مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فذلكة الفحص ، على ما قد بزغ لك ، أنّ هنالك مقامات ثلاثة. يجب في كلّ منها تحديد حريم النزاع على حقّه ثمّ تحقيق القول في المتنازع فيه من سبيله.

الأوّل : أنّ أفعال العباد بإرادتهم واختيارهم ، وذلك مستمرّ الصحة في نفس الإرادة أيضا من غير لزوم أشواق مختلفة مترتّبة وإرادات متباينة متسلسلة. بأنّ للنفس الفاعلة بالاختيار عن انبعاث الشوق وتأكّده حالة واحدة إجماليّة يفصّلها العقل بتكرّر الالتفات وتضاعف الاعتبار بالفعل إلى إرادة الفعل ، وإرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة إلى حيث يستطيع إلى أن يعتبر سبيلا على مضاهاة الأمر في العلم بالمعلوم ، والعلم بالعلم بالعلم والعلم ذاهبا في الاعتبار لا إلى نهاية أخيرة يتعين الوقوف عليها بصورة علميّة واحدة. وفي الحركة الاختياريّة على مسافة شخصيّة متصلة صحيحة الانقسام إلى أبعاض انفراضيّة متمادية اللاوقوف يكون حصول تلك الحركة الشخصيّة الاختياريّة في كلّ منها من أسباب حصولها في سائر ما يتلوه بإرادة واحده إجماليّة.

وهذا النظر البالغ قد كان السالفون بأجمعهم عنه في غطاء حتى أنّ بعض شركائنا المعلّمين ، وأعنى به الشيخ أبا نصر محمّد بن محمّد بن الطرخان الفارابىّ في «الفصوص» ، أعضل به الأمر وضاق عليه المحيص عنه ، فسلك بذلك الشكّ مسلك ما يتمسك به ويعوّل عليه في سلوك السبيل من البرهان. فهنا لك التجئوا جميعا إلى تخصيص القاعدة بما عدا الإرادة من الأفعال.

الثاني : أنّ الإرادة المستندة في سلسلة المعلوليّة إلى علل خارجة منتهية الإسناد إلى القدرة القيوميّة الوجوبيّة والإرادة الحقّة الربوبيّة هل هي مجدية في استحقاق الثواب والعقاب أم لا؟ وقد أدريناك أنّه يستتبّ بأصلين ضابطين : أحدهما أنّ الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، وهو منشئيّة استحقاق المثوبة واستحقاق العقوبة من لوازم ماهيّات الأعمال والأفعال وذاتيّات خصوصيّاتها لا بصنع فاعل وجعل جاعل. والآخر : أنّ الطبّين الجسمانيّ والروحانىّ سنتهما متفقة ، والترياقات والسّموم العقلانيّة من الملكات والأخلاق والأدوية والأغذية النفسانيّة من النيّات والعزائم والأفعال والأعمال ، على شاكلة الترياقات والسّموم المزاجيّة والأدوية والأغذية البدنيّة ، في أنّه إنّما خواصّها وآثارها بالقياس إلى المباشرين والمتعاطين و

٢٦١

الشاربين والمتناولين ، لا بالقياس إلى الموجد الفيّاض.

الثالث : أنّ إيجاد الشقىّ الذي سوف يختار بسوء استعداده الذاتىّ وانسياق العلل الخارجة المتأدّية إلى انبعاث شوقه وإرادته ما يكون من لوازم قبحه الذاتىّ أن يستجرّ فاعله إلى الوقوع في استحقاق العقوبات الشديدة الإلهيّة التي لا يكاد تطاق صعوباتها هل هو خير أم إنّه معدود من الشرور.

ولقد أريناك سبيل الحقّ فيه أيضا. وسنتلو عليك من ذى قبل بالبرهان إن شاء الله العزيز العليم : أنّه ما فى نظام الوجود إلّا ما هو خير فى النظام الأكمل ، وما في أفاعيل الله سبحانه من شيء إلّا وهو أصلح وأنتم وأحكم وأتقن. فعليك بالفرق بين هذه المقامات وعدم خلط بعضها ببعض وإعطاء كلّ منها مقتضى حقّه والوقوف في حريم كلّ منها على عدم تجاوره حدّه.

فلئن اعتراك الوهم وغشيك الشكّ فقلت : «إنّ من المقترّ في مقرّه أنّ العلّة البعيدة لا يصل أثرها إلى المعلول ، فما خطبكم أيّها الحكماء المتألهون والعلماء الراسخون تقولون بالعلل المتوسّطة والأسباب المترتبة. ثمّ إنّكم تسندون كلّ شيء حتّى المعلولات الأخيرة في سلاسل الوجود الطوليّة والعرضيّة إلى الله الحقّ سبحانه وقدرته الوجوبيّة وعلمه الربوبىّ وإرادته القيّوميّة التي ليست إلّا نفس حيثيّة حقيقته وبحت مرتبة ذاته ، جلّ مجده وعزّ سلطانه.

فاعلمن أنّ من المعلول البعيد ما إنّما فاقته إلى العلّة البعيدة في دخول العلّة المتوسّطة التي هي علّته القريبة بالذّات في دائرة الوجود من تلقائها حتى لو صحّ لها وجود لا من تلقائها لتمّ استغناؤه بالاستناد إليها عنها. فمثل هذا المعلول البعيد لا يصل إليه أثر تلك العلّة البعيدة أصلا ، ولا يكون له استناد إليها إلّا بالعرض. وذلك كما لوازم الماهيّات ، كزوجيّة الأربعة بالنسبة إلى جاعل ماهيّة الملزوم ؛ ومنه ما هو مفتاق الذات في حدّ ذاته إلى العلّة الأولى بالذّات ، لا من جهة استناد العلّة المتوسّطة إليها فقط ، حتّى أنّه لو وجدت العلّة القريبة وسائر المتوسّطات من دونها لم يكن يصحّ للمعلول البعيد بالنظر إلى ذاته أن يدخل في ما يشمّ رائحة التقرّر والوجود أصلا. ومثل هذا المعلول البعيد مستند الذات مفتاق الحقيقة إلى العلّة

٢٦٢

الأولى البعيدة بالذّات من حيث جوهر ذاته. وبالعرض من جهة استناد علّته القريبة وافتياقها إليها جميعا وإن كان هو في حدّ جوهره بحيث لا يصلح للاستناد إليها من بدء الأمر ، بل يفتقر إلى أن تكون هناك وسائط متمّمة ومتوسّطات مهيّئة. وذلك كما كلّ ما على ساهرة طباع الجواز بالنسبة إلى جناب القيّوم الواجب بالذّات جلّ ذكره.

ألسنا قد علّمناك باذن الله ، سبحانه ، فى أضعاف ما حققناه في كتبنا وتضاعيف ما أوضحناه في صحفنا ، أنّ طباع الجواز الذاتىّ هو العلّة التامّة المستند بالعليّة لفاقد الشيء الجائز وافتقاره إلى علّة فاعلة تفعل ذاته وتفيض وجوده على الإرسال في جليل النظر وإلى أن يكون ما يفعل ذاته ويفيض وجوده ويعطى وجوبهما قيّوما واجبا بالذّات في النظر الدقيق والتأمّل الغائر. وأنّ الفحص البالغ في ظاهر النظر يقضى أنّ المفتاق إليه بالذّات وبالقصد الأوّل بالنظر إلى طباع المعلوليّة الصدوريّة إنّما هو خصوص العلّة الجاعلة. وأمّا سائر العلل من الشرائط والأسباب ، فليس افتقار المعلول إليها إلّا في أن يتمّ تهيّؤه ويكمل تأهّبه للاستناد إلى العلّة الفاعلة ، فتلك هي المفتاق إليها بالعرض وبالقصد الثاني ، وإلّا لزم إمّا أن يكون لكلّ معلول جميع قبائل العلل وشعوبها وإمّا أن لا يكون طباع الامكان هو العلّة التامّة للافتقار إلى العلّة.

ثمّ عند غائر التأمّل وغائص التفتيش ينصرح أنّ كلّ معلول بطباع معلوليّة حقيقته وإمكان ذاته إنّما هو حائج بالقصد الأوّل إلى الجاعل القيّوم الواجب بالذّات عزّ سلطانه : فإن كان بجوهر حقيقته وخصوص هويّته تامّ الصلوح للفيضان عنه ، كان الصادر الأوّل والمجهول الأقرب ، وإلّا نأى بالدرجة وتعلّق بما يكسبه صلوحا لقبول الفيض ويستكمل به قوّة على الاستناد. وأنّ البارى الفعّال فيّاض لذاته وهّاب على الإطلاق ، جواد لا بضنانة. وإنّما يتخصّص فيضه العامّ وجوده المعلّق بحسب تخصصات القوابل وخصوصيّات الماهيّات واستحقاقات الذوات.

فإن أزعج سرّك : أنّ لازم الماهيّة ، ككون الأربعة زوجا ، مثلا ، أيضا من الجائزات بالذّات وتحت ما يحكم عليه بالإمكان الذاتىّ ، فما باله يستند إلى نفس ماهيّة الملزوم بالقصد الأوّل وإلى جاعله الواجب بالذّات بالعرض؟

قيل لك ، أوّلا : إنّما قد أسمعناك أنّ لازم الماهيّة على الإطلاق إنّما هو مفاد الهيئة

٢٦٣

العقديّة ، فهو بذلك الاعتبار مستند إلى نفس الماهيّة. فأمّا إذا لوحظ بما أنّه في حدّ نفسه شيء ما من الأشياء من حيث حقيقته التصوريّة كان محكوما عليه بالاستناد إلى الجاعل الحق الواجب بالذّات بالقصد الأوّل بتّة.

وأمّا التشكيك : بأنّه إذا وجّه إليه اللحظ من حيث اعتبار الهيئة العقديّة لم يكن واجبا بالذّات. فكان هو بذلك الاعتبار أيضا في إقليم الامكان ، لا محالة.

فجوابه : أنّه بذلك الاعتبار وجود رابط ومفهوم نسبىّ ملحوظ بالعرض بين الحاشيتين ، لا حقيقة ملحوظة برأسها تلحظ في حدّ جوهرها ، فيحكم عليها بالوجوب أو الجواز : فإذن ليس هناك من حيث ذلك الاعتبار إلّا نسبة عقديّة واجبة للحاشيتين باقتضاء جوهر ذات الموضوع لا غير. ولا يلزم من ذلك أمر واجب بالذّات يجب وجوده في ذاته ، كما رغمه بعض المقلدين ممّن ليس له درجة الاجتهاد في العقليّات أصلا ، لا النسبة ولا شيء من حاشيتها. بل اللازم أن يكون إمّا الأربعة مثلا واجبة الزّوجيّة وإمّا الزوجيّة مثلا واجبة الثبوت للأربعة باقتضاء من تلقاء جوهرها.

وثانيا : إنّا ولو ماشيناك على أنّ حقيقة الهيئة العقديّة بما هي ملحوظة بذلك الاعتبار في جملة ما ينسحب عليه الحكم بالجواز الذاتىّ. ولكنّا قد بيّنا في كتابنا «الأفق المبين» : أنّ شاكلة المعلوليّة وسنّة طباع الجواز الذاتىّ في اقتضائه الافتقار إلى الجاعل الواجب بالذّات أن يكون ذلك شأن موضوع الجواز بحسب سنخ ذاته الجائزة ومن حيث اعتبار نفس حقيقته التصوريّة ، لا من جميع الوجوه وبقاطبة الاعتبارات. فإذن كون الهيئة العقديّة بما هى هيئة عقديّة من سواد إقليم الامكان إنّما يستوجب استنادها إلى القيّوم الواجب بالذّات ، عزّ مجده، بحسب حال حقيقتها التصوريّة ، لا بهذا الاعتبار أيضا. أى بما هي حالة ارتباطيّة بين حاشيتى العقد.

وثالثا : إنّا ولو جاريناك وساعدنا على لزوم استنادها إليه ، جلّ سلطانه ، بما هي حالة عقديّة بين مطلق الحاشيتين بحسب ما لها من طباع الامكان المشترك بين الجائزات قاطبة مع عزل النظر عن الخصوصيّات مطلقا ، لكن هناك فحص تفتيشىّ بحسب خصوصيّات أطراف العقود ولحاظ استحقاقاتها من جهة اعتبار الخصوصيّات مع عزل اللحظ عن مرسل الطباع المشترك. وهنالك أمر كلّ من

٢٦٤

الذاتيّات ولوازم الماهيّة والعوارض المفارقة ينفصل عن ذينك الشقيقين الآخرين. ففى عقود الجوهريّات لا اقتضاء ولا استناد رأسا. بل إنّما ضرورة ذاتيّة بحسب مرتبة ذات الموضوع وفي عقود لوازم الماهيّات اقتضاء من تلقاء جوهر ذات الموضوع فحسب ، وضرورة بحسب ذلك. وفي عقود العوارض المفارقة استناد متكرّر إلى علّة مقتضية من خارج من سبيل حال خصوصيّة حاشيتى العقد ومن سبيل حال مطلق الهيئة العقديّة ، بل مطلق طباع الجواز الذي تشترك فيه الممكنات جميعا. فهذا أقصى أمد الفحص والتحقيق. والحمد لله ربّ العالمين ولىّ الفضل والطول حقّ حمده.

قد تمّ هذه الإيقاظات بتوفيق خالق الأرض والسّماوات ، على يد أقلّ السّادات ابن عاليجاه سلالة السّادات العظام ، ميرزا نظام قوام الدّين الحسنيّ الحسينيّ ، غفر الله له ولوالديه ولمصنّف هذا الكتاب ولناظره ؛ وأسأل الدّعاء لناظره أن لا ينسانى من الدّعاء إذا نظر فيه. وكان ذلك التّحرير فى يوم الأربعاء ، الرّابع من العشر الثّالث ، من الشّهر الثّالث ، من السّنة الرّابعة من الحشر السّابع ، من المائة الثّالثة من الألف الثاني ، [٢٤ / ٣ / ١٣٦٤ ق] على هاجرها آلاف التّحيّة والثّناء.

ألا إنّما الدّنيا كمنزل راكب

أناخ عشيّا وهو فى الصّبح ، راحل

إلهى به عزّت كه خوارم مكن

به جرم گنه شرمسارم مكن

خداوندا به حق شاه مردان

مرا محتاج نامردان مگردان

حسب الخواهش ملاذ اسعد ومطاع امجد ، جناب ميرزا عبد الصمد ، حفظه الله ، سمت تحرير يافت ، اميد كه اين جانب را در دنياى فانى از دعا فراموش نكنند. الخطّ باقى والعبد فانى.

٢٦٥
٢٦٦

مصنّفات ميرداماد

(٤)

الإعضالات

بسم الله الرحمن الرحيم

والاعتصام بالعزيز العليم

بعد الحمد لله والصلاة على عباده المصطفين. فيا ولدي الروحانىّ ويا حبيبى العقلانىّ ، يا شرف آل خاتون ، ويا من هو بقريحته الشاهقة الملكوتيّة لكلّ علم غامض قانون. رقاك الله إلى قصيا المعارج في النشأتين ، ولقّاك نضرة العيش على قصوى المدارج في العالمين. أقرّ الله أعيننا بمشاهدة جمالك ، وسقانا كأسا دهاقا من رحيق وصالك.

لا تلهينّ سرّك اللطيف عن التدبّر في هذه الإعضالات العويصة التي كسائر نظائرها من العويصات الداهية السّاجية والمعضلات السّاحية السّاطية في فنون العلوم وأفانين الصّناعات ، كان فلّ وفدتها وحلّ عقدتها أمرا مرهونا في الأعصار والدّهور بزمننا وشيئا مضمونا للأفهام والعقول من قبلنا. والله سبحانه قد يسّرنا للفصية عنها والقول الفصل فيها بجميل منّه وإكرامه وجزيل فضله وإنعامه. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

الإعضال الأوّل

(زاوية حدبة الدائرة والخط المماسّ إيّاها)

قد برهن أقليدس في خامس عشر ثالثة «الأصول» على أنّ زاوية حدبة الدائرة و

٢٦٧

الخطّ المماسّ إياها أصغر من كلّ حادّة مستقيمة الخطين. ويلزم من ذلك أن تكون زاوية ما حدبيّة بعينها من تلك الحدبيّات تتعاظم إلى غير نهاية بتصاغر الدائرة المماسّ لها ذلك الخط لا إلى نهاية وتتصاغر حادّة ما بعينها من تلك الحوادّ المستقيمة الخطين إلى غير نهاية بخطوط مستقيمة بين ضلعيها لا إلى نهاية. ومع ذلك ، فأبدا تكون تلك المتعاظمة أصغر من هذه المتصاغرة. وذلك خلف باطل بما من الأصول الموضوعة ، وبما في أوّل عاشرة «الأصول».

فإن وقع في ذهن ذاهن ما من الذاهنين وظنّ ظانّ ما من الظانّين في سبيل الخروج عن مضيق التعضيل أنّ ما من العلوم المتعارفة والأصول الموضوعة هو أن كلّ مقدارين محدودين من جنس واحد ، فإنّ الأصغر منهما يصير بالتضاعف والتزايد مرّة بعد أخرى أعظم من الأعظم. والزاويتان المستقيمة الضلعين والمختلفة الضّلعين من مستقيم ومستدير ليستا من جنس واحد ؛ فليشعر أنه إذا لم تكن المختلفة الضلعين من جنس المستقيمتاهما لم يصحّ الحكم بأنّها أصغر منها. فيبطل حكم خامس عشر ثالثة «كتاب أقليدس».

وبالجملة مهما تصحّحت المفاضلة بين مقدارين محدودين وصحّ الحكم على أحدهما بأنه أصغر من الآخر ، نهض العلم المتعارف أو الأصل لموضوع بالحكم على الأصغر منهما بأنه يصير بالتزيّد مرّة بعد أخرى أعظم من الأعظم.

ونحن بفضل الله العلىّ العظيم ، قد أسّسنا في كتاب «الصراط المستقيم» وفي كتاب «تقويم الإيمان» أساسا تفتكّ به هذه العقدة ، وبسطنا القول فيه في رسالة «جيب الزاوية» ، وفي رسالة «التشابه والتناسب». والحمد لله ربّ العالمين على فضله العظيم ومنّه القديم.

الإعضال الثاني

(نسبة الكرة إلى الكرة وحكمها)

قد برهن أقليدس في خامس عشر ثانية عشر «الأصول» ، على أنّ نسبة الكرة إلى الكرة كنسبة القطر إلى القطر مثلّثة بالتكرير بأنّ نسبة القطر إلى القطر مثلّثة إن لم تكن كنسبة الكرة إلى الكرة. فلا محالة تكون إمّا كنسبة إحدى كرتى ذينك القطرين إلى كرة

٢٦٨

أخرى أعظم من صاحبتها. وإمّا كنسبتها إلى كرة أخرى أصغر منها. فأبطل الشقّين.

ثمّ قال : فالحكم ثابت. وذلك باطل ، بما تحقّق في العلوم الفلسفيّة : إنّ الاستقامة والاستدارة وكذلك مراتب الاستدارات فصول منوّعة ، لا عوارض مصنّفة. فالكرتان أو الدائرتان المتخالفتا الانحداب لا مناوعة بينهما. فإذن لا نسبة بينهما أصلا ، لا بالتساوى ولا بالتفاضل. وطرفا التّرديد في الشقّين غير حاصرين.

قال الحكيم الطوسىّ ، نوّر سرّه القدّوسي ، في «التحرير» : وهذا أعظم شكّ يرد على ما في «كتاب اقليدس».

الإعضال الثالث

(نسبة المحيط والقطر ومقدارها)

قد بيّن أرشميدس وغيره كون نسبة المحيط والقطر نسبة ثلاثة أمثال وسبع تقريبا ، بأنّها إن لم تكن تلك النسبة فتكون إمّا أعظم منها وإمّا أصغر. وهما مستبينا البطلان بأشكال هندسيّة. وعلى ذلك من الشكّ ما على ما في «كتاب اقليدس».

الإعضال الرابع

(جيب نصف سدس الدور وحكمه)

قد تقرّر فى جدول الجيب في «المجسطى» البطلميوسىّ وغيره من المجسطيات والزيجات : أنّ جيب نصف سدس الدور ، وهو ثلاثون درجة ، مساو لقوسه ، ويلزم منه مساواة المستقيم والمستدير ، وهو باطل.

وما به تفصّى الفاضل البيرجندىّ وغيره عن ذلك : «بأنّ ذاك هو الجيب الموضوع لا الحقيقىّ ، فلا يلزم تلك المساواة» ، غير مجد رادّة يعبأ بها. إذ إنّما الخلف المحال مساواة المستقيم للمستدير وتساوى الجيب والقوس إنّما استحالته من تلك الجهة ، لا من حيث خصوصيّته الجيبيّة والقوسيّة. وفي مساواة الجيب الموضوع لقوسه ذلك الخلف المحال مستمرّ على حاله.

ثمّ إنّ هذا الجيب الموضوع المساوى لقسميه جيب حقيقىّ لا محالة ، لقوس أخرى. وكذلك بقاعدة الأربعة المتناسبة من الثلاثة المعلومة منها. وهي هاهنا

٢٦٩

الجيب الموضوع لثلاثين درجة وثلاثون درجة ، والجيب الحقيقىّ لثلاثين درجة المستخرج أيضا من تلك القاعدة يستخرج الرابع المجهول ، وهو هاهنا قوس تكون نسبة الجيب الموضوع لثلاثين درجة قوسيّة إلى تلك الثلاثين درجة كنسبة الجيب الحقيقىّ للثلاثين درجة إلى تلك القوس. فتلزم المساواة الباطلة. ولكن لا بين جيب وقوس ، بل بين قوس نصف سدس الدّور وجيبها الموضوع. وكذلك بين الجيب الحقيقىّ لقوس نصف سدس الدّور وقوس أخرى ليس ذاك جيبها.

وبقوّة ما نحن أوردنا في كتابنا «التقويمات والتصحيحات» ينحلّ عقد التّشكيك في هذه الإعضالات الثلاثة. وقد أوضحنا سبيله في رسالتينا المذكورتين. والحمد لله واهب العقل ومفيض الرحمة إزاء لفضله ورحمته.

الإعضال الخامس

(مبصران معا وإبصارهما يمكن أم لا)

قد بيّن أقليدس في أوّل وأشكال كتاب «المناظر» أنّه ليس يبصر مبصران معا دفعة واحدة بالقصد الأول من ذلك : إمّا أن لا يرى شيء بالقصد الأول ، فيلزم أن لا يرى أيضا شيء بالقصد الثاني أصلا. إذ من المستبين أنه لا ما بالعرض أو لا ما بالذّات أصلا ؛ وإمّا أن يكون ما يرى بالقصد الأوّل من المتحيّزات بالذّات غير قابل للانقسام في شيء من الجهات أصلا ، ولا بالقسمة الوهميّة والفرضيّة ، فيلزم الجزء الذي لا يتجزّى. وهذا الشكّ قد أوردنا حلّه في رسالتنا المعمولة في مباحث لما في «ابطال الجزء» ، والحمد لله سبحانه.

الإعضال السّادس

(مقدار اليوم وليله دورة تامّة من معدّل النهار)

إنّه قد استبان في علم الهيئة : أنّ مقدار اليوم بليلته دورة تامّة من أدوار معدّل النهار مع مطالع ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك الدّورة ، وأنّ مقدار النهار هو ما دار من المعدّل من حين طلوع نقطة منه حين إذ يطلع مركز الشمس إلى حين غروب تلك النقطة مع مغارب ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك المدّة. ومقدار اللّيل

٢٧٠

هو ما دار من المعدّل من حين غروب نقطة منه ، إذ يغرب مركز الشمس إلى حين طلوع تلك النقطة مع مطالع ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك المدّة.

ويلزم من ذلك : إمّا تساوى مطالع ما سارته الشمس بمقوّمها النّهاريّ ومغاربه ، وإمّا كون مقدار بعينه مقسوم قسمين مخالفا لمقدارى قسميه. فيكون مقدار القسمين لا كمقدار مجموعهما. والأخير بيّن الاستحالة والأول ممتنع في الآفاق المائلة ، مبرهن على امتناعه في الأفق المائلة في علم الهيئة حيث تبرهن أنّ كلّ قوس فإنّ مطالعها في كلّ أفق مائل مخالفة لمطالع نظيرة تلك القوس في ذلك الأفق بعينه. وكذلك مغاربها لمغارب النظيرة ، وأنّ مطالع كلّ قوس في كلّ أفق ، استوائيا كان أو مائلا ، كمغارب نظيرة تلك القوس في ذلك الأفق بعينه. فمطالع كلّ قوس في كلّ أفق مائل كمغارب نظيرتها المخالفة لمغاربها ، فتكون لا كمغاربها بتّة. وهذا الإعضال قد انفكّت عقدته بما قد حققنا في رسالة «قوس النهار». والحمد لله وحده حقّ حمده.

الإعضال السّابع

(المعلول مع تحقّق العلّة متصاعد إلى الجاعل الحقّ)

من المستبين أنّه ليس يتصوّر انعدام المعلول مع تحقّق علّته التامّة ، وأنّ لكلّ معلول بعينه علّة تامّة واحدة بعينها. وكذلك لعلّته التامّة المعيّنة أيضا علّة تامّة واحدة بعينهما. وهكذا متصاعدة في السلسلة الطولية إلى الجاعل الواحد الأحد الحقّ من كلّ جهة ، جلّ سلطانه وعلا نوره وبرهانه. فإذن لا يسوغ أن يزول شيء ما من الأشياء الموجودة أصلا. وإلّا لزم : إمّا زوال معلول ما مع بقاء علّته التامّة بعينها ، وإمّا انعدام تلك السلسلة الطولية المرتبة المتراقية إلى جناب الجاعل التام الواحد البسيط الأحد القدّوس الحقّ من كلّ جهة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وهذا الإعضال قد يسّرنا الله سبحانه لحلّ عقده وفكّ عقدته في كتاب «خلسة الملكوت». والحمد لله ربّ العالمين حق حمده.

الإعضال الثامن

(العلة المعدّة ومادّة المعلول)

٢٧١

العلة المعدّة ، وهي التي يلزم طباعها أن لا تجامع المعلول في أفق التقضّى والتجدّد الذي هو الزمان ، لا بدّ أن تستفيد منها مادّة المعلول استعدادا ما لقبول المعلول وحصوله بالفعل. وذلك الاستعداد أيضا ، بعيدا كان أو قريبا ، لمّا كان ممتنع الاجتماع مع المعلول المستعدّ له وممّا يتوقف عليه حصوله ، كان لا محالة من علله المعدّة. فكان بالضرورة موجبا لاستعداد آخر من بعده ، حكمه أيضا حكمه. فيلزم أن يكون بين كلّ استعداد من الاستعدادات وبين المعلول المستعدّ له استعدادات مترتبة متعاقبة الحصول إلى لا نهاية عدديّة بالفعل في جانب الأبد. وذلك أمر ليس يتصور فرضه ، حتى يحتاج في إحالته إلى برهان على خلاف الأمر في التسلسل التعاقبىّ في جانب الأزل. فإذن يلزم أن لا يوجد المعلول المستعدّ له أبدا. وهذا الشكّ أيضا ممّا سبيل حلّه في كتابنا «خلسة الملكوت» ، والحمد لولىّ الحمد كله.

الإعضال التاسع

(السلسلة الوجوديّة والعلة التامة)

لا محيص من لزوم سلسلة وجوديّة غير متناهيّة الآحاد من موجودات مترتبة مجتمعة الحصول متراقية في التّرتب والاجتماع إلى لا نهاية بالفعل لحصول كلّ معلول زمانىّ أو آنيّ. وذلك لأنه يجب أن لا تكون علّته التامة متحققة بجميع أجزائها قبله وإلا لكان المعلول متخلفا عن العلة التامّة في التحقق ، فكان لا محالة جزء ما من أجزاء العلة التامة ، وهو الجزء الأخير منها ، إنّما يدخل في الحصول حين حصول المعلول لا قبل. ولذلك الجزء أيضا علّة تامّة لا يدخل الجزء الأخير من أجزائها في التحقق إلّا عند تحقق ذلك الجزء لا محالة. وكذلك الأمر متراقيا إلى لا نهاية بالفعل.

فاذن يلزم تحقق أمور مترتبة الحصول معا إلى نهاية بالفعل عند وجود المعلول في الحصول بتّة.

فإمّا أنّها جميعا وجودات مترتبة ، فيلزم التسلسل المستحيل حين حصول المعلول. وإمّا أنها بأسرها عدمات وجودات مترتبة كانت متحققة قبل حصول المعلول فانقلبت عدمات حين حصوله ، فيلزم ذلك التسلسل قبل وجود المعلول. وإمّا أنّها متشابكة من وجودات وعدمات. فإما الوجودات غير متناهية والعدمات

٢٧٢

متناهيّة. وإمّا بالعكس. وعلى الأول فالاول وعلى الثاني فالثانى.

وهذا التعضيل قد استبان سبيل المخرج عن مضيقه إلى منتدح التحقيق في غير موضع واحد من كتبنا وصحفنا ، ولا سيّما كتاب «الإيماضات والتشريقات» وكتاب «خلسة الملكوت» ، والحمد لله ولى الفضل والطول.

الإعضال العاشر

(لازم الماهيّة واستناده الى الماهيّة والجاعل)

قد تحقق بما قد حققه أئمة العلم ورؤساء الحكمة أنّ لازم الماهيّة إنّما يستند بالذّات إلى نفس الماهيّة. وأمّا استناده إلى جاعل الماهيّة فبالعرض من حيث استناد الماهيّة إليه ، لا من حيث نفسه بالذّات وعلى الحقيقة. وعلى هذا ، فيلزم أن لا يكون علم الجاعل الحقّ سبحانه بلوازم الماهيّة علما فعليّا. وذلك أمر خارج عن طور الحقّ وسبيل الحكمة.

وهذا التشكيك قد أزحنا تهويشه وأمطنا تهويله عن السبيل في كتاب «التقويمات والتصحيحات» ، وهو كتاب «تقويم الإيمان» ، من سبل عديدة. والحمد لله على منّه وإنعامه.

الإعضال الحادى عشر

(علم الله سبحانه بكلّ شيء عين ذاته)

قد استبان في الشطر الربوبىّ من العلم الأعلى : أنّ علم الله سبحانه بكلّ شيء عين ذاته سبحانه. ومن المقترّ في مقرّه أنّ العلم والمعلوم متحدان بالذّات متغايران بالاعتبار ، فيكون علمه سبحانه بكلّ ممكن عين ذاته سبحانه وعين ذات ذلك الممكن أيضا. فإذن يلزم اتحاد الواجب والممكن بالذّات.

وهذا الشكّ قد أوضحنا سبيل حلّه والمنتدح عن داهيته في كتاب «التقديسات» ، والحمد لله ربّ العالمين على فضله العظيم.

الإعضال الثاني عشر

(الجعل المركّب واستناد المركّب الى الجاعل)

من المنصرح بيانه في حكمة ما فوق الطبيعة أنّ سبيل الجعل المركّب وإيجاده جعل

٢٧٣

أجزائه وإيجادها ، وأنّه إنّما استناد المركّب إلى الجاعل من حيث استناد أجزائه إليه ولا استناد له إليه وراء استناد الأجزاء ، ضرورة أنّ تحقق المركّب ، وهو مجموع الأجزاء بما هو المجموع المعروض للهيئة المجموعيّة عند تحقق الأجزاء بالأسر ، من الضروريات الغير الممكنة الانتفاع بتّة. فإذا حصلت الأجزاء بالأسر لم يكن حصول مجموع الأجزاء بما هو المجموع مضافا بالذّات إلى تأثير آخر مستأنف من الجاعل وراء التأثير في الأجزاء بالأسر.

وعلى ذلك شكّ. وهو أنّه لا يستراب في أنّ المجموع بما هو المجموع الذي هو موجود آخر وراء الموجودات التي هي الاجزاء بالأسر أيضا ممكن ما من الممكنات بالذّات ، كما أنّ الأجزاء بالأسر ممكنات ، وكلّ ممكن فإنّ عدم نفسه بما هو هو من حيث نفسه ممكن بتة. فلا محالة لا بدّ من أن يمتنع ذلك العدم بعلّة موجبة لا بالعرض بل بالذّات حتى يتحقق وجوده. فإذن ، المجموع لا يتصحح وجوده إلا إذا امتنع عدم نفسه مع عزل النظر عن عدمات الأجزاء من تلقاء علته الموجبة إياه. فكيف لا يكون له استناد بالذّات إلى علته وراء استناد ذات الاجزاء.

وهذا الشكّ مستبين بما قد بسطنا تحقيقه في كتاب «الافق المبين». والحمد لله على جميل منّه وجزيل إنعامه.

الإعضال الثالث عشر

(إرادة الله تعالى ليست عين علمه تعالى)

إرادة الله لا يصحّ أن تكون عين علمه سبحانه. فإنه سبحانه يعلم كلّ شيء ولا يريد شرّا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والسيّئات. فعلمه متعلق بكلّ شيء بالذّات ، ولا كذا إرادته ، فلا محالة تكون إرادته تعالى أمرا آخر وراء علمه سبحانه ، وعلمه سبحانه عين ذاته الأحديّة الحقّة جلّ سلطانه : فإذن تكون إرادته سبحانه أمرا آخر وراء صرف حقيقته وزائدا على نفس ذاته. فلا يكون المريد من جهات ذاته ولا من أسماء صفاته وإلّا لكان هو بعينه عين ذاته.

وهذه شبهة قد استوثقها شيخنا الأقدم الأفخم رئيس المحدّثين ابو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينى ، رضوان الله عليه ، في كتاب التوحيد من كتابه «الكافي». فظنّها برهانا و

٢٧٤

أشكل عليها في بيان أنّ الإرادة القيّومية ليست عين الذّات ولا هي من صفات الذّات.

ونحن بفضل الله العظيم سبحانه وجميل تأييده قد كشفنا الغطاء عن محيّا الحق وأرينا سبيل القول الفصل هناك في كتابنا «تقويم الايمان» وفي حواشينا المعلّقات على كتاب «الكافي» لتفسير محكمات الأحاديث وتأويل متشابهاتها وشرح مبهماتها ومستبهماتها وحلّ مشكلاتها ومستشكلاتها والحمد لله رب العالمين حق حمده.

الإعضال الرابع عشر

(القدرة الاختياريّة والمعنيان لها)

قد استقرت آراء أئمّة حكمة ما فوق الطبيعة على أنّ معنيى القدرة الاختياريّة ، وهما كون الفاعل في حدّ ذاته بحيث إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل ، وكونه في ذاته بحسب نفس ذاته بحيث يصحّ منه الإيجاد واللاإيجاد عنه أو الصدور واللاصدور مفهومان متلازمان.

وتمجمج المحدثين من المتكلفين لما لا يعنيهم : «أنّ أفاخم الفلاسفة لا يثبتون للقدير الحق إلّا المعنى الأول. وأمّا المعنى الثاني فيختصّ بإثباته المليّون خاصة» ، مجمجة لا تئول إلى مدرجة. وعلى أنّ القيّوم الواجب الوجود بالذّات واجب بالذّات من جميع جهاته وأنّه تعالى شأنه لا جهة فيه إمكانيّة أصلا ، بل إنّه جلّ سلطانه بنفس ذاته وبكلّ جهة من جهات ذاته وبكلّ حيثيّة من حيثيات صفاته واجب بالفعل وجوبا بالذّات ، فهو وجوب حقّ لا إمكان فيه بوجه من الوجوه ، وفعليّة محضة لا قوّة فيها بجهة من الجهات أصلا.

وهذان قولان متدافعان وسبيلان متمانعان. فلا مندوجة : إمّا من ارتكاب أنّ قدرته سبحانه قدرة غير وجوبية ، بل جهة إمكانيّة ، وإمّا من الذهاب إلى أنّ القدرة الاختياريّة لا يعتبر في حدّ حقيقتها الصدور واللاصدور والإيجاد واللاإيجاد.

ونحن قد فككنا عقدة هذا التشكيك والتعضيل في كتاب «تقويم الايمان» وفي حواشينا المعلقات على إلهيات «الشفاء» بفضل الله العظيم سبحانه والحمد لله ربّ العالمين كما ينبغى لكرم وجهه ويليق بجناب مجده.

٢٧٥

الإعضال الخامس عشر

(حمل الجزئىّ على الجزئىّ وحمله على الكلّى)

قد تصحّح في كتابنا «الأفق المبين» وفاقا لشيخ الفلسفة أبى نصر محمّد بن محمّد بن طرخان الفارابى ، حمل الجزئىّ على الجزئىّ وحمل الجزئىّ على الكلّىّ. فإذا كانت جزئيّات عديدة متحدة في الوجود ، كهذا الإنسان وهذا الناطق وهذا الحيوان وهذا الضاحك وهذا الكاتب ، صحّ حمل هذا الناطق مثلا على سائر تلك الجزئيّات. فيكون لا محالة ذا وحدة مبهمة بالنسبة إليها. ويلزم من ذلك أن يكون الجزئىّ كليا. ولذلك لم يستصح الشيخ الرئيس في قاطيغورياس «الشفاء» حمل الجزئىّ ، كما مفيد الصّناعة للمشّاءين في «التعليم الأوّل».

ومثل هذا التعضيل معقود الورود على الرؤساء والمعلّمين جميعا ، حيث أطبقوا على الحكم بأنّ الحركة التوسّطية لمتحرك شخصىّ بعينه على مسافة شخصيّة بعينها أمر شخصىّ باق بهويّته الشخصيّة من مبدأ المسافة إلى منتهاها.

وذلك لأنّ كون المتحرك الشخصىّ متوسّطا بين مبدأ المسافة الشخصيّة ومنتهاها المتعيّنين المتشخّصين ، وهو حقيقة حركته الشخصيّة التوسّطيّة يحمل حملا صادقا على كلّ كون كون بعينه في حدّ حدّ بعينه من الحدود التوسّطية الممكنة الانفراض لا إلى نهاية بين الحدّين الطرفين. فيكون لا محالة ذا وحدة مبهمة بالقياس إلى تلك الأكوان الشخصيّة الوسطيّة ، فيكون كليا.

وفكاك رقبة الفلسفة عن أسر هذه العقدة في المقامين على ذمّة كتابنا «الأفق المبين» وغيره من كتبنا وصحفنا وفوائدنا ومعلقاتنا التي يسّر الله لنا بفضله وطوله ، والحمد لله ربّ العالمين ، إزاء لعزّه ومجده وجوده ومنّه.

الإعضال السّادس عشر

(تقسيم الحكم إلى الأحكام الخمسة)

قد اتفقت الفقهاء والأصوليّون على تقسيم الحكم إلى الأحكام الخمسة المشهورة وحصره فيها. وهناك شكّ معضل. وذلك أنّه إنّما يعنى بالحكم الحكم الصريحىّ أو الأعمّ من الصريحىّ والضمنىّ.

٢٧٦

وعلى الأوّل تزداد الأقسام بالأحكام الوضعية. وهي في المشهور عند الأكثرين ثلاثة ، السببيّة والشرطيّة والمانعيّة. فتصير الأحكام ثمانية. وفريق من الأصوليين يزيدون في خطاب الوضع ، الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة. وزاد آخرون التقدير والحجّة ، فيزداد بحسب ذلك أقسام الاحكام الخمسة.

وعلى الثاني ينتقص الأحكام ، إذ كما الحكم الصريح الوضعيّ حكم ضمنيّ تكليفىّ ؛ فالسببيّة في قوّة وجوب المسبّب أو استحبابه عند وجود السّبب. والشرطيّة في قوّة وجوب الشرط أو استحبابه عند شغل الذمّة بالمشروط. والمانعيّة في قوّة حرمة الإتيان بالفعل أو كراهته مع تحقّق المانع ؛ فكذلك الحكم التكليفىّ الوجوبىّ في قوّة حرمة ترك الفعل ، والحكم التحريمىّ في قوّة وجوب التّرك ، والحكم الاستحبابىّ في قوّة كراهة التّرك ، والحكم الكراهيّ في قوّة استحباب التّرك. فعلى هذا تصير الأحكام ثلاثة ، الإباحة ، والوجوب أو الحرمة ، والندب أو الكراهة.

وهذا الشكّ قد حلّلنا عقده من سبيلين في حاشيتنا على الشرح العضدىّ للمختصر الحاجبى في أصول الفقه ، وفي حواشينا المعلّقات على قواعد شيخنا المحقق الفريد السعيد الشهيد نوّر الله تعالى رمسه ، وفي رسالتنا «السبع الشداد» في حلّ إشكالات سبعة عويصة. والحمد لله ربّ العالمين حمدا يليق بكرم وجهه وعزّ جلاله.

الإعضال السّابع عشر

(الصلاة في المكان المغصوب)

قد استدلّ أصحابنا ، رضوان الله تعالى عليهم ، على عدم صحّة الصلاة في المكان المغصوب. وكذلك من وافقنا من العامّة بأنّه لو صحّت تلك الصلاة لكان واحد شخصىّ بعينه متعلق الأمر والنهى معا. فهذا الكون في هذا المكان جزء هذه الصلاة ، فيكون مأمورا به. ثمّ إنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فيكون منهيّا عنه.

وعليه شك عويص قد تداولته الأقوام وتناقلته الجماهير من العامّة : وهو أنّ متعلق الأمر والنهى واحد بالشخص واحد بالشخص ، ولكن يتعدد باعتبار جهتين ، فيجب بإحداهما ويحرم بالأخرى. فهذا الكون واجب ، لكونه جزءا من الصلاة وحرام ، لكونه غصبا. وهل الكلام إلّا في أنه هل يجوز ذلك من حيثيّتين متغايرتين أولا؟

٢٧٧

فالاحتجاج به على بطلانه مصادرة على المطلوب الأوّل وأخذ للشىء في بيان نفسه.

وعقد هذا التّعويص إنّما ينفسخ بما أسّسناه في ضابط الحيثيّات في كتابنا «الإيماضات والتشريفات» ، وأوردناه في كتاب «التقويمات والتصحيحات» ، وأوضحنا سبيله في فسخ هذا الشكّ في رسالتنا «السبع الشداد» ، والحمد لله ربّ العالمين ، إزاء لفضله العظيم وطوله القديم.

الإعضال الثامن عشر

(ترك المسنونات بأسرها من الكبائر)

قد عدّ الأصحاب ، رضوان الله تعالى عليهم ، والفقهاء من العامّة ، ترك المسنونات بأسرها من الكبائر ، وأورد شيخنا الشهيد ، نوّر الله رمسه ، في «قواعده». ومن المستبين أنّ ما هو حرام فضدّه العام ، وهو الذي في قوّة نقيضه ، واجب ، وما هو واجب فضدّه العام حرام. فإذن يكون فعل مسنون ما من المسنونات لا بخصوصه مأمورا به وجوبا ، فيرجع المندوب إلى الاندراج تحت الواجب وتكون المندوبات جميعا من الواجبات التخييريّة السّائغ تركها إلى بدل ، لا لا إلى بدل. وكذلك قد عدّ بعضهم فعل المكروهات بأسرها أيضا من الكبائر. وذلك يصادم كون المكروه ما يمدح ويثاب تاركه بما هو تارك له أو لا يذمّ ولا يعاقب فاعله من حيث هو فاعل له. فإنّ المكروهات الصرفة بأسرها يجب أن يصدق عليها حدّ المكروه ، كما يصدق على كلّ واحد من آحادها. وكذلك يجب أن يصدق على الفرد المنتشر من المكروهات لا بعينه ، كما يصدق على كلّ مكروه مكروه بخصوصه ، ضرورة أنّ جملة الجائزات الصرفة في حكم الجواز ، ككلّ واحد من آحادها بتّة.

وهذه العقدة المعضلة العوصاء قد أوضحنا بفضل الله العلىّ العظيم سبحانه سبيل انفساخها وانفكاكها في رسالة «السبع الشداد» وفي حواشينا المعلقات على «قواعد» شيخنا الشهيد. والحمد لله ربّ العالمين مفيض العقل حقّ حمده.

الإعضال التاسع عشر

(نيّة المعصية وحكمها)

قد أجمع أصحابنا ، رضوان الله تعالى عليهم ، والفقهاء من العامّة على أنّ نيّة المعصية

٢٧٨

لا مؤاخذة بها وليست منشأ استيجاب ترتّب عقاب ولا ذمّ. إنّما مبدأ استيجاب الذمّ والعقاب التلبّس بتلك المعصية المنويّة وفعلها بالجوارح.

ثمّ إنهم ذكروا أنّ الإصرار على الصغائر المعدود من الكبائر قسمان ، فعلىّ وحكمىّ. أمّا الفعلىّ فهو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة. وأمّا الحكمىّ فهو العزم على فعل تلك الصغيرة المأتيّ بها بعد الفراغ منها.

فهذان القولان متدافعان ، فإنّ مجرّد العزم على فعل الكبيرة ليس من المعصية في شيء ، فكيف يكون العزم على فعل الصغيرة معصية ومن كبائر المعاصى؟ فشيخنا السعيد الشهيد ، قدّس الله نفسه الزكيّة ، قد أورد هذين المتدافعين في قواعده.

ونحن بفضل الله العظيم قد بيّنّا سبيل التحصيل وحققنا القول الفصل الجزل المحصّل هنالك في حواشينا المعلّقات على كتابه وفي رسالتنا «السبع الشداد». والحمد لله ربّ العالمين على عظيم منّه وجزيل إنعامه.

الإعضال العشرون

(معنى الكراهة في العبادات)

قد تطابقت آراء الفقهاء قولا واحدا على أنّ الكراهة المستعملة في العبادات إنّما معناها طفافة الثواب وطفف درجات المثوبة وبخس كمال الرجحان وضعف تمام الجهة المحسّنة المرجّحة ، لا المعنى المصطلح عليه ، الذي هو أحد الأحكام الخمسة ، وكيف تتصحح عبادة صحيحة شرعيّة لا ثواب ، كما لا عقاب ، على فعلها ، بل إنّما الثواب على تركها فقط ، على ما هو ديدن شأن المكروه المصطلح عليه. فكما لا مباح في العبادات فكذلك لا مكروه فيها ، على معناه الحقيقىّ المعقود عليه الاصطلاح.

ثمّ إنّك لتسمعهم يقولون : العبادات تنظم الأقسام الخمسة جميعا ما عدا المباح ، فتوصف العبادة بالوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة ، كالصلاة المنقسمة إلى الواجبة والمستحبّة ، وإلى صلاة الحائض ، وإلى الصلاة في الأماكن المكروهة والأوقات المكروهة ؛ والصّوم المنقسم إلى الأربعة ، كصوم رمضان وشعبان والعيدين والسفر.

فهذه عبارة شيخنا المحقق الشهيد ، قدّس الله لطيفه ، بأليفاظه في كتابه «القواعد» وفاقا لمن تقدّمه من العلماء والفقهاء. وهل ذلك في ظاهر الأمر إلّا صرح التدافع وصراح التهافت؟

٢٧٩

ونحن بفضل الله تعالى وكريم تأييده قد قوّمنا الفحص الجزل وتمّمنا القول الفصل في سبيل التحصيل هنالك في غير موضع واحد بخصوصه من مواضع تعليقاتنا الدينيّة ومعلقاتنا الفقهيّة.

فهذه المعضلات العويصة وسائر العويصات التي هي في مرتبتها إشكالا وإعضالا وأعظم منها نائبة وداهية ، وأشدّ منها تعويصا وتعضيلا في علم علم من أنواع العلوم ومراتبها وفنّ فنّ من أصناف الأفانين وطبقاتها ، لا يدلّ على سمت الحق فيها إلّا من قبلى ولا يهتدى إلى صقع التحصيل فيها إلّا من سبيلى. فربّى العظيم تعاظم سلطانه قد جعل ذلك سهمى من منائح فضله وقسطى من خزائن رحمته.

فعليك أيّها السليل الناهض والخليل الماحض برهن العمر عند ملازمة كتبى وصحفى وتعليقاتى ومعلّقاتى ورسائلى ومقالاتى ، وقف الهمّة على تعرّف سبلها ومسالكها ، والتدرّب في طرقها ومداركها ، وفّقك الله لأن تتسنّم سنام معرفتها وبلّغك أوج سماء العلم من أعلى ذروتها وجعلك من الحاملين لأعباء أسرارها ومن الحافّين حول عرش أنوارها وخصّك بفيض فضله وحفّك بمنّه وطوله. إنّ سبيله جدد للمسترشدين ، ونائله غير مجذوذ عن المستعدّين.

وكتب أحوج المربوبين وأفقر المفتاقين إلى رحمة ربّه الجواد الغنىّ محمّد بن محمّد يدعى باقر الداماد الحسينيّ ، ختم الله له في نشأتيه بالحسنى ، دادئ ذى الحجة الحرام ، سرر شهور عام ١٠٢٢ من الهجرة المقدسة المباركة النبويّة ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا ، نمقه في ١٠٣٦.

[قد تمّ هاتين النسختين ، أعنى السبع الشداد والإعضالات ، لخاتم الحكماء والمجتهدين ، السيّد الداماد ، قدّس الله سرّه ، بعون الله تعالى ، به سعى واهتمام جناب مستطاب عمدة المحققين والمدقّقين ، علامة العلماء الراشدين ، كهف الحاج والمعتمرين ، حاجى شيخ احمد شيرازى ، زاد الله توفيقاته في دار الخلافة طهران ، صانها الله عن الحدثان ، بيد أقلّ أبناء العلماء على اكبر ابن مرحوم مبرور ملا محمّد على طالقانى صورت اتمام وانجام پذيرفت ، في يوم الأحد ، غرّه ذى حجة الحرام ١٣١٧].

٢٨٠