مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فإذن قاطبة الأشياء المسبوقة بالعدم الدّهريّ فائضة عن صنع الجاعل الحقّ في الدّهر أبدا بحسب حدوثها وبقائها الدّهريّين جميعا ، ليست هي بعد الفيضان غير منسلخة عن طباع الجواز ، والتّقرّر حال التّقرر جائز الانتفاء بالنّظر إلى الذات الجائزة في ضمن الانتفاء المطلق رأسا ، فلا يكون وجوبه إلّا من قبل التقرّر المفروض ، وليس هو إلّا من تلقاء إفاضة الجاعل.

ثمّ أليس ما في عالم الزّمان من الكائنات على ما هي عليه من التّدريجات والتّدرّجات والتّقضّيات والتّجدّدات من تلقاء صنع الصّانع الحقّ وتكونيه ، والمرّة الواحدة الدّهريّة بعينها مرّات زمانيّة متعاقبة بالقياس إلى الزّمانيّات المتلاحقة لا إلى نهاية أخيرة لا تتعدّاها ، وكذلك الإفاضة الدّهريّة بعينها إفاضات زمانيّة عند الزّمنيّين.

فإذا تدبّرت انصرح لك من هذه السبل : أنّ رحمة ربك فعّالة الجود عمّالة الفيض على الاستدامة والاتصال جودا غير مصروم وفيضا غير مجذوذ ، وأنّه ، عظم سلطانه ، يصبّ الفيض فى وعاء التجوهر والوجود ، وأنّ الله سبحانه لا يجرى عليه حركة ولا سكون ، لا في ذاته ولا في صفاته وجهات ذاته ، ولا في فعله وصنعه ، ولا في أفا عليه ومصنوعاته بقياسها إليه ومصنوعاته بقياسها إليه بحسب الصّدور عنه والمثول بين يديه. ومع ذلك كلّه ، فسبحانه عن العطلة والكلال ، إنّ رحمة ربّك فعّالة الجود ، عمّالة الفيض على الاستدامة والاتّصال جودا غير مصروم وفيضا غير مجذوذ ، وإنّه ، عظم سلطانه ، يصبّ الفيض في وعاء التجوهر والوجود ، أعني الدّهر ، أبدا ، صبّة واحدة. فلا يزال يصنع ويجعل ويفيض العوالم بأسرها معا مرّة واحدة غير زمانيّة ولا آنيّة :

أمّا عالم الأمر والحمد ـ وهو الأنوار العقليّة والجواهر الثّابتة وبالجملة الإبداعيّات ـ ففى كبد الواقع ومتن الأعيان لا في زمان ولا في آن. وأمّا عالم الخلق والملك ـ وهو الظّلمات الهيولانيّة والبرازخ المتغيّرة الجسمانيّة وبالجملة التكوينيّات ـ ففى الأزمنة والآنات والأحياز والأمكنة ، كلّ هويّة شخصيّة منها بشخصيّتها في وقت بخصوصه وفي حيّز بعينه ، وهي على تدرّجاتها وترتّباتها وغيبوبة بعضها عن بعض في عالمى الزّمان والمكان غير متدرّجة التقرّر ولا متعاقبة الحصول بالقياس إلى جنابه سبحانه ، وبحسب المثول بين يدى علمه وقدرته و

٣٠١

جاعليّته وصانعيّته. فإذن كلّ يوم هو في شأن ولا يشغله شأن عن شأن.

ولعلّ لمبلغ ذا في التّحصيل ميقات بزوغ السّرّ في قول سيّدنا ونبيّنا خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين ، عليه وآله الطاهرين أنمى صلوات المصلّين ، حيث سئل : «أنحن في أمر فرغ منه أم في أمر مستأنف؟ فقال عليه صلوات ربّه : في أمر فرغ منه وفي أمر مستأنف». وحيث قال صلوات الله عليه : «جفّ القلم بما هو كائن. فقيل له : ففيم العمل؟ فقال (ع) : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له.» (صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٢٠٤٠).

وحكى من انصبغت يداه بالبراعة في علوم اللّسان في «الكشاف» عن عبد الله بن الطّاهر : أنّه دعى الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت علي ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لى ومنهنّ قوله عزّ من قائل : «كلّ يوم هو في شأن» ، وصحّ : أنّ القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة. فكلّم الحسين بهنّ ـ إلى أن قال : ـ وأمّا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرّحمن : ٢٩) ؛ فإنّها شئون يبديها لا شئون يبتديها ، فقام عبد الله وقبّل رأسه وسوّغ خراجه.

ختام

(١٤ ـ الخلق والبعث والمخلوقات)

إنّ ممّا ينصّ في القرآن الحكيم على هذه الحقائق قوله عظم سلطانه وبهر برهانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، (لقمان : ٢٨).

في «الكشّاف» : و «ذلك أنّه إنّما كانت تتفاوت النّفس الواحدة والنّفوس الكثيرة العدد أن لو كان يشغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك. «إنّ الله سميع بصير» ، يسمع كلّ صوت ويبصر كلّ مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن ادراك بعض ، فكذلك الخلق والبعث» (الكشاف ، ج ٣ ، ص ٥٠٢)

وكذلك قوله سبحانه : (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، (الحديد : ٤) ، حيث أثبت المعيّة الإحاطيّة العامّة بالنّسبة إلى الجميع على الاستغراق. وقوله عزّ شأنه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، (يس : ٨٢) ، حيث آثر «إذا» الإطلاقاتيّة الحقيقيّة الوجوبيّة على «كلّ» التكثيريّة التكريريّة التّدريجيّة.

وفي السّنّة السّانيّة الشّارعيّة النّبويّة قول سيّدنا رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جفّ القلم بما هو كائن» ، وقوله عليه صلوات ربّه : «جفّت الأقلام وطويت

٣٠٢

الصّحف». (١) وقوله عليه وآله تسليمات من الله وملائكته : «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة». (٢)

وفي الخطب القدسيّة الوصويّة قول ترجمان الوحى وقهرمان الحكمة وباب مدينة العلم ومن عنده علم الكتاب ، مولانا أمير المؤمنين ، وصىّ رسول الله ، صلوات الله وتسليماته عليه :

(١) في «نهج البلاغة». «الحمد لله الذي لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، وظاهرا قبل أن يكون باطنا لم يحلل في الأشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن» (ع ٦٥ ، ص ٩٦).

(٢) وقوله ، صلوات الله عليه ، في خطبة الأشباح : «ما اختلف عليه دهر فتختلف منه الحال ، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال. ومن هذه الخطبة : المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من حوادث الدّهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ بأمره وأذعن لطاعته وأجاب إلى دعوته ، لم يعترض دونه ريث المبطئ لا أناة المتلكّئ». (ع : ٩١ ، ص ١٢٤) إلى آخر كلامه الشريف صلوات الله تعالى عليه.

(٣) وفي خطبة تتضمّن أصول التوحيد وتجمع مجامع التمجيد : «لا تصحبه الأوقات ولا تردفه الأدوات ، سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله ، لا يجرى عليه السّكون والحركة ، وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذن لتفاوتت ذاته ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذ وجد له أمام ، ولا لتمس التمام إذ لزمه النّقصان ، لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال ، ولا تبليه اللّيالى والأيّام ، ولا يغيّره الضّياء والظّلام ... ليس في الأشياء بوالج ، ولا عنها بخارج» ، (ع : ١٨٦ ، ٢٧٢).

(٤) ومن خطبة أخرى له عليه‌السلام : ... لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات. لا يقال له : متى ، ولا يضرب له أمد بحتّى ... لم يقرب من

__________________

(١) ـ (صحيح البخارى) ، ج ٧ ، كتاب النكاح ، ص ٤٣).

(٢) ـ (بحار الانوار ، ج ٥ ، ص ٤٨ ، سبق العلم وجفّ القلم).

٣٠٣

الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، ... تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار ونهايات الاقطار وتأثّل المساكن وتمكّن الأماكن ، فالحدّ لخلقه مضروب وإلى غيره منسوب». (ع ١٦٣ ، ص ٢٣٢).

(٥) وفي خطبة اخرى له صلوات الله عليه : «لا يشغله شأن ، ولا يغيّره زمان ، ولا يحويه مكان ...». (ع ١٧٨ ، ص ٢٥٦).

(٦) وفي أحاديث سادتنا الأوصياء الطاهرين ، صلوات الله وملائكته عليهم أجمعين ، ممّا رواه شيخنا الأقدم الأعظم ، عروة الدّين. أبو جعفر محمد بن على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمى ، رضى الله عليهم ، قول مولانا الصّادق جعفر بن محمد الباقر عليهما‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزّمان والمكان والحركة والسّكون ، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا» (التوحيد ، ع ٢٠ ، ص ١٨٤).

(٧) وفي حديث آخر : «استوى من كلّ شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء. لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب ، استوى من كلّ شيء».

(٨) وفي حديث آخر : «هو منها بائن من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة واحاطة وسلطانا. وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا فى السّماء. لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء ، علما وقدرة وسلطانا وملكا واحاطة».

(٩) وقول مولانا الكاظم أبى ابراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجرى عليه زمان». (التوحيد ، ص ١٧٥).

(١٠) وفى حديث آخر : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ولا يحلّ في مكان. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (المجادلة ، ٧) ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلّا هو الكبير المتعال». (التوحيد ، ص ١٧٩).

(١١) وقول مولانا أبى الحسن على بن موسى الرّضا ، صلوات الله عليه ، في كلام

٣٠٤

له جليل القدر طويل الباع ، تكلّم به عند المأمون في التوحيد :

«جهل الله من استوصفه ، وقد تعدّاه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه. ومن قال : كيف فقد شبّهه ، ومن قال : لم فقد علّله ومن قال : متى فقد وقّته ، ومن قال : فيم فقد ضمّنه ، ومن قال إلى م فقد نهّاه ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ لا يتغير الله بانغيار المخلوق كما لا يتحدّد بتحديد المحدود ، أحد لا بتأويل عدد ـ إلى قوله ع ـ باطن لا بمزايلة ، مباين لا بمسافة ، قريب لا بمداناة. ثمّ قوله ع : مدبّر لا بحركة ، مريد لا بمهامة ، شاء لا بهمّة ـ إلى قوله ع : ـ لا تصحبه الأوقات ولا تضمنه الأماكن. ـ ثم قوله : شاهدة ـ يعنى الأشياء ـ بغرائزها ـ أن لا غريزة لمغرّزها ، دالّة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها. ـ إلى قوله : ـ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق. ـ ثمّ إلى قوله : ـ ولا تجرى عليه الحركة والسكون» ، (التوحيد ، ص ٣٦).

إلى آخر ما ساق إليه القول ، صلوات الله وملائكة عليه. فتلك كلمات تامّات ونظائرهنّ في أقوالهم ، صلّى الله على ارواحهم واجسادهم ، كثيرة غير يسيرة».

تعقيب

(١٥ ـ نظام الكلّ ونظر الطوائف في الحدوث)

يا ليتنى كنت أشعر أنّ الزّمنيّين الذين هم عن ثبات متن الدّهر لا هون ، وبتغيّرات أفق التّصرّم والتّجدّد ملتهون ، كيف يحلّ لهم أن يصطلحوا على النّظام الجملىّ ويقنّنوا على احتذاء الكرام المقنّنين أنّ المطلق العامّ من العقود وإن كان حكم العقد على الموضوعات الزّمنيّة لا يكون صدقه متحيّنا شيئا من الأحايين بل يكون إمّا دائم الصدق وإمّا دائم الكذب ، لا غير ، ويقتاسوا بالحكماء القدّيسين في حكمهم : أنّ نظام الكلّ حاصل بالفعل ، فائض عن الصّنع ، بريئا عن الشّر ، نقيّا من السّوء ، على أبلغ الوجوه في انتظام الخير. أليس لا يعقل لغير القارّات كلّ موجود بالفعل في وعاء التّعاقب وظرف اللّاقرار. فمصير نظام الكلّ عند ظنونهم إلى المذهون في الوهم ، لا إلى الموجود في الأعيان. وبالجملة ، نظام الكلّ على حسباناتهم فاسد كائن ، بل متصرّم متجدّد متحرك فى التّصرّم والسّكون على الاتصال أبدا.

٣٠٥

الرّشح الثّاني

في تحقيقات وتفصّيات يستتمّ بها إسباغ الفحص وإشباع النظر في ما كنّا بسبيله

خلسة ملكوتية

(١ ـ موضوع التغيّر مستوجب للامتداد وصدور الحوادث)

التّغيّر هو أن يصدق عقد مطلقين عامّين معا على الموضوع بثبوت صفة ما وسلبها له وعنه فى حاقّ نفس الأمر أو بعروض فردين من طبيعة ما والطّباع المشترك له على التجدّد والتّلاحق ، فيكون المتجدّد له بالقوّة ولا يصير هو موضوعا له إلّا بانفعال مادّته لحصول استعداد يطرأ على جوهرها ويحدث في ذاتها.

وبالجملة ، إنّ [] التّغيّر ما هو المستوجب للامتداد ، وما ليس فى شبكة الهيولى وشركة الطبيعة وفى سجن الجهات والأبعاد لا يكون موضوعا للتّغير أصلا ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في لوازم ذاته وصفاته ، ولا فى الإضافات العارضة لذاته من جهة ما هي عارضة لذاته ، ولا في الأمور المتغيّرة بحسب أنفسها [ومقيسا] بعضها إلى بعض إذا أخذت مقيسة إلى ذاته بالصّدور عنه والحضور عنده والمثول بين يدى علمه وقدرته.

ترشيح

(٢ ـ وجود المبدع الحقّ وجعل العالم وإفاضة الخير)

كلّ ما تعرضه صفة أو طبيعة ما على سبيل التّجدّد والتّلاحق بأن يتقرّر فيه منها فرد ففرد ، فإنّه يكون هيولانيّا بتّة ، ضرورة أنّ تلاحق الأفراد المتقرّرة فيه إنّما يكون بتلاحق الاستعدادات القائمة بمادّته ، وعروض تلك الأفراد ، لا معا ، بل على التّلاحق ، هو تبدّل للموضوع وتغيّر له بحسب تلك الصّفة أو تلك الطبيعة ، وحدوث للفرد المتجدّد منها فيه ، ولا يكاد يكون ذلك لا محالة إلّا بحدوث استعداد لمادّته.

فإذن ، ما لا يعتريه علق المادّة وغواشيها يمتنع أن تعرضه أفراد طبيعة ما على

٣٠٦

التجدّد والتلاحق ، وكذلك الطبيعتان المتباينتان ، ولا يصحّ بالنّسبة إليه كمال يفقده ويرتقبه، لا من فرائض جوهر الحقيقة ، ولا من نوافل الهويّة والإنيّة. فالمفارقات المحضة جملة فرائضها ونوافلها بالفعل في الفطرة الأولى ، وليس لها كمال منتظر مسلوك إليه وصفة مرتقبة معوق عنها أصلا.

وأمّا مبدعها الحقّ ، تعالى عزّه ، فأقدس وأجلّ من أن ينقاس في مجده ويقاس بغيره. فهو من جميع الجهات والحيثيّات تقرّر بلا ليس ، ووجود بلا عدم ، وفعل بلا قوّة ، ووجوب بلا جواز ، وحقيّة بلا بطلان ، وحياة بلا موت ، وتمام بلا نقص ، ودوام بلا تجدّد ، وبقاء بلا تغيّر ، ووجود بلا تعطيل ، وفضل بلا تأجيل ، فكيف يصحّ أن يتوهّم في حقّه أن يكون موضوعا لتغيّر وتجدّد ومحلا لحادث ومتجدّد ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا جعل العالم وإخراج الإبداعيّات والتّكوينيّات جميعا من كتم اللّيس الصّرف المطلق ومن العدم الباتّ الصّريح فليس من جهة تغيّر في الذات واستحالة من حال إلى حال وطرأ منّة وسنوح همّة ، بل إفاضة الخير على الاطلاق من تلقاء نفس الجواد المطلق الجائد بفضله ورحمته على سياق علمه وطباع حكمته ، وعدم تسرمد الخيرات المجعولة من جهة سنخ جوهر الماهيّة الجوازيّة من قبل طباع الجواز ، لا غير.

تفصية

(٣ ـ الحوادث الدهريّة والحوادث الكونيّة الزمنيّة ونظام الخير)

لا يجتذبنّ سرّك ما أورده رئيس مشّائيّة الإسلاميّين في «التعليقات» ، (ص ١٧٦): أنّ «المعدوم على الإطلاق لا قوّة فيه يقبل بها الوجود من موجده ، فلا يوجد البتة، وليس كذلك الممكن ، فإنّ فيه قوّة ، فلذلك يوجد. ولولاها لما كان يوجد» ؛

فيزعجك إذن : أنّ ما لا يكون هو موجودا ولا مادّته لا يقبل الصّدور عن الجاعل ، إذ المعدوم المطلق ليس له أن يقبل الفيض ، فكيف يتصحح حدوث الجائزات بزمرها وجملها في الدّهر ، وهي معدومة على الإطلاق ، وما قابل الجعل والتّأثير في العدم المطلق. أما تحققت ممّا بسطنا لك تحقيقه في كتبنا وصحفنا : أنّ الشّيء إنّما يقبل الوجود من موجده حين هو موجود ، لا حين هو معدوم ، سواء في ذلك حادث الوجود وسرمديّ التقرّر.

٣٠٧

فإذن ، الحوادث الدّهريّة على الإطلاق الاستغراقىّ ، سواء كانت حادثات زمانيّة أو قديمات زمانيّة أو خارجة رأسا عن الدّخول في جنس القدم والحدوث الزّمانيّين ، لها بحسب الجواز الذاتىّ قوّة الصّدور حال التّقرّر وحين الوجود ، لا إذا كانت معدومة في الدّهر على الإطلاق.

وأمّا الحوادث الكونيّة الزّمنيّة ، فإنّ لها من حيث سبق المعنى الآخر الذي يسمّى الجواز الاستعداديّ قوّة الصّدور قبل الوجود ، بحسب حال مادّتها الحاملة لا مكانها المتحرّكة في الكيفيّات الاستعداديّة ، وليس يستوجب سبق قوّة القبول بحسب الجواز الذي بمعنى الاستعداد إلّا الحدوث الزّمانىّ ، فإذن العدم على الإطلاق إنّما يصادم التكوين دون الإبداع والاختراع.

فأمّا أنّه كيف يتصحح فى العدم الباتّ المطلق أن يتخصّص شيء ما باستحقاق الصّدور ، فتصحيحه أنّ ظهور الجاعل التّامّ وحضوره بما هو جاعل تامّ ـ لست أعنى بذلك لحاظ هذه الحيثيّة ، بل إنّما أعنى أنّ ظهوره من كنه الحيثيّة التي منها منه يصدر وعليها يترتب المجعول لا محالة ـ هو بعينه ظهور المجعول وحضوره ، وهو أقوى في إفادة انكشاف المجعول من حضور المجعول بنفسه فضلا عن حضور صورته الظّليّة.

واذ من المستبين سبيله أنّ القيّوم الحقّ ، جلّ ذكره ، بنفس ذاته جاعل تامّ لنظام الخير في الوجود كلّه ، وهو بكنه ذاته بحيث يفيض عنه الخير ويترتب عليه النظام الجملىّ من البدء إلى ساقه. فإذ هو سبحانه يعلم كنه ذاته أتمّ العلوم وأقواها ، فهو من نفس عقله ذاته يعقل نظام الخير في عوالم الجواز من بدء التجوهر إلى ساقته ومن أوّل الوجود إلى أقصاه. وهو ، سبحانه ، بنفس ذاته ومن حيث كنه حقيقته واسع عظيم وبكلّ شيء محيط عليم ، وسواء بالقياس إلى إحاطة علمه التّامّ الأشياء قبل الوجود وحال الوجود ، إذ ليس هو يستفيد من وجودها علما جديدا ، وكذلك المبصرات بالقياس إلى بصره ، والمسموعات بالقياس إلى سمعه ؛ وسمعه وبصره هما نفس ذاته وبحت حقيقته ، لا أمر وراء حقيقته مزيد على مرتبة ذاته.

فإذ هو ، جلّ مجده ، يعقل من نفس ذاته وجه سياق الفضل وإسباغ الفيض وإتمام الرّحمة في عوالم التقرّر بجملتها وكيفيّة نظام الخير في الوجود كلّه أشدّ التعقّلات و

٣٠٨

أسبغها يتعيّن الكلّ بخصوصيّة الكليّة وبشخصيّته الجمليّة لا محالة بالصّدور والفيضان عنه ، فيجعل النّظام الجملىّ برحمته ويفعله ويفيضه من البدء إلى السّاقة بجوده وحكمته. فسبحان الواسع العليم الخلّاق الحكيم ، بيده ملكوت كلّ شيء ، وإليه رجوع كلّ شيء ، وهو بكلّ شيء بصير.

شكّ وتحقيق

(٤ ـ الزمان والحركة والبحث فيهما)

إنّ لرهط من هؤلاء المتهوّسة الذين كادوا يطئون أرض الإشراك ، ومنهم رئيس مشّائية الإسلام في كتاب «المبدأ والمعاد» ، (ص ٤٥) سبيلا في التّشكيك ، «هو أنّ الإن إنّما يوجد بوجود الطرف ، لا يكون يدخل في الوجود إلّا وما هو طرف له داخل في الوجود لا محالة ، لأنّ أحد المتضائفين إذا وجد بالفعل فيجب أن يكون الآخر قد وجد لا محالة. ومن البيّن أنّ الآن وجوده الطرف ، وكذلك نهايات المقادير جميعا. وليس يكون شيء ممّا الآن طرف له موجود إلّا الزّمان الماضى ، إذ المستقبل لم يوجد بعد.

فإذن إنّما ذو الآن الطرف في جهة النّهاية هو الزّمان الماضى لا غير ، وليس هو مفصول الاتصال في جهة البداية بآن أصلا. ولا يشبه الآن النّقطة في أنّها قد تفصل ، إذ يكون ما هي طرف له وهي فاصلة موجودا ، بخلاف ما الآن طرف له وهو مستقبل.

وأمّا الحركة ، فإنّها وإن انفصلت بطرف لا يتصل بحركة قبلها فالسبب في ذلك : أنّ الحركة ليست بذاتها كما ، بل هي متكمّمة إمّا بالمسافة وإمّا بالزّمان ، وفطرفها في تكمّمها إمّا من الزّمان فيكون هو بالذات طرفا للزّمان الماضى وقد صحّ به وجوده ، وإمّا من المكان فيكون طرفا للمسافة الصّحيحة الوجود. وبعد هذا فإنّ مبدأ الحركة من أحد الأمرين هو نهاية السكون.»

فإذن ، قد تمّ أنّ الزّمان لا يكون حادثا ، وكذلك الحركة التي هي محلّها ، وكلّ آن فإنّه لا محالة بعد قبل وقبل بعد ، فهو حدّ مشترك بين أمرين يلزمه كلاهما دائما.

فهذا مرقاة بذل مجهودهم في التّغليظ والتّعضيل ، وذلك مبلغهم من العلم وميقات عقولهم من التّحصيل في هذه المسألة. والفحص البالغ يحقق ويقضى أنّه إن ريم أنّ المستقبل لم يوجد في الآن الطرف ، فكذلك الماضى لم يوجد ولا يعقل أن

٣٠٩

يوجد فيه أصلا ؛ وإن ريم أنّه في نفسه غير مقيس إلى الآن غير موجود في الواقع وبخلاف الماضى فهو شطط عن الحدّ ، والفرق تعسّف على الحقّ.

وإنّما الّذي استصحّته العقول الصّريحة واستحقّته الحكمة الحقّة الصّحيحة : هو أنّ الماضيات بالذّات والمستقبلات بالذّات ليست إلّا الأجزاء الوهميّة المأخوذة من موجود واحد هو الكم المتّصل الغير القارّ بالذّات الموجود على امتداده الاتّصالىّ في الدّهر شيئا وحدانيّا صالحا للانحلال في الوهم إلى ممتدّات هي الماضيات والمستقبلات بالذّات.

ثمّ إنّ المضىّ والاستقبال يختلفان باختلاف المقيس إليه من الزّمنيّات فربّ مستقبل بالقياس إلى زمنىّ ما ، هو ماض بالقياس إلى زمنىّ آخر وبالعكس ، والآن لا يصحّ له وجود بالفعل إلّا في الوهم ، فلا يكون يوجد وجود فاصل أصلا. بل إنّما وجوده وجود واصل بين ماض ومستقبل أبدا. ولكن ذلك ليس يصادم كون الزّمان حادث الوجود من بعد عدمه الدّهرى. أفلسنا قد تلونا عليك أنّ الحدوث الدّهريّ ليس مبدأ استيجاب الآن أصلا ، بل الحدوث الزّمانىّ أيضا إلّا في الدّفعيّات الحصول.

وإن سألت عن الحقّ الصّريح ، فإنّ تناهي الزّمان بحسب مقداريّته في جهة الأزل ليس على ما يستوجب طرفا له بالفعل يكون من عنده البداية ، فضلا عن حدوثه الدّهريّ.

تذكرة

(٥ ـ نهايات المقادير من الوضع لا من جهة المقداريّة)

يا قوم ، قد أبلغتكم ، في صحفى من قبل ، أنّ أطراف المقادير نهايات لها من جهة الوضع ، لا من جهة المقداريّة ، ولذلك لا يكون لمتناهي الكميّة في المساحة إذا كان غير متناهي الوضع طرف ؛ وإنّه فرق ما بين انتفاء المقدار وانتهائه إلى حدّ ، وأنّه إنّما عدم المقدار في الانتهاء انتفاء تماديه عند الحدّ ، لا انتفاء ذاته رأسا ، وأنّ طرف المقدار المتناهى الامتداد يكون فى جهة امتداده أبدا ، بحيث لو توهّم تماديه منبسطا عاد الطّرف الفاصل حدّا واصلا ، وأنّ حدوث الحركة لا يتحدّد بآن ، وإنّما الآن نهاية زمان السّكون إذا كان هناك سكون قبل الحركة ، وأنّ في حدوث الزّمان والحركة الّتي هي محلّه وتناهيهما بحسب الكميّة في جهة الأزل ليس يتصوّر شيء من ذلك كلّه ، فهل أنتم متبصّرون.

٣١٠

خلسة ملكوتيّة

(٦ ـ أنواع اللزوم والتلازم بين اللازم والملزوم)

لا يحتجبنّ من خبرك أنّ لزوم شيء لشيء ربما يكون بحسب نفس خصوصيّتى الحاشيتين بذاتيهما ، كما لزوم الزّوجيّة للأربعة ؛ وربما يكون لا بحسب نفس جوهرى الحاشيتين ، بل على تباعة لزوم آخر متوسّط ومن حيث سطة لازم آخر متأصّل ، كما لزوم الزّوجيّة للأربعة لها ، فإنّه ليس من تلقاء ذوات الأربعة نفسها ، بل من تلقاء امتناع افتراقها عن الزّوجيّة واستلزام ذلك امتناع الافتراق عن لزومها أيضا ، حتّى لو وسعت منّتها احتفاظ لزوم الزّوجيّة مع إمكان الافتراق عن لزوم اللزوم كانت ، ذاتها في منتدح عن اقتضاء لزوم اللّزوم. وكذلك الأمر في لزوم لزوم اللزوم ولزوم لزوم لزوم اللّزوم ، وهلمّ جرّا ، لا إلى نهاية ، فإنّ القول فيها مصبوب في هذا القالب.

ثمّ اعملنّ أنّ التّلازم الأصيل بين الملزوم ولازمه الأولىّ المتأصّل ملزوم التّلازم بين نقيضيهما على الانعكاس لا محالة. وأمّا التّلازم التّباعىّ بالقياس إلى اللّازم على التّباعة في الدّرجة الأخيرة ، فربّما لا يقتضي الانعكاس بين النّقيضين ، وذلك إذا كان نقيض اللازم برفع أصل التّلازم المتأصّل بين العينين.

أليس إنّما انعكاس التّلازم بين النّقيضين على تقدير بقاء التّلازم بين العينين ، فتلازم الأربعة ولزوم الزّوجيّة لها مثلا ليس يقتضي التلازم بين نقيضيهما ، كما تلازم الأربعة والزّوجيّة يقضى ذلك ، إذ نقيض اللّازم ، وهو عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة ، في قوّة بطلان أصل الملازمة بين الأربعة والزّوجيّة. فلا محالة تبطل الملازمة الأولى المتأصّلة ، فليس ينحفظ نقيض اللّازم نقيضا للازم ، ولا نقيض الملزوم نقيضا للملزوم حتّى يستحقّ بينهما تلازمه.

فإذن قد استبان أنّ عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة ، ليس يستوجب عدم الأربعة ؛ بخلاف عدم الزّوجيّة ، فإنّه يستوجب عدم الأربعة بتّة.

تنوير

(٧ ـ معنى ملزوم الزّوجيّة ونسبته لنفس الأربعة مثلا)

٣١١

إنّه إمّا ملزوم الزّوجيّة ، مثلا ، وهي اللّازم على الأصالة ، نفس الأربعة. وإمّا ملزوم لزومها لها ، وهو اللازم على التباعة ، فليس هو نفسها ، بل إنّما هو ملزوميّتها للزوجيّة. فإذن عدمه إنّما يستلزم عدم تلك الملزوميّة ، لا عدم نفس الأربعة.

إزاحة إعضال

(٨ ـ الملازمة وقدم العالم والدوام الدهرىّ)

هل بلغك تعضيل المغالطين : أنّه كلّ ما لم يكن وجوده مستلزما رفع واقعىّ ما ، كان لا محالة موجودا دائما دواما دهريّا. إذ لو صحّ له في نفس الأمر عدم ما دهرىّ ، كان وجوده مستلزما بطلان ذلك العدم الواقعىّ ، وارتفاعه عن وعاء الوجود الذي هو الدّهر بتّة ؛ وإلّا احتشد النّقيضان في كبد الواقع ، فكان ينخرق الغرض ، لكن كلّ جائز الذات فإنّ وجوده غير مستلزم ارتفاع واقعىّ ما أصلا ، إذ لو كان مستلزما إيّاه كان مستلزما لذلك الاستلزام أيضا. فكان وجوده ملزوما واستلزام ذلك الارتفاع لازما. وقد اقترّ في مقرّه ، في العلم الذي هو مكيال العلوم وميزان الأنظار ، أنّ الملازمة بين العينين واجبة الانعكاس بين النّقيضين ، فيلزم أن يكون عدم استلزامه ارتفاع واقعىّ ما مستلزما لعدمه ، وقد كان تأصّل بالتّمهيد وتصحّح بالفحص أنّ ذلك مستلزم لوجوده دائما. هذا خلف.

فإذن يستبين أنّ كلّ ما هو جائز الذات فإنّه يكون متحقق الوجود بالفعل ، لا من بعد عدم دهريّ بل على الدّوام الدّهريّ ، فيلزم قدم العالم بجميع أجزائه قدما دهريّا ، وهو خلاف ما انعقد عليه إجماع العقلاء كافّة. فتلك داهية من دواهي العقد الّتي قد أعقمت الأنظار وأعيت القرائح.

وكأنّك الآن قد فككت العقدة بما علّمناك وأبصرت السّبيل بما بصّرناك ، إذ دريت أنّ عدم الاستلزام لارتفاع واقعىّ ما ليس يستلزم عدم الملزوم الأصل ، لأنّه في قوّة عدم انحفاظ الملازمة المتأصّلة ، بل إنّما يلزمه أن يستلزم عدم ما هو الملزوم لذلك الاستلزام على الحقيقة ، وهو ملزوميّة الملزوم الأصل لذلك الارتفاع ، لا نفس الملزوم الأصل بجوهره. فهذا محزّ طور الفحص ومحطّ رحل الحقّ ، فخذ ما آتيناك وكن من الشاكرين.

٣١٢

تذنيب

(٩ ـ العلاقة والاستلزام وجائز الذات الحادث)

ربّما يسبق إلى الوهم في سبيل الفصية ، تارة ، أنّ ما أصّله التّمهيد ليس إلّا أنّ عدم الاستلزام لرفع واقعىّ ما رأسا من بدو الأمر مستلزم للوجود دائما. وما ألزمته القعدة المغالطية ، بناء على المقترّ مقرّه ، هو أنّ عدم ذلك الاستلزام من بعد تحقّقه وعلى فرض فعليّته مستلزم للعدم. وشتّان ما بينهما ؛ وتارة ، أنّ عدم استلزام وجود ما هو جائز الذات لرفع واقعىّ ما محال. فساغ أن يستلزم على تقدير تحقّقه عدم ذلك الجائز ، وإن كان ذلك الاستلزام أيضا من المستحيلات ، إذ من المسوّغ أن يستلزم محال في تحقّقه محالا آخر.

ويفضح الأوّل : أنّ المقترّ مقرّه هو أنّ عدم ما هو مفروض اللّازميّة رأسا من بدو الأمر مستلزم عدم ما هو المفروض الملزوميّة رأسا من بدو الأمر بتّة ، كما عدمه من بعد تحقّقه مستلزم عدمه من بعد تحقّقه. فإذا كان هناك ذلك الاستلزام مقدّر اللزوم مفروض اللّازميّة ، كان لا محالة عدمه رأسا من بدو الأمر مستلزما للعدم ، وقد كان تأصّل بالتّمهيد أنّ ذلك مستلزم للوجود دائما.

والثّاني : أنّ تسويغ استلزام المحال محالا آخر من الاعتراضات اللّانسلميّة المجيئة ومن اللم لا يكونيّات الخسيسة الجدليّة ، فمن الذاتيات المقبولة أنّه لا يسوّغ ذلك إلّا إذا لم يكن بين ذينك المحالين تناف عند العقل ، وقد حقّقنا في «الأفق المبين» : أنّ مجرّد انتفاء المنافاة ليس يتصحح به الاستلزام ، بل لا بدّ من علاقة عقليّة تصحّح الملازمة ، وليس يعقل فرق بين المحال والممكن في الاستلزام بعلاقة عقليّة طبيعيّة وعدمه بعدمها. وكما أنّ تحقّق الاستلزام بالفعل لا يكون إلّا بتحقّق العلاقة الطبيعيّة بالإمكان فكذلك الاستلزام بالإمكان لا يكون إلّا بتحقّق العلاقة الطبيعيّة بالإمكان.

خلسة ملكوتيّة

(١٠ ـ الحركة ثباتها مستندة إلى الجاعل السرمدىّ)

لعلّك تكون ـ بما انصرح لك : أنّ الموجود الغير القارّ في أفق التقضّى والتجدّد متحقق بالفعل بوحدانيّته الاتّصاليّة في الدّهر الذي هو متن الواقع ، وغير مختلف الأجزاء بالمضىّ والاستقبال بالنّسبة إلى الثابت الحقّ ، والثابت الحقّ يشاهد

٣١٣

المضيّات والاستقبالات بينها مقيسة عضون منها إلى عضين ـ قد استشعرت تصحيح استناد المتغيّر الغير القارّ إلى الثّابت القارّ وتنظيم الحدوث الزّمانىّ بالحركة الدّوريّة وتوسيط الحركة المتصلة الدّوريّة بين القديم الحقّ والحوادث الزّمانيّة.

فالحركة ذات جهتين : ثبات واتّصال في الدّهر وتصرّم وتجدّد في أفق التقضّى والتجدّد. فهى بثباتها الاتّصالىّ الدّهريّ وبهويّتها المتّصلة الوحدانيّة مستندة إلى الجاعل السّرمديّ الحقّ المخرج إيّاها من كتم العدم الصّريح إلى متن الواقع مرّة واحدة ، وبتصرّماتها وتجدّداتها التي هي من تلقاء جوهرها ـ إذ هي بطباع جوهرها مقدارها الزّمان ، وهو بنفس حقيقته متقضّ متجدد بالقياس إلى آن موهوم فيه ـ معدّة لوجود الحوادث الزّمانيّة على حسب استعدادات متواردة على المادّة القابلة ، ونائطة ايّاها بأزمنة محدودة وآنات مخصوصة، وكلّ شطر علّة معدّة أيضا لوجود شطر آخر.

فإذن ، لا حدوث في أفق التّغيّر ، أعني الزّمان ، لو لا الحركة. وأمّا الزّمان فإنّما قسطه من المدخليّة في نظام الحدوث الظرفيّة بالقياس إلى الحوادث دون الإعداد والسّببيّة. وكذلك ليس لشطر منه الإعداد بالقياس إلى شطر آخر ، بل إنّما طباعىّ هويّات أجزائه التّعاقب في الحصول والتّصادم في الاجتماع بالقياس إلى العوالم الزّمانيّة وحدودها ، كما الأمكنة بطباع هويّاتها مصطدمة في الاجتماع بالقياس إلى حدود العوالم المكانية. فلذلك التّقدّم والتّأخّر هناك بالزّمان ، كما هنالك بالمكان ؛ لا بالطّبع ، كما حسبه صاحب «حكمة الاشراق» و «المطارحات» ، وتبعه على ذلك ثلّة من مقلّديه.

ترشيح

(١١ ـ الحركة القطعيّة والتوسّطيّة معدّة للحوادث الزمانيّة)

إنّ نظم الحدوث الزّمانىّ على ذلك الأسلوب ليس ممّا لم ينتظم إلّا في تسواء الحكمة النّضيجة ، بل إنّ رؤساء الفلسفة النّيّة وأئمّة المتهوّسين بتسرمد الإبداعيّات قد وردوا على هذا المنهل ونسجوا على هذا المنوال إذ نهضوا للفصل ، فقالوا : الحركة الدّوريّة ذات جهتين ، الاستمرار والتّجدّد ، فإنّها ثابتة متجدّدة ، ثابتة التجدّد ، متجدّدة الثّبوت. فبحسب الجهتين صلحت للتوسّط بين جانبى القدم والحدوث. فمن جهة الاستمرار صدرت عن القديم واستغنت عن علّة حادثة ، ومن جهة

٣١٤

التجدّد صارت مستند الحوادث وواسطة في صدورها عن القديم.

وليس يتخصص الأمر بالحركة التوسّطيّة أو القطعيّة ، بل الحركتان القطعيّة والتّوسّطيّة سبيلهما من جهة الاتّصال المتقدّر الغير القارّ واحد ، لكنّه في الحركة القطعيّة بحسب ما لها من الأجزاء والأبعاض المنحلّة هي في حدّ هويّتها إليها ، وفي الحركة التّوسّطيّة بحسب ما يكتنف حصولها ويلزم طباعها من النّسب المختلفة الغير المستقرّة إلى حدود ما فيه الحركة ، إذ هي بحقيقتها مستمرّة الذات الشّخصيّة ، سيّالة النّسبة المتقدّرة.

ولا تزعمنّ أنّه يعود عليهم السّؤال عن علّتها من جهة الحدوث والتجدّد ، إذ كلّ متجدّد فله في تجدّده لا محالة علّة متجدّدة ، كما ظنّه الشّيخ الغزالىّ ومن اقتاس به ؛ أو عن علّة عدمها الطّارئ من بعد التجدّد الموقوف عليه وجود المعلول الحادث ، إذ الحادث الزّمانىّ يتوقّف لا محالة على وجود المعدّ وعدمه الطّارئ جميعا ، كما توهّمه بعض متأخّرة المقلّدين. أليسوا قد جبّوا عرق الوهم في ذلك كلّه ، بقولهم المحصّل المقشوّ. وهو أنّ المتجدّد المفتاق إلى علّة متجدّدة ليس إلّا الماهيّة الّتي عرض لها التجدّد من حيث هي معروضة.

فأمّا الحركة ، فإنّما حقيقة متجدديّتها أنّ ماهيّتها هي الحدوث والتّجدّد ، لا أنّها شيء عرض له أن يكون متجدّدا. وإذ حقيقتها نفس التّجدّد فإذا كانت دائمة الوجود دواما دهريّا لم تكن مفتاقة إلّا إلى علّة دائمة وكذلك إذا كانت حادثة في الدّهر من حيث هى حادثة في الدّهر من بعد العدم الصّريح ، على ما عرّفناك من قبل. وأمّا إذا كانت حادثة في الزّمان من بعد العدم المستمرّ فليس لها محيد عن علّة حادثة متجدّدة.

وبالجملة ، العقل الصّراح ليس يقضى بوجوب حدوث العلّة إلّا للمعلول المتجدّد ، أمّا المعلول الذي هو في حدّ نفسه ماهيّة التجدّد والتغيّر فلا يستوجب عند العقل ذلك ، إلّا إذا عرض له تجدّد وتغيّر يزيدان على جوهر ذاته ، كالحركة الحادثة حدوثا زمانيّا بعد أن لم يكن بعديّة زمانيّة ، والحركة الحادثة المستديرة الفلكيّة المتّصلة المستمرّة ليست على تلك الشّاكلة.

فإذن هي غير مستندة إلّا إلى علّة دائمة سرمديّة وسواء عليها في ذلك أكانت سرمديّة الوجود فى الدّهر أم غير حادثة إلّا حدوثا دهريّا. وليس إذا كان المعلول

٣١٥

حادثا بالزّمان يجب أن يكون حدوث علّة ما من علله حدوثا زائدا على جوهر ذات تلك العلّة. فإذن كلّ متغيّر فإنّه لا محالة ينتهى إلى ماهيّة دائمة ، أى غير حادثة بالزّمان هي نفس التّغيّر.

ولو لا أنّ في الأسباب ما يعدم بذاته ، ينصرم انصراما زمانيّا ، لما صحّ لحادث ما زمانىّ وجود في أفق الزّمان ولا عدم طار بعد الوجود. وذلك المنصرم بذاته هو الحركة الّتي لذاتها حقيقتها تفوت وتلحق. ومثل هذه الاسباب تكون أسبابا بالعرض ، فإنّها لا تفيد الوجود بل إنّما تفيده هذا الصّفة ، أعنى تخصّص الحدوث بحدّ ما بعينه من حدود الزّمان.

فصّ

(١٢ ـ الحدوث الذاتىّ والدّهريّ والزّمانىّ وملك الامكان)

فإذن إنّما ملاك الحدوث الذاتىّ والحدوث الدّهريّ طباع الجواز بالذّات ، وأمّا الحدوث الزّمانىّ فملاكه الجواز الذي هو بمعنى الاستعداد. فكلّ حادث ذاتيّ هو متصحح الفيضان عن الجاعل بجوازه الذاتىّ ، فإنّ له الحدوث الدّهريّ لا غير. وكلّ ما ليس له ذلك التّصحّح بمجرّد الجواز بالذّات بل هو مرهون الوجود بالجواز الاستعداديّ ، فإنّه مع ذينك الحدوثين حادث زمانىّ أيضا ، وأن بين عوالم التّقرّر بأسرها تساوقا وتطابقا ، أعني اتّساقا طبيعيّا وارتباطا لزوميّا ، به يتصحح أنّ يتحصّل من جملتها نظام وحدانىّ في الوجود مستند إلى الجاعل الحقّ بالصّدور عنه أبدا مرّة واحدة.

فعالم الملك على الإطلاق ، بما فيه من امتزاج النّسب الهيولانيّة واعتناق الهيئات الجرمانيّة بخصوصيّات الأقدار والكيفيّات والأوضاع والإضافات ، كظلّ لعوالم الحمد في الاستناد إلى وجود الجاعل الحقّ ورحمته ، بما فيها من امتزاجات نسب الإشراقات العقليّة واعتلاقات عكوس الأشعّة القدسيّة والازدواجات البهيّة الملكوتيّة بين ابتهاجات الملائكة النّوريّة.

ثمّ عالم الطبائع الأربع الأسطقسيّة بما في أقطاره وآفاقه وأقطاعه وأرباعه من النّسب الممتزجة والهيئات المزدوجة بحسب أطوار الصّور والكمالات والكميّات والكيفيّات والأوضاع والإضافات ، كمؤتمّ بعوالم الطبيعة الخامسة الفلكيّة بما

٣١٦

يسنح فيها من نسب الحركات الشّريفة المستديرة وإضافات الأوضاع المعجبة البهيجة. وطباع ما بالقوّة إنّما يقوم هاهنا بذات الهيولى الواحدة بالشّخص المبهمة في وحدتها الشّخصيّة ، وهنالك بطبيعة الحركة المستديرة.

فنفس ذات الهيولى المبهمة الشّخصيّة هنا مثال الحركة المستديرة هناك ، والحوادث المتواردة عليها هنا من الكمالات والصّور والأعراض أمثلة الأوضاع الخارجة من القوّة إلى الفعل هناك. فإذن الحدوث الزّمانىّ تدور رحاه على الهيولى القابلة والحركة المستديرة الحاملتين لطبيعة ما بالقوّة بإذن الله تعالى.

تصريح تشريقىّ

(١٣ ـ الحركة في الأسطقسات والأفلاك والنفوس العقليّة)

لعلّك تكون قد تحدّست ، ثنى ما تلى عليك ، أنّ لهيولى عالم الأسطقسات حركة في الكيفيّة الاستعداديّة ، ولأجرام الأفلاك حركة وضعيّة في الأوضاع ، ولنفوسها العقليّة حركة شوقيّة إشراقيّة في الأشواق والإشراقات الّتي تأتيها من الأفق النّوريّ الأقصى والصّقع القدسىّ الأعلى.

أما تعتبر بالنّفس العاقلة الإنسانيّة المتطهّرة من أقذار الطبيعة كيف إذا ما نالت بوارق قدسيّة اهتزّت في جوهرها ، فانبعث من ذلك حركات تصفيقيّة في الجسد ، ثمّ الحركات الجسديّة تتأدى إلى بارقات إلهيّة تارة أخرى ، كما لحركات العبادات الّتي قد سنّها القانون الإلهيّ يستعدّ الإنسان للشوارق القدسيّة؟

فكذلك النّفس الفلكيّة تنفعل بلذّات قدسيّة لإشراقات عقليّة تصطادها من صقع النّور ، فينفعل بدنها ، وهو الجرم الفلكىّ ، وتنبعث عن ذلك فيه حركات دوريّة على مناسبة تلك الإشراقات النّوريّة ، وتتهيّأ بكلّ حركة لإشراق آخر ، فلا ينقطع عنها شروق أنوار الله تعالى ، المتلألئة ، ولا تنجّذ في حقّها أمداد اللّطائف الإلهيّة والبارقات المتلامعة القدسيّة ، فيتبعها رشح الخير في عالم الطبائع الأسطقسيّة.

فإذن حركات الأفلاك كأنّها عبادات فلكيّة ومناسك ملكيّة ولا يزال يدوم هناك تجدّد الشّروقات من أفق عالم القدس بتجدّد الحركات ، وتجدّد الحركات بتجدّد الشّروقات. كما قد قيل : «إذا تغيّبت بدا ، وإن بدا غيّبنى». فكلّ حركة منبعثة عن

٣١٧

إشراق هي غير الحركة التي كانت معدّة لذلك الإشراق بالعدد. واعداد الحركات والإشراقات يضبطها عشق مستمرّ غير مبتوت وشوق سيّال غير مجذوذ.

والقول الفصل : أنّ هناك إشراقا وحدانيّا متجدّدا مستمرّا تنبعث عنه حركة وحدانيّة مستمرّة للنفس الفلكيّة في الكيفيّات الإشراقيّة ، وأخرى كذلك لبدنها ، وهو جرم الفلك فى الأوضاع ، وتأتمّ بهما هيولى العالم الأسطقسىّ في حركتها الوحدانيّة المستمرّة الاستعداديّة. فإن اعتبرت تلك الحركات بوحدانيّاتها ، كان التّرتّب بين النّفسانيّة والجرمانيّة والهيولانيّة ؛ وإن فرضت في كلّ واحدة منها أجزاء وقيست الأجزاء إلى الأجزاء ، كان كلّ جزء عاقب مترتبا على الجزء الدارج.

ذنابة

(١٤ ـ الإرادة الجزئيّة والحركة الجزئيّة والنسبة بينهما)

وعلى ذلك المرتع ايتمام الأمر في كلّ حركة جزئيّة إراديّة. ومن المستبينات : أنّ الرّأى الكلّىّ أو المرسل لا ينبعث عنه شوق جزئيّ بخصوصه ، ولا يصدر عنه شيء شخصىّ بعينه، إلّا أن يكون الشّيء ممّا مقتضى طباعه أن يكون نوعه في شخصه ، على ما ظنّه التلميذ في «التحصيل». ولكن ليس يستصحّه سابغ النّظر وبالغ الفحص ، والتّصوّر الكلّىّ والمرسل بالقياس إلى قاطبة الجزئيّات والشّخصيّات على نسبة واحدة ، وكلّ شطر من الحركة بالقياس إلى الإرادة الكليّة أو المرسلة في نسبة واحدة ، فليس يجب أن يتعيّن بها هذه الحركة دون تلك.

فإذن ليس بدّ هناك من إرادة جزئيّة ، فتحققن أنّه كما الإرادة الجزئيّة سبب حدوث حركة جزئيّة ، فتلك الحركة أيضا سبب حدوث إرادة أخرى جزئيّة حتّى تتصل الإرادات في النّفس والحركات في الجرم ، ولا يتسلسل دفعة بل يصير كلّ وصول إلى حدّ سببا لوجود إرادة متجدّدة مع ذلك الموصول ، ووجود كلّ إرادة سببا لوصول يتأخّر عنها ، فتستمرّ الإرادات والحركات استمرار شيء غير قارّ ، بل على سبيل تصرّم وتجدّد. والسّابق لا يكون بانفراده علّة للّاحق ، بل إنّه شرط ما ، تتمّ العلّة بانضيافه إليها.

وبالجملة ، إنّ كلّ بضعة دارجة من الحركة علّة معدّة للبضعة العاقبة من الإرادة. وكذلك كلّ بضعة دارجة من الإرادة معدّة للبضعة العاقبة من الحركة. وهكذا لا إلى

٣١٨

نهاية من الطرفين ، لا على الوجه الدّائر ولا على الوجه المتسلسل المستحيل. والسّلسلتان متعيّنة إحداهما بالعليّة والأخرى بالمعلوليّة بوحدانيّتهما ومتعاكستان في العليّة والمعلوليّة بحسب أجزائهما الفرضيّة ، ولا افتياق إلى أمر متجدّد خارج عنهما.

وكذلك الأمر في الحركات الطبيعيّة والقسريّة بحسب مراتب الميل المتجدّدة المختلفة بالاشتداد والتّضعّف. فالميل الطبيعىّ يشتدّ بالاقتراب من الحيّز الطبيعىّ ، والميل القسريّ يتدرّج في الاشتداد إلى غاية ما ، ثمّ يأخذ في التّضعّف إلى أن يفنى ، والعليّة والمعلوليّة بين سلسلتى الميل والحركة والتّعاكس في العليّة والمعلوليّة بين أجزائهما الفرضيّة على ذلك السّبيل. وهذه المسألة قد عدّت من غامضات المسائل.

تتمة

(١٥ ـ النفوس الفلكيّة وتأثيرها في الاجرام السماويّة)

يشبه أن تكون النّفوس العاقلة الفلكيّة الّتي هي ضرب من ملائكة الله تعالى ـ وليست هى فى جوهريّة ذواتها عقولا صرفة ، بل يخالطها طباع ما بالقوّة مخالطة ما ، ولها ما يشبه الأوهام الصادقة وما يشبه التّخيّلات الحقيقيّة ، كالعقل العملىّ فينا ـ مبادى ميول في أبدانها الّتي هي الأجرام الفلكيّة. فلا يزال كلّ نفس فلكيّة تحدث في جرم فلكىّ ميلا بعد ميل. وهو الذي يقال : إنّه الميل الاشتداديّ ، ولها معشوقات ومتشوّقات تتوخّى هي بسلوكاتها التشبّه بها ، وتلك مبادى تحريكاتها بالإشراق والتّشويق. والمعشوق الحقّ والمتشوّق الأعلى الذي منه ترتعج الشّروقات وإليه تهتاج الأشواق جناب الملك القدّوس العلىّ العظيم ، نور الأنوار ، تعالى جدّه.

اقتصاص

(١٦ ـ المعدّات وترتّب الوجود إلى القيّوم الواجب تعالى)

إنّ هناك استشكالات اختراميّة واستدفاعات اقتضابيّة لا جناح علينا لو قصصناها عليك ، بلغتك أم لم تبلغك.

(١) فمنها ـ وهو أطفّها استصعابا ـ ما رواه خاتم الحاملين لعرش التحصيل والتحقيق عن أستاده السيّد الإمام ، فريد الدّين محمّد الدّاماد النّيسابوريّ :

٣١٩

«إنّ السّابق واللّاحق من المعدّات كأجزاء الحركة متعاندا التّحقق وممتنعا الاجتماع ، وإيجاد اللّاحق رافع لإيجاده الذي هو شرط في وجود السّابق المعاند له. ورافع الشّرط علّة للعدم ومتقدّم عليه. فإذن وجود اللّاحق متقدّم على العدم اللّاحق بالسّابق. فإذا جعل العدم اللّاحق به شرطا لوجود اللّاحق دار».

فاستسقطه : «أنّ وجود اللّاحق ، كما أنّه معاند لوجود السابق ، فكذلك هو معاند لوجود السّابق على السّابق. فإن صحّ ذلك البيان استوجب أنّ يكون وجود اللّاحق شرطا في عدم السّابق على السّابق ، وهو متأخّر عنه بالزّمان. هذا خلف».

ثمّ قال : «والحقّ عندهم أنّ وجود السّابق علّة لإعداد وجود اللّاحق ، وعدمه اللّاحق به شرط في وجود اللّاحق ، وهو بالذّات متقدّم عليه ومقارن لتمام الإعداد ، لوجوده الذي هو الشّرط المتمّم لعليّة المبدأ الأوّل الأزلىّ». (تلخيص المحصل ، ربط الحادث بالقديم ، ص ٤٨٣) وليس في شيء من ذلك إفشاء موضع التّدليس فيه.

(٢) ومنها ـ وهو أثقل عليهم صعوبة ـ أنّ انعدام الحادث الزّمانىّ من بعد وجوده ، لا محيد له من الاستناد إلى تجدّد أمر ما يقتضيه لا محالة ، وليس يسوغ أن يكون وجود شيء ، من الحوادث المتعاقبة الّتي هي معدّات وجود ذلك الحادث أو عدمه ، هو المتجدّد المتقضّي.

أليس كلّ منها بوجوده وعدمه الطّارئ جميعا من أسباب وجود الحادث ، فكيف يعود وجوده أو عدمه سببا لارتفاعه؟. فإذن ، إمّا المتجدّد ، وجود ما خارج عن تلك السّلسة ، فيساق النّظر إليه إلى أن يتمادى وجودات مترتّبة معا إلى لا نهاية عند الارتفاع ، وإمّا عدم ما كذلك. فيترتّب طرأ عدمات متمادية إلى لا نهاية حين الارتفاع ، ويستوجب وجودات كذلك من قبل.

(٣) ومنها ـ وهو الأكبر عند الجماهير داهية ـ أنّه إنّما العلّة التّامّة لوجود الحادث المبدأ القديم بوجوده الأزلىّ والحوادث المتعاقبة بما أنّها وجدت ثمّ انعدمت ، والمبدأ القديم غير جائز الزّوال ، لكونه سرمديّ الوجود ، والحوادث المتعاقبة متّصفة في الآباد بأنّها قد انعدمت بعد ما أن وجدت. فهى مستحيلة الزّوال من تلك الجهة ، وهي من تلك الجهة معتبرة في استتمام العلّة.

٣٢٠