مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فإذن ، العلّة الأزليّة موجودة ، والإعداد التّامّ المقارن للعدم اللّاحق بالسابق موجود ، فما بال اللّاحق ينعدم؟ وإن هو إلّا زوال المعلول مع بقاء علّته التامّة بتّة. والأشياء بأسرها منتهية في سلسلة ترتيب الورود إلى القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره. فإذن يلزم انتهاء عدم الشّيء المفروض الانعدام إلى مبدأ السّلسلة وخلافها بالأسر ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وليس يصحّ أن يقال : حدوث العدم اللّاحق بالسّابق المعدّ شرط في وجود اللّاحق وعند استمرار ذلك العدم ليس يبقى الحدوث. فلذلك ينعدم اللّاحق ، إذ على ذلك التقدير يكون الحدوث آنيّا ، لا زمانيّا. فالمشروط به ، وهو وجود اللّاحق ، يجب أن يكون أيضا آنيّا. وانعدامه آنيّ ، ووجود ما يحدث بعد اللّاحق يكون أيضا آنيّا. فيلزم من ذلك تشافع الآنات وأن يتخلّف المعلول عن علّته ، التّخلّف المكمّم المستحيل.

وإنّ فئة جمهوريّة من المستدفعين قد وكدت المخرج عن داهية الأخيرين جميعا ، فقسقطتهما : بأنّ زوال الحادث إنّما استناده إلى ارتفاع عدم ، لا إلى ارتفاع وجود. فمن المقترّات في مقارّها أنّ عدما لا يستند إلى وجود ، بل إنّما إلى عدم ما ، وأنّ انتفاء المانع ممّا يعتبر في استتمام السّبب التّامّ. فالمبدأ الأزلىّ والسّلسلة المتعاقبة علّة لوجود الحادث بشرط انتفاء حادث ما بعينه مصادم لوجوده. فإذا وجد المصادم زالت العلّة التّامّة بزوال جزئها الذي هو انتفاء ذلك المصادم ، فزال الحادث الذي هو معلولها.

فإن أوهم : أنّ المصادم الحادث إذا كان جائز الزّوال ، لزم عود الحادث عند زواله. أزيح : بأن عدم المصادم المعتبر في تتميم العلّة هو انتفاؤه السّابق الأزلىّ لا ارتفاعه الطّارئ الحادث ، فزواله بعد وجوده ليس يعود متمّما للعلّة ، أو أنّ الحادث المنعدم ممتنع الدّخول في الوجود تارة أخرى لامتناع العود ، والإمكان من مراتب جوهر المعلول ومن مصححات طباع المعلوليّة. فقد تصحّح أنّه لا يكون انعدام حادث ما إلّا بارتفاع عدم. وليس عدم لاحقا ، إذ هو أبديّ ، لاستحالة العود ، بل هو عدم سابق أزليّ ، وارتفاع العدم الأزلىّ ملزوم حدوث ما زال عدمه. فإذن كلّ ما ينعدم من الحوادث يتعقّبه لا محالة وجود حادث آخر.

وعند ذلك يستشكل : أنّه يلزم حينئذ أن يكون انعدام كلّ حادث بطباعه مستوجب

٣٢١

حصول حادث آخر أبديّ الوجود ، أو أن يكون هناك سلاسل لا متناهية من الحوادث ، يتعلّق كلّ من آحاد واحدة منهنّ في زواله بواحدة من آحاد الأخرى في وجوده.

فهنالك حسب حاسب منهم المخلص أن يقال : إن المصادم الحادث هو من سلسلة المعدّات المتعاقبة ، لا خارج عنها. فإذا أفضت سلسلة الأوضاع الفلكيّة إلى حادث بخصوصه، كصورة بعينها ، فتلك الأوضاع متسبّبة لوجود تلك الصّورة بشرط انتفاء الوضع المستوجب حصوله ارتفاعها. ثمّ تلك السّلسلة الوضعيّة بعينها تنساق إلى حدوث ذلك الوضع ، وعند حدوثه تزول تلك الصّورة ، ويتعقّبها حدوث صورة أخرى يستوجبها الوضع الحادث.

واستوهن جدواه بإعادة النّظر إلى زوال ذلك الوضع الحادث ما شانه : أهو لحدوث وضع آخر لاحق؟ وقد تأصّل أنّ الوضع السّابق بحدوثه وزواله من أسباب حدوث الوضع اللّاحق فيكون قد صار الأمر دائرا ؛ أو لزوال الوضع السّابق؟ وكان قد استبان أنّ زواله هو المتمّم الأخير لعلّة الحدوث ، فيكون أمر واحد بعينه علّة الحدوث والزّوال جميعا ؛ أو لحدوث أمر آخر خارج عن سلسلة الأوضاع ، أو لزواله؟ فيكون إذن قد عاد مخشىّ الخلف جذعا ، ولزمت تلك السّلاسل اللّامتناهية ، والسّلاسل للّامتناهية من الحوادث إنّما تنتظم بحركات لا متناهية لمتحرّكات لا متناهية. فإذن يلزم أن يكون فى الوجود أجسام وراء النّهاية العدديّة.

ولثلّة من المستدفعين أطوار أخر للقول تسير مسير المتلوّات عليك في المحاذير وبالجملة لم يبلغنى عنهم هناك ما يبلغ نصاب الصحّة أو يستكمل فضيلة الإجداء. ولعلّ أجدر أقاويلهم باستحقاق الذكرى ما تجشّمه خاتم حملة عرش التّحقيق : (تلخيص المحصل ، ربط الحادث با تقديم ، ص ٤٨٤)

«إنّ إعداد أحد المتعاندين يزيل إعداد المعاند له والسّابق لمّا كان معدّا للّاحق كان ذلك الإعداد مزيلا لإعداد وجود السّابق ، حتّى إذا تمّ إعداد اللّاحق زال إعداد وجود السّابق بالتّمام ، وحينئذ يفنى السّابق ويحدث اللّاحق. وليس هذا دورا ، لأن إعداد اللّاحق معلول لوجود السّابق ، وهو المزيل لإعداد وجود السّابق ، فهو علّة للعدم اللّاحق بالسّابق بالغرض ، وذلك العدم شرط في وجود اللّاحق ، لا في إعداد

٣٢٢

وجوده ، فلا يدور. وإذن يتمّ صدور الحوادث عن المبدأ الأزلىّ ويتأخّر حادث عن حادث لتعاندهما ويكون كلّ حادث علّة لزواله بالعرض ولوجود آخر بعده بالذّات». (تلخيص المحصل ، ربط الحادث بالقديم ، ص ٤٨٤) فهذا منتهى اعتمالات القرائح وامتحانات الأذهان في هذا الموضع.

خلسات ملكوتيّة

(١٧ ـ الذوات الممكنة باطلة إلّا بافاضة الجاعل القيّوم تعالى)

كأنّه قد اخلولق لنا الآن أن نلقى إليك ملكوت الأمر في تحاتّ الشّبه وامتحاء الشّكوك وانحساس التّعضيلات بإذن الله سبحانه ، فنقول ، اعتصاما بواهب العقل وولىّ الأنوار العقليّة : إنّ عدم المعلول ليس يتوقّف بالذّات إلّا على عدم العلّة التّامّة بعينها ، أى على لا جاعليّة الجاعل التّامّ إيّاه ، كما تقرّره ليس يترتّب إلّا على جاعليّته. فشيء بعينه لا يترتّب وجودا وعدما إلّا على شيء بعينه. وأمّا عدم أحد الأجزاء بعينه أو لا بعينه ، وعدم إحدى العلل بخصوصها أو لا بخصوصها ، فعلى خلاف متصوّرات الجماهير ومظنوناتهم من مقارنات الموقوف عليه بالذّات ولوازمه لا من الدّاخلات فيه. وما خمّنه فريق : «إنّ ارتفاع الجزء هو بعينه ارتفاع المركّب» ، ليس أيضا على مستقرّ التّعويل. أليس الجزء والكلّ متغايرين ، والعدم متحصّص متكثّر بتكثّر الموضوعات ، كما الوجود كذلك؟ وإذا لوحظ الكلّ بحسب الفاقة الصّدوريّة صودف الجزء في حيّز المفتاق الصّادر ، لا فى حيّز المصدر المفتاق إليه. فليس يعقل للكلّ صدور مستأنف وراء صدور الأجزاء بالأسر ، ولا فيه تأثير مستأنف وراء التّأثير فيها. وإنّما الجزء في حيّز المفتاق إليه بحسب الفاقة التقوّميّة التّألفيّة. وهو خارج عن جاعل التّقرّر وعن متمّمات الجاعليّة ومنتظرات الصّدور.

ولو كان الأمر على تخميناتهم ، كان الجزء بما هو جزء بعينه داخلا في العلّة وفي المعلول جميعا ، وكان عدمه بما هو عدمه بعينه علّة تامّة لعدم العلّة ولعدم المعلول معا في درجة واحدة ، أو كان هو بعينه عدم العلّة وعدم المعلول جميعا. فكان بعينه علّة ومعلولا لنفسه ، إذ عدم العلّة علّة المعلول :

فإذن قد انصرح أنّ أوّل تلك الاستشكالات ، تشكيك مغالطىّ ، من أخذ ما

٣٢٣

بالعرض مكان ما بالذّات واللّازم مكان المفتاق إليه ، وهو كأخذ الجار مكان صاحب الدّار. فعدم الشّرط ليس ممّا يتوقّف عليه عدم المشروط ، بل هو مقارن لعدم العلّة التّامّة الذي هو العلّة للعدم. وكذلك وجود المصادم ليس يتوقّف عليه عدم المعلول ، بل ربما ينتفى المعلول مع انتفاء المانع ، لعدم تحقّق العلّة التامّة.

فوجود أحد المتعاندين ليس يتوقّف عليه عدم المعاند الآخر وإن استصحّ توقّف وجود كلّ منهما على عدم الآخر ، إذ ربما يعدم أحدهما مع عدم الآخر أيضا ، لانتفاء العلّة الموجبة. فإذن وجود اللّاحق لا يتوقّف عليه عدم السابق ، بل يستلزمه. نعم وجود السّابق يشترط بعدم اللّاحق ، على ما من الذائعات «أنّ انتفاء المانع من أجزاء العلة التامّة». لكنّ الذي يستصحّه الفحص ويخرّجه التّفتيش : هو أنّ انتفاء المصادم من لوازم تحقّق المعلول ومن مقارنات علّة والموجبة ، لا أنّه من المفتاق إليه له ، المتقدم عليه تقدّما بالطّبع اللهمّ إلّا بالعرض من جهة استصحاب استعداد للمادّة هو المتقدّم بالذّات.

ثمّ ولو عزلنا النّظر عن ذلك كلّه ، فما يتوقّف عليه وجود السابق إنّما هو لا وجود اللّاحق. فإنّما اللّازم على الوضع والمماشاة توقّف عدم السّابق على رفع لا وجود اللّاحق ، وهو ملزوم لوجوده ومساوق له ، لا أنّه عينه ، وتوقّف الشيء على أحد المساوقين ليس يستوجب توقّفه على المساوق الآخر ، بل إنّما يستوجب استلزامه إيّاه في التّحقّق.

وأمّا الإعضالان الآخران ، فمع أنّ في منّة ما أسلفنا لك ، أنّ حدوث أيّ حادث فرض في أفق الامتداد الزّمانىّ لا ينتظم أمره إلّا وأن يتأثّل الانتهاء إلى طبيعة متجدّدة متصرّمة يكون طباع جوهرها الثّبات مع البطلان ، فلا يكون في بطلانها التّصرّمى مستندة إلى علّة ، أن يستبدّ بكفالة الأمر في توهينهما.

لكنّا نستأنف الآن ذكرا على نمط طريّ ، فنتلو عليك : إنّه إنّهما بحسب الشّأن فيهما عضيلان أن لو كان العدم الطّارئ على الشّيء في الزّمان حادثا متجدّدا في متن الواقع ، وطرأ العدم الزّمانىّ عبارة عن تجدّد البطلان بعد التّقرّر ، وانعدام الحادث الزّمانىّ. بارتفاع وجوده الحاصل في زمن حصوله من تلقاء الجاعل الموجب عن وعاء التّحقّق وعن زمان الحصول ، والعدم فعل الفاعل ، والفاعل فاعل البطلان و

٣٢٤

الانتفاء ، وعدم حصول الشّيء في زمان ما غير متحقّق الصدق ، إلّا في ذلك الزّمان ، ومع تحقّق ، وإنّ شيئا من تلك الأوهام ليس له في الحكمة من خلاق ، وإن هي إلّا أقاويل أذهان عقيمة وتهاويل قرائح معقوقة. وإنّ في المتكلّفين والمتفلسفين أقواما وعشائر تلك أمانيّهم.

ومن هو على بصيرة في أمره يعلم أنّ ما يحدث ويتجدّد ويعقل فيه فعل وقبول يكون لا محالة شيئا ما ؛ والعدم ليس شيئا ما ، يعبّر عنه بالانتفاء والبطلان ، بل هو ليس صرف. وإنّما يخبر من لفظه فقط. ويعنى به أنّه ليس هناك أمر ما أصلا. وطرأ العدم على الوجود الزمنىّ سلب وجوده في الزّمان العاقب سلبا بسيطا. على أنّ الزّمان قيد الوجود المسلوب ، لا قيد السّلب الوارد عليه ، وهو متحقّق الصّدق في زمان وجود الموجود في الآزال والآباد. وليس للموجود المتقدم وجود في الزّمان العاقب حتى يرتفع ويتجدد. اللّيس الصرف فيه بدلا عنه.

أفليست الذات الجائزة لا بإفاضة الجاعل باطلة في متن الدّهر في الآزال والآباد جميعا؟ فإذا أفاضه الجاعل في الدّهر لا في زمان وآن أو في زمان ما وآن ما ، أبطل بطلانه الدّهريّ ، أو بطلانه في ذلك الزّمان والآن ، وأبدله بالتقرّر الدّهريّ أو التقرّر في ذلك الزّمان والآن ، ويستمرّ التقرّر إلى حيث يتصل الإفاضة.

فإذا ما أمسك المفيض عن الجعل ، لعدم تحقّق مصحّحات الإفاضة ، انصرم التقرّر وانبتّ الوجود ، ورست سفينة اللّيسيّة الأصليّة الّتي هي رأس مال طباع الجواز ثابتة على مرساتها ، واتّقف البطلان الصّرف الذي هو غريم ذمّة الإمكان قائمة رحاها على قطبها. فحينئذ ينتهى فيضان الوجود وينجذّ استمراره ، لا أنّه يرتفع الوجود الذي قد فاض في الزّمان الدّارج عن كبد الدّهر وعن ساهر الزّمان.

أفليس من المنصرح أنّ ارتفاعه عن زمانه في قوّة احتشاد النّقيضين وعن الزّمان العاقب غير معقول إذ لم يكن متحققا فيه قطّ.

فإذن قد استوى أنّ الزّوال حقيقته انجذاذ اتّصال الفيضان ، لعدم الإفاضة الإبقائيّة ، المعبّر عنها في القرآن الحكيم تارة بالحفظ (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (البقرة : ٢٥٥) وتارة بالإمساك (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (الفاطر : ٤٢). وأنّ لا

٣٢٥

عدم إلّا وهو أزليّ ، وأنّ طرأ العدم على الحادث إنّما معناه تخصيص وجوده بزمان محدود في جهة النّهاية بعينه ، كما هو محدود وفي جهة البداية كذلك. وذلك الوجود غير مرتفع عن الدّهر وعن ذلك الزّمان المحدود في الجهتين. وإنّما مضيّه بالقياس إلى الزّمنيّات التي بعده وتخصّص الوجود وتحدّده في الطرفين محوج إلى استعداد المادّة القابلة.

فإذن قد بزغ أنّ العدم اللاحق أزليّ وإنّما استناده إلى عدم تحقّق العلّة التامّة للوجود في الزّمان العاقب من بدء الأمر رأسا ، كما العدم السابق أيضا كذلك ، لا إلى انتفاء جزء من أجزاء العلّة التامّة للوجود في الزّمان الدّارج. فالعلّة التامّة لذلك الوجود ولأىّ وجود قد دخل في التحقّق غير منتفية أبدا.

وإنّما الصّحيح أنّ العلّة التامّة لتقرّر ما مفروض ووجود ما مقدّر غير داخلة في التحقّق من بدو الأمر أزلا وأبدا ، والعدمات الأزليّة ، سابقة كانت أو لا حقة ، متسلسلة في العلّيّة والمعلوليّة على الجهة اللّايقفيّة بما هي متمثّلة في لحاظات العقل ، لا إلى نهاية أخيرة لا تتعدّاها. وهذه الحقائق تستحقّ قريحة ألطف من القرائح الجمهوريّة وذهنا أرفع وأحقّ من الأذهان المشهوريّة.

خلسة استذكارية

(١٨ ـ الحوادث الزّمانيّة وآنات الوجود)

أما كنّا قد أدريناك في كتبنا من قبل : أنّ الحوادث الزّمانيّة على أضرب ثلاثة ، تدريجىّ الحدوث ودفعىّ الحدوث وضرب آخر كالواسطة بينهما هو زمانىّ الحدوث ، لا على المشاكلة الانطباقيّة ؛ وألقينا إليك ضابطا : إنّ كلّ ما هو حادث في الزّمان وليس حصوله متحدّد البداية بآن بعينه يكون هو أوّل آنات الوجود ، فإنّ عدمه السّابق متحدّد النّهاية بعينه بآن هو آخر آنات اللّاوجود. وإذا كان لبداية حصوله آن أوّل ، لم يكن لنهاية لا حصوله السّابق آن آخر ، وكلّ ما هو متجدّد الحصول في الزّمان وليس وجوده الزّمانىّ متحدّد النّهاية بآن بعينه ، يكون هو آخر آنات الحصول ؛ فإنّ عدمه اللّاحق متحدّد البداية الزّمانيّة بآن بعينه هو أوّل آنات الانتفاء. وإذا كان لحصوله في جهة النهاية آن ، لا آن لحصول بعده ، لم يكن لبداية انتفاء اللّاحق آن أوّل ، لا يصحّ للانتفاء آن قبله؟

٣٢٦

فإذن فاشعر : أنّه إذا بلغ تمام الإعداد نصابه ، تمت المادّة المتحرّكة في الاستعداد ، استعدادها التّامّ للّذي يفيض عليها من الحوادث.

فإن كان الحادث المستعدّ له تدريجىّ الحدوث أو زمانىّ الحدوث ، لا على سنّة التدريج ، كان تمام استعداد المادّة المستعدّة له متخصّص آخر الحصول بآن هو طرف زمان حدوث الحادث من جهة المبدأ ، وزواله في نفس ذلك الزّمان غير متخصّص البداية بآن أصلا. كما حدوث الحادث.

وإن كان دفعىّ الحدوث كان زوال تمام الاستعداد متخصّص البداية بآن الحدوث بعينه، وحصوله غير متخصّص النهاية بآن أصلا ، كما العدم السابق على ذلك الحدوث الدفعىّ.

فقد انحلّت العقدة المعضلة بالجماهير : إنّ في تمام الإعداد والاستعداد حصولا ثمّ زوالا ، ثمّ حدوث الحادث من بعد استيجاب تشافع الآنات أو تأخّر المعلول عن العلّة ولا سيّما في الآنات الغير الباقية زمانا لوصولات المتحرّك إلى الحدود المنفرضة المنافية.

فأمّا التشكيك : بأنّ كلّ استعداد فإنّه علّة معدّة ، إذ هو ممّا له بوجوده الحادث فعدمه العاقب مدخليّة في وجود المعلول. والمعدّ ما يفيد حصول استعداد ما. فإذن يلزم أن يتوسّط بين أيّ استعداد فرض والمعلول استعدادات حاصلة على التّعاقب إلى اللّانهاية العدديّة ، واللّانهاية العدديّة على التّعاقب في جهة الأبد غير متصوّرة الخروج إلى الفعل ، فضلا عن أن تكون مستحيلة الحصول ، للانحصار بين طرفين حاضرين. فإذن يمتنع أن يحدث المعلول وأن يتحقّق استعداد تامّ قريب.

فاحلل العقدة فيه : بأنّه لا استعداد إلّا وهو مستخلف في الهيولى المتحرّكة في الاستعدادات استعدادا آخر مؤتنفا. وإذا ما هي في حركتها وافت استعدادا آخر هو بعينه تامّ قريب بالنّسبة إلى معلول ما حادث بعينه ، حان حين أن يزول ذلك الاستعداد ويحدث ذلك المعلول معا في درجة واحدة ، فيحصل فيها استعداد آخر مع وجود ذلك الحادث لحادث آخر عاقب. فإذن ، كلّ من الاستعدادات النّاقصة البعيدة ، فإنّ له في حدوث المعلول مدخلا لحصوله فزواله.

٣٢٧

وأمّا الاستعداد التامّ القريب فإنّما حديث المعلول يتوقّف على حصوله الدّارج ويستلزم عدمه العاقب ، لا أنّه يتأخّر عنه البتة تأخّرا بالذّات وهو من معدّات شبكة الهيولى وشركة المادّة لاصطياد حادث آخر وكمال آخر.

وإن فتّشت عن الحقّ ، فإنّما المعدّات : الحركات الدّوريّة الفلكيّة والصّور والهيئات القائمة في الهيولى. وأمّا الاستعدادات الحاصلة فيهما فمقارنات المعدّات ، وإنّما ينسب الإعداد إليها بالعرض.

حكومة

(١٩ ـ محاولة تصحيح الحدوث الزّمانىّ)

إنّ أكثر شعوب المتكلفين وفريقا جمّا من متفلسفة المقلّدين ، إذ يظنّون بالفلاسفة المتهوّسين في جاهليّة الفلسفة وفجاجة الصّناعة أنّهم يتأثّلون ، حيث هم في محاولة تصحيح الحدوث الزّمانىّ.

تمّت فى شهر جمادى الأوّل من شهور سنة خمسة وعشرين ومائة بعد الألف على يد الحقير الفقير ابن المرحوم ملّا أبو على محمّد رفيع ، الطالقانىّ الساكن بالقزوين ، غفر لهما ولجميع المؤمنين والمؤمنات بمحمّد وآله الأطهار.

٣٢٨

مصنّفات ميرداماد

(٦)

الصراط المستقيم

هو مفيض الحقّ وملهم الصّدق

كتاب الصّراط المستقيم في كيفيّة ارتباط الحادث بالقديم

وفّقنا الله لإتمامه ، بمنّه وكرمه ، كان الشّروع فيه في العشر الأخير من أوّل ربيعى عام ١٠٠٣.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

البقاء دون أفق عزّك وجلالك ، اللهمّ ، والثّناء وراء سرادق قدسك وكمالك ، يا أوّل الأوّل وعلّة العلل ، القدم حريم لجبروت ربوبيّتك ، فأسر بعقولنا ليلا من أدنى قاع الحدوث إلى الأقصى من ساحة جنابه ، الّذي باركت حوله ، والعدم غريم لذمّة مربوبيّتنا ، فدلّ نفوسنا صحوا على تجارة لا تبور ، من محو عماء الموهوم مع صحو فضاء المعلوم بفيض فضلك الّذي لا يوازى الحمد طوله. نبّهنا من رقدة الطّبيعة في غسق ليل الخلق بفلق صبح الأمر ، نزّهنا [٤ ظ] عن قاذورة الجسميّة بتلويث الوهم ، ونحن بموطئ العقل على شاطئ النّهر الغمر ، هيّج لنا من تيّار قدسك أمواجا تثير سحابا يطهّرنا من شوائب رجس الهيولى ، وهيّئ لنا من تطوار أمرنا رشدا يحثّنا على رفض أدناس الحواسّ ، فندع الجلباب الجسدانىّ كقميص نلبسه تارة ونخلعه أخرى.

يا من شموس أنواره أضاءت وجوه النّفوس الزّاكية ، وعكوس أشعّته أنارت نجوم

٣٢٩

العقول الهادية ، حمدك عن لسان قدرة [٤ ب] العقل في الأفق الأقصى ، ولك المجد الّذي لا سبيل إليه للمنتهى ، وأنت وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، احتجبت بشدّة ظهورك عن أبصار بصائر المفارقات النّاظرة ، ورتّبت بكمال عنايتك الأولى على حسب ازدواج جهتى القهر والمحبّة سلسلتى الأنوار المدبّرة والقاهرة.

يا آخذ العقول والنفوس بنواصيها ، إنّ نفسا جائزة هبطت من ذروة كمالها ، فاغتربت في مغارب هاوية الإدراكات الحسّيّة ، ورجعت عن صوب تجرّدها ، فانتكست في مغايب زاوية اللّذات الجسميّة ، ثمّ أتتك تائبة [٥ ظ] من ذنوب الهيولى فطلبتك ، وناجتك بسهرة الأعين في حيّ جودك على باب عطائك ، وتذكّرت فسارعت راجعة إليك ، مضرمة نار اللهف في مهجة الأسف ، رانّة على ضالّتها من الحكمة المتلفة ، نزيلة بجوار فنائك ، فهل لها إليك من سبيل ، أو تردّها في انقلاب النّاكسين من غير دليل ، لا بل تبلّغها حقّها بالوصال وتؤدّى إليها قسطها من الكمال.

ربّنا وربّ مبادينا ، أنت مبدأ الوجود ومعاده ، [٥ ب] فمنك بدأ في بادئ الأمر وإليك يعود في عائده ، وفضلك ذخر طود الإمكان وعماده ، فلك منك حمد يكون إزاء لوافر إفضالك ورافده.

وصلواتك على ذوى الزّلفة لديك واولى السّفارة من لدنك ، من الذّوات المقدّسة والنّفوس المطهّرة ، ملوك بقعة الشرف والعصمة ورؤساء حظيرة العلم والحكمة ، نفوس جسد الإمكان وشموس فلك العرفان ، مخصّصة بيت قصيدتهم وصدر جريدتهم ، مقوّم الشّريعة النقيّة السّمحاء ومتمّم الطريقة القويمة البيضاء ، (٦ ظ) محمّدا وآله ، نجوم سماء العصمة والهداية ، وأقمار فلك الإمامة والخلافة ، وحماة معالم الدّين وهداة سبل العلم واليقين ، ولا سيّما من هو منهم أعظم بين الأمّة وهم أرومة الفضل وأشرف قبائل النّوع ، كالمعقول بين المحسوس ، إمام طبيعة الإمكان وأمير نوع الإنسان ، على بن أبى طالب ، بأطائب التّسليمات وأزاكيها.

ربّ بدأت فتمّم ، يا واهب الحياة ومفيض العقل ، خلقت فاهد ، قضيت فاعف ، ملكت فأنعم.

٣٣٠

[مقدمة]

وبعد ، فأحوج الخلق إلى [٦ ب] الربّ الغنىّ ، محمد بن محمد المدعوّ بباقر داماد الحسينىّ، يلقى إليكم إخوان التجريد ويملى عليكم خلّان التفريد : إنّه قد طال اقتراحكم ، معاشر المتعلّمين ، في استكشاف معضلة «ارتباط الحادث بالقديم» وتسهيل عويصاتها بالفكر القويم ، على طريقتى الفلسفة اليونانيّة والحكمة اليمانيّة ، وتحقيق كلام الملّيين والذّبّ عنهم على أحكم تحرير وأقوم تبيين ، ظانّين أنّى أنا ابن بجدتها والكافل بإشباع القوّة النظريّة في رسلها ونجدتها. وإنّه لدىّ يعرّف (٧ ظ) بدخلة الأسرار وعلى يديّ تصرّف ناخلة الأفكار، إذ نهوض مواكب الحقائق الحكميّة يرصد عندى بتكارير الأرصاد العقلانيّة ، وفيوض خواطف البوارق الإلهيّة تتصل إلى بخلسات تتفق في تضاعيف الأسفار الرّوحانيّة ، لأنّى ، على ما قيل :

إذا ما بدت ليلى فكلّى أعين

وإن هى ناجتنى فكلّى مسامع

تجافت جنوبى في الهوى عن مضاجعى

إلى أن جفتنى في هواها المضاجع

فمسك حديثى في هواها لأهله

يضوع وفي سمع الخليّين ضائع [٧ ب]

وما ربّك على الغيب بضنين ،

ولا فيضه عن القابل بمتراخ إلى حين

فأستعفيت عنكم عشيرتى بالتّأخير ، وأتيتكم رهط طلّاب الحكمة بالمعاذير ، علما منّى بأنّ المطلب لعلى غموضة تعمش فيها أبصار العقول وتدهش فيها بصائر الفحول ، دارت على ذكره الكئوس الرّءوس وسكرت به ، وهمجت له العيون ونفهت له النّفوس. ومع أنّه أحد أقطاب الإسلام الّتي يدور عليها رحى الدّين لم يأت أحد فيه بما يقنص شارد اليقين ، لم ير الرّاءون ولم يرو الرّاوون عن أحد من الأواخر والأوائل في مداحض (٨ ظ) غوامضه استقصاء إلّا كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء.

هذا مع ما أنا فيه ، من تراكم الفتن وتزاحم المحن وانقراض الأحبّاء وانخفاض الألبّاء ، على فترة من أولياء العلم وتناهيهم ، واعترام من دهيماء الكربة ودواهيها. فلقد أصبح قلب الفضل مثقوبا ، وأمسى عيش الخلق مجبوبا. فالله ، الله ، من زمان منينا به ، عظم فيه البلاء وبرح الخفاء وضاقت الأرض ومنعت السّماء ،

تولّى زمان لعبنا به

وهذا زمان بنا يلعب

٣٣١

ومع ذلك ، فإنّ قلوب العشيرة من الحقد مملوّة ، [٨ ب] ونفوس الطّائفة بالحسد ممنوّة ، لله درّ صاحب المثنوى ، حيث قال :

چون كه اخوان را دلى كينه ور است

يوسفم در قعر چاه اولاتر است

فالشادّ حيزومه لإنجاح طلبتكم ، والأمر على هذا المساق يعدّ من حزب من يدّعى مساحة السّماء بذرعه والمتشمّر ذيله للسماح بسدّ مسغبتكم ، والزّمان على هذا السّياق يلحق فى الحكم بمن يبتغى البروز إلى قتال القضاء برمحه ودرعه. ومهما استعفيت أبيتم إلّا المراجعة ، وأبيت إلّا المدافعة. فالآن لذت بربّى وربّكم معتصما بحبل تأييده وتسديده ، وتذكرت (٩ ظ) قول الشّاعر :

لإن كان هذا الدّمع يجرى صبابة

على غير ليلى فهو دمع مضيّع

وأسعفتكم على مؤمّلكم حسبما اقتضاه ذوقى من الفطنة ووسعه قسطى من الحكمة بهذا «الصّراط المستقيم» النّاطق بكلمات إلهاميّة من لدن حكيم عليم تعيها أذن واعية.

فيا قوم ، هاؤم اقرءوا كتابيه ، فإنّ فيه من الجواهر ما بأبأته البحار بدررها وفدته الأفلاك بدراريها عسى أن يصبح به بحر المرام بسججه عذبا فراتا بعد ما كان ملحا اجاجا ، ويوضح به طور الكلام بقبسه ، [٩ ب] إلى طور المقام طرقا فجاجا.

فقد أوردت فيه طريقة الفلسفة اليونانيّة على مشرب متفلسفيها وفلاسفتها وأوضحت مسلك الملّة الإسلاميّة من الحكمة اليمانيّة على اختلاف أذواق الفرق من محقّتها ومبطلتها ، حتّى أشاعرتها ومعتزلتها ، بطبقات بسط الكلام ، من الردّ والإحكام والنّقض والإبرام ، ثمّ تشييد ما هو الرّكن الوثيق لديّ ، وتحقيق ما هو الطّريق الأنيق إلى ، على ما ورثته من الأقدمين. التقطت من عباراتهم واستفدت من إشاراتهم ما لم يورثه أحد أحدا ، (١٠ ظ) ألهمت وتحدّثت به ، أو أسهرت العين وكهّرت النّفس له من تعيين للمبهمات وتبيين للمهيّمات على تدقيق لم أزاحم عليه وتحقيق لم أسبق إليه ، أجرى به قلمى ، والأمر أوضح من نار على علم ، مضيفا إلى ذلك كلّه ما ناسبه من المقدّمات أو زامله من المتمّمات. (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) ، (الطارق ، ١١ ، ١٤).

ولمّا استوى أمر المرام واستقام مقام الكلام ، خدمت به أعلى سدّة [١٠ ب] من

٣٣٢

هو للعدل مزاج ، وللدهر ابتهاج ، وبعهده بين الأضداد تمزيج ، لا الإمكان لنظيره في السّلطنة على احتذاء ، ولا الملك عنه بغيره إلى الخلافة في اجتزاء ، حارس بيضة الملك والدّين ، حامى حوزة الحقّ واليقين ، مشبع جياع السّيوف والسّهام من مهج الأعادى ، مطعم طمّاح الأمل بالإنعام من نوال الأيادى ، جماهير الخلق من حزمه وحمايته في مهد الأمن والأمان وكنف العدل والإحسان ، الحائز السّعادتين الدّينيّة والدّنيويّة ، الجامع السّيادتين النّسبية والسّببيّة ، [١١ ظ] سلطان سلاطين الآفاق ، كجدّه وأبيه ، خاقان الخواقين على الإطلاق ، كعمّه وأخيه ، المؤيّد من السّماء على سهم قويّ ، المظفّر على الأعداء بتأييد سماويّ ، أبى المظفر ، السلطان ، شاه عبّاس ، بهادر خان ، الصّفويّ الموسويّ الحسينىّ ، لا زال أطناب الخلود مربوطة منوطة بأوتاد ملكه ، وأعناق الجنود خاشعة خاضعة لأطواق حكمه ، ولا برح مذهب العترة الطاهرة من الدّين المبين مكنوفا بحمى حمايته ، والطّائفة الفائزة الإماميّة [١١ ب] من أهل اليقين محفوفة بالرّفاهية بمحروسة عنايته ، ملحوظة على الكلاءة بعين حراسته :

من قال آمين أبقى الله مهجته

فإنّ هذا دعاء يشمل البشرا

فإن بلغ بتلك الحضرة نصاب

القبول فهو منتهى مآرب المأمول.

نقص در باشد ار بها كنمش

هم به انصاف شه رها كنمش

والله أسأل أن يعصمنى من سقطات الفكر وهفوات الوهم ، ويرشدنى طريقا إلى رفض البدن ولذّاته ، لذّات الزّور ، ونفض الحواسّ وآلاتها ، آلات القبور ، ويهب لقلبى راحلة من صحيح النّظر ، فيسهل بها [١٢ ظ] مسيرى ما بين تهامة العلم وفلسطين الحكمة ؛ ولخلدى جناحا من العقل ووشاحا من النّور ، للطيران الرّوعىّ واللمعان السّطوعىّ ، فيتيسّر لى أن أطير إلى فضاء عالم القدس وجوار صقع الرّبوبيّة ، وأن يجعل مبلغى من العلم الكمال ، ونصابى من العمل الإخلاص ، وقسطى من الحكمة الفلاح ، وسهمى من السّعادة عظماها ، ونصيبى من البهجة قصواها ، وجهتى من العقل الانجذاب إلى سعة علله ووميض جنابه ، وخاتمة [١٢ ب] أمرى المصير إلى الإعراض بجمّة الهمّة عن صوب الخلق ، والإقبال بكليّة القلب على وجهة الحقّ ، إنّه لا يجبه بالرّدّ السّائلين ، ولا يقطع بالخيبة أمل الآملين.

٣٣٣

وها أنا أتأهّب لعرض بضاعتى المزجاة في عرض من البيان يودع في مساقات ، تسبقها وصيّة ، وتلحقها تختمة ، مبتهلا إلى الله لنيل الرّشاد ، إنّ ربّك لبالمرصاد ، فليصغ الهلوع في تحقيق الحقّ لما يتلى عليه وليصغ المولع بتصديق الصّدق لما يلقى إليه. [١٣ ظ]

عهد ووصيّة

إنّ أقوى ما تتخذه مطيّة في سفرك إلى العالم العقلىّ ورجوعك إلى مبدأ الوجود ومعاده ، هو بارقة العلم ، كما ورد به شريف التّنزيل ونطق به مبلّغه الكريم النبيل ، عليه‌السلام ، ولقد قيل: «لو صوّر العقل لأظلمت عنده الشمس ، ولو صوّر الجهل لأضاءت عنده الظّلمة».

وقال معلّم صناعة الفلسفة أرسطوطاليس : «النفس ليست في البدن ، بل البدن في النّفس ، لأنّها أوسع منه ؛ ومن أراد أن ينظر إلى صورة نفسه المجرّدة فليجعل من الحكمة [١٣ ب] مرآة».

وذكر الشيخ الرئيس أبو على ابن سينا في رسالة («المعراج» ، ص ٩٤) على لغة الفرس ما ترجمته :

«إنّ أشرف النّاس وأعزّ الأنبياء وخاتم الرّسل ، عليه‌السلام ، قال لمركز الحكمة وفلك الحقيقة وخزانة العقل ، أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، عليه‌السلام ، الّذي كان بين الصّحابة ، الّذين كانوا هم أشرف قبائل العالم ، كالمعقول من المحسوس : «إذا تقرّب النّاس إلى خالقهم بأنواع البرّ تقرّب إليه بأنواع العقل تسبقهم». («احاديث مثنوى» ، به نقل از حلية الاولياء ، ص ٣١). ومثل هذا الخطاب لا يصحّ ولا يليق إلّا أن تكون المخاطبة مع كريم رفيع القدر [١٤ ظ] عظيم المجد مثله.

قال : «يا على ، إذ عنّى النّاس أنفسهم فى تكثير العبادات والخيرات ، فأنت عنّ نفسك في إدراك المعقول حتّى تسبقهم كلّهم».

فلا جرم ، لمّا صار على ، عليه‌السلام ، ببصر البصيرة العقليّة مدركا للأسرار ، نال الحقائق كلّها ، ولذلك قال : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». لا حشمة ولا جاه للإنسان أعظم من إدراك المعقول. الجنّة المزيّنة المحلّاة بأنواع حليها ونعيمها وزنجبيلها وسلسبيلها إدراك المعقولات ، ودركات جهنّم بأغلالها وسلاسلها [١٤ ب] و

٣٣٤

جحيمها وزقّومها متابعة الأشغال الجسمانيّة ومعانقة القوى الدّاثرة الحسّانيّة».

وقال فيها أيضا : فكّ رقبة النّفس عن أسر الوهم بالعلم أهون منه بالعمل ورفع غلّ الوهم عن الإنسان يتيسّر بالعلم أسرع ممّا يتيسّر بالعمل ، لأنّ العمل ممّا يقبل الحركة ، وقابل الحركة لا يكون معاده ومرجعه إلّا إلى المحسوسات. وأمّا العلم فإنّه قوّة الرّوح ولا يسير إلّا إلى المعقول. كما قال سيّد الكائنات عليه‌السلام : «قليل العلم خير من كثير العمل» ، وقال : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، وقال أمير المؤمنين [١٥ ظ] على بن أبى طالب عليه‌السلام : «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه» ، يعنى قدر الإنسان في العلم.» انتهت عبارته مترجمة. («معراج نامه» ، ص ٩٤).

إيقاظ عقلىّ

معانقة حبيب العلم ومشاهدة نور الحقّ عنك بمراحل لا تتناهى ، وأنت من داثر بدنك في قرية الهيولى الظّالم أهلها. اذكر الله وتذكّر قول سيّدنا ونبيّنا وهادينا ، عليه وآله الصّلاة والسّلام : «أعدى عداك نفسك الّتي بين جنبيك» ، وأهمل جهة الجسم واهتد.

قال أرسطوطاليس في كتابه («أثولوجيا» ، ص ٢٢) ، أى الرّبوبيّة : «إنّى ربما خلوت [١٥ ب] بنفسى وخلعت بدنى جانبا وصرت كأنّى جوهر مجرّد بلا بدن ، فأكون داخلا في ذاتى راجعا إليها خارجا من سائر الأشياء ، فأرى في ذاتى من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا باهتا ، فأعلم أنّى جزء من أجزاء العالم الشّريف الفاضل البهىّ ذو حياة فعّالة. فلمّا أيقنت بذلك رقيت بذهنى من ذلك العالم إلى العلّة الإلهيّة ، فصرت كأنّى موضوع فيها متعلق بها ، فأكون فوق العالم العقلىّ كلّه ، فأرى كأنّي واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهيّ. فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته ولا تعيه الأسماع [١٦ ظ]. فإذا استغرقنى ذلك النّور والبهاء ولم أقو على احتماله هبطت من العقل إلى الفكر والرويّة. فإذا صرت في عالم الفكر حجبت الفكرة عنّى ذلك النور والبهاء ، فأبقى متعجّبا أنى كيف انحدرت من ذلك الموضع الشّامخ الإلهيّ ، وصرت في موضع الفكرة بعد أن قويت نفسى على تخلية بدنها والرّجوع إلى ذاتها والترقّى إلى العالم العقلىّ ثمّ إلى العالم الإلهيّ حتّى صرت في موضع البهاء والنّور الّذي هو علّة كلّ نور وبهاء. ومن العجب أنّى كيف رأيت

٣٣٥

نفسى ممتلية نورا ، وهي في البدن [١٦ ب] كهيأتها وهي غير خارجة منه». انتهى كلامه («افلوطين عند العرب» ، ص ٢٢).

واعلم أنّ العلم الإلهيّ ، لصعوبته ، لكونه علما بما وراء المحسوسات والمتوهّمات المألوفة للطبائع الإنسيّة ومحتاجا إلى برهان صحيح وكشف صريح ، ولا يخلو شيء منها عن موانع وشبه ، يعسر على أكثر الخلق التلخّص عنها إلّا من أيّد بروح قدسيّة تريه الأشياء كما هي ، من بين العلوم ، بمزيد احتياج إلى تجريد للعقل وتصفية للفكر وتلطيف للسرّ.

ولذلك قال سقراط : «لا يعلم العلم الإلهيّ إلّا كلّ ذكىّ صبور ، لأنّه لا تجتمع الصّفتان إلّا على النّدرة» [١٧ ظ] ، إذ الذّكاء يكون من ميل مزاج الدّماغ إلى الحرارة ، والصبر يكون من ميله إلى البرودة ، قلّ ما يتفق الاعتدال الّذي يستويان فيه ويقومان به.

وقال أرسطو : «من أراد الحكمة فليستحدث لنفسه فطرة أخرى». وكأنّه أراد بها الإلهيّة ، فإن اشتهيت أن تشفى في صدر الوصال بكأس الكمال من رحيق مختوم ختامه مسك ، فارفض الجسم ومت بالإرادة تحي بالطّبيعة.

وبالجملة ، رفض البدن الّذي هو سجن النور الأسفهبديّ ومحتد [١٧ ب] ظلمة الطّبيعة وأفق غسق الهيولى ومهوى كدورة المزاج وموطن الموت الأبديّ ومعدن النّقص السّرمديّ وزاوية موتان الأرواح وهاوية خسران الأرباح ، واستحقار ملاذّه الخسيسة الحسّية الجسمانيّة الهيولانيّة ؛ إكسير البهجة والسعادة ، وكبريت نور الحياة السّرمديّة ، ورأس مال تجارة الكمال ، وسراج حظيرة البهاء والجمال ، وترياق سمّ الموت ، ومغناطيس قرب نور الأنوار ، جلّت سرادقات عظمته عن اصطكاك أيدى العقول والأفكار ، مع أن [١٨ ظ] ليس غاية الحركة في سفر النّفس للاستكمال ، ولا منتهى المنازل الذي فيه قرار العقل وسكوت النفس واطمينان القلب وراحة البال ؛ بل إنّما وقع في وسط الطريق وهويّته بالنّسبة إلى الغاية ، والمقرّ المستقرّ هو الغيبوبة عن النفس وملاحظة جناب القدس وترك الالتفات إلى ما تنزّه عن الاشتغال به ومهاجرة البجج بزينة الذّات من حيث هي الذّات وإن كان بالحقّ ، فإنّ ذلك أيضا غرور وخيال وبعد ووبال.

٣٣٦

فإذا وصل العارف إلى هذا [١٨ ب] المقام ـ وليس وراء عبّادان قرية ـ رأى كلّ وجوب مستغرقا في الوجوب بالذّات ، وكلّ وجود في الوجود بالذّات ، وكلّ علم في العلم بالذّات ، وكلّ قدرة في القدرة بالذات ، وكلّ إرادة واختيار في الإرادة والاختيار بالذّات ، وكلّ حياة في الحياة بالذّات ، فيصبح كلّ وجود وكلّ كمال وجود صادرا عن واجب الوجود بالذات ، فائضا من لدنه تعالى ، بل مستهلكا في حضرته ، بحيث لا يستحقّ غيره اسم الوجود ، فيصير الحقّ تعالى للعارف بصره الّذي به يبصر ، وسمعه الّذي به يسمع ، [١٩ ظ] ويتمّ هناك التّخلّقّ بأخلاق الله بالحقيقة.

ويعجبنى في التعبير عن هذه المراتب قول الشيخ أبى نصر الفارابيّ : «إنّ لك منك غطاء ـ فضلا عن لباسك ـ من البدن ، فاجتهد أن تتجرّد ، فحينئذ تلحق ، فلا تسأل عمّا تباشره ، فإن ألمت فويل لك وإن سلمت فطوبى لك ، وأنت في بدنك ، كأنّك لست في بدنك. وكأنّك ترى من صقع الملكوت ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فاتّخذ لك عند الحقّ عهدا إلى أن تأتيه فردا («فصوص الحكم» ، ص ٦٨).

وقوله (ص ٦٠) : «إذا كان مرتع بصرك ذلك الجناب ، ومذاقك (١٩ ب) من ذلك الفرات كنت في طيب ثمّ تدهش. انفذ إلى الأحديّة تدهش إلى الأبديّة.»

وصاحب («الإشارات» ، ص ٣٩٠) ، جمع مقامات العارفين في هذه العبارة : «العرفان مبتدأ من تفريق ونفض وترك ورفض ، ممعن في جمع هو جمع صفات الحقّ للذات المريدة للصدق ، منته إلى الواحد الحقّ تعالى ثمّ وقوف» فهذه درجات التزكية.

وأمّا درجات التحلية ، فجمعها بقوله : «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثانى ، ومن وجد العرفان ، كأنّه لا يجده ، بل يجد المعروف به ، فقد خاض لجّة الوصول. وهنالك درجات [٢٠ ظ] ليست أقلّ من درجات ما قبله ، آثرنا فيها الاختصار ، فإنّها لا يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها غير الخيال. ومن أحبّ أن يتعرّفها فليتدّرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة ، ومن الواصلين إلى العين دون السّامعين للأثر.» (ص ٣٩٠) انتهى ، فليتبصّر.

ثمّ معاشر الإخوان ، إنّ لى عندكم عهدا وعليكم ميثاقا ، أشهد الله به على و

٣٣٧

عليكم ، وكفى به شهيدا وكفى به وكيلا ، أن لا تبيحوا النّظر في مطالب كتابى هذا للجهلة أو المتفلسفة الّذين لا يوثق لهم بنقاء السّرّ وسلامة (٢٠ ب) الذّوق وعلوّ الهمّة وتوقّد الفطرة واستقامة الفطنة ؛ ولا للهمج الرّعاع من الّذين انصرفت همم نفوسهم عن صوب سلوك الطريقة العقليّة ودخول المدينة الرّوحانيّة وتطواف كعبة الملكوت مع الملأ الأعلى واستقبال شطر مسجد حرام الكمال ، وهو الوجهة الكبرى ، إلى تدبير مدن الأبدان المظلمة الفاسدة المستحيلة الهالكة واقتناء شهواتها وتحصيل آمالها ولذّاتها وتسليط النّاسوت على اللّاهوت وتصيير النّفوس أسارى الأجساد وعبيدها وجعل الأجساد آكلة للنفوس ، وحبل [٢١ ظ] الأسر في جيدها ، لا مخفّفة عنها أو زار الطبيعة ولا مذهبة ظلمها بأنوار الشّريعة، لا هم بمعزل عن تقيّة الموت ولا بمعزل عن محبّة الباطل ، لا نفوسهم صفّاحة للأحقاد ولا قلوبهم نسّاءة للأكياد ، فاهجروهم ، واصبروا صبرا جميلا ، ولا تعدّوا الضّانّ عليهم بخيلا ، فكلّ ميسّر لما خلق له ، وإلى الله مرجعهم جميعا.

٣٣٨

المساق الأوّل

في مقدّمة ما أريد تقديمه ،

وفيه ترع

التّرعة الأولى

في أوعية الوجود وأحوال الموجود بحسبها وما يلتصق بذلك

فصل (١)

يبتدأ منه مأخذ النّظر [٢١ ب] في الامتداد الزّمانىّ وما نيط به تقرير الزّمان. وإن أنكر المتكلمون وجوده ، فالّذى يشبه أن يكون ظاهر الإنيّة وإن كان خفىّ الماهيّة على وفق ما ذهب إليه المحققون من الحكماء ممتدّا امتداد الكميّات المتصلة به تتكمّم الحركة.

[١] تنبيه تحصيليّ

أليس بعض الحوادث بوجوده أو عدمه يسبق بعضا ، بحيث يمكن للعقل بمعونة الوهم أن يتصوّر مرور أمر ممتدّ بهما ، فيختصّ كلّ منهما بجزء معيّن منه ينطبق هو عليه. فهذا نحو من القبليّة والبعديّة. وما أسهل لك بسليم ذوقك أن تحكم على الوجود والعدم من حيث [٢٢ ظ] هما وجود وعدم ، أو من حيث الإضافة إلى أشخاص معيّنة من الماهيّات ليست بينها علاقة التقدّم والتأخّر من حيث هي تلك الأشخاص بامتناع عروض تلك القبليّة والبعديّة لهما بالذّات ، فالمعروض بالذّات هو ما نسمّيه الزّمان.

وأنت إذا فتّشت وجدت المنكرين في الاعتراف من حيث هم لا يشعرون ، فإنّ جمهورهم يقسمونه إلى أجزاء يعبّرون عنها بالقرون والسّنين والشّهور والأيّام والسّاعات ، لا على أنّه مجرّد اعتبار من عقولهم أو اختراع من أوهامهم.

٣٣٩

[٢] تحكيم

كأنّك [٢٢ ب] ببصيرة العقل لو اتّخذتها مقياسا تجد ما سلكناه أوثق من طريقتهم أنّ الحادث بعد ما لم يكن له قبل قبليّة يمتنع بها للقبل والبعد أن يكونا معا في الوجود ، لا كقبليّة الواحد على الاثنين وأمثالها من التي لا تمنع ذلك. ففيه تجدّد بعديّة بعد قبليّة باطلة ، وليست هي نفس العدم ، فقد يكون العدم بعد ، ولا ذات الفاعل. فقد يكون قبل ومع وبعد. فإذن هناك شيء آخر لا يزال يتجدّد ويتصرّم على الاتصال ، فسيقرع سمعك أنّ القبليّة الّتي تحجز القبل والبعد عن أن يكونا معا حصول الوجود أعمّ [٢٣ ظ] وأوسع من الّتي تعرض الزّمان بالذّات وتوصف بها الزّمانيّات. فنحو منها يكون باعتبار الزّمان ونحو آخر منها يتقدّس عن الوقوع في افق الزّمانيّات ، وإنّما يكون بحسب الدّهر أو السّرمد.

[٣] تسديد

القبليّة والبعديّة وإن كانتا إضافيّتين لا توجدان إلّا في العقول ، فإنّ ثبوتهما في العقل لشيء بحسب الأعيان يفضى إلى وجود معروضهما بالذّات ، وهو الزّمان ، مع ذلك الشّيء وكونهما إضافيّتين يجب أن يوجدا معا لا يوجب فساد ظنّهم أنّه متصل غير قارّ الذّات. إذ الإضافتان العقليّتان يجب أن يوجد معروضاهما (٢٣ ب) معا في العقل لا في الأعيان ، وعدم الحادث يتصف بالقبليّة باعتبار مقارنة معروضنا ، إذ العدم المقيّد بشيء ما يعقل ويلحق به الاعتبارات الوجوديّة العقليّة.

[٤] إفصاح

هذا المعروض بالذّات ، وهو المسمّى بالزّمان ، حقيقة متجدّدة متصرّمة متصلة بذاتها تنفرض فيها قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة للأجزاء المسامتة والحركة متصلة اتّصالها تضاهي المقادير في امتناع التّألف من غير المنقسمات. فهو مقدار الحركة الّتي هي التّقضّى والتجدّد ، وليس له ماهيّة غير اتصال الانقضاء والتجدّد. كما أنّ الكم المتصل [٢٤ ظ] مقدار الجسم ، ولا حقيقة له سوى امتداد الجسم ، فذلك الاتصال امتداد لا يتجزى إلّا في الوهم. فليس له أجزاء بالفعل ، ولا فيه قبليّة وبعديّة قبل التّجزئة.

٣٤٠