أو انفصاله ممتدّين أو أكثر لا إلى نهاية. فإذا انفصل الذّراع إلى نصفين لم يكن هيولى كلّ من النّصفين بما هي منحازة عن هيولى النّصف الآخر جزءا من هيولى الذّراع الشّخصيّة ، بل إنّما جزئيّتها لها بما هي هيولى النّصف بحسب التّكسير والمساحة ، سواء كان النّصفان متّصلا واحدا أو متّصلين أو متصلات متكثّرة على أيّ عدد كان ؛ نعم كلّ منهما

__________________

ـ الأولى ، فإنّها لا تكون متخلية ومصدوة عنه ، بل إنّه يكون لها في الفطرة الأولى حاصلا بالفعل بتّه.

٦٠