مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

[١٠] تزييف وهم وإزالة شكّ

عساك تكون ممّن لن يستمع إلى مثير التشكيك ، الإمام الفاضل ، فخر الدين الرازى ، حيث يقول في «المحصّل» ، رادّا على الفلاسفة ، أى «هذا التهويل خال عن التحصيل ، لأنّ المفهوم من «كان» و «يكون» لو كان أمرا موجودا في الأعيان [١٢٥ ب] ، لكان إمّا أن يكون قارّ الذات فيلزم أن لا يوجد في المتغيّرات وأنّ غير تارّ الذات استحال وجوده في الثوابت. وهذا التقسيم لا يندفع بالعبارات».

أو لم يكفك قول خاتم الحكماء المحقق نصير الدين الطوسىّ في نقده (ص ١٣٨) :

«إنّه لا شكّ في أنّ وقوع الحركة مع الزمان ليس كوقوع الجسم القارّ الذات الثابت الوجود مع الزمان ، وليس كوقوع القارّ الذات الباقى مع القارّ الذات الباقى ، كالسماء مع الأرض. وذلك الفرق معقول محصّل ، سواء كان تهويلا أو غير تهويل ، وليس معيّة المتغيّر والثابت مستحيلا ، [١٢٦ ظ] فإنّا نقول ؛ نوح ، عليه‌السلام ، عاش ألف سنة ، فانطبق مدّة ثباته على الف دورة من الشمس. وإذا تقرّر اختلاف المعانى ، فللمصطلحين أن يعبّروا عن كلّ معنى بعبارة يرون أنّها مناسبة لذلك المعنى ، ولا يعنون بالتحصيل هناك غير دلالة العبارات على المعانى».

فو النفوس الصّافّة بمشهد الحقّ صفّا ، إنّه لقول منقّح محقّق. وبالجملة هذه المعيّة متحققة على أنّها ليست معيّة شيئين يقعان في زمان واحد. وهذا معنى محصّل. فإن كان أحد المعين الذات الثابتة والآخر الزمان كلّه ، سمّى ذلك المعنى دهرا. وهذه المعانى وإن كانت جليّة على ذوى الحدس [١٢٦ ب] فربما تكون مخبوة تحت الاختفاء عن أنظار المعاصرين. ونعمّا العبارة ما قيلت : «إنّ نور الحقّ كلّما كان أشرق وأجلى ، فهو للعقول الرّمدة أضعف وأعشى».

[١١] بسط وإحكام

أليست هذه المسالك وراء مألوفات الأوهام ، فلا علينا لو بسطنا الكلام بنمط من القول يورد فيه شيء من عباراتهم. فلعلّ في ذلك ضربا من الإعانة ، على ما نحن بسبيله.

قال الشيخ الرئيس في طبيعيّات («الشفاء» ، ص ١٧١) : «والشيء الموجود مع الزمان وليس في الزمان ، فوجوده مع استمرار الزمان كلّه هو الدهر ، وكلّ استمرار

٤٠١

وجود واحد فهو في الدهر. وأعنى بالاستمرار وجوده بعينه ، كما هو مع كلّ وقت [١٢٧ ظ] بعد وقت على الاتصال ، فكأنّ الدهر هو قياس ثبات إلى غير ثبات ، ونسبة هذه المعيّة إلى الدهر كنسبة تلك الفيئيّة إلى الزمان ، ونسبة الأمور الثابتة بعضها إلى بعض، والمعيّة التي لها من هذه الجهة هي معنى فوق الدّهر ، ويشبه أنّ أحقّ ما سمّى به السّرمد ، وكلّ استمرار وجود بمعنى سلب التغيّر مطلقا من غير قياس إلى وقت فوقت ، فهو السّرمد».

وقال في موضع آخر من («الشفاء» ، ص ...) : «معنى قولنا : الجسم في زمان ، أنّه في الحركة والحركة في الزمان. وأمّا غير المتغيّر ، أعنى ما يكون قارّ الذات فإنّما ينسب إلى الزمان بالحصول معه [١٢٧ ب] لا بالحصول فيه ، إذ ليس له جزء يطابق المتقدّم من الزمان وجزء يطابق المتأخر منه. وهذا كما أنّ نسبة استمرار غير المتغيّر وثباته إلى استمرار غير المتغيّر ، كالسماء إلى الأرض يكون بالحصول معه من غير تصوّر الحصول فيه». ثمّ قال (ص ...) : «وغير الحركة أو المتحرّك إنّما ينسب الى الزمان بالحصول معه ، لا فيه. وهذه المعيّة إن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر ، وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت فهو السّرمد. وهذا الكون ، أعنى كون الثابت مع غير الثابت والثابت مع الثابت بإزاء كون الزمانيّات في الزمان ، فتلك [١٢٨ ظ] المعيّة كأنّها متى للأمور الثابتة. ولا يتوهّم في الدهر ولا في السّرمد امتداد ، وإلّا لكان مقدارا للحركة. ثمّ الزمان كمعلول للدهر ، والدهر كمعلول للسرمد ، فإنّه لو لا دوام نسبة علل الأجسام إلى مباديها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها. ولو لا دوام نسبة الزمان إلى مبدأ الزمان لم يتحقق الزمان» ، انتهى بألفاظه.

ففى قوله «كأنّها متى للأمور الثابتة» إشارة إلى ما حققناه ، من التحاشى عن إثبات متى لما لا يدخل في الزمان.

وقال أيضا (ص ...) : «إنّ اعتبار أحوال المتغيّرات مع المتغيّرات هو الزمان ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة هو السّرمد [١٢٨ ب] ، والدهر في ذاته من السّرمد ، وهو بالقياس إلى الزمان دهر ، يعنى أنّ الدهر في نفسه شيء ثابت إلّا أنّه إذا نسب إلى الزمان الذي هو متغيّر في ذاته سمّى دهرا».

٤٠٢

وقال في كتاب («عيون الحكمة» ، ص ٢٨) : «وذوات الأشياء الثابتة وذوات الأشياء الغير الثابتة من جهة ، والثابتة من جهة إذا أخذت من جهة ثباتها لم تكن في الزمان، بل مع الزمان ، ونسبة ما مع الزمان وليس في الزمان هو الدهر ، ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في الزمان من جهة ما ليس في الزمان ، الأوّلى أن يسمّى بالسّرمد ، والدهر في ذاته من السّرمد ، وبالقياس إلى الزمان دهر».

وقال في كتاب («التعليقات» ، ص ١٤١) : «العقل يدرك ثلاثة أكوان أحدها : الكون في الزمان ، وهو «متى» الأشياء المتغيّرة التي يكون لها مبدأ ومنتهى ، ويكون مبدؤه غير منتهاه ، بل يكون متقضّيا ويكون دائما في السيلان وفي تقضّى حال وتجدّد حال. والثاني : كون مع الزّمان ، ويسمّى الدهر ، وهذا الكون محيط بالزمان ، وهو كون الفلك مع الزّمان ، والزّمان في ذلك الكون ، لأنّه ينشأ من حركة [١٢٩ ظ] الفلك ، وهو نسبة الثالث إلى المتغيّر. إلّا أنّ الوهم لا يمكنه إدراكه ، لأنّه رأى كلّ شيء في زمان ، ورأى كلّ شيء يدخله كان ويكون والماضى والحاضر والمستقبل ، ورأى لكلّ شيء «متى» إمّا ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا. والثالث : كون الثابت مع الثابت ، ويسمّى السّرمد وهو محيط بالدهر». وقال : «الشيء الزمانىّ يكون له أوّل وآخر ويكون أوّله غير آخره». وقال : «الوهم يثبت لكلّ شيء «متى» ومحال أنّ يكون للزمان نفسه «متى» ، والفلك لا يتغيّر في ذاته ، والحركة حالة طارئة عليه. وأنّ ما يكون في الشيء يكون محاطا بذلك الشيء ، فهو متغيّر بتغيّر ذلك [١٢٩ ب] الشيء فالشيء الذي يكون في الزمان يتغيّر بتغيّر الزمان ويلحقه جميع أعراض الزمان ويتغيّر عليه أوقاته ، فيكون هذا الوقت الذي يكون مثلا مبدأ كونه أو مبدأ فعله غير ذلك الوقت الذي يكون آخره ، لأنّ زمانه يفوت ويلحق ، وما يكون مع الشيء فلا يتغيّر بتغيّره ولا يتناوله أعراضه» ، ثمّ قال : «الدّهر وعاء الزمان ، لأنّه محاط به» ، (ص ١٤٢).

وقال في طبيعيّات («النجاة» ، ص ١١٨) : ليس كلّ ما وجد مع الزمان فهو فيه ، فإنّا موجودون مع البرّة الواحدة ولسنا فيها» ، وعدّ ما يصحّ أن ينسب إلى الزمان بالفيئيّة.

ثمّ قال : «فما هو خارج عن هذه الجملة فليس [١٣٠ ظ] في زمان ، بل إذا قوبل مع الزمان ، واعتبر ، له ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه ، وسمّيت تلك الإضافة وذلك

٤٠٣

الاعتبار دهرا له ، فيكون الدهر محيطا بالزمان».

وقال في رسالته المسمّاة «الكلمة الإلهيّة» : «وهي في صورة محتوية على معظمات المعارف الإلهيّة ، الزمان عنه في الأفق الأقصى وناحية الجوهر الأولى عند اشتمال الحركة على متقدم ومتأخر ووجود الجسم في تبدّل وتغيّر ، والدهر وعاء زمانه ويفيض عنه وجود جواهر روحانيّة لا مكانيّة ولا زمانيّة».

وقال بهمنيار في («تحصيله» ، ص ...) : و «هذه المعيّة إن كانت بقياس ثبات إلى غير ثبات [١٣٠ ب] فهو الدهر ، وهو محيط بالزمان ؛ وإن كانت بنسبة الثابت إلى الثابت ، فأحقّ ما يسمّى السّرمد ، بل هذا الكون ، أعنى كون الثابت مع غير الثابت والثابت مع الثابت بإزاء كون الزمانيّات في الزمان ، فتلك المعيّة كأنّها «متى» الأمور الثابتة ، وكون الأمور في الزمان متاها ، فليس للدهر ولا للسرمد امتداد ، لا في الوهم ولا في الأعيان ، وإلّا كان مقدار الحركة» ، انتهى بعبارته.

وقال خاتم الحكماء في («شرح الاشارات» ، ج ٣ ، ص ١١٩) : إنّ الاصطلاح كما وقع على إطلاق الزمان على النسبة التي تكون لبعض المتغيّرات إلى بعض في امتداد الوجود ، فقد وقع على إطلاق الدّهر على النسبة التي تكون للمتغيّرات إلى الأمور [١٣١ ظ] الثابتة ، والسّرمد على النسبة التي تكون للأمور الثابتة بعضها إلى بعض».

فهذه ألفاظه ، ولقد رمز بأنيق اسلوب الكلام إلى كشف أسرار المقام ، وإنّها لمن لطائف الخفيّات ، فلا تكوننّ من الذين هم لا يشعرون.

[١٢] ظنّ واستنكار

من الناس من نزّل نفسه منزلة المفسّرين لأقوالهم ، فنظر إلى ما في «شرح الإشارات» ، ولم يطلق الفطنة ولم يذق الحكمة ولم ينل اللّبّ من قشور العبارات ، وتخيّل أنّه توغّل ، فقال في («كشف المقال» ، ص ...) : «نسبة المتغيّرات بعضها إلى بعض بالتقدّم والتأخّر زمان ، ودوام صدور المتغيّرات عن الأمور الثابتة دهر ، ودوام ثابت بدوام ثابت قبله بالذات [١٣١ ب] سرمد».

وكأنّ تحصيل المطالب سبيله تحقيق ما حققناه ، وتفصيل ما أجملناه طباق ما لوّح إليه صاحب الإشراق بقوله في كتاب («التلويحات» : ص ...؟ «وكما أن الشيء في

٤٠٤

العدد إمّا مبدؤه كالواحد ، أو أقسامه ، كالزوج والفرد ، أو معدوده. ففى الزمان ما يوجد كالمبدإ ، وهو الآن ، وأجزاؤه من الشهور والأيّام وما يعدّه الزمان ويقدّره كالحركات. والجسم من حيث هو جسم ليس في الزمان ، بل لأنّه في الحركة ، وهي في الزمان. والأشياء الغير المتغيّرة أصلا ، كالعقليّات. والتي تتغيّر وتثبت من جهة كالأجسام هي مع الزمان لا فيه. ونسبة ما مع الزمان إليه في الثبات هو الدّهر ، ونسبة بعضه [١٣٢ ظ] إلى بعضه اصطلح عليه بالسرمد».

[١٣] أوهام وتزييفات

ظنّت طائفة من قدماء الفلاسفة أنّ الدهر ليس حقيقته إلّا الزمان المجرّد من الحركة. قالوا ـ بناء على ما توهّمته أوهامهم : إنّ الزمان جوهرا زكىّ ، وهو واجب الوجود : إنّه لمّا كان كذلك استحال أنّ يتعلق وجوده بالحركة ، فجائز أن يوجد الزمان وإن لم توجد الحركة ، فالزمان عندهم تارة يوجد مع الحركة فيقدّر الحركة ، وتارة مجرّدا فحينئذ يسمّى دهرا.

وكأنّك بتذكار ما أسلفناه لك تذعن أنّ هذه خيالات فاسدة وتخييلات مضلّة. ومنهم من يقول : إنّ الدهر مدّة السكون أو زمان ، [١٣٢ ب] غير معدود بحركة. ويفسده أنّه لا يعقل مدّة ولا زمان ليس في ذاته قبل ولا بعد قبليّة وبعديّة زمانيّتين. وإذا كان فيه قبل وبعد ، وجب تجدّد حال على ما سلف ، فلم يخل من حركة. والسكون يوجد فيه التقدّم والتأخّر على نحو ما أورد سالفا. والقيصريّ يتخيّل «أنّ الدّهر ليس إلّا مقدار الزمان بجملته ، أى بماضيه ومستقبله جميعا بحيث لا فاصل بينهما. وكون هذا المقدار دائما غير منقطع الأوّل والآخر هو السّرمد». فنحن قد أوضحنا ما يكشف عن وهنه ويحدّث بسخافته.

[١٤] ذكر وإفادة

أما كان قد تحقّق لديك ممّا [١٣٣ ظ] سلف أنّ القبليّة والبعديّة الزمانيّتين لا بدّ أن تكونا بحسب الزمان وانفصاله الوهمىّ ، أمّا في أجزاء الزمان فبحسب الزمان الذي هو نفس القبل والبعد ، وأمّا في غيرها فبحسب الزمان المحيط بالقبل والبعد. فاعتبر

٤٠٥

الأمر إذن في المعيّة الزمانيّة أيضا على تلك السياقة ، فإنّ معيّة الحركة والزمان هي «متى» الحركة ، أى كون الحركة في زمان ، ومعيّة شيئين زمانيّين هي أنّ «متى» أحدهما عين «متى» الآخر ، أى كونهما في زمان واحد. فالمعيّة الأولى ليست بحسب زمان خارج عن المعين ، بخلاف الثانية ، فلا يلزم من كون الحركة في زمان كون الحركة والزمان [١٣٣ ب] في زمان.

[١٥] إيقاد وإنارة (١)

ألست تفطّنت بما تلى عليك أنّ معيّة الأمور الغير الزمانيّة كالمفارقات ليست بحسب الزمان ، بل إنّما هي بحسب الدهر أو السّرمد. فما به المعيّة هناك ليس إلّا نفس التحقّق الدهريّ أو السّرمديّ من غير أن يكون للزمان إلى ذلك الحريم سبيل أصلا. فكيف ولا ترتبط تلك الأمور بشيء من الزمان وأجزائه بوجه من الوجوه. وفيضانها عن مبدعها إنّما يكون بأن يخرجها إلى الأيس من الليس المطلق ، ولا يعقل أن يتعلق ذلك أو يختصّ بزمان أو آن. وهذه الإضافة ضرب من التأثير مسمّى عند الحكماء بالإبداع [١٣٤ ظ] ، وهو أعلى ضربى التأثير عندهم ، وتتعرف ذلك في ما بعد إن شاء الله تعالى. فتلك المعيّة ليست معيّة زمانيّة ، بل هي معنى آخر وراء الأقسام الخمسة المشهورة للمعيّة ، وهي في المفارقات بإزاء المعيّة الزمانيّة في الزمانيّات ، فإذن هي قسم سادس للمعيّة ، وإنّ أحقّ ما تسمّى به المعيّة الدّهريّة والسّرمديّة.

ثمّ إنّ قاطبة الحكماء وجمهور المتهوّسين بالقدم من محصّليهم لم يذهلوا عن هذه المعيّة، وعدّها من أقسام المعيّة المطلقة على أنّها معنى آخر خارج عن تلك الخمسة. فمنهم من جعلها قسما سادسا ، ومنهم من جعل أحد الأقسام [١٣٤ ب] الخمسة معنى هو القدر المشترك بين المعيّة الزمانيّة والمعيّة الدهريّة والسّرمديّة. وذلك المعنى هو مطلق الاجتماع في التحقّق أعمّ من أن يكون بحسب الزمان أو الدهر والسّرمد. قالوا : العلّة التامّة. والمعلول إمّا أن يكون كلاهما زمانيّين أو كلاهما غير زمانيّين أو أحدهما زمانيّا والآخر غير زمانىّ. ولا محالة يكون الغير الزمانىّ هو العلّة دون

__________________

(١) توقد بنور هذا الفصل نار تلتهب في أساس التهوّس بقدم العالم وتستنير بها ساحة القول بحدوثه ، فوجه العنوان ظاهر. منه رحمة الله.

٤٠٦

المعلول فقسموا معيّتهما بحسب هذه الأقسام إلى الزمانيّة والدهريّة والسّرمديّة ، وجعلوا معيّة الواجب الوجود تعالى بالنسبة إلى معلولاته [١٣٥ ظ] المجرّدة بالنسبة إلى الزمان والزمانيّات سرمديّة ودهريّة ، وحكموا بامتناع اتصافه تعالى بالمعيّة الزمانيّة أصلا ، بل قد نزّهوه تعالى عن التقدّم الزمانىّ أيضا ، لأنّه ليس زمانيّا ، بل هو محيط بالزمان ، والمتقدم على الشيء تقدّما زمانيّا لا يكون إلّا من الزمانيّات.

قال الشيخ الرئيس في كتاب («التعليقات» ، ص ...) : «نسبة الأوّل تعالى إلى العقل الفعّال أو إلى الفلك نسبته غير متقدرة زمانيّة ، بل نسبة الأبديّات ، ونسبة الأبديّات إلى الأبديّات تسمّى السّرمد ، والدهر والزمان يدخل فيه ما هو متغيّر ونسبة الأبديّات إلى الزمان [١٣٥ ب] هو الدهر ، فإنّ الزمان متغيّر ، والأبديّات غير متغيّرة. وقال فيه أيضا : «إمّا أن يكون الشيئان معا في الوجود أو في الزمان أو في شيء ثالث ينسبان إليه. والعلّة والمعلول هما معا ، وهما متلازمان. ولا يجوز أن يكونا هما معا في الوجود ، لأنّ العلّة أقدم من المعلول ولا في الزمان إن كانا غير زمانيّين» ، انتهى.

ومراده أنّ معيّتها ليست في مرتبة الوجود ، بل في الوجود باعتبار الدهر أو السّرمد.

قال في إلهيّات («الشفاء» ، ص ...) : «إنّه إذا صار ، أى الشيء الذي هو العلّة ، بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من غير نقصان شرط باق ، وجب عنه [١٣٦ ظ] وجود المعلول. فإذن وجود كلّ معلول واجب مع وجود علّته ، ووجود علّته واجب عنه وجود المعلول ، وهما معا في الزمان أو الدهر أو غير ذلك. ولكن ليسا معا في القياس إلى حصول الوجود. وذلك لأنّ وجود ذلك لم يحصل من هذا ، فذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود هذا. ولهذا حصول وجود ، وهو من حصول وجود ذلك. فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود» ، انتهى. وقال بهمنيار في («التحصيل» ، ص ...) : «وهما ، أى العلة والمعلول ، معا في الزمان أو الدّهر لا في حصول الوجود».

وإنّ كتب أساطين الحكمة بنظائر ذلك لمشحونة. ففى («شرح حكمة الإشراق» ، ص ...) قول بهذه العبارة : وقد يكونان ، اى العلّة والمعلول في الزمان معا ، وذلك اذا كانا زمانيين. ولذلك قال. يعنى مصنف «حكمة الإشراق» : وقد يكونان كذلك ، لأنّهما قد لا يكونان «كذلك ، كما في المجرّدات. وكيف ما كان لا يتخلّف وجود المعلول عن

٤٠٧

وجود العلّة التامّة ، زمانيّين كانا أولا. ومنه يعلم أنّ تقدّمها عليه ليس زمانيّا» انتهت بألفاظهما. وفيه عند عدّ أقسام المعيّة : «وكذلك المع على خمسة أقسام ، أمّا بالزمان فظاهر ، كالعلّة مع المعلول. وذلك في غير المفارقات لأنّها غير زمانيّة».

وفي «شرح التلويحات» [١٣٧ ظ] بعد ذكر أنواع التقدّم : «وبما علم من حال المتقدّم يعلم حال المتأخر والمعيّة إلّا أنّ المفارق بالكليّة لا يصدق عليه المعيّة الزمانيّة ، لكونه ليس زمانيّا. والجسمان لا يصحّ بينهما المعيّة المكانيّة من جميع الوجوه ، لاستحالة اجتماعهما في مكان واحد» نجزت عبارته.

والذي يشبه أن يكون أخرى وأحقّ هو أن تجعل المعيّة ستّة أقسام ، والقسم السادس قدرا مشتركا بين المعيّة الدهريّة والسّرمديّة ، لأنّ ما به المعيّة فيهما ، أعنى الدهر والسّرمد ، متشاركان في عدم الاتصاف بالامتداد ومقابله ، كما أنّهم جعلوا السبق بالذات قدرا [١٣٦ ب] مشتركا بين السبق بالطبع والسبق بالعليّة ، لأنّ ما به السبق فيهما هو الوجود إمّا باعتبار نفسه أو باعتبار كيفيّته ، أعنى الوجوب ، وكأنّ الكلام قد بلغ نصاب الحقّ ومبلغ الكفاية ، فإنّ بما دونه يتبصّر سليم الفطنة ، وبما فوق الفوق لا يهتدى سقيم الفطرة. فكلّ ميسّر لما خلق له.

[١٦] تفسير

كأنّك إذن بما تحقّق لديك استشعرت قول سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، عليه أزكى الصلاة وأو في التحيّة ، في خطبة يصف بها توحيد البارى تعالى شأنه ويمجّد بها جلاله وعزّه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير [١٣٨ ظ] كلّ شيء لا بمزايلة».

[١٧] محاجّة برهانيّة فيها محجّة شعشعانيّة

يا ليتك كنت ذا لسان طلق عقلانىّ غير جسمانىّ ، فتقول لزمرة المتهوسين بالقدم : يا قوم ، أليست المعيّة في المعانى المختلفة جارية مجرى التقدّم والتأخّر ، فكلّ اثنين من هذه الثلاثة ، بمعنى من تلك المعانى ، مقابلان لثالث بذلك المعنى. فإذا تحقق في المعيّة لا يتخلّف بحسبه وجود أحد المعين عن وجود الآخر من دون مدخليّة للزمان فيه أصلا ، بل على أن يكون ما به المعيّة أمرا آخر غير المقدار المقضيّ

٤٠٨

المتجدّد أو طرفه [١٣٨ ب] أمّا يلزم بإزاء ذلك معنى في التقدّم والتأخّر أيضا ، به يتخلّف المتأخّر عن المتقدّم من دون أن يدخل الزمان فى ما به التخلّف ، بل على أن يكون ما به التّقدم والتأخّر شيئا آخر غير مقدار الزمان أو طرفه يعبّر عنه بالدهر أو السّرمد. فلم تخادعون الحكمة وتخدعون العقل وتعادون الحقّ وتتعدّون عن السبيل ، وأنتم تشعرون. فهذا النحو من التقدّم معنى معقول ، سواء تحقق في مادّة أو لم يتحقق.

فذلك أمر يتبيّن بضرب آخر من النظر ، يبيّن أنّ بعض المعلولات اخرج من العدم الصرف الذي لا يتصوّر فيه الامتداد [١٣٩ ظ] ولا مقابله إلى الوجود الذي هو أيضا كذلك من غير أن يرتبط بزمان أو آن ، فلا يسوغ لكم إلّا الاعتراف بأنّ هذا السبق أمر محصّل عند العقل. نعم لو ادّعيتم أنّه يمتنع أن يتصف به شيء أصلا ، لسمع منكم لو استطعتم إلى الإتيان بساطع البرهان سبيلا. وهذا كما أنّ المعيّة المكانيّة عندكم معنى معقول بإزاء التقدّم المكانىّ. ثمّ البرهان يحقّق أنّه ليس لها معروض أصلا ، لامتتاع وقوع جسم في مكان جسم إلّا على التعاقب. فهلّا اعترفتم بمثل ذلك هناك أيضا. ولكن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور.

[١٨] تذكرة وهداية

كأنّه قد قرع سمعك [١٣٩ ب] ما ذهبت الفلاسفة إليه أنّ ترتّب أجزاء الزمان وتعاقبها إنّما يكون بالقياس إلى ما يقع وجوده تحت الكون وفي حيطة الزمان. وأمّا ما يتعالى عن أفق الزمان ويرتفع عن محتد الزمانيّات ، كالواجب الوجود تعالى ، فإنّ وجوده ليس مشمولا للزمان ولا هو مقارن للزمانيّات مقارنة زمانيّة ، بل هو وجود صرف ، سرمد محيط بالامتداد والاستمرار ، والزمان والزمانيّات. فالأمور التدريجيّة لا تعاقب لها بالنسبة إليه أصلا ، بل إنّما تحضر عنده دفعة ، غير متخلّف آخرها عن أوّلها ، لا في الحضور عنده. [١٤٠ ظ].

وبالجملة ، إنّ علّة الزمان والأكوان الزمانيّة لا تكون تحت الكون والزمان ، بل يكون كونا بنوع آخر أعلى وأرفع ، محيطا بالزمان مع ما فيه من سلسلة الزمانيّات ، بل بجميع الأشياء ، من أوّلها إلى آخرها ، ضربا ما من الإحاطة أعلى وأشدّ من الّتي لمحيط الدائرة بالنسبة إلى سطحها أو مركزها أشديّة غير متناهية المرّات. فتلك

٤٠٩

الأشياء من مبدئها ، كنحو الظلّ من دى الظلّ ، بل هو أرفع من ذلك كلّه. فكم بين الإحاطة الوهميّة الزمانيّة أو الحسيّة المكانيّة وبين الإحاطة النوريّة العقليّة السّرمديّة.

فإذن ، الأوّل تعالى كما لا يقرب منه [١٤٠ ب] مكان بالنسبة إلى مكان ، بل إنّ الأمكنة والمكانيّات متساوية الإقدام جميعا بالنسبة إليه ، فكذلك لا يقرب منه زمان بالنسبة إلى الزمان. فليس هناك ماض أو مستقبل أو حال ، بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة. ومن ذلك يعلم الأمر في المراتب العالية على الزمان من الجواهر المفارقة.

[١٩] زيادة هداية

فالامتداد الزمانىّ المتصل الذي هو سنخ التغيّر وعنصر التقضّى والتجدّد وفلك المتغيّرات ، وعرش الزمانيّات يحضر بما يحتفّ هو به ، من الحوادث الكونيّة عند مبدع الكلّ أزلا وأبدا. أليس حضور الشيء [١٤١ ظ] عنده هو بعينه علمه بذلك الشيء ، وعقله للأشياء هو فيضانها عنه معقولة؟ فإذن هو يعلم جملة الزمانيّات كلّا منها في وقته علما غير زمانىّ ، ويشاهد ما بينهما من الأزمنة ، فلا يفوته شيء. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وهو بكلّ شيء محيط : فهذا ما حققه الحكماء مشّاءوهم ورواقيّوهم.

قال المعلّم الأوّل أرسطوطاليس في كتاب («أثولوجيا» ، ص ...) : «إنّ كلّ علم كائن في العالم الأعلى الواقع تحت الدهر لا يكون بزمان ، لأنّ الأشياء التي في ذلك [١٤١ ب] العالم كوّنت بغير زمان».

وزاده الشيخ الرئيس بيانا في كتاب («التعليقات» ، ص ٥٩) فقال : «لو كانت الصّور العقليّة فائضة عن الأوّل ، لا معا ولا دفعة واحدة بلا زمان ، بل شيئا بعد شيء ، لم تكن معقولة بالحقيقة ، بل كانت مادّية ، إذ كانت تكون بعد ما لم تكن ، ولو كان هو لا يدركها بالفعل معا ، بل شيئا بعد شيء لكان فيه أيضا قوّة تقبل الأشياء بعد ما لم تقبلها وكان مادّيّا».

[٢٠] تشبيه وتمثيل

ألست إذا أخذت خيطا تختلف أجزاؤه لونا ، فأمررته في محاذاة ما تضيق حدقته عن

٤١٠

الإحاطة بتلك الجملة دفعة ، كذرّة أو غيرها ، [١٤٢ ظ] ، وجدت ما هي متساوية الحضور لديك لقوّة إحاطتك ، متعاقبة في الحضور لديها ، لضيق حدقتها؟ فاعتبر الأمر في الامتداد الزمانىّ بما فيه من الحوادث المرتبطة بالأزمنة أو الآنات المنتزعة عنه ، واختلاف حضورها بالقياس إلى الزمانيّات وإلى ما هو خارج عنها تعاقبا ومعيّة.

قال في («أثولوجيا» ، ص ...) : البصر إذا رأى شجرة رآها من أصلها إلى فرعها دفعة واحدة ، يعلم أصلها قبل أن يعلم فرعها بنوع ترتيب وشرح ، لا بنوع زمان ، لأنّ البصر إنّما رأى أصل الشجرة وفرعها وما بينهما دفعة واحدة. فالبصر يعرف [١٤٢ ب] أوّل الشجرة وآخرها بالترتيب ، لا بالزمان ، على ما قلنا. فإن كان البصر يعلم ذلك ، فبالحريّ أن يكون العقل يعلم أوّل الشيء وآخره بالترتيب لا بالزمان ، والشيء الذي يعلم أوّله وآخره بالترتيب لا بالزمان يعرف كلّه دفعة واحدة معا». وذكر فيه أيضا (ص ٦٩) : «إنّ الإنسان الحسّىّ إنّما هو صنم للإنسان العقلىّ وظلّ له. والإنسان العقلىّ روحانىّ وجميع أعضائه روحانيّة ، ليس موضع العين غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة. لكنّها كلّها في موضع واحد».

فهذه أمور شبّه بها المرام تارة ، وتضرب بها له الأمثال [١٤٣ ظ] أخرى. فانتقل من ذلك إلى اعتبار الأمر في العالم العقلىّ وتفطّن أنّ الأزل عند المبدأ الأوّل لا يقع حيث لا يقع الأبد ، بل هما وموقعاهما هناك واحد ، ومع ذلك فإنّه يشاهد ما بينهما من الامتداد. ونعم القول فيه ما في إلهيّات («الشفاء» : ص ...) «إنّ هذا من العجائب التي يجوح تصوّرها إلى لطف قريحة».

[٢١] كشف وشرح

كأنّه استبان بما ذكر أنّ الحكماء إنّما ينفون عن المبدأ الأوّل تعالى نحو العلم ، أعنى العلم الزمانى ، لا شيئا من المعلومات. كما أنّهم في تحقيق علمه تعالى بالجزئيّات إنّما ينفون عنه نحو العلم الإحساسى [١٤٣ ب] أو التخيّلىّ ، لا انكشاف شيء من الجزئيّات.

فقد حقق القول فيه خاتم الحكماء نصير الدين الطوسىّ ، حيث قال في «أجوبة الأسئلة القونويّة» كاشفا عن مقالتهم : «أمّا نفى تأثير الحقّ في الموجودات ونفى تعلّقه بالجزئيات. فممّا أحال عليهم من لم يفهم كلامهم. وكيف ينفون تأثيره في

٤١١

الموجودات بعد أنّ جعلوه مبدأ الكلّ. وكيف ينفون تعلّقه بالجزئيّات ، وهي صادرة عنه ، وهو عاقل لذاته عندهم. ومذهبهم أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، بل لمّا نفوا عنه الكون في المكان جعلوا نسبة جميع الأماكن إليه نسبة واحدة متساوية. ولمّا نفوا عنه الكون في الزمان جعلوا نسبة جميع الأزمنة ماضيها ومستقبلها وحالها إليه واحدة. [١٤٤ ظ] فقالوا : كما أنّ العالم بالأمكنة إذا لم يكن مكانيّا يكون عالما بأنّ زيدا في أيّ جهة من جهات عمرو ، وكيف يكون الإشارة إليه وكم بينهما من المسافة. وكذلك في جميع ذرّات العالم ولا تجعل نسبة شيء منها إلى نفسه ، لكونه غير مكانىّ. كذلك العالم بالأزمنة إذا لم يكن زمانيّا يكون عالما بأنّ زيدا في أيّ زمان يولد ، وعمروا في أيّ زمان وكم يكون بينهما من المدّة. وكذلك في جميع الحوادث المرتبطة بالأزمنة. ولا تجعل نسبة شيء منها إلى زمان يكون حاضرا له ، فلا يقول : هذا مضى وهذا ما حصل ، [١٤٤ ب] بعد ، وهذا موجود الآن ، بل يكون جميع ما في الأزمنة حاضرا عنده متساوى النسبة إليه ، مع علمه بنسب البعض إلى البعض وتقدّم البعض على البعض.

وإذا تقرّر هذا عندهم وحكموا به ولم يسمع هذا الحكم أوهام المتوغّلين في المكان والزمان ، حكم بعضهم بكونه مكانيّا ، ويشيرون إلى مكان يختصّ به ، وبعضهم بكونه زمانيّا. ويقولون : إنّ هذا فاته وإنّ ذلك ما يحصل له بعد ، وينسبون من ينفى ذلك عنه إلى القول بنفى العلم بالجزئيّات الزمانيّة وليس كذلك».

[٢٢] تقرير وبسط

قال أرسطوطاليس في («أثولوجيا» ، ص ٦٨) : «إنّ كلّ [١٤٥ ظ] فعل فعله البارى الأوّل عزوجل ، فهو تامّ كامل ، لأنّه علّة ثابتة ليس من ورائها علّة أخرى. ولا ينبغى لمتوهّم أن يتوهّم فعلا من أفاعيله ناقصا ، لأنّ ذلك لا يليق بالفواعل الثوانى ، أعنى العقول ، فبالحريّ أن لا يليق بالفاعل الأوّل. بل ينبغى أن يتوهّم المتوهّم أنّ أفعال الفاعل الأوّل هي قائمة عنده ، وليس شيء عنده أخيرا ، بل الشيء الذي عنده أوّلا ، هو هاهنا أخيرا وإنّما يكون الشيء أخيرا لأنّه زمانىّ ، والشيء الزمانىّ لا يكون إلّا في الزمان الذي وافق أن يكون فيه. فأمّا في الفاعل الأوّل فقد كان لأنّه ليس هناك

٤١٢

زمان ، فإن كان الشيء الملاقى (٤٥ ب) فى الزمان المستقبل هو قائم هناك ، قلا محالة إنّه إنّما يكون هناك موجودا قائما ، كما أنّه سيكون فى المستقبل. فإن كان هذا هكذا ، فالشيء إذن الكائن في المستقبل هو هناك موجود قائم لا يحتاج في تمامه وكماله هناك إلى أحد الأشياء البتة. فالأشياء إذن عند البارى ، جلّ ذكره ، كاملة تامّة ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، وهى عنده دائما ؛ وكذلك كانت عنده أوّلا كما تكون عنده أخيرا فالأشياء الزّمانيّة إنّما يكون بعضها من أجل بعض ، وذلك أنّ الأشياء إذا هي امتدّت وانبسطت وبانت عن البارى الأوّل ، كان بعضها علّة كون بعض. وإذا كانت كلّها معا [١٤٦ ظ] ولم تمتدّ ولم تنبسط ولم تبن عن البارى الأوّل ، لم يكن بعضها علّة كون بعض ، بل يكون البارى الأوّل علّة كونها كلّها». وقال فيه (ص ١١١) أيضا : «القيام هناك دائم بلا زمان ماض ولا آت ، فإنّ الآتى هناك حاضر والماضى موجود ، لأنّ الأشياء التي هناك دائمة على حال واحدة لا تتغيّر ولا تستحيل».

وقال الشيخ الرئيس في كتاب («التعليقات» ، ص ٢٨) : «والمعقولات صادرة عنه على مراتبها واختلاف أحوالها من الأبديّة والحادثيّة والقارّة وغير القارّة. فهى كلّها حاصلة له بالفعل. وهذا كما تقول : إنّ الأشياء الموجودة دائما والموجودة في وقت بعد [١٤٦ ب] وقت ، والشيء المتقضّى شيئا فشيئا ، كالزمان والحركة التي هى غير موجودة الجملة والقارّة بالجملة والمعدومة فى الماضى والمعدومة في المستقبل ، كلّها بالإضافة إليه موجودة وحاصلة بالفعل ، لأنّه سبب وجودها ومبدأ الأسباب التي توجد عنها ، وهو يعقل ذاته ولوازمه ولوازم لوازمه إلى أقصى الوجود ، وكلّ المعقولات حاصلة له حاضرة عنده ، وحالها عنده بالسواء في كلّ حال ، أعنى قبل وجودها وبعد وجودها ، ومع وجودها لا يتغيّر بوجه ، وهو يعقل الأشياء معا ولا يعقلها شيئا فشيئا».

وقال فيه أيضا : (ص ٢٨) : «علم البارى [١٤٧ ظ] بالأشياء الجزئيّة هو أنّه يعلم الأشياء من ذاته ، وذاته مبدأ لها ، فيعلم أوائل الموجودات ولوازمها ولوازم لوازمها إلى أقصى الوجود ، وكلّ شيء فإنّه بالإضافة إليه واجب الوجود وبسببه ، فهو موجود بالإضافة إليه ممّا وجد وممّا يوجد. فإذا كانت للأشياء الجزئيّة أسباب يلزم

٤١٣

عنها تلك الجزئيّات ، ولتلك الأسباب أسباب حتى تنتهى إلى ذات الأوّل ، وهو يعلم ذاته ويعلمه سببا للموجودات ويعلم ما يلزم عن ذاته وما يلزم عن لازمه ، وكذلك هلمّ جرّا حتى ينتهى إلى الجزئىّ ، فإنّه يعلمه ، لكن يعلمه بعلله وأسبابه».

ثمّ قال (ص ٢٩) : «ويعلم الأشياء [١٤٧ ب] الغير المتناهية على ما هى عليه من اللاتناهى بأسبابها ، ويعلم الزمان الغير الثابت الذي يتقضّى شيئا فشيئا بعلله وأسبابه». ثمّ قال : «فيكون علمه محيطا بجميع الأشياء ، فلا يكون لعلمه تغيّر ، فإنّ معلومه لا يتغيّر».

ثمّ قال : «فلا تخفى عليه خافية.» ، وقال : و «هو يعلم الأشياء الغير المتناهية ، فعلمه غير متناه. وقد يتشكّك فيقال : إنّ تلك الأشياء غير موجودة بالفعل ، بل بالقوّة. فبعض علمه يكون بالقوّة أو يكون لا يعلمها. فيقال : إنّ كلّ شيء فإنّه واجب بسببه وبالإضافة إليه ، فيكون موجودا بالفعل وبالإضافة إليه. فسبب وجود كلّ موجود هو أنّه [١٤٨ ظ] يعلمه. فإذا علمه قد حصل وجوده ، فهو يعلم الأشياء دائما».

ثمّ قال : «الأسباب كلّها عند الأوائل واجبات ، وليس هناك إمكان البتة. وإذا كان شيء لم يكن في وقت فإنّما يكون ذلك من جهة القابل ، لا من جهة الفاعل ، فإنّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك ، إذ ليس هناك منع ولا بخل. فالأشياء كلّها واجبات هناك لا تحدث وقتا وتمتنع وقتا ، ولا تكون هناك كما تكون عندنا. وقد يتشكك فيقال : إذن ، الأفعال كلها طبيعيّة لا إراديّة. والجواب : أنّ إرادتها على هذا الوجه ، إذ هو دائم الفيض [١٤٨ ب] فالامتناع من جهة القابل».

وقال فيه : أيضا (ص ٦٦) «علم الأوّل من ذاته ، وذاته سبب للأشياء كلّها على ترتيبها. فعلمه بالأشياء هو نفس وجودها ، فهو يعلم الأشياء التي لم توجد بعد ، على أنّها لم توجد بعد ، ويعرف أوقاتها وأزمنتها ولوازمها. وإذا وجدت تلك الأشياء لم يتجدد علمه بها ، فيستفيد من وجودها علما مستأنفا».

ثمّ قال : بعد أن حقق أنّه تعالى يعلم أشخاص الزمان وأشخاص كلّ شيء والأزمنة التي بينها علما بسيطا (ص ٦٦). و «كذلك أحوال كلّ شخص وأفعاله وتغيّراته واختلافات الأحوال به وعدمه وأسباب عدمه على الوجه الكلّىّ ، أعنى الذي لا يتغيّر

٤١٤

البتة [١٤٩ ظ] ولا يزول بزواله ، فلا يجوز أن يدخل علمه الماضى والحاضر والمستقبل من الزمان. كقولك : كان وسيكون وهو كائن من حيث هو كذلك».

وقال فيه أيضا (ص ٩٧) البارى يعقل كلّ شيء من ذاته ، لا من ذلك الشيء ولا من ذاته ولا من وجوده ولا من حال من أحواله ، فإنّه إن كان يعقله لا من ذاته ، بل من خارج عن ذاته ؛ لكان فيه انفعال ، وكان هناك قابل لذلك المعقول ، لأنّه يكون له بعد ما لم يكن ، ويكون على الجملة له حال لا يلزم عن ذاته ، بل عن غيره. وإذ هو مبدأ كلّ شيء فهو يعقل ذاته ويعقل ما هو مبدأ له ، [١٤٩ ب] وهو العقل الفعّال ، ويعقل أنّه مبدأ له ، ويعقل ما بعده ولوازمه وما بعد ذلك إلى ما لا يتناهى ويعقل الأشياء الأبديّة أنّها أبديّة ، والأشياء الفاسدة أنّها فاسدة ، إذ يعقل أسبابها وعللها ولوازمها ويعقل الأشياء والزّمانيّة. والزّمان إذ هو من لوازمها ، ويعقل المتحرّك والحركة وأنّها زمانيّة ومتحرّكة ، ويعقل الشخصيّات من الفاسدات من جهة عللها وأسبابها».

ثمّ قال (ص ٩٨) و «يعلم كلّ شيء كما هو موجود بعلله وأسبابه ، ويعلم المعدومات بعلل أعدامها وأسبابها ، ويكون علمه بها سبب وجودها ، لا وجودها سبب علمه [١٥٠ ظ] وذلك بخلاف أحوالنا ، فإنّا نعلمها من وجودها ونعرف الجزئيّات من جهة كليّة».

وقال فيه أيضا (ص ١٠٩) «العقليّات المحضة ثابتة لا يجوز عليها الانتقال والتغيّر، ومعقولاتها تكون حاضرة معها دائمة لا يحتاج فيها إلى انتقال من معقول إلى معقول آخر ، والنفس وإن كانت عقلا ، فإنّ تعقّلاتها مشوبة بتخيّل. فلذلك يصحّ عليها الانتقال من معقول إلى معقول ، وتستعدّ بهذا المعقول لمعقول آخر».

وقال فيه أيضا (ص ١٥٥) : «أنا إذا علمت جزئيّات ، ككسوف ، ثمّ علمت لا كسوفا ، فليس علمى بالأوّل هو علمى بالثانى ، لأنّ ذلك قد تغيّر ، لأنّى [١٥٠ ب] أعلم كلّ واحد منهما في آن مفروض ، وأكون قد أدخلت الزمان في ما بينهما ، فتغيّر علمى».

ثمّ قال : (ص ١١٥) «لو أدركنا هذا الجزئىّ من جهة علله وأسبابه الكلّيّة ، وعلمنا صفاته المشخّصة له بأسبابها وعللها الكلّيّة لكان علمنا هذا كلّيّا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم في ذاته ، فإن أسبابه وعلله الكلّيّة ، مشخّصاته ، لا تتغيّر ولا تفسد».

٤١٥

ثمّ قال (ص ١١٦) : «مشخّصاته ، وإن كانت جزئيّة ، فإن لها عللا وأسبابا كلية لا تتغيّر ، والبارى يعرفها كلّها كلية ، وهو يعرف أوائلها من ذاته ، لأنّ وجودها عنها ، وهو يعرف ذاته ويعرفها علّة وأوّلا لصدور الموجودات عنه. فعلمه [١٥١ ظ] غير مستفاد من خارج يلزم ذاته وذاته لا يتعيّن».

ثم قال (ص ١١٦) : «الأوّل يعرف الشخص وأحواله الشخصيّة ووقته الشخصىّ ومكانه الشخصىّ من أسبابه ولوازمه الموجبة له المؤدّية إليه. وهو يعرف كلّ ذلك من ذاته ، إذ ذاته هو سبب الأسباب. فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرّة».

ثمّ قال (ص ١١٦) : «ينبغى أن نجتهد في أن لا نجعل علمه عرضة للتغيّر والفساد البتة بأن نجعله زمانيّا أو مستفادا من الحسّ ومن وجود الموجودات ، فيلزم ذاته أن أدخل في علمه الزمان ، فيكون متغيّرا وفاسدا ، لأنّ الشيء يكون في وقت بحال ويكون [١٥١ ب] في وقت آخر بحال آخر».

ثمّ قال (ص ١١٦) : «الأوّل يعرف هذا الكسوف الجزئىّ بأسبابه المؤدّية إليه ووقته الشخصىّ الذي يكون فيه بأسبابه الموجبة له ، ويعرف مقدار لبثه بسببه ، ويعرف انجلائه. بالسبب الموجب له ، وكلّ ذلك يعرفه كليّا بأسبابه المؤدّية إليه الموجبة له ، ويعرف المدّة التي بين الكسوفين وجميع أحواله وأسبابه الشخصيّة ، فلا يتغيّر علمه بتغيّر هذه الأشياء وتشخّصها ، إذ ليس يعرفها مشارا إليها». ثمّ قال (ص ١١٦) : «الشيء المشار إليه لا يعرف معقولا ، إنّما يعرف محسوسا».

ثمّ قال (ص ١١٦) : «العلم في الأوّل غير مستفاد من الموجودات ، بل من ذاته. فعلمه سبب لوجود الموجودات ، [١٥٢ ظ] فلا يجوز على علمه التغيّر ، وعلمنا مستفاد من خارج ، فيكون سببه وجود الشيء. وإذ كنّا لا ندرك إلّا الجزئيّات المتغيّرة ، فعلمنا يتغيّر، ولأنّها تبطل ، فيبطل علمنا بها».

ثمّ قال بعد قسط من القول (ص ١١٨) : «هو يعرف كلّ واحد من الأشخاص والأعراض والصّور مرّة واحدة ، وتكون كلّها متميّزة عنده بأعراضها وصورها. فأنا وأنت متميّزان عنده بصورنا وأعراضنا ولواحقنا. وكذلك الكسوفات الجزئيّة كلّها متميّزة عنده بأعراض كلّ واحد منها. والأزمنة أيضا متميّزة عنده بصورها و

٤١٦

أعراضها ، فإنّه يعرف كلّ شيء على ما هو عليه في الوجود ، كلّيّا [١٥٢ ب] كان أو جزئيّا ، سرمديّا أو زمانيّا ، فإنّه إذا كان يعرف الشيء بلوازمه ، والزمان من اللوازم ، فإنّه يعرف الأشياء مع أزمنتها». وقال في موضع آخر منه أيضا (ص ...) : «كلّ ما لم يكن في الزمان فلا يتغيّر ، إذ التغيّر يلحق أوّلا الزمان ثمّ ما يكون فيه».

وقال في كتابى («الشفاء والنجاة» ، ص ٢٤٦). «وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء ، وإلّا فذاته إمّا متقوّمة بما تعقل ، فيكون تقوّمها بالأشياء ، وإمّا عارضة لها أن تعقل ، فلا تكون واجبة الوجود من كلّ جهة. وهذا محال. ويكون لو لا أمور من خارج لم يكن هو بحال ، ويكون له حال لا يلزم عن ذاته ، بل [١٥٣ ظ] عن غيره ، فيكون لغيره فيه تأثير. والأصول السالفة تبطل هذا وما أشبهه ، ولأنّه مبدأ لكلّ وجود ، فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للموجودات التامّة بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أوّلا وبتوسّط ذلك باشخاصها. ومن وجه آخر : لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيّرات مع تغيّرها من حيث هي متغيّرة عقلا زمانيّا ، فإنّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيّا منها أنّها موجودة غير معدومة ، وتارة يعقل عقلا زمانيّا منها أنّها معدومة غير موجودة ، فتكون [١٥٣ ب] لكلّ واحد من الأمرين صورة عقليّة على حدة ، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات.

ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهيّة المجرّدة وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص لم تعقل بما هي فاسدة ، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخّص لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيّلة.

ونحن قد بيّنا في كتب أخرى : أنّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خياليّة فإنّما تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيّلة بآلة متجزّئة. كما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له ، كذلك إثبات [١٥٤ ظ] كثير من التعقّلات ، بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّىّ. ومع ذلك فلا يغرب عنه شخصىّ ولا يغرب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة.

وأمّا كيفيّة ذلك ، فلأنّه إذا عقل ذاته وعقل أنّه مبدأ كلّ موجود عقل أوائل

٤١٧

الموجودات عنه وما يتولّد عنها ، ولا شيء من الأشياء يوجد إلّا وقد صار من جهة ما يكون واجبا بسببه. وقد بيّنا هذا ، فيكون هذه الأسباب تتأدّى بمصادفاتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئيّة. فالأوّل يعلم الأسباب ومطابقاتها ، فيعلم بالضرورة [١٥٤ ب] ما تتأدّى إليه وما بينهما من الأزمنة وما لها من العودات ، لأنّه ليس بممكن أنّ يعلم تلك ولا يعلم هذا».

ثمّ ساق الكلام إلى أن بيّن إدراكه تعالى للجزئيّات بتشخّصاتها إدراكا عقليّا غير زمانىّ، لا حسّيا زمانيّا ، وبعده ، قال (ص ٢٤٨) : «فإن منع مانع أنّ يسمّى هذا معرفة للجزئىّ من جهة كليّة فلا مناقشة معه ، فإنّ غرضنا الآن في غير ذلك ، وهو تعريفنا أنّ الأمور الجزئيّة كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا لا يتغيّر معهما العالم. فإنّك إذا علمت أمر الكسوف ، كما [١٥٥ ظ] توجد أنت ، ولو كنت موجودا دائما ، كان لك علم بالكسوف المطلق ، بل بكلّ كسوف وكائن. ثمّ كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يتغيّر منك أمرا. فإنّ علمك في العالمين يكون واحدا. وهو أنّ كسوفا له وجود بصفات كذا بعد كسوف كذا ، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا في مدّة كذا ، ويكون بعد كذا وبعده كذا ، إذ يكون هذا العقد منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده. فأمّا إن أدخلت الزمان في ذلك فعلمت ، في آن مفروض ، أنّ هذا الكسوف ليس بموجود ، ثمّ علمت [١٥٥ ب] في آن آخر أنّه موجود ، فلم يبق علمك ذلك عند وجوده ، بل يحدث علم آخر بعد التغيّر الذي أشرنا إليه قبل ، ولم يصحّ أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبل الانجلاء ـ فهذا لأنّك زمانىّ وآنيّ. وأمّا الأوّل الذي لا يدخل في زمان وحكمه ، فهو بعيد أن يحكم حكما في هذا الزمان وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديد أو معرفة جديدة».

وقال في كتاب («الاشارات» ، ج ٣ ، ص ٣١٥) ، بعد تحقيق أنّ البارى تعالى ليس موضوعا للزمان : «فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيّات علما زمانيّا حتّى يدخل فيه الآن والماضى والمستقبل ، فيعرض لصفة ذاته أن تتغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيّات على الوجه المقدّس العالى عن الزمان والدهر. ويجب أن يكون عالما بكلّ شيء ؛ لأنّ كلّ شيء لازم له ، بوسط ، أو بغير وسط ، يتأدّى إليه بعينه قدره الذي هو

٤١٨

تفصيل قضائه الأوّل تأدّيا واجبا ؛ إذ كان ما لا يجب لا يكون ، كما علمت».

وبيّنه خاتم الحكماء في شرحه (ص ٣١٦) ، بقوله : «فالصّواب أن يؤخذ بيان هذا المطلوب من مأخذ آخر. وهو أن يقال : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، ولا يوجب الإحساس به ، وإدراك [١٥٦ ب] الجزئيّات المتغيّرة من حيث هي متغيّرة لا يمكن إلّا بالآلات الجسمانيّة ، كالحواسّ وما يجرى مجراها. والمدرك بذلك الإدراك يكون موضوعا للتغيّر لا محالة. أمّا إدراكها على الوجه الكلّىّ فلا يمكن إلّا بالعقل. والمدرك بهذا الإدراك يمكن أنّ لا يكون موضوعا للتغيّر. فإذن ، الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغيّر ، بل كلّ ما هو عاقل ، يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني».

[٢٣] مخلص وحكومة

أو قد بان لك أنّ الحكماء إنّما اشمأزّت قلوبهم [١٥٧ ظ] من تسويغ القول بأنّ للبارى تعالى علما متكثّرا وإدراكا متغيّرا ، حسّيا او تخيّليّا ، كما هو شأن الإدراك والعلوم الزمانيّة؟ ولم ينف أحد من محصّليهم علمه تعالى بالشخصيّات أو بشيء من التشخصّات والعوارض الشخصيّة لها أو الأزمنة والأوقات أصلا ، بل برهنوا على أنّ جملة الموجودات ، كليّاتها وجزئيّاتها ، سرمديّاتها ودهريّاتها وزمانيّاتها ، معلومة له معا دائما ، علما بسيطا مقدّسا عقليّا غير زمانىّ. فما هو محسوس لنا وقتا معيّنا ، فهو بعينه معقول له دائما ، لا دواما زمانيّا ، بل أرفع من ذلك. فكما أنّ وجوده [١٥٨ ظ] ضرب آخر من الوجود لا يقاس بغيره ، فكذلك علمه لا يقاس.

قال الشيخ أبو على في («التعليقات» ، ص ١١٩) : «الأوّل نعرفه معرفة كليّة بعللها وأسبابها ، لا معرفة شخصيّة متغيّرة ، بل كليّة ، إذ لم نستفد المعرفة به من جهة شخصيّته ومن وجوده وقت تشخّصه ووجوده ، فإنّه يكون حينئذ مدركا من حيث هو محسوس أو متخيّل ، لا معقول». وقال : (ص ١٢١) «الأشياء الفاسدة تدرك من وجهين ، إمّا أن تدرك بشخصيّتها وجزئيّتها. وذلك إمّا بالحسّ أو التخيّل ، وإمّا أن تدرك كذلك بأسبابها وعللها ، والعلم بها من الوجه الأوّل يتغيّر بتغيّرها [١٥٨ ظ]. وبالوجه الثاني لا يتغيّر ، لأنّ ذلك السبب كلّىّ لا يتغيّر».

٤١٩

وقال : (ص ١٢٢) «العلم الزمانىّ هو أن يدرك ذلك المعلوم في زمان أدرك كما أدرك الشيء المنسوب إليه ، كما يقول : هذا الشيء في هذا الزمان من حيث هو متخيّل أو محسوس أو معقول من حيث تأدّى إلى العقل منهما ، لا من حيث حكم به العقل من أسبابه وموجباته». وقال : «الابديّات وسائر الموجودات في حالة واحدة ، لها أحوال ونسب لبعضها إلى بعض ، وتلك النّسب كلّها موجودة معا للأوّل ، فهى معلومة له».

وقال : «العقل البسيط هو أن يعقل المعقولات على ما هي عليه من تراتيبها وعللها [١٥٨ ب] وأسبابها دفعة واحدة بلا انتقال في المعقولات من بعضها إلى بعض ، كالحال في النفس بأن يكتسب علم بعضها من بعض ، فإنّه يعقل كلّ شيء ويعقل أسبابه حاضرة معه. فإذا قيل للأوّل عقل. قيل على هذا المعنى البسيط إنّه يعقل الأشياء بعللها وأسبابها حاضرة معها من ذاته».

ثمّ قال «كلّ معقول للاول بسيط ، أى معلوم له بما له من اللوازم والملزومات إلى أقصى الوجود». ثمّ قال : «الأوّل يعقل الصور على أنّه مبدأ لتلك الصور الموجودة المعقولة وأنّها فائضة عنه مجرّدة غاية التجويد ، ليس فيه اختلاف صور مرتّبة متخالفة ، بل يعقلها بسيطا ومعا ، لا باختلاف [١٥٨ ظ] ترتيب ، وليس يعقلها من خارج».

ثمّ قال : «كما أنّ وجود الأوّل مباين لوجود الموجودات بأسرها ، فكذلك تعقّله مباين لتعقّل الموجودات ، وكذلك جميع أحواله. فلا يقاس حالة من أحواله إلى ما سواه ، فهكذا يجب أن يعقل حتى يسلم من التشبيه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا».

وقال فيه أيضا (ص ١٤٩) إن فرض أنّ الأوّل يخفى عليه شيء من الجزئيّات الكائنة لزم منه محال. وهو أنّ في علمه ما هو بعد بالقوّة فلم يخرج إلى الفعل ، وإنّما يخرج إلى الفعل عند إدراكه لوجوده. وأيضا فإنّ كلّ ما يحدث ويكون لا يخلو من أنّ يكون بقدر الله. فإن كان [١٥٩ ب] لا يعلمه فلا يكون من قدره ، فيكون هاهنا إله غير الله يكون ذلك الكائن بقدره ، تعالى الله عن ذلك» ، انتهى بعبارته.

فقال المعلم الثاني أبو نصر الفارابى في «فصوصه» (ص ٦٠) : «كلّ ما عرف سببه من حيث هو يوجبه فقد عرف. وإذا رتّبت الأسباب انتهت أواخرها إلى الجزئيّات الشخصيّة على سبيل الإيجاب. فكلّ كلّىّ وجزئيّ ظاهر عن ظاهريّته الأولى. ولكن

٤٢٠