مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

مصنّفات ميرداماد

(٥)

خلسة الملكوت

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سبحان خالق العدم ، فاطر الوجود ، واهب الغرائز بالفضل والطول ، مانح الفطر بالمجد والجود ، فاعل الذوات ، مبدع الماهيّات ، جاعل الحقائق ، صانع الانيّات ، بارئ العاليات الفاعلات والسّافلات القابلات ، خالق الأرضين الرّاسيات والسّماوات السّائرات ، بديع المبدعات بأطوارها وأنوارها ، خلّاق الكائنات بجهاتها وأقواتها ، قيّوم الأنوار القدسيّة في جوّ الملكوت من عقول ونفوس ، فعّال العقل النّظريّ ، شعشانىّ ثاقبات العلوم في أضواء البراهين ، كسماء ، زانها بأقمار وشموس ، مقيم الفعل على متن القوّة ، ومخرج الايس من كنتم اللّيس ، فيّاض الصّور على السّنخ القابل بالجوهر والطّباع ، ومسيّر الرّوح في أرض الجسد على المرح والرّيس.

أشهدك اللهمّ ، مالك الملك والملكوت ، عالم الغيب والشّهادة ؛ وأقرّ لعزّ ربوبيّتك وسلطان ألوهيّتك ، بذلّ العبوديّة. وأنّى للذّمم الهالكة البائرة أن توازي كبرياء مجدك بالتكبير والتّمجيد ، وأستعينك لحمدك على امتنانات نعمك واصطناعات مننك. وأيها أيها للألسن البائدة الدّاثرة أن تكافئ حقوق نعمائك بالتّسبيح والتّمحيد.

وأصلّي على أكرم مصطفيك من الذوات المقدّسة ، وأقدس مجتبيك من النّفوس المكرّمة ، أفضل من دعى إليك ، وخير من دلّ على المزلفات لديك ، سيّد النّبيّين وختمهم وخاتمهم ، أسوة المرسلين وقرمهم ومقرمهم ، شرف عالم الإمكان وسطاع نور

٢٨١

البرهان ، محمّد ، صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الأنجبين وأوصيائه الأطيبين ، الذين تناقلتهم كرائم الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام ، صلاة تبدّ شرائف صلوات المصلّين وتغبطها عزائم تحيّات الأوّلين والآخرين ، ما اصطدم الضّياء والظّلام وارتدفت اللّيالى والأيّام.

وبعد ، فإن أحوج المربوبين إلى الرّب الغنيّ ، محمّد بن محمّد ، يقلّب باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى ، يقول : معشر الملكوتيّين بقرائحكم النّقيّة وزمرة المتألّهين بعقولكم القدسيّة ، إنّى ، بفضل ربّي العظيم وسيبه ، وطول جاعلي العليم وأيده ، أملي عليكم صحيفة القدس في «خلسة الملكوت» ، على قصوى المراتب وقصيا الغايات ، لعلّ الله سبحانه يجعلها أوثق الأوكار للأسرار وآنق قدّة للعقل إلى عالم الأنوار ، يستحبّها الحكماء القدسيّون ويهبّ لها العرفاء الرّبيّون ، يتلونها على كلّ متبصّر ناصع الجيب ، متّقد القريحة ، مشتعل البصيرة ، متّمض الغريزة ملتمع السّريرة. فيهدون بها قوما يبتغون لبّ العلم البهيج ويتوخّون مخّ الحكمة النّضيجة. قد هزّت الأشواق أذهانهم ونشطت الأذواق ألبابهم. لا يزاغ بعقولهم عن شطر الحقّ ولا يتاه بأوهامهم في خلوات الباطل. فأمّا اللّانسلّميّون واللّم لا يكونيّون من أمّة الوهم وحزب الطّبيعة فذهّابون في التّيه ، روّاغون عن القصد. وإنّا نحن لبمعزل عن مخاطبتهم ولفي منتدح عن مجاوبتهم. وربّنا العزيز الوهّاب ، تعاظم سلطانه ، وفيّ المواهب في السّابقات العاليات ، وولىّ الرّغائب في الباقيات الصّالحات. وهو حسبى وإليه المصير.

ربّ ، منك الرّهبوت وإليك الرّغبوت. ربّ إنّما أشكو بثّي وحزني إليك ، وأبثّ لوعتي وضراعتي بين يديك ، ولم يك يقنعني أن ترفع إلى سمت ملكوتك يداى الدّاثرتان ، وأن تمدّ إلى صقع جبروتك عيناى الحاسرتان ، بل اعتملت شراشر روعي القدسيّ يدا ، فرفعتها وبسطتها ، يا ربّ ، شطر باب سبّوحيّتك ، واتّخذت أكنان سرّي الملكوتيّ بصرا ، فأشخصتها وأطمحتها ، ربّ ، تلقاء جناب قدّوسيّتك. ربّ ، إنّي أجعل صمتي لسانا وولهي بيانا ، وأستوسع رحمتك وأؤمّل فضلك وأسألك ، فآنسني بكلامك النّاطق وميزانك الفارق وترجمة وحيك ولسان أمرك ونهيك ، صراطك القويم ووصيّ رسولك الكريم. وأقول : اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وسهوات الجنان وهفوات اللّسان ، وأنت خير الغافرين.

٢٨٢

الرّشح الأوّل

في أنّ صانع التّجوهر والوجود قد توحّد بالقدم الصّريح واستأثر بالأزليّة السرمديّة

(١ ـ الإفاضة من عالم الملكوت لإملاء هذه الرّسالة)

ممّا أفيض علي من عالم التحميد والتسبيح ، وهو عالم الملكوت ، أنّي بالليلة الثّالثة عشر من شهر رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شعبان المعظّم ، لعام ١٠١٤ من الهجرة المقدّسة ، وقد كنت علمت «الصّحيفة الملكوتيّة» ، وهو كتاب «الإيماضات والتّشريقات» ، من قبل بعامين ، أريت بالمنام محتشدا قدسيّا ، يستهشّ الرّوع بمشاعره ، محتفلا روحانيّا يهتزّ له السّرّ بشراشره ، وكأنّ هناك حشدا عقلانيّين ورهطا قدّيسين ربّانيّين. وكأنّي أنا رأسهم وكبيرهم القويّ عليهم ، وأنّ لمّة منهم يسألونني عن إثبات الوعاء الذي هو الدّهر وحدوث عالم الجواز فيه. وأنا أملى عليهم هكذا :

برهان إثبات الدّهر هو بعينه برهان حدوث العالم بأسره ، وسياقته أنّ المفارق المحض ، كالعقل ، يمتنع أن يكون بالقياس إلى قاطبة الأزمنة والآنات ، وكذلك الأمكنة والحدود ، بحيث تختلف نسبته إليها بحسب الوجود في الأعيان بالمعيّة واللّامعيّة. أليس لو صحّ ذلك لكان يكون يوجد لا محالة بالفعل مع بعض ، وليس هو موجودا بالفعل مع البعض الآخر. ثمّ إذ هو موجود مع البعض الآخر أخيرا ، فيكون قد حصل له الوجود الذي هو مقارن لوجود زمان ما وآن ما ، أو وجود مكان ما وحدّ ما ، بالمعيّة ، في الأعيان ولم يحصل له ، بعد ، الوجود الذي هو مقارن بالفعل بالمعيّة الوجود زمان آخر وآن آخر أو مكان آخر وحدّ آخر ، فيعرضه أن يكون بالفعل من جهة وبالقوّة من جهات أخرى ، ومن المستبين : أنّه إنّما احتمال ذلك شأن ما في سجن عالم الهيولى ؛ والمفارق القراح النّاصع ، لا تكون له جهة منتظرة وفعليّة

٢٨٣

مرتقبة ، بل يكون جميع جهاته حاصلة بالفعل مع حصول ذاته ما دامت حاصلة.

وبالجملة ، كما المكان مع جميع الأمكنة والحدود بالوجود في الأعيان على سنّة واحدة؛ فكذلك الزّمان من عوارض المادّة ، والمفارق المحض يكون خارج الذات والوجود عن عالم الزّمان ومع جميع الأزمنة والآنات بالوجود بالفعل معها في الأعيان على سنّة واحدة. ومن هناك قيل : للزّمان أسوة حسنة بالمكان في الأحكام.

فكما ليس بالقياس إلى المفارق هنا وهناك المكانيّان ، ويعسر على الغريزة الوهمانيّة تصوّر ذلك ؛ كذلك ليس بالقياس إليه اليوم وأمس ، وهاهنا وهناك الزّمانيّان ، أى الحضور والغيبة ، والتّجدّد والتّقضّى. والقريحة الوهميّة تستغرب ذلك.

فقد استبان أنّ عالم المكان بأسره بالنّسبة إلى الموجود المفارق في معيّة الوجود في حكم نقطة واحدة ، وعالم الامتداد الزّمانيّ من أزله إلى أبده بالقياس إليه في معيّة الوجود في حكم آن واحد ، وقاطبة الموجودات بأسرها في نسبة وجوده إلى وجوداتها بالمعيّة الدّهريّة في حكم موجود واحد. فإذن قد اقترّ وعاء الدّهر الذي بحسبه تلك المعيّة.

ثمّ إذا كان العقل المفارق ذلك شأنه ، فما ظنّك بالقدّوس الحقّ الذي لا يكتنه كنه قدسه ولا يقاس عزّ مجده. فما بقي إلّا أن تستيقن أنّ قاطبة الموجودات بالقياس إليه سبحانه وإلى إفاضته إيّاها وإحاطته بها بالفعل في حكم موجود واحد ، وجملة الامتداد الزّمانيّ في حكم آن واحد ، وجملة الامتداد المكانىّ في حكم نقطة واحدة.

وبالجملة ، تشطير الجائزات في حكم الحدوث والسّرمديّة وتسويغ اختلاف نسبة المفيض الحقّ إليها بالإفاضة بالفعل واللّاإفاضة وبالمعيّة في الوجود واللّامعيّة ، حتّى يلزم أن يكون هي نسبة متقدّرة امتداديّة ، فاحشة ظنيّة في ملّة القوّة النّظريّة وسيّئة وهميّة في دين الفطرة العقليّة.

والذي يجب عند الفحص الصّحيح في شريعة العقل الصّريح هو أن يقال : إنّ جملة الجائزات والمتجوهرات بالنّسبة إلى جنابه سبحانه وإلى إفاضته الحقّة على سبيل واحد. فإمّا أنّه يسوّغ سرمديّة عوالم الجواز بحذافيرها ، مبدعاتها وكائناتها جميعا ، وليس ذلك من ضريبة الفطرة الإنسانيّة ؛ أو يحكم أنّها بأسرها سواسية في حكم الحدوث و

٢٨٤

المجعوليّة في وعاء الدّهر من بعد بطلانها الباتّ وعدمها الصّريح. وذلك بإفاضة الجاعل الحقّ إيّاها بأسرها مرّة واحدة دهريّة. وتلك المرّة الواحدة الدّهريّة بعينها في الكائنات مرّات زمانيّة متعاقبة بحسب أنفسها وبالقياس إلى الداخل ، أي بقياس بعضها إلى بعض وإن كانت محتشدة غير متعاقبة في متن الأعيان وفي كبد الواقع وبالقياس إلى الخارج المتقرّر في حاقّ نفس الأمر ، وهذا سبيل الفحص وسنن البرهان.

ومن حيث استقرّ ذلك ، استبان أنّ الإضافات أيضا ، مطلقا ، إنّما يصحّ تعاقبها بحسب قياس بعضها إلى بعض في عالم الزّمان وبالنّسبة إلى الشّيء الزّمنيّ. وأمّا بالقياس إلى عالم الدّهر وبالنّسبة إلى الموجود المفارق المتعالي عن عالمي الزّمان والمكان ، أعني القدّوس الحقّ وملائكته العقليّة القدسيّة ، فليس يتصوّر بوجه من الوجوه أصلا ، ضرورة أنّ الإضافات المختلفة الّتي تلحق الشّيء بالقياس إلى أشياء غيره إنّما يعقل تجدّدها وتعاقبها وتصادمها في الحصول إذا كان ذلك الشّيء متزمّنا متأيّنا متوضّعا متخصّص الذات والوجود بوضع بعينه ومست وبعد بعينه وحدّ بعينه وسمت بعينه ، من الأوضاع والسّموت والأبعاد والحدود الّتي في عالمي الامتداد الغير القارّ الزّمانىّ والامتداد القارّ المكانيّ. وتلك الأشياء أيضا متخصّصة الذوات بأوضاع وسموت وأبعاد وحدود. وأمّا إذا كان هو متعاليا عن جميع ذلك ومع الجميع على جميع نسبة واحدة ، فلا يكون فيه ما هو مبدأ تصحيح الإضافات المختلفة المتعاقبة بالنّسبة إليه.

وبالجملة ، لا فرق في استحالة التّعاقب والتّلاحق بالقياس إلى المفارق الحقّ بين الذوات والصّفات القارّة والإضافات ، سواء كانت أولات مباد ملزومات لها هي صفات حقيقيّة متقرّرة في ذات المعروض أو الإضافات المحضة ، لتقدّسه عمّا هو مبدأ تصحيح التّغيّر والتّجدّد والتّعاقب والتّلاحق بالقياس إليه رأسا.

وإنّما الفرق بين الصّفات الحقيقيّة ولوازمها والإضافات بالنّسبة إلى القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، أنّه يمتنع تكثّر صفاته الحقيقيّة الكماليّة الّتي هي بهاء ذاته وجمال حقيقته ، بخلاف اللّوازم والإضافات العارضة لذاته. فإذن إضافة القدّوس الحقّ إلى ما بعد ذاته ، وهو قاطبة الجائزات ، وهي مجعولاته بالأسر ، على نسبة متّفقة وسنّة غير متبدّلة ، وإن كانت إضافات متكثّرة حسب تكثّر المجعولات و

٢٨٥

المصنوعات. فهذا كنه الحكمة وهو طبخ الفلسفة. والحمد لله ربّ العالمين.

فإذن الأوّل الحقّ ، تعالى مجده ، قبل جملة ما بعد ذاته في الوجود قبليّة غير متكمّمة. وهذه لقبليّة اللّامتكمّمة غير متبدّلة النسبة إلى الأبديّات والزّمانيّات أصلا ، بل هي بالقياس إلى ما في عوالم الجواز من أوّل الوجود إلى ساقته على شأن واحد. فكما أنّه ، تعاظم عزّه ، قبل الكائنات ، أى الحوادث الزّمنيّة والأشباح الكونيّة في الوجود قبليّة غير متكمّمة ، فكذلك هو قبل المبدعات أى المفارقات الأبديّة والأرواح القدسيّة ذلك النحو من القبليّة وراء القبليّة وراء القبليّة الذاتيّة الّتي هي بحسب مرتبة الذات ، وأنّ من توخّى الفلسفة واستحصلها واستحصفها ثمّ لم يكتنه غور هذه المسألة فلقد باع صريح عقله بثمن بخس وشراه بدراهم زائفة.

ترشيح

(٢ ـ الحركة التوسطيّة وعروضها للوجود)

ثمّ هناك مسلك للتبيان من سبيل الحركة ، أليس يرتاب في أنّ كلّ ما يتلبّس بالحركة بالفعل ، يعرضه ، لا محالة في الوجود ، ما دام متلبّسا بها ، شخصيّة بسيطة غير منقسمة ، هي التّوسّط بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، المعبّر عنه بالحركة التّوسّطيّة ، وهي مستقرّة الذات الشّخصيّة ما دامت الحركة غير مستمرّة النّسبة إلى الحدود الممكنة الانفراض في المسافة بالموافاة ، ولا يعقل انطباقها على شيء من المقادير الّتي هي تلك الحدود أصلا ، بل هى أبدا في كلّ آن من الآنات المفروضة في زمان الحركة على حدّ من تلك الحدود بتّة.

فإذن ليس يصحّ للمتحرّك بحسب ماله الحركة التّوسّطيّة موافاة مقدار ما هو بين حدّين من تلك الحدود المفروضة ، بل إنّما له من تلك الجهة في كلّ آن بخصوصه موافاة حدّ بخصوصه لا غير. فلو لم يكن له في الوجود إلّا الحركة التّوسّطيّة لم يكن له بحسب الوجود إلّا موافاة الحدود من دون موافاة شيء من المقادير الّتي هي بينها. فيكون لا محالة يطفر ما دام متحرّكا طفرات لا إلى نهاية على حسب المقادير المنفرضة بين تلك الحدود لا إلى نهاية ، ليتصحّح له موافاة تلك الحدود ، فيكون يطفر عن جملة المقادير ويوافي جملة الحدود. فهذه هي الطّفرة الحقيقيّة ، وإن هي إلّا أكبر فاحشة من الطّفرة

٢٨٦

المشهوريّة الّتي قد تكلّف تسويغها بعض غاغة الجماهير من المتكلّفين.

فإذن ليس بدّ في قطع المسافة ونيل موافاتها في الأعيان من حركة قطعيّة متّصلة موجودة في الأعيان منطبقة على الاتّصال المسافيّ أعني المسافة الّتي فيها الحركة ، وعلى الزّمان الممتدّ الذي تتكمّم وتتقدّر هي به وتوجد بهويّته المتكمّمة المتّصلة فيه. فقد وجب وجود الزّمان الممتدّ الذي هو ظرف وجودها أيضا في الأعيان. وهل وعاء وجود الزّمان الممتدّ إلّا ما سمّيناه الدّهر؟.

فقد ثبت الوعاء الذي هو الدّهر ، واستبان أنّ الحركات السّماويّة وجملة الحركات والزّمان الممتدّ الذي هو مقدار حركة الجرم الأقصى ، وهو بعينه ما تتقدّر به سائر الحركات المتكمّمة موجودة بهويّاتها الامتداديّة الاتّصاليّة في الدّهر.

فاشعر إذن أنّه لو كان الزّمان الممتدّ الموجود متمادي المقدار في جهة الأزل إلى لا نهاية ، وكذلك الحركات المتكمّمة السّماويّة ، كانت براهين إبطال اللّانهاية بالفعل منتهضة الحكم هناك بالاستحالة بتّة.

فإذن ، قد صحّ أنّها لا محالة حادثة الوجود متناهية الامتداد في جهة الأزل ، لا على الوجه الملزوم لوجود الآن بالفعل ، فكذلك الأجرام الّتي هي موضوعاتها ، إذ لا يصحّ للسماويّات وجود في سكون ، فإنّ السّكون موت ، وهي حيوانات مطيعة لله تعالى ، رقّاصات فى ابتهاجات بإشراقات نوره ، وكذلك نفوسها المفارقة ، العاقلة لمجد ربّها ، المتخيّلة تخيّلات حقيقيّة ؛ وكذلك العقول الّتي هي متشوّقاتها القريبة ومصحّحات استشراقاتها بأشعّة النّور الحقّ ، والفاعل الحقّ قد فعل الأجرام الفلكيّة وأخرجها من اللّيس إلى الأيس في الدّهر متحرّكة ، لا أنّه أيّسها بلا حركة ثمّ من بعد أيسها عروا عن التّحرّك قد ألبسها الحركة.

خلسة قدسيّة

(٣ ـ «تقدّم البارى سبحانه سرمدىّ وذاتيّ والعالم متأخّر هويّا»)

كأنّك لو كنت متّقد القريحة متّمض السّجيّة محتدّ التّفطّن مشتدّ التّحدّس ، لم يكن ينخبئ عن حدسك : أنّ المتأخّر بالماهيّة إذا كان مباين الذات والوجود في الأعيان للمقدّم بالماهيّة ، غير مقارن ومخالط إيّاه ، بل منفصلا عنه في الوجود ، مسبوق

٢٨٧

الذات والوجود بذاته ووجوده ؛ والمتقدّم [كان] غير زمنيّ ، بل متعالي الذات والوجود عن أفق الزّمان من كلّ جهة ، ومع ذلك متقرّر الحقيقة ، موجود الذات بنفس مرتبه ذاته الّتي هي بعينها وجوده في الأعيان ، والمتأخّر مصنوع الماهيّة والإنيّة والذات والوجود للمتقدّم ، وباطل الحقيقة ، هالك الذات في حدّ نفسه ، وهو فائض عن المتقدّم فيضانا مباينا لذاته ، فإنّه لا محالة لا يكون تقدّم المتقدّم عليه تقدّما بالذّات وفي لحاظ العقل لا غير ، بل إنّه يكون متقدّما عليه تقدّما سرمديّا أيضا في الأعيان. فإذا فاض عنه صار معه في الأعيان معيّة دهريّة ، وهو متأخّر عنه بالذّات في لحاظ العقل تأخّرا بالماهيّة وتأخّرا بالمعلوليّة ، ومحكوم عليه بأنّه قد تأخّر عنه بحسب الأعيان تأخّرا دهريّا بعدمه الدّهريّ ، ثمّ صار معه معيّة دهريّة بإفاضته إيّاه في الدّهر.

فإذن تقدّم البارى ، سبحانه ، على العالم تقدّم سرمديّ بالوجود في الأعيان بالقياس إليه ، لا أنّ الوجود شيء ثالث ، بل هو نفسه. وإنّما تفرضه في ذهنك ووهمك ثالثا ؛ وتقدّم بالذّات في لحاظ العقل ، أعنى تقدّما بالماهيّة وتقدّما بالعليّة ؛ والعالم متأخّر عنه ، سبحانه ، تأخّرا دهريّا بحسب الأعيان وتأخّرا بالذّات في لحاظ العقل ، أعني التأخّر بالماهيّة والتأخّر بالمعلوليّة ، إذ كان المجعول لا يتأخّر عن جاعله التامّ تأخّرا بالطّبع.

عقد وعقبات ثلاث

(٤ ـ الجاعل التامّ البارى الأزليّ والزمان الحادث)

إنّ في هذا المقام العضيل المحار المهيل إعضالات عويصة ودواهي عسيرة غير يسيرة ، دير بها على الأذهان وسير بها في الأوهام أدوارا وعصورا ، واعتاص الأمر على فئين من أساطين أولى الحقيقة وكرام أرباب البرهان. فحيل بها في جاهليّة الفلسفة وتشويش الصّناعة بينهم وبين سمت تسواء الحكمة الحقّة المسوّاة قرونا ودهورا. لكنّ الأكثريّ التّدوار على ألسن أرهاط من الأوائل والأواخر في أكثر العصور والأعصار من التّشكيكات والتّعضيلات شبه ثلاث.

أولاها : أنّ الجاعل الموجب التّامّ لعالم الجواز ، إن كان هو القدّوس الحقّ ، تعاظم مجده ، وهو أزليّ الوجود ، والعالم حادث بعد العدم ، فقد لزم التّخلّف عن جاعله التّامّ ، وإن لم يكن هو ايّاه فحسب ، أى لم يكن الجاعل التّامّ بما هو جاعل تامّ أزليّا ،

٢٨٨

فيكون عدم العالم في الأزل لعدم جاعله التّامّ. فلا محالة يجب أن يخرج شيء ممّا يعتبر في تماميّة الجاعل من القوّة إلى الفعل مع خروج العالم من القوّة إلى الفعل بتّة ؛ ويعطف النّظر إلى ذلك الخارج ، ويساق الفحص إلى حيث تتمادى الخارجات إلى الفعل معا إلى لا نهاية.

فيقال : أهي وجودات مترتبة ، فيلزم التّسلسل المستحيل عند الخروج أو عدمات مترتّبة حادثة معا فيلزم ذلك التّسلسل من قبل الخروج ، أو متشابكة فيلزم التّسلسل المستحيل أيضا إمّا عند الخروج أو قبله.

وهذه الدّاهية تعمّ حدوث جملة العالم وحدوث أيّ جزء كان من أجزائه ، فيلزم قدم العالم بضرّاته وذرّاته جميعا ، حتّى الحوادث اليوميّة والكائنات الآنيّة الوجود. ولا يجدى ما يتخيّل من التّسلسل التّعاقبىّ في المعدّات والمهيّئات لحدوث شيء من الأشياء ، كما هو مستبين.

وثانيتها : إنّ القول بأزليّة البارى ، سبحانه ، وحدوث مجعولاته بالأسر تعطيل الجواد الحقّ عن جوده عند عدم المجعولات رأسا ، وذلك خلف محال. إذ إنّما جوده المطلق وجواديّته المختصة بالذّات بحسب مرتبة الذات ، لا من جهة أمر وراء نفس الذات أصلا. والواجب بذاته لا يكون إلّا واجبا بالذّات من جميع جهاته. وليس يصحّ أن يتّصف به أخيرا بما ليس له أوّلا فى مرتبة ذاته. وأو لا يتدبّر ما ذا يضرّ الشّمس دوام شعاعها وبقاء ذرّات في نورها. فما ظنّك بشمس عالم العقل ، وهو نور الأنوار ، غير متناهى النّوريّة والمجد والكمال ، إذا كان مفيضا للنور وقائما بالقسط أزلا وأبدا ؛ ومن البيّن أنّ ما يفيض منه الوجود دائما ، فإنّه أفضل ممّا يتعطّل مدّة لا عن بداية فينبعث فيه فعل الإيجاد والإفاضة. وهذان الإعضالان من شبهات أبرقلس في الدّورة اليونانيّة.

وثالثتها : أنّ الزّمان لو كان حادثا كان متناهي الكميّة من جانب الأزل ولم يكن يمتنع بالنّظر إليه أن يكون يخلق أطول تماديا وأكثر تقدّرا ممّا قد خلق عليه ومن كلّ مرتبة مقداريّة بعينها تفرض له من مراتب التقدّرات الممكنة الانفراض لا إلى نهاية في جهة البداية ، إذ طباع الكم ليس يأبى الزّيادة والنّقصان ولا شيئا من مراتبهما

٢٨٩

المفروضة. وأيضا لم يكن يمتنع بالنّظر إلى قدرة البارى الحقّ سبحانه أن يخلق الحركات الحادثة السّماويّة أكثر أدوارا في جهة الأزل ممّا قد خلقت عليه ومن كلّ مرتبة مفروضة بعينها للأكثريّة لا إلى نهاية وأن يلحق حركات متخالفة السّرعة والبطء ، منبتّة الاتّصال عند خلق العالم ، مسبوقة الوجود بحركات أخرى كذلك ، وهكذا إلى لا نهاية ؛ فيكون لا محالة يتوهّم من عند الخالق إلى أوّل الخليقة امتداد غير متناه تنطبق عليه تلك الأزمنة والأدوار والحركات المفروضة ، ولا يكون عدما محضا ، إذ يكون لا محالة لا يساويه بعضه ، ويصحّ تحليله إلى أبعاض تجرى بينها المفاوتة والمساواة.

فإذن ، إن هو إلّا ما سميّناه الزّمان القديم الممتدّ الغير المتناهي المقدار في جهة البداية، وليس له بدّ من حركة قديمة تكون محلّه وجسم قديم يكون موضوع محلّه ، فقد لزم بتّة قدم الخلق على فرض الحدوث. وهذا سبيل للتعضيل سلكه رئيس مشّائيّة الإسلام في «الشّفاء» و «النّجاة» وتوغّل فيه في «التعليقات».

خلسة ملكوتية

(٥ ـ إفاضة الجاعل التامّ على المجعول الحادث)

ونحن إذ أيّدنا الله بفضله وخصّنا بهداه ففككنا العقد وحلّلنا الشّكوك واستسهلنا العقبات ، نملى عليك بمنّه وإكرامه فنقول : أوّلا ، ليكن عندك من المستبين أنّه ليس من الواجب في سنن العليّة والمعلوليّة أن يقرن العلّة التامّة ومعلولها بحسب الوجود الزّمانىّ بحيث يجمعهما البتة زمان أو آن ، إلّا إذا كانت العلّة والمعلول كلاهما زمنيّين. وأمّا إذا كانت العلّة غير زمانيّة وبالقياس إلى الأزمنة والآنات قاطبة على نسبة متّفقة وسنّة واحدة ، فإنّما الواجب بحسب طباع تامّيّة العليّة احتشاد العلّة والمعلول معا في وقوع التّقرّر بالفعل بحيث يجمعهما الوجود الصّريح ووعاء الفعليّة المعبّر عنه بالواقع ، وبالجملة تخلّف المجعول عن جاعله التّامّ مستحيل ، زمنيّا كان الجاعل أو دهريّا أو سرمديّا ، ومادّيّا كان أو مفارقا.

ولكنّ التّخلّف المستحيل القائم على استحالته البرهان إنّما هو التّخلّف المكمّ ، وهو التخلّف السّيال والبعديّة المتقدّرة ، وكذلك التّخلّف الصّريح إذا كان من تلقاء

٢٩٠

تسويف الجاعل في الإفاضة مع إمكان اللّاتخلّف ، أى الفيضان عنه من قبل ، بالنّظر إلى طباع جوهر المجعول ، إذ يلزم ، حينئذ ، إمّا خرق فرض استتمام الجاعل ، وإمّا وقوع التّرجيح بالفعل من غير مرجّح يقتضيه ، أو إمكان وقوعه بتّة. وأمّا التّخلّف الصّريح من حيث امتناع الفيضان من قبل بحسب طباع جوهر المجعول ونقص حقيقته ، فليس بجليّة البرهان ولا يصادمه تماميّة الجاعل الموجب ، بل إنّ عزيزة العقل النّاصع توجبه.

والذي يعنى بكميّة التّخلّف وسيّاليّته هو أن يتخلّل بين الجاعل التّامّ ومجعوله امتداد ما غير قارّ ، موجودا كان أو موهوما ، أو طرف امتداد ما كذلك ولو بحسب التّوهّم ، أى يتقدّم الجاعل على المجعول في الوجود تقدّما متقدّرا بذلك الامتداد ومستمرّا بحسبه أو منطبقا على طرف الامتداد ومتخصصا به.

والتّخلّف الصّريح إنّما يعنى به عدم المجعول مع وجود جاعله التّام عدما صريحا ساذجا خارجا عن جنس التّمادى واللّاتمادى ، ثمّ وجوده بالفعل فائضا عنه من بعد ذلك العدم الصّريح الذي قد أبطله صنع الجاعل بالإبداع والإفاضة.

فإذا كان المجعول تامّ القوّة في جوهر ذاته على قبول الفيض مرسلا مطلقا ، امتنع تخلّفه عن جاعله التّامّ على الإرسال والإطلاق. وإذا كان في طباع جوهره بحيث يأبى ذاته إلّا التّخلّف الصّريح ، من جهة ما إنّ طباعه يقصر عن قابليّة التّسرمد ويمتنع بالنّظر إليه إلّا الوجود من بعد العدم الصّريح ، كان يتخلّف عن جاعله التّامّ تخلّفا صريحا غير سيّال ولا متقدّر ولا متكمّم بتّة ولم يكن هناك خلف أصلا. أليس الإمكان الذاتىّ ممّا يتوقّف عليه المجعوليّة وحصول المجعول ، وليس تنثلم بذلك بساطة الجاعل التّامّ ، إذ الإمكان من مراتب ذات المعلول المفروغ عنها عند النظر فى استناده إلى العلّة ، لكونه من متمّمات جوهر المجعول المفتاق ومن مصحّحات المعلوليّة والفاقة إلى العلّة.

وبالجملة إنّما إفاضة الجاهل التّامّ على طباق إمكان جوهر المجعول وقوّة طباعه على القبول. فإذا قيل ، مثلا ، المبدع الجاعل التّامّ لم لم يبدع النّفس غنيّة عن علق المادّة في أفاعيلها كالعقل؟ أو لم لم يخلق الفرس مدركا للطبائع المرسلة ومرتّبا للضوابط الكليّة وصائرا إلى عالم القدس بالاستكمال كالبشر ، أو لم لم يبدع الخمسة

٢٩١

منقسمة إلى متساويين كالسّتة؟ عدّ من هذر القول ومن سخيف السّؤال.

وإذا علّمناك الضّابط ، فالآن نعود إلى حيث فارقناه ونكر ، فنختبر الشّبه المعضلات ونروز شأنها في التّعضيل :

تشريق

(٦ ـ أجوبة المعضلات والشّبهات في الجاعل والحدوث)

فنقول : أمّا الأولى من الشّبه فكأنّك استشعرت وهنها بضابط الجاعليّة والمجعوليّة. فالبارئ الحقّ ، سبحانه ، هو الجاعل التّامّ بذاته لعالم الجواز بنظامه الجملىّ.

وحيث إنّ طباع الإمكان يقصر عن تصحيح قبول التّسرمد ، كان المجعول تقرّر العالم ووجوده من بعد ليسيّته الصّريحة وعدمه الصّرف السّاذج والتّخلّف الصّريح من جنبة جوهر القابل ونقصان ذاته وقصور طباعه من القبول ؛ لا من جهة عدم استتمام الفاعل لفقدان أمر ما منتظر ولا من قبل تسويفه في الإفاضة ، فإنّ وجود العالم ، قبل ما وجد ، ممتنع بالنّظر إلى نفس ذات العالم ، إذ لا يعقل وجود قبله إلّا الوجود السّرمديّ الأزلىّ ، وطباع الجواز الذاتيّ ليس يقبل السّرمديّة الأزليّة. فالجائز بالذّات هو ما لا يأبى بذاته الوجود المرسل ولا العدم المرسل. وذلك ليس يصادم امتناع وجود ما بخصوصه أو عدم ما بخصوصه بالنّسبة إلى ذاته.

وشقيق هذا التّخلّف ، فى أنّه من قبل استحقاق طباع جوهر المجعول ، لا من تلقاء ضنانة من الجاعل أو رهانة بشيء من منتظرات الجعل ، تخلّف المعلول عن مرتبة ذات علّته التّامّة ، إذ له في تلك المرتبة العدم بمعنى السّلب ، لا بمعنى العدول ، مع تمام العلّة واستتمام حصول المنتظرات بأسرها ، وإنّما ذلك من قبل استحقاق طباع جوهر المعلول لا غير ؛ وكذلك ليسيّته ولا وجوده في مرتبة نفس ذاته الواقعة في الأيس بالفعل من تلقاء جعل الجاعل وتأييسه إيّاه ، وذلك بحسب ماله الحدوث الذاتيّ باستحقاق جوهره وطباع ذاته.

ومطرد هذا القول مطرد الانسياق في النّظام الجملىّ وفي أجزائه ، وبالجملة في الحوادث الدّهريّة مطلقا حتّى الحوادث الزّمانيّة والآنيّات ، ولكن بما هي حوادث دهريّة.

٢٩٢

فهى بذلك الاعتبار متخلّفة الوجود عن البارئ الحقّ ، سبحانه ، لا بما هي حوادث زمانيّة ، إذ إنّما الحدوث الزّمانىّ مبدأ تصحيح التّخلّف السّيّال المتكمّم ، لا التّخلّف الصّريح؛ وعن زمانىّ متقدّر الوجود ، لا عمّا يتقدّس عن التّقدّر والتّزمّن ، إلّا أنّ النّظام الجملىّ لا يعقل توقّفه على غير ذات البارى الحقّ سبحانه وكذا أقرب أجزائه من البارئ الحقّ ، وهو العقل الأوّل. وأمّا سائر أجزائه حتّى الحوادث الكونيّة الزّمنيّة فيحدث كلّ منها في الدّهر مع جملة ما يرتبط ويشترط هو به بإفاضة الجاعل الحقّ إيّاها كلّها جميعا مع معيّة دهريّة.

والحدوث الزمانىّ إنّما يستتبّ أمره بالهيولى والحركة والزّمان ، والحوادث الزّمانيّة إنّما يتصحّح ترتّباتها وتعاقباتها وتخصّصاتها بأزمنة وآنات بأعيانها بحركات الأجرام السّماويّة في الأوضاع ؛ وحركة هيولى عالم الأسطقسات في الاستعدادات والكيفيّات الاستعداديّة واللّانهاية في المعدّات والمتمّمات ، إنّما هي لايقفيّة عدديّة ؛ والعدمات الزّمانيّة ليست بأعدام بالحقيقة بل إنّما المعقول من العدم الزّمانىّ غيبوبة زمنىّ محدود الوجود عن زمنىّ آخر محدود الوجود لا غيره.

والتّقدّمات والتّأخّرات والتّقضّيات والتّجدّدات مستندة إلى أفق التّقضّى والتّجدّد وهو الزّمان ، ومنتهية إلى نفس هويّات أجزائه. وإنّما ضمان بسط البيان وتفصيله في ذلك كلّه على ذمّة كتابنا «الإيماضات والتّشريفات».

عقد وحلّ

(٧ ـ إيجاد العالم المعدوم والوجود الحادث)

فإن عضّل عليك المشكّكون ، بأنّ عدم العالم في الدّهر قبل وجوده ، إمّا أنّه واجب بالذّات فكيف ينقض ويوجد العالم بعده ، وإمّا أنّه ممتنع بالذّات فيكون العالم واجب السّرمديّة بتّة ، وإمّا أنّه جائز بالذّات فيكون لا محالة له علّة ، وعلّة العدم ليست إلّا عدم علّة الوجود وأنّ علّة الوجود هو الجاعل الحقّ الممتنع العدم الواجب الوجود بالذّات ، جلّ مجده ، لا غير.

فاتل عليهم : أنّ الممتنع بالنّظر إلى ذات العالم إنّما هو الوجود السّرمديّ ، فلا محالة إنّما الواجب بالنّسبة إلى ذاته نقيضه ، وهو رفعه ؛ ورفع الوجود السّرمديّ إمّا

٢٩٣

برفع مطلق الوجود ، وهو العدم المطلق في الآزال والآباد رأسا ، أو برفع السّرمديّة ، ويتحقق بالوجود بعد العدم الصّريح. فالّذى يجب بالنّظر إلى ذات العالم هو مطلق العدم الصّريح أعمّ من أن يكون بطلانا محضا فى الآزال والآباد رأسا ، أو ليسا صريحا دهريّا منقضا بالوجود الدّهريّ بعده ، وخصوص كلّ منهما إنّما يتعيّن بعلّة خارجة.

فإذن عدم العالم في الدّهر قبل وجوده الدّهريّ : بما هو عدمه الصّريح في الواقع ، أى بما هو رفع سرمديّته. ذاتيّ له وغير مستند إلى علّة أصلا ؛ وبما هو ينقض بالوجود الدّهرىّ بعده مستند إلى جاعل الذات والوجود بعينه. ولا خلف ، إذا المستند حينئذ حقيقة هو انقضاض العدم ، لا نفسه ، وجاعل الذات والوجود فى الدّهر هو بعينه علّة انقضاض العدم الدّهرىّ.

أما عندك من المستبين أنّ العدم هو ليسيّة الشّيء وانتفاؤه ، لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء؟ فإذن قد تمّ ميقات الحقّ وانقضّ جدار التّشكيك بحسب المعضلة الأولى ، (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، (الأنعام : ٤٥).

تشريق

(٨ ـ الابداع والصنع في قاطبة الموجودات»)

وأمّا المعضلة الثّانية ، فلعلّك بما بان لك لو كنت منضوّ الوهم ممقوّ الذهن ، غير مستعسر أمرها ولا مستثقل قدرها أيضا. أليس إنّما يعقل التّعطيل لو كان يوهم هناك امتداد قد سوّف الجاعل فيه الجعل والإفاضة ، أو كان حدّان يتحدّد بهما الجعل واللّاجعل ، فينماز حدّ اللّاجعل عن حدّ الجعل ، أو كان جعل المجعول لا على السّرمديّة ، بل من بعد عدمه الصّريح الواقع في نفس حيّزه الوجود بدلا عنه من تلقاء ضنانة من الجاعل بالإفاضة وإمساك عن الجعل أوّلا ، ثمّ إطلاق الرّحمة وبسط اليد بالجود أخيرا.

وما تلك إلّا ظنون أقوام من الغاغة والجماهير ، أخفّاء الهامّ ، سفهاء الأحلام ، ضعفاء العقول ، أقوياء الأوهام ، يخرصون ما لا يعلمون ويقولون ما لا يفقهون.

فأمّا إذا لم يكد يتوهّم شيء من ذلك أصلا وكان العدم الصّريح الذي قد عبّرنا عنه باللّاخلاء واللّاملاء الزّمانىّ بمعزل عن تصوّر السّيلان واللّاسيلان والاستمرار واللّااستمرار فيه ، ووجود العالم واقعا في حيّزه بعينه بدلا عنه من جهة انقضاضه

٢٩٤

بإفاضة الجاعل ؛ وكان الجاعل غير مكتس أخيرا بما ليس هو متجمّلا به أوّلا في نفس مرتبة ذاته ؛ ولم يكن يسنح شيء ممّا هو من جهات ذات الجاعل ولا شيء من الاعتبارات التي هي منتظرات جاعله ؛ بل إنّما كان لا تسرمد المجعولات من قبل قصور حقائقها وضعف ذواتها عن قوّة القبول ، وكان إنّما المتجدّد نفس ذات المجعول لا أمر ما في الجاعل كان يعوزه في الجاعليّة ؛ لم يكن لتوهّم التّعطيل متّسع ، ولا عن القضاء على جملة الجائزات بالحدوثين الذاتىّ والدّهرىّ ممتنع.

أفلا يتبصّر ما ذا يضرّ الشّمس لو لم تكن ساهرة مدريّة تستضيء بنورها أو جدران طينيّة تستشعّ بضوئها ، فما ظنّك بالملك الحقّ والغنىّ المطلق ، فاعل الشّمس والقمر ، جاعل الظّلمات والنّور ، إذا كان مستأثرا بالقدم ، متوحّدا بالسّرمديّة.

فافقهنّ أنّ علوّ البارى الصّانع ومجده في الإبداع والصّنع هو أنه بذاته بحيث يبدع ويصنع ويخلق ، لا بأنّ الأشياء خلقه ، كما شأنه في العلم ، إذ علوّه ومجده في العلم هو أنّه بذاته يعقل قاطبة الأشياء بعين عقله ذاته وتفيض عنه جملة الأشياء منكشفة معقولة ، له بأنّ الأشياء معقولة له ، فإذن علوّه ومجده بذاته ، لا بلوازمه ومجعولاته ومصنوعاته.

تشريق

(٩ ـ كيفيّة خلق العالم بعد عدمه الصريح)

وأمّا التّعضيل الثّالث ، فكأنّا قد كنّا كشفنا الأمر فيه في «الأفق المبين» ، حيث أوضحنا الفرق بين الكميّة الغير القارّة العديمة الوضع والمقادير القارّة ، وحقّقنا أنّ الكم الغير القارّ ، وهو الزّمان المتّصل القائم بحركة الجرم الأقصى ، يمتنع بالنّظر إلى ذاته أن يكون أزيد مقداريّة وأطول تماديا في جهة الأزل ممّا قد خلق عليه. إنّما احتمال الزّيادة والتّزيّد والقوّة على قبول ذلك سنّة المقدار القارّ ، كما لامتداد الجرم الأقصى ؛ فليس يعقل بالقياس إلى الزّمان إلّا عدم واحد هو انتفاء ذاته بالمرّة رأسا ، لا العدم الآخر الذي هو انتهاء انبساط المقدار وانبتات تماديه.

وأمّا حامل محلّه ، وهو الفلك الأقصى ، فيعقل بالقياس إليه العدمان جميعا. فلذلك لم يكن يلزم الزّمان بحسب الحدوث الدّهريّ وتناهي الكميّة في سمت الأزل حدّ ونهاية يحكم على تماديه بالانبتات عند ذلك الحدّ. والأبعاد القارّة

٢٩٥

المتناهية وضعا منبتّة الامتداد لا محالة عند حدود مقداريّة.

وإنّما لازم ماهيّة المقدار وطباعىّ الكم المتصل ليس إلّا تصحّح قبول المساواة والمفاوتة، فعضة من الزّمان أقصر مقدارا من الزّمان كلّه ، وزمان كذا مثلا مساو أو مفاوت لزمان كذا. وكذلك بعد كذا بالقياس إلى بعد كذا إلا تصحّح إمكان الزّيادة أو التّزيّد البتة على الحاصل في الفطرة الأولى ، فمن المستحيل بالقياس الى ذات الزّمان فى حدّ نفسه أن يخلق فى الفطرة الأولى أطول مدّة ممّا خلق عليه.

وكذلك ليس من الجائزات بالذّات خلق دورة أو حركة أخرى قبل ما قد خلقت من الحركات السّماويّة بدورانها فضلا عن أدوار وحركات غيرها. أليس لا يعقل في العدم الصّريح امتداد موهوم حتّى يتصوّر وجود حركة فيه وانطباق ممتدّ عليه.

فكما الجرم الأقصى الذي لا يحتفّ به خلأ ولا ملأ تنتهى عنده الجهات والأبعاد القارّة ، ولو فرض شخص ماد يديه هناك استحال أن تذهب يده وراء سطحه المحدّد للجهات وتنبسط ، لعدم انقضاء وانتهاء الأبعاد ؛ فكذلك مقدار حركته الذي ليس وراء امتداد منقسم سيّال أو حدّه غير منقسم ، لا موجودا ولا موهوما ، تتحدّد به التّقضّيات والتّجدّدات والانبساطات والتّماديات الغير القارّة ، وهو مسبوق الوجود في الأعيان بعدمه الباتّ الصّريح وبوجود جاعله الحقّ ، ويستحيل أن يفرض شيء آخر قبله متوسّط الوجود بنيه وبين جاعله.

فإذن قد استبان : امتناع خلق دورة أو حركة أخرى قبل الأدوار والحركات المخلوقة السّماويّة ، وأنّ الامتناع ليس من جهة أنّ ذلك أمر معجوز عنه بالقياس إلى تعلّق القدرة الواجبة التّامّة السّبحانيّة ، بل إنّما من حيث إنّه مستحيل ذاتا ، والمحال بالذّات ليس في منّته أن يستأهل ذاتا متصوّرة تستطيع إلى صلوح قبول التّأثير ومتعلقيّة القدرة سبيلا. فالنّقص والعجز من جهة ذات المستحيل ، إذ لا ذات له في التّصوّر والتّوهّم ؛ لا من تلقاء قدرة القدير الحقّ تعالى عزّه.

فإذن خلق العالم بعد عدمه الصّريح ليس من حيث انتقال الخالق من عجز إلى قدرة ، ولا من حيث انتقال العالم من امتناع إلى إمكان ، ومن لا مقدوريّة إلى مقدوريّة ؛ بل إنّما من حيث قاصريّة طباع الجواز الذاتىّ عن تصحّح التّسرمد وامتناع

٢٩٦

أزليّة التّقرّر بالقياس إلى ذوات الجائزات دائما ، واستحالة توهّم امتداد أو لا امتداد ، وسيلان أو لا سيلان في العدم الباتّ الصّريح.

توفية

(١٠ ـ الشبهات في الدهر والزمان والحادثات)

فإذن إنّما هذه التّعضيلات والتّعسيرات ، سلطانها على فئين من الجماهير والغاغة ، وهم متكلّفون تسمّوا بالمتكلّمين ، يتجشّمون أنّ قبل العالم عدما ممتدّا لا عن بداية مع ذلك العدم ومرجّح لوجود العالم في حدّ وجوده بإرادته المخصّصة ، ومن السّائغ أن يخلق قبل أيّ خلق توهّم في ذلك الامتداد خلقا :

وليسوا يشعروه أنّه لو كان الأمر على ما يخرصون ، كان ذلك العدم بعينه الامتداد الغير القارّ المتصحّح فيه المساواة والمفاوتة والتقضّى والتجدّد والقبليّة والبعديّة ، ولكن مفارقا عن المادّة ، غير قائم الوجود في محلّ ، بل قائم الحصول المجرّد عن المادّة. والزّمان أيضا هو بعينه الكميّة الغير القارّة ، المتصحّحة فيها المساواة والمفاوتة. والقبليّات والبعديّات ، إلّا أنّها قائمة الوجود في الحركة القائمة في الجرم المتحرّك الذي هو موضوعها.

فإذن تختلف أفراد طبيعة نوعيّة بعينها بالتّجرّد والهيولانيّة. وهو مستبين الفساد لذوى البضاعة العقليّة ، أليس كما لا تختلف طبيعة بعينها بالعرضيّة والجوهريّة ، كذلك لا تختلف بالحلول واللّاحلول وبالفاقة إلى الهيولى والغنى عنها؟

ثمّ إذا صحّ لطبيعة ما نوعيّة أن تكون مستتمّة التّقوّم والتّحصّل الشّخصىّ من دون علق المادّة ، فكيف يعتريها أن تعتلق في شخصيّتها وتحصّلها في الوجود بالمادة وعلائقها وعهدها؟

ومن هذا السّبيل أيضا يستبين إبطال الخلأ والبعد المفطور القارّ المجرّد عن المادّة القائم بذاته ، وهو مذهب فريق من رواقيّة الحكماء ، وإبطال كون الزّمان مجرّدا بحسب نفسه ويسمّى بالدّهر ، ومتعلّقا بالمادّة بحسب ما يقع فيه من التّغيّرات ويسمّى بالزّمان ، وقد ذهبت إليه فئة من مهوّشة الفلاسفة. والمحدثون قد

٢٩٧

تقوّلوهما على إمام الفلسفة أفلاطون الإلهيّ.

ثمّ لو عزل النّظر عن كون العدم غير معقول الامتداد إلّا عن جهة الزّمان ، أفلم يكونوا فاقهين أنّ الأنوار المفارقة العقليّة متنزّهة الذات والوجود عن الاستمرار السّيّال المكمّم الزّمانىّ ومقابله ، فكيف جناب النّور الحقّ جلّ ذكره ، وبالجملة المتكلّفون لما لا يعنيهم يقحمون القحم ويركّمون الظلم.

فأمّا الملكوتيّون الرّبيّون ، وأولئك هم الحكماء القدّيسون حقّا ، فليس يستطيع سلطان الوهم وتسخير الطبيعة أن يضطرّهم إلى سجون التّشكيك ومضائق التّعويص أبدا.

فلذلك ما إن ترى رئيس مشّائيّة الإسلام يسير هناك على المجادلة. ألم تسمعه يعترف في كتبه ، كالشفاء والنجاة والتعليقات : أنّ ما يقام في المحاجّة على قدم العالم من الحجج شبه جدليّة ، إنّما عقدها وسوقها على قانون الجدل وعلى أوضاع المتكلّفين ؛ وأنّ من يفقه سبق الأوّل الحقّ على الثّوانى ـ سبقا مطلقا في متن الأعيان وكبد الواقع بحسب نفس ذات المتأخّر فى كبد الأعيان بعد ذات المتقدّم بعديّة صريحة ، لا تقدّما مكمّما ، وسبقا سيّالا ، لا بحسب أمر ما ثالث مارّ بهما في الوهم يتحصّصان بحدّين منه هو الامتداد الغير القارّ ، ولا محالة ليس إلّا ما نحن نسمّيه الزّمان ، وإن كان المتكلّفون يظنّون أنّه وعاء الزّمان ـ فإنّه في متندح عن ذلك كله ، وإنّه من روح الحقّ في مقام رحب.

وأمّا ما اعتمله ابن غيلان «أنّ معنى حدث العالم بعد عدم ممتدّ ، لا عن بداية امتداد ذلك العدم ، بقياسه إلى وجود الأوّل الحقّ سبحانه ، لا امتداده بحسب نفسه» ، فقد دريت أنّه من سخيف الاعتمال. أليس لا يعقل ذلك إلّا في ما يقارن ذاته ووجوده كمّية غير قارّة الثّبات. والمفارقات العقليّة في تنزيه إلّا عن الثّبات الصّرف. فما ظنّك بربّ الأرباب ونور الأنوار ، جلّ ذكره وعزّ مجده.

وهم وتحصيل

(١١ ـ العدم المستمرّ والفضاء الممتدّ والجرم الأقصى)

أو لعلّك تقول : ما بال الفلك الأقصى ليس يأبى زيادته أو تزيّده بحسب المقدار على ما

٢٩٨

هو عليه الآن ، وليس يستوجب ذلك تقدّرا في العدم الموهوم فوق سطحه المحدّد للجهات والأبعاد القارّة ؛ والزّمان لو ساغ مثل ذلك بالنّسبة إليه وجوّز أن يكون قبل خلق العالم خلق أيّ شيء كان لكان مبدأ استيجاب سبق الامتداد عليه واجبا ، وأن يكون العدم الصّريح المتوهّم قبله متقدّرا؟

فيقال لك : السّرّ في ذلك أنّه ليس فوق الجرم الأقصى شيء يتخلل بينهما بالفعل عدم مستمرّ وفضاء ممتدّ ، فيكون هناك بعد بالفعل ويكون لا محالة يفضل ويزيد على عضة موهومة منه ويتساوى أو يتفاوت شطران منه موهومان ، بل إنّما الجرم الأقصى بحسب نفسه يمكن له مقدار أزيد وإن كان يمتنع ذلك بحسب انتفاء بعد وجهة فوقه يتمادى وينبسط جرمه فيه.

وأمّا الزّمان بل العالم بجملته ، فإنّ الصّانع الحقّ موجود قبله. فإذا تخلل بينهما عدم موهوم الامتداد يصحّ أن يقع فيه وينطبق على شطر منه شيء ما يخلق فيوجد قبل العالم وبعد الصّانع ، زمانا كان أو غيره ، كان لا محالة هو أطول امتدادا من عضة موهومة منه ، وعضتان منه موهومتان غير عريّتين البتة إمّا عن المساواة أو عن المفاوتة. فكان بالضّرورة البتيّة متقدّرا متكمّما بالفعل مجرّدا عن محلّ يقوم فيه.

وهذا كما لو تخلّل بين جسمين خلأ وفضاء غير مشغول بامتداد جرمانىّ ، فإنّه يكون بينهما بعد بالضّرورة ، وإنّه مبدأ استيجاب أن يكون ذلك الخلأ والبعد بعينه امتدادا متقدرا متكمّما موجودا بالفعل غير قائم الذات والوجود في موضوع ومحلّ ، إذ هو لا محالة أزيد تماديا وأعظم انبساطا وأوغل في الانبساط ذهابا من نصفه الموهوم مثلا بتّة.

حكومة

(١١ ـ أقوال المتكلفين وقول الحكماء في النظام وأجزائه)

لن يجدى المتكلّفين ، في ما يتجشّمونه لتصحيح الحدوث وتسويغ التّخلّف ، قولهم :

إنّ الصّانع الحقّ لم يزل بإرادته القديمة الأزليّة علّة تامّة لوجود الحادث في حدّ وجوده في ما لا يزال من حدود الامتداد الموهوم إلى لا بداية في الآباد وإلى لا نهاية فى الآباد فإذن لا تخلّف إلّا على تقدير وجود المعلول في غير ذلك الحدّ بعيبه ؛ ولا قولهم : حدوث العالم في ذلك الحدّ بعينه من حدود ذلك الامتداد من مقتضيات

٢٩٩

النّظام الأكمل المتعيّن بعناية البارى الحقّ سبحانه وعلمه التّامّ بالأصلح على احتذاء ما قالته الحكماء في خصوصيّات النّظام الجملىّ وأجزائه.

أليس الأوّل تتضاعف به الدّاهية ، إذ يستوجب وجود الحادث المتحدّد بذلك الحدّ بعينه في الأزل ، إذ علّته التّامّة موجودة في الأزل ، فإذن تلزم أزليّة الحادث وذلك الحدّ جميعا. ثمّ أليس التّرجيح بنفس الإرادة لا بمرجّح غيرها ملزوم التّرجّح لا مرجّح أصلا. والثّاني ليس يتصحّح على أصولهم وأوضاعهم ، إذ لممتدّ الموهوم ليس على ما يزعمون إلّا عدما محضا. ولن يستسوغ العقل الصّريح أن يتميّز في العدم الصّرف حال ، الأولى بالصّانع فيها أن لا يضع شيئا ، أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا ، وحال بخلافها. وأمّا الحكماء فأمرهم في ما قالوه على طور آخر محصّل.

تعقيب

(١٣ ـ قاطبة الأشياء المسبوقة بالعدم الدهريّ فائضة عن صنع الجاعل الحقّ)

إن غشيك الوهم أنّه قد صحّ أن لا تعطيل في الوجود بحسب اللّاإفاضة في العدم الصّريح الدّهريّ ، لكنّه لا محيص عنه بعد الإفاضة على ما قد اقترّ أنّه سبحانه قد فعل النّظام الجملىّ بقضّه وقضيضه في الدّهر مرّة واحدة. وهل ذلك إلّا على مضاهاة قول اليهود: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤).

فتدبّر أمرك واعمل رويّتك واعلمن أنّه إنّما كان يعترى التصوّر شيء من ذلك لو كان يعقل عند ربّك وفي صقع الرّبوبيّة وفي كبد الوجود الصّريح ومتن وعاء الدّهر سيلان وامتداد وتقضّ وتجدّد. وأمّا على ما هو الحقّ القراح وقد استبان لك سبيله فليس يتصوّر بحسب الدّهر إلّا وجود صريح لجملة الجائزات من مبدأ التّجوهر إلى ساقة الوجود في حاقّ كبد الأعيان ، وإنّما هو من تلقاء صنع الجاعل الحقّ وإفاضة وجوده ورحمته. فإذن ليس للإفاضة في الدّهر والفيضان الدّهرى بعد متصوّر وعقب موهوم حتّى يذهب الوهم إلى التّعطيل.

ومن سبيل آخر : إنّا كنّا قد تلونا عليك في صحفنا : أنّ طباع الجواز الذاتىّ هو العلّة المفقرة إلى الجاعل القيّوم الواجب بالذّات جلّ مجده ، وأن سواء بالقياس إلى ذلك حدوث المجعول وبقاؤه جميعا.

٣٠٠