مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فهو تقدّم في وجوب الوجود وحصوله الّذي هو بالفعل بتّة. وهذا شرح قولهم : «إنّ المعنى الّذي فيه السّبق فيه هو الوجود بحسب وصفه الّذي هو الوجوب لا بحسب نفسه». طباعه ففى استيجاب أن يتكافأ المتقدّم والمتأخّر في اللزوم ، فلا محالة يجب أن يكونا معا. إما في الزّمان إذا كانا زمانيّين ، أو في الدّهر إذا كان المتقدّم غير زمانيّ.

فهذا التّقدّم إما مع المعيّة الزّمانيّة ، أو مع المعيّة الدّهريّة ، والمتأخّر مع المتقدّم ، وبه في الزّمان أو في الدّهر ، إذ منه [١٤ ظ] يصل الحصول الّذي هو بالفعل إليه ، والمتقدّم معه لا به ، إذ ليس ذلك منه يصل إليه. وكذلك الأمر في رفعه بالنّسبة إلى رفعه.

إيماض

(٢ ـ سبق الماهيّة على الوجود وسبق جاعل الماهيّة)

سبق مرتبة التّقرّر ، أعنى قوام جوهر الماهيّة ، على الوجود المنتزع العارض ، سبق بالماهيّة فقط. ولجوهريّات الماهيّة عليها سبقان بالماهيّة وبالطّبع من تلقاء حكم الجزئيّة في ظرف الخلط والعرى (التعرية ب) الّذي هو لحاظ التعيّن والإبهام ، والفحص هناك غامض ؛ ولجاعلها التّامّ سبق بالماهيّة (١) وسبق بالعليّة والوجود ، ولوازم (٢) الماهيّة على الاصطلاح الصّناعىّ وسائر العوارض بحسب مرتبة التقرّر ، كالإ

__________________

(١) قوله : «ولجاعلها التّامّ سبق بالماهيّة». وأما سائر العلل غير العلّة الفاعلة فإنما لها السبق بالطّبع. فما في المطارحات : «أنه إذا بيّن أنّ الوجود من الامور الاعتبارية فلا يتقدم العلة على المعلول إلّا بماهيتها ، فجوهر المعلول ظلّ لجوهر العلّة ، والعلّة جوهريتها أقدم من جوهريّة المعلول ، والوجود أمر ذهنىّ ، فليس التقدّم إلّا بالماهيّة، فتتقدم جوهريّة العلّة على جوهريّة المعلول ، وهو مذهب أفلاطون والأقدمين ؛ إنّما يصحّ في الفاعل دون سائر العلل. فالمعلول ظلّ ما هو فاعل ذاته وجاعل ماهيته وليس ظلّ الشروط والمعدّات ، مثلا. ثم كون الوجود من الاعتباريات الانتزاعية لا يحيل تقدم الذّات بحسب مرتبة موجوديتها المنتزعة المتأخرة عن مرتبة جوهر الذّات ، وهي المرتبة المتقدّمة على الوجود المنتزع. فالحصر في التقدّم بالماهيّة ليس بسديد. بل إنّما اللّازم تحقق نحوين من التقدّم بالماهيّة بحسب مرتبة جوهر الذّات ، وبالطّبع بحسب مرتبة الوجود المنتزع أخيرا. وإنّما مذهب «أفلاطن» والأقدمين من إثبات التقدّم بالماهيّة أيضا لا إرجاع التقدّم بالطّبع إلى التقدّم بالماهيّة. ورؤساء المشّائية أيضا مساعدون على إثبات التقدّم بالماهيّة ، ولكن لا في العلّة الفاعلة بالقياس إلى المعلول ، بل في مرتبة فعليّة الماهيّة بالقياس إلى مرتبة الوجود وفي جوهريات الماهيّة بالقياس إليها وفيما يلحق الماهيّة بذاتها في مرتبة جوهرها بالقياس إلى ما يلحقها بغيرها (منه دام ظله العالى).

(٢) أي : لوازم تكون نفس الذّات علّة مقتضية لها (منه).

٢١

مكان ، والوجوب السّابق بالنّسبة إلى اللّواحق بحسب الوجود من حيّز السّبق بالماهيّة. فحال الشّيء بحسب جوهر ذاته أقدم ممّا يلحقه بغيره وما عروضه لمرتبة الذّات ممّا لحوقه في مرتبة متأخّرة.

إيماض

(٣ ـ الحقيقة الإمكانيّة حيّز القوّة المحضة)

هل بلغك ما بيّنا في «الافق المبين» : أنّ الإمكان اعتبار سلبىّ في نفس الماهيّة المتقرّرة ، فهو بالقوّة أشبه منه بالعدم (١) ، وحقيقته سلب بسيط (٢) لضرورة طرفي تقرّر الذّات المتقرّرة ولا تقرّرها بحسب نفس جوهر الذّات ، لا إيجاب لذلك السّلب ، فهو يصدق في مرتبة الذّات بما (٣) هي هي. ومطابق الحكم ومصداقه ليس حيثيّة نفس

__________________

(١) قوله : «ومطابق الحكم ومصداقه ليس. الخ» وهذا سرّ قول شريكنا السالف «الشيخ الرئيس أبى على بن سينا» ومن في طبقته ، من شركائنا السالفين ، فلو سئل «هل الإنسان من حيث هو إنسان ، واحد أو كثير» مثلا كان الجواب السلب لكل شيء على أن يكون حرف السلب قبل «من حيث» لا بعد «من حيث».

وبيانه : أنه لو اخّر السّلب عن الحيثية كان مفاد العقد أنّ سلب العارض عن جوهر ذات الموضوع من حيث نفس الذّات على أنّ مطابق السّلب ومصداقه نفس حيثيّة الذّات ، وهو صحيح ، إذ السلب أمر وراء جوهر الذّات وكلّ ما ليس نفس الذّات ولا من جوهرياتها. فإنّ مطابقه ومصداقه لا يكون نفس حيثيّة الذّات بتة فإنّما مصداق سلب العارض هو أنّ العارض المسلوب غير جوهر الذّات وغير جوهرياتها لا نفس جوهر الذّات بما هي هي.

وأما إذا اخّرت الحيثية كان السّلب واردا على الثبوت من تلك الحيثية ، فكان العقد إنّما يفيد سلب العارض عن نفس الذّات المحيّثة بنفسها لا غير وهو صحيح.

فأما ما دار على ألسنة أقشاب المقلدين ، من أنّ تقديم الحيثية موهم للإيجاب العدولىّ فمن فاسد القول ، إذ مناط السّلب والعدول ليس إلّا تقديم كلمة «ليس» على الرابطة وتأخيرها عنها لا التقديم على الحيثية والتأخير عنها ، والكلام في التأخير عن الحيثية مع التقديم على الرابطة ، فلا مساغ لإيهام الإيجاب أصلا. فإذن ، يصدق الإمكان في مرتبة الذّات ، ومصداقه كون الضرورة المسلوبة غير داخلة في قوام جوهر الذّات وغير مقتضاة للذات ، فتعرف وكن من المتبصّرين (منه دام ظله).

(٢) قوله : «وحقيقته سلب بسيط» اى : لا تساوي الطّرفين ، ولا السّلب العدولىّ ، ولا ايجاب نفس السّلب على ما هو شأن الموجب السالب المحمول (منه دام ظله).

(٣) قوله : «فهو بالقوّة أشبه ، الخ» الإمكان الذّاتي سلب طرفي الذّات المتقرّرة بلحاظ نفس جوهر الذّات حين هي متقررة بافاضة الجاعل والعدم مطلقا انتفاء الذّات أو انتفاء الوصف ولو بانتفاء الذّات فهو ليس بعدم بل هلاك للحقيقة المتقرّرة حين التقرّر كالقوة ، فإنّها تكون للمادّة الموجودة بالقياس إلى ما ليس لها ولها أنّ يلحقها ولا هو أيضا بقوة حقيقيّة ، إذ القوّة إنّما هي للذات بالإضافة إلى ما وراء جوهرها ممّا يصحّ أنّ يلحقها وهو قوّة الذّات بالقياس إلى نفس جوهرها. فهو بالقوّة أشبه منه بالعدم. ولو عدّ قسما من القوّة مخالف ـ

٢٢

الذّات بما (١) هي هي ، ولا اقتضاء من تلقائها لذلك ، بل مصداق السّلب التّحصيليّ في تلك المرتبة عدم اقتضاء من تلقاء جوهر الذّات للضّرورة المسلوبة.

فالتقرّر والبطلان بالفعل كلاهما مسلوبان في تلك المرتبة. وإنّما الصادق سلب كلّ منهما سلبا بسيطا ، وليس في ذلك استيجاب كذب النّقيضين في تلك المرتبة. أليس نقيض [١٤ ب] التّقرّر في تلك المرتبة سلب التّقرّر في تلك المرتبة على أن يكون القيد للتقرّر المسلوب على سبيل نفي المقيّد ، لا السّلب على سنّة النفى المقيّد.

فإذن ، للمعلول في نفسه أن يكون ليس ، ليسا مطلقا ، وله عن علّته أن يكون أيس ، فسلب الطّرفين ، سلبا بسيطا ، هو حال الذّات في حدّ جوهرها ، والأيس بالفعل حالها بحسب الاستناد إلى الغير ، فهو لا محالة سابق عليه ما دامت الذّات متقرّرة ، سبقا بالذّات.

فتلك المسبوقيّة بالذّات هي الحدوث الذّاتيّ ، وبحسبه الذّات المتقرّرة ما دام تقرّرها من تلقاء إفاضة الجاعل لا يستطيع العقل أن يلحظها إلّا مختصّة بالهلاك والبطلان ، أي : السّلب الصّرف واللّيس المطلق باعتبار نفس جوهرها أبدا ، فهل الحقيقة الجوازيّة إلّا حيّز القوّة المحضة ووطن الفاقة المطلقة ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) (القصص ، ٨٨).

__________________

ـ الشّاكلة لسائر الأقسام ، إذ بحسبه للشّيء معنى ما بالقوّة وبحسب سائر الأقسام معنى ما بالقوّة لم يكن شططا. وبالجملة الإمكان الذّاتيّ ليسيّة نفس جوهر الذّات في تقرر ، لا ليسيتها في انتفاء ، فلذلك لا يصحّ أنّ يوصف به المعدوم بما هو معدوم بالحقيقة ، بل معنى إمكان المعدوم أنه لو وجد كان الإمكان من أوصافه العقليّة الانتزاعية بخلاف المعدوم الممتنع (منه دام ظله).

(١) قوله : «فهو يصدق في مرتبة الذّات». وبذلك ينحلّ إعضال مستعصب : هو أنّ الماهيّة بما هي هي يجب أنّ توصف بالإمكان ، لأنّ شيئا من المفهومات لا يكون عروا عن الوجوب والامتناع والإمكان جميعا ، إذ قسمة عنصر العقد إليها مستوعبة لكافة المفهومات بقاطبة الاعتبارات ، مع أنّ الإمكان من العوارض ومن اصول الحكمة أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، والعرضيات بأسرها مسلوبة عن مرتبة الذّات. والحلّ : أنّ الضرورة من عوارض الذّات. وإنّما الكاذب إيجاب السّلب في تلك المرتبة. فمقتضى الأصل عدم ثبوت العوارض مطلقا في مرتبة جوهر الذّات بما هي هي ، فيكذب إيجاب العارض وإيجاب سلبه جميعا في تلك المرتبة ، لا سلب ثبوت كلّ منهما سلبا بسيطا. فسوالب الموجبات بجملتها صادقة والموجبات بأسرها كاذبة وكذلك سوالب السوالب (منه دام ظله العالى).

(٢) «كلّ شيء هالك إلّا وجهه» ، يمكن عود الضمير في الآية الكريمة إليه سبحانه وإلى الشّيء.

فعلى الاوّل ، الوجه بمعنى الذّات ، كما فى قولهم : «أكرم الله وجهك». وإذ تحقق الحدوث الذّاتىّ. فكلّ شيء هالك الوجه باطل الذّات فى حدّ ذاته أزلا وأبدا ، إلّا وجهه الكريم الّذي هو بحت الوجود الحقّ القيّوم الواجب بالذات. فالعارف يسمع نداء بطلان عالم الإمكان من قوله عزّ من قائل : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) على الاتّصال. ولا يؤجّله بقيام الساعة ولا يؤخّره إلى وقت مرتقب وأمد منتظر ، بل لا يفارق ذلك ـ

٢٣

إيماض

(٤ ـ المعلول له مرتبة القوّة والفعليّة)

فإذن ، ما مع مرتبة ذات العلّة المتقدّمة هي ذات المعلول بما هي هالكة ، أي : هي بما هي هي ، وما متأخّر عنها تأخّرا ذاتيّا ومعها معيّة زمانيّة أو دهريّة هي ذاته بما لها الفعليّة، فكلّ موجود عن غيره لو انفرد لا يكون له وجود ، لا به معنى العدول البتّة ، بل به معنى السّلب.

فالانفراد بحسب لحاظ العقل : إما بأن يلحظ عدم الغير ، فيكون له أيضا بذلك الاعتبار العدم بتّة أو بأن يكون الملحوظ هو بما هو هو مع عدم اعتبار الانفراد واللّاانفراد أصلا. فيقتضى ذلك تجريده عن الوجود والعدم وعن استحقاقهما جميعا ، فكما يصدق لا استحقاق الوجود بحسب ذلك الاعتبار يصدق اللّاوجود بمعنى السّلب البسيط بتّة. وأما بحسب الخارج فلا يتصوّر الانفراد إلّا بعدم الغير ، ولا يكون له بحسب ذلك إلّا استحقاق العدم بخصوصه.

إيماض

(٥ ـ الحدوث تدريجيّ ودفعيّ وزمانيّ)

الحدوث الزّمانيّ [١٥ ظ] بيّن الثبوت بمشاهدة الحوادث الكونيّة في افق التّقضّي والتّجدّد من بعد لا كونها بعديّة زمانيّة. وأنواعه ثلاثة : «تدريجىّ» ، وهو وجود الشّيء بتمامه في زمان ما محدود من جهة البداية على سبيل الانطباق عليه ، ولا يوصف به

__________________

ـ سمعه أبدا. وكلّ معلول بلسان ماهيته يشهد بليسيّته ، «وعنت الوجوه ـ أي : الذوات ـ للحىّ القيّوم».

وعلى الثّاني يحتمل أن يعنى بوجه الشّيء جهة استناده إلى بارئه ، أي كلّ شيء هالك فى ذاته من كلّ وجه في الآزال والآباد إلّا من وجهه الّذي هو جهة استناده إلى جاعله. ويحتمل أنّ يقصد به من هو حقيقة الحقائق وذات الذوات ، الّذي هو مذوّت كلّ ذات ومصوّر كلّ صورة وفاعل كلّ حقيقة ، فيصير التفسير على هذا أيضا إلى الوجه الأول ، وإنّما التعبير عن ذاته سبحانه بوجه كلّ شيء ، لأنّ الوجه ، أول ما يظهر من الشّيء ، يواجه به ويناله الإدراك. والراسخون في العلم بعقولهم يدركون الجاعل الحقّ أولا ، فينتقلون منه إلى العلم بمراتب المجعولات على ما هو سنّة العقل في البراهين اللمية. فهم يستشهدون بالحقّ على الخلق ، لا بالخلق ، عليه : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله» ، فهو الظاهر الحقّ والوجه المطلق ، منه البدء وبه البقاء ، وإليه المصير ، والله سبحانه أعلم بأسرار كلامه ورموز خطابه وبطون وحيه وحقائق تنزيله (منه أدام الله عمره).

٢٤

إلّا الحركة القطعيّة الحادثة وما حصوله بها على الجهة الانطباقيّة. و «دفعىّ» ، وهو أن يتخصّص أوّل وجود الشّيء بتمامه بآن ما بعينه ، فإن استمرّ بعده كان من الزّمانيّات المستمرة ، وإلّا كان من الآنيّات ، كموافاة الحدود المنفرضة في المسافة ما دامت الحركة. و «زمانيّ» ، لا على التّدريج ولا على الدّفعيّة ، بل في نفس الزّمان على غير الجهة الانطباقيّة. وحقيقته أن يوجد الشّيء بتمامه في زمان بعينه مقطوع من جهة البداية ، متخصّصا به لا على سبيل الانطباق عليه ، بل على أن لا يمكن أن يوجد أو يفرض في ذلك الزّمان جزء أو آن إلّا وذلك الشّيء بتمامه حاصل فيه.

ولا يصحّ أنّ يتوهّم آن لابتداء الحصول أصلا ، لا الطّرف ولا من الّتي تنفرض بعد الطّرف وموصوفه الحركات التّوسّطية الحادثة ، وما حصوله وحدوثه بها ، لا بقدر ما معيّن من الحركة القطعيّة أصلا. كزاوية الخطّين المنطبق أحدهما على الآخر إذا افترقا مع التقاء الطرفين. أليست الحركة التّوسّطيّة موجودة ولا حصول لها في الآن الذي هو نهاية زمان السّكون وبداية زمان الحركة القطعيّة بتّة.

فالشّيء فيه على مبدأ المسافة ، لا متوسّط بين المبدأ والمنتهى ، ولا في آن يشافعه. فمشافعة الأطراف مستبينة الامتناع : بإثبات الاتّصال وإبطال جزء لا يتجزّى ، وبأنه لو تشافع طرفان استوجب أنّ ينقسم كلّ منهما. فلو تصوّر لها أوّل آنات الحصول ، كان لا محالة بعد الآن الطرف بزمان ما ، فيكون هو ذيل زمان السّكون ، لا صدر زمان الحركة قطعا ، وذلك خرق [١٦ ظ] الفرض. فإذن ، قد تحقّقت الواسطة واستبان تثليث القسمة.

إيماض

(٦ ـ الحركة التّوسّطيّة والحركة القطعيّة)

به مثل البيان ذا ، يستبين أنّ الحركة التّوسّطيّة ، وكذلك ما بها يستتبّ حصوله ، كما ليس يتصوّر لها آن ابتداء الحصول ، فكذلك ليس يصحّ أنّ يتوهّم لها آخر آنات الحصول أيضا ، بل إنّما متخصّصة الوجود بزمان الحركة القطعيّة الّذي هو بين الآنين الطّرفين ، البداية والنّهاية ، على أن تحصل في كلّ جزء من أجزائه أو آن من آناته الموهومة ما عدا الطّرفين ، حصولا قائما تامّا. فلا جرم ليس يمكن أن يتوهّم فيه آن

٢٥

ما ، إلّا وهي بتمام ذاتها حاصلة في ذلك الآن وقبله وبعده أيضا بتّة. وأوّل آنات عدمها اللّاحق آن النّهاية المنطبق على منتهى المسافة ، كما كان آخر آنات عدمها السّابق آن البداية المنطبق على مبدأها.

تنظير

(٧ ـ الحاصل في الزّمان لحصوله أوّل وآخر)

هل بلغك قولهم : «أزليّة النّوع تنحفظ بتسابق أشخاصه ، لا إلى بداية ولا إلى نهاية». فكلّ من الأفراد المتسابقة إلى لا نهاية حادث ، والنّوع المرسل منحفظ القدم في تسابقاتها وتعاقباتها أبدا. فكذلك أمر هذه الواسطة بالقياس إلى زمان حصولها فقط ، فهي منحفظة الحصول في ذلك الزّمان بعينه بتسابق الآنات الممكنة الانفراض فيه ، وتعاقبها في التّوهّم لا إلى نهاية أخيرة وفعليّة حصولها بتمامها في كلّ آن آن. فكلّ ما يعتلق في الحصول بشيء من تلك الآنات بخصوصه ، كموافاة الحدود الموهومة في المسافة. فلحصوله أوّل وآخر في ذلك الزّمان. وأما ما ليس كذلك ، فإنّه محفوظ الحصول في امتداد ذلك وآناته الوهميّة وليس لحصوله أوّل وآخر فيه أصلا.

إيماض

(٨ ـ الحدوث الزّمانيّ وقسمته ...)

إنّ القسمة متأتّية أيضا في مقابل الحدوث الزّمانيّ ، أعنى استيعاب وجود الشّيء الزّمانيّ جملة افق التّقضّي والتّجدّد. أليس ما يستوعب وجوده جملة الأزمنة :

منه ما له هويّة اتصاليّة يمتنع بالنّظر إلى ذاته (١٦ ب) أن يكون ظرف وجوده إلّا الزّمان الممتدّ على الجهة الانطباقيّة ، كالحركات القطعيّة للأفلاك. فهي إنّما توجد في جملة امتداد الزّمان على تلك الجهة.

ومنه : ما ليس ذا هويّة اتّصاليّة بحسب نفسه ، ولكنّه في نفسه بحيث لا يتهيّأ له أن يعرى عن ملابسة الحركة المتّصلة ومقارنتها في الوجود وعن عروض نسبة متقدّرة غير مستقرة له إلى أمور غيره. فيجب بالنّظر إليه أن يكون ظرف وجوده الزّمان ، ولكن لا على النّحو الانطباقىّ ، بل على شاكلة عرّفناكها ، كالحركات التّوسّطيّة

٢٦

الأفلاكيّة ، فهي إنّما توجد في جميع الأزمنة على تلك الشّاكلة.

ومنه : ما هو خارج عن السّبيلين ، وهو من الموجودات الزّمانيّة الحاصلة في كلّ آن وزمان.

فبالجملة ، إنّما القسمة في الموجود الزّمانيّ الوحدانيّ التّشخّص والوجود ، بحسب كونه ذا هويّة اتّصاليّة بحسب نفسه أو لا ، ولكنّه غير ممكن بحسب ذاته أن يكون عروا عن مقارنة ما له تلك في الوجود ، وظرف حصول هذين هو الزّمان ، ولكن على ضربين مختلفين، أو خارجا عن ذلك مطلقا.

ويصحّ أن يقال : ظرف حصوله الآن والزّمان جميعا إذا كان مستمرّ الحصول ، أو الآن فقط إذا كان من الآنيّات ، ولا مدخل لكون الحصول متخصّصا بطائفة من الأزمنة والآنات ، أو مستوعبا للجميع في التقسيم ، بل هو جار فيها. والحدوث الزّمانيّ ليس يستوجب أن يكون لأوّل الحصول آن ، بل هو أعمّ من ذلك.

إيماض

(٩ ـ العدم الزّمانيّ قبل الوجود وبعد الوجود)

إنّ من العدمات الزّمانيّة الّتي هي قبل زمان الوجود : ما له آخر الآنات ، ومنها : ما ليس لآخره آن أصلا. وكذلك من العدمات الّتي هي بعد زمان الوجود : ما له آن الابتداء ، ومنها : ما ليس لأوّله آن أصلا.

فكلّ ما ليس له أوّل آنات الحصول ، وهو حادث زمانيّ ، فله آخر آنات العدم السّابق. وكلّ ما لآنات حصوله أوّل فليس لآنات عدمه السّابق آخر ، بل إنّه منتف [١٥ ظ] في كلّ آن هو قبل أوّل آنات الحصول بتّة. وكذلك كلّ ما ليس له آخر آنات الحصول، وهو منبتّ الوجود. فله أوّل آنات العدم اللّاحق. وكلّ ما لآنات حصوله آخر ، فليس لآنات عدمه اللّاحق أوّل ، بل إنّه منتف في جميع الزّمان الّذي بعد آخر آنات الحصول ، وفي كلّ آن من آناته.

والآن نفسه فصل مشترك بين زماني عدمه السّابق واللّاحق ، وليس لعدمه السّابق آخر آنيّ. ولا لعدمه اللّاحق أوّل كذلك ، بل إنّما عدمه في جميع الزّمان الّذي بعده وفي كلّ جزء وحدّ منه ، وليس يستوجب إلّا عبور زمان ما غير متعيّن الامتداد.

٢٧

وليعتبر من النّقطة ، فإنّها موجودة طرفا للخطّ ، وليس لها وجود في نفس الخطّ المتّصل ، ولا يتلوها نقطة منها يبتدأ عدمها. فالحكم بوجود النّقطة هناك يصدق على طرق الخطّ المتّصل لا على نفسه ، والحكم بعدمها هناك يصدق على نفسه ، لا على طرفه. وليس يلزم أن يكون له طرف آخر غير النّقطة يصدق عليه الحكم بأنّها ليست بموجودة هناك. وكذلك شاكلة الامور الآنيّة الوجود من غير استمرار. وأما الحركة القطعيّة المتّصلة ، فمختصّة الحصول بزمان وجودها منطبقة عليه ومنتفية التّحقّق في سائر الأزمنة. وأما حصولها في الآن فغير متصوّر أصلا.

إحصاء

(١٠ ـ الحركة القطعيّة والآنيّة والتّوسّطيّة)

يقع ، في النّوع الأوّل ، الحركات القطعيّة ومقاديرها من الأزمنة وما يضاهيها من الهيئات الغير القارّة ، وبالجملة كلّ ما حصوله بالانطباق على الحركة المتّصلة.

وفي الثّاني ، الآنيّات ، كالوصولات إلى حدود المسافة والوصول إلى ما إليه الحركة والتّربيع والتّماسّ وانطباق إحدى الدّائرتين على الأخرى أو أحد الخطّين على الآخر ، والكون ، وكلّ ما له آن ابتداء الحصول وإن استمرّ زمانا وعدم الحركة التّوسّطيّة ، بل كلّ ما ليس له آخر آنات الوجود. فهذه أمور تحقّق بانقضاء الحركة المتّصلة لا [١٥ ب] بالانطباق عليها.

وفي الثّالث ، الحركات التّوسّطيّة وحدوث الزّاوية بالحركة ، كزاوية المسامتة وما في مضاهاتها وافتراق الخطّين أو السّطحين المنطبق أحدهما على الآخر أو تقاطعهما واللّاوصول واللّامماسّة والفساد ، أي : انتفاء ما لكونه آخر آنات الفعليّة وعدم الآن والآنيّات. وبالجملة ، كلّ ما حصوله بالحركة التّوسّطيّة ، وليس يستدعى قدرا معيّنا من الحركة المتّصلة أصلا ، بل إنّما مطلق الحركة على أيّ قدر كان ، ليحصل في كلّ جزء وحدّ من زمان ها.

تنبيه

(١١ ـ حلّ عقدة الشّكوك والإعضالات)

٢٨

لعلّ هذه الأصول مهما استتقنتها تنبّهك على حلّ العقدة في عدّة شكوك وإعضالات مستصعبة. منها : شكّ الحركة في إثبات جزء لا يتجزّى. ومنها : التّشكيكات في وجود الحركة القطعيّة. ومنها : إعضال طلوع نصف منطقة البروج مع نقطة من معدّل النّهار في افق يساوى عرضه تمام الميل الأعظم ، مع أنّه لا يكون إلّا بالحركة. ومنها : إعضال طفرة الزّاوية ببلوغ المنفرجة قبل القائمة. ومنها : إعضال الدّحرجة. ومنها : إعضال المسامتة في برهان تناهي الأبعاد. ومنها : شكّ زوال انطباق السّطحين دفعة في إثبات الخلأ. وفي مباحث غامضة تعضيلات عويصة يستعان في فكّها بتلك الاصول.

إيماض

(١٢ ـ الحدوث الزّمانيّ والحدوث الدّهريّ)

كأنّه قد آن لك أن تشعر أنّ الحدوث الزّمانيّ ليس بما هو حدوث زمانيّ مبدأ استيجاب سبق العدم بحسب الواقع. أليس مفهومه اختصاص الوجود بزمان ما أو آن ما. وذلك ليس يصادم الوجود في الدّهر والواقع ، بل أخصّ منه حملا وتحقّقا. فإنّما العدم في الدّهر ببطلان التّقرّر مطلقا في أيّ وعاء فرض ، لا باختصاصه ببعض الأزمنة. إذ من المستبين أنّ التّقرّر المختصّ بشيء من الأزمنة تقرّر في الواقع وإن اتّفق أن [١٦ ظ] وقع في ذلك الزّمان بخصوصه ، فليس يتصوّر اختصاص الدّهر والواقع بزمان دون زمان ، أو بجملة الأزمنة ، على ما تعرّفت من قبل ، فاختصاص الوجود بزمان إنّما في طباعه استيجاب العدم في سائر الأزمنة غير زمان الوجود ، وهو أعمّ من العدم في الدّهر والواقع.

فإذن لو لم يكن للحادث الزّمانيّ حدوث دهريّ أيضا ، لم يكن حادثا بحسب الواقع ، بل كان سرمديّ التقرّر في وعاء الدّهر وإن كان ذلك بوجوده في زمان ما بخصوصه ، كما أنّ العدم الطارئ على المنجّز الوجود في افق الزّمان متأخر عن الوجود بالزّمان ومتخصّص بالزّمان الّذي بعد زمان الوجود ، وليس يصادم ذلك أزليّته بحسب الواقع وفي وعاء الدّهر بما هو عدم وانتفاء.

ولعلّ من الفطريّات : أنّ الحوادث الزّمانيّة إنّما تكون بعد أن لم تكن

٢٩

بحسب الواقع. ومن على سنّة الطباع الإنسانيّ يأبى أن يستصحّ وجودها ، لا على المسبوقيّة بالعدم في الواقع. فإذن قد ثبت الحدوث الدّهريّ وبزغ أنّ كلّ حادث زمانيّ فإنّه حادث دهريّ أيضا بتّة وإلّا لم يكن حادثا أصلا.

تشريق

(١٣ ـ الحدوث الزّمانيّ والتّزمّن)

المعنى المعبّر عنه بالحدوث الزّمانيّ ينحلّ عند العقل إلى مفهومين : الحدوث والتّزمّن. فالحدوث هو كون الوجود مسبوقا بالعدم في الواقع ، والتّزمّن هو كونه متخصّصا بالوقوع في شيء من الزّمان. فمن ذلك ، لا من صرف طباع الحدوث ، يلزم أن يكون الوجود المسبوق بالعدم في وعاء الدّهر والواقع مختصّا بزمان ما.

فإذن للحادث الزّمانيّ مسبوقيّة بالعدم الصريح بحسب الواقع ، وعدم مستمرّ في سائر الأزمنة إلّا زمان الوجود ، ووجود في وعاء الدّهر بعد العدم الدّهريّ ، ووجود في افق الزّمان بعد الأزمنة السّابقة على زمان الوجود. وهذان معنيان مختلفان يعبّر عن أحدهما بالحدوث الدّهريّ ، وعن الآخر بالحدوث الزّمانيّ [١٦ ب]. والوجود الّذي للحادث في زمان وجوده وجود في وعاء الدّهر وفي افق الزّمان باعتبارين.

تشريق

(١٤ ـ الحدوث الدّهريّ والحادثات)

إنى أظنّك ، الآن ، مستشعرا : أنّ الحدوث الزّمانيّ بما هو حدوث زمانيّ ليس البتة يستوجب تخلّف موصوفه وتأخّره تأخّرا زمانيّا إلّا عمّا قد حفّه افق الزّمان حفّا. أليس هو إنّما يستوجب التّخلّف في الوجود عمّا قد تخلّل بينه وبينه زمان ما أو آن ما. وأمّا من يتعالى عن غواشى التّزمّن ويستحيل بالنّسبة إليه ذلك ، فليس يتخلّف عنه الشّيء بحسب كونه حادثا زمانيّا ، إذ هو متخصّص الوجود بزمان ما بخصوصه. وقاطبة الأزمنة بالقياس إلى حضرته على سنّة متّفقة وفي موطئ واحد. فالحادث بما له الحدوث الزّمانيّ لا يتخلّف عن القيّوم الواجب بالذات ، عزّ اسمه ، بل إنّ ما يستوجب التّأخّر عنه في الوجود ليس إلّا الحدوث الدّهريّ. فالأوّل الحقّ والحادث

٣٠

الهالك الفائض منه داخلان في الوجود.

فإذا كان الحادث داخلا في الوجود بعد لا دخوله فيه ، والأوّل الحقّ يتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، إذ هو صرف الوجود السّرمديّ ، كان لا محالة متأخّرا عنه بالوجود في الأعيان. وحيث إنّه ، سبحانه وتعالى ، يتقدّس عن الدّخول في الزّمان والمكان ، ليس وقوع الشّيء في زمان ما أو مكان ما مناط تأخّره عنه ، سبحانه ، أصلا. فإذن ، لو لم يكن الحادث الزّمانيّ حادثا دهريّا أيضا ، لم يكن في الوجود متأخّرا عنه ، تعالى بتّة ، وذلك خلف باطل. فإذن ، قد استقرّ ثبوت الحدوث الدّهريّ واقترّ مقرّه.

تتمّة

(١٥ ـ الكائن والمبدع وحدوثهما)

تواطأت الفلاسفة على الفرق بين الكائن والمبدع ، بأنّ المبدع إنّما يتأخّر عن ذات المبدع الحقّ في لحاظ العقل تأخّرا بالذّات ، لا غير ، والكائن يتأخّر عنه في الأعيان بالوجود بعد وجوده بعديّة يتخلّف بحسبها البعد عن [١٧ ظ] القبل في الأعيان. وقد أدريناك : أنّ الحدوث الزّمانيّ ليس يوجب التّخلّف في الوجود إلّا عن متزمّن آخر ، لا عمّن يرتفع عن افق الزّمان والمكان.

فإذن ، لو كان الكائن حادثا زمانيّا فحسب ، لا دهريّا أيضا ، لم يكن ينفصل في ذلك الحكم عن المبدع ، بل إنّما يكون تأخّره كالمبدع عن نفس ذات الجاعل الحقّ في لحاظ العقل تأخّرا بالذّات فقط ، لا عن وجوده في الأعيان ، من جهة التّخلّف ؛ وتقدّمه ، جلّ ذكره ، عليه ، كعلى المبدع ، تقدّما بالذّات مع المعيّة في الوجود لا غير. وفي ذلك فوق بطلانه في نفسه شقّ عصاهم وخرق إجماعهم.

استشراق

(١٦ ـ جود المفيض الحقّ والماهيّة الجوازيّة)

ثمّ أو ليست الماهيّة الغريزة الخيريّة المتقرّرة في متن الأعيان ولكن إنّما بعد البطلان الباتّ والعدم الصريح ضربا نابها من الخيرات الإمكانيّة ومرتبة نبيهة من الحقائق الجوازيّة؟ فكيف يستسوغ العقل أن يهملها جود المفيض الحقّ ويذر عنها صفرا

٣١

جملة النظام التّامّ الفاضل؟ وهذا مسلك مستفيض للبرهان ، ناهض في مراتب الخيرات في نظام الوجود ، وإن لم يكن ينتهض في خصوصيّات الهويّات في عالم الطّبيعة. فإذن ، قد استتب الأمر في الحدوث الدّهريّ. وبمثله من القول يستتمّ أيضا ما يستبين في الإيماضات العاقبة.

إيماض

(١٧ ـ الحادث إمكانه علّة لفاقته)

أما أنت ممّن يتفقّه أنّ وجوب التقرّر أو امتناعه بالنّظر إلى ذات الجاعل بالذّات مقتض تامّ للاستغناء عن العلّة رأسا ، وكلّ علّة لشيء فانتفاؤها موجب تامّ لانتفائه. فإذن ، لا ضرورة طرفي التقرّر واللّاتقرّر بالنّظر إلى نفس الذّات بالذّات تستبدّ بالعلية للافتياق إلى العلّة في فعليّة أحد الطّرفين. فالإمكان علة تامة للفاقة ، ولا حظّ للحدوث شطريّة ولا شرطيّة أصلا.

إيماض

(١٨ ـ المحدث مسبوق الوجود بالعدم وهو لازمه)

اعملن أنّ كون المحدث مسبوقا ، البتّة ، وجوده بالعدم ، ليس إلّا من لوازم ذاته المستندة إلى نفس هويّته لا غير ، على شاكلة لوازم الماهيّة المقتضاة لنفس جوهرها المتقرّرة ، لا بمدخليّة ما لأمر وراء نفس الماهيّة أصلا ، اللهمّ إلّا بالعرض. فهناك بطلان قبل ، وتقرّر بعد ، وصفة محمولة على الذّات ، وهي كونها بعد البطلان. فالبطلان القبل من عدم العلّة ، والتّقرّر البعد من إفاضة الجاعل ، وكون الذّات المتقرّرة من بعد البطلان إنّما هو من تلقاء جوهر الذّات بنفس هويّتها

ويتبرهن : من أنّه ليس من الأوصاف الجائزة بالنّظر إلى الذّات بما هي تلك الذّات ، بل هو وصف واجب لها [١٧ ب] بما هي تلك في نفس الأمر بتّة. أليس الوصف الجائز إنّما يصحّ أن يلحق الذّات الفائضة عن جاعلها بعلّة أخرى غير الذّات وغير علّة الذّات ، فهى في ذاتها خلو منه عند الفيضان وبعده إلى قيام العلّة المتأخّرة.

فإذا كان من الأوصاف الجائزة لها : فنفس الذّات : أهي بما هي تلك وليست يلزمها

٣٢

أن يعتريها ذلك الوصف هويّة جوازيّة غير ضروريّة التقرّر واللّاتقرّر ، وذلك ، فحسب ، مناط التّعلّق بالعلّة ، فتكون بما هي تلك صادرة عن علّتها. وليس يكتنفها الحدوث ولا يتعلّق هويّة واحدة إلّا بعلّة واحدة بعينها ، لا غير أصلا. فإذا تحقّقت تحقّقت غير مخلوطة بالحدوث ، بل دائمة التقرّر ، لانتفاء الواسطة. ثمّ الحدوث يلحقها بعلّة أخرى ، وهو متهافت. أم هي بحسب نفسها ضروريّة أحد الطرفين ، وإنّما جوازها بحسب الاتّصاف بذلك الوصف ، فلا يصحّ إسناد نفس ذاتها إلى العلّة في فعليّة أحد الطّرفين ، بل إنّما في حصول الوصف فقط ، فتكون واجبة الوجود أو العدم بذاتها واقعة بعد العدم بعلّة ، وهو فاسد.

ثمّ إنّها بحسب ذاتها جائزة الانسلاخ عن الوصف في نفس الأمر ، وهي بعينها. فيصحّ أن تدوم متسرمدة بنفسها ، ثمّ يلحقها الحدوث بعلّة فيعود التّهافت أيضا. وأيضا من المستبين أنه لو تسرمد المحدث لم يكن وجوده الأزليّ هو بعينه هذا الكائن بعد العدم. فإذن قد امتنع بالنّظر إلى هذا الوجود بعينه إلّا أن يكون بعد العدم ، فكان هذا الوصف له بنفسه لا بعلّة ، وإنّما من تلقاء العلّة نفسه ، لا حصول (ثبوت ، ل) هذا الوصف له. فإذن قد انصرح أنّ صنع الفاعل نفس الذّات ، ثمّ هي بنفسها موصوفة بهذا الوصف ، كما [١٨ ظ] الجسم بالقياس إلى لزوم الانقطاع.

وزور أن يقال : إنّ شيئا ما جعل الذّات بحيث لا يتجوهر إلّا بعد البطلان ، فهذا غير مقدور عليه ، لأنّه واجب بالضّرورة الذّاتيّة. ولو كانت الحوادث تامّة القوّة على قبول التأيّس دائما ، لفاضت عن فاعلها على الدّوام ، لكنّ التّقرّر لا بعد البطلان ممتنع بالقياس إلى استحقاق جوهرها بتّة. وهذا الأصل مستغرق الشّمول لأنحاء الحدوث الزّمانيّ والدّهريّ والذّاتيّ جميعا.

والغاغة من الجماهير يخالفون أبناء الحقيقة ويسندون الاتّصاف بوصف الحدوث أيضا إلى علّة الذّات المحدثة ، لا إلى اقتضاء نفس الذّات ، وإنّ ذلك لمّا قد عضّل الأمر عليهم في حدوث العالم ، بل حدوث شيء ما منه ، أيّ شيء كان.

إيماض

(١٩ ـ الحادث متعلّق بالعلّة حدوثا وبقاء)

٣٣

فإذن ، ليس من شرط تعلّق الشّيء بالعلّة أن يكون وجوده من بعد العدم ، بل أن لا يكون هو ومقابلة ضروريّا له بذاته. فكما الممكن الموقّت بزمان ما يستند إلى الفاعل ، فكذلك المستوعب لقاطبة الأزمنة. وكما الحادث الدّهريّ صنع الجاعل ، فكذلك الممكن لو صحّ أن يسترمد أزلا ، على ما قد اختلقته متهوّسة الفلاسفة ، لكنّ الفحص الغائر قد أحاله ، وكما أنّ المعلول يتعلّق في حدوثه بالعلّة ، فكذلك في بقائه في الدّهر أو في الزّمان.

أليس الواجب لا بذاته ، بل بالغير ، أعمّ في نفسه بحسب المفهوم من الواجب بالغير بعد العدم ، أو لا بعده ومن الواجب بالغير في ابتداء الحصول فقط أو في البقاء أيضا بقاء دهريّا أو استمراريّا. والتعلّق بالغير يحمل عليه وعلى كلّ منها جميعا. وما يحمل على معنيين مترتّبين بالأعميّة والأخصيّة مفهوما ، فإنّه يلحق الأعمّ بذاته أوّلا ثمّ الأخصّ بعده وبسببه ، إذ هو ليس يلحق الأخصّ إلّا وقد لحق الأعمّ ، وربّما يلحق الأعمّ من دون الأخصّ ولو كان لحوقه للأخصّ بذاته بحيث يكون للخصوصيّة بعينها حظّ من مصححيّة اللحوق ومدخل في مناطيّته ، لما [١٨ ب] صحّ أن يلحق غيره أصلا ، فينخرق الفرض ، فإذن ليس لحوقه بالذّات إلّا للقدر المشترك.

ومن العجب : أنّ مستنكرة هذه القوانين يساعدون على إسناد العدم إلى العلّة ، من غير اشتراط الحدوث ، مع أنّ نسبة الطّرفين إلى الماهيّات الجوازيّة على شاكلة الاستواء.

إيماض

(٢٠ ـ طباع المجعولية للحادث)

كما أنّ طباع المجعولية لا يستوجب أن يكون بعد اللّامجعولية وعلى التّوقيت بشطر بعينه من الزّمان ، فكذلك طباع الجعل ليس يستدعى أن يكون بعد اللّاجعل وعلى التأقيت. فكما الذّات المجعولة غير حدوث الذّات ، فكذلك الجعل غير ابتداء الجعل والاسم، كالفعل والجعل والصنع للطباع المشترك ، بل كلما كان التأثير أدوم وأبقى كان الفاعل أفعل وأصنع.

وكون الفاعل مختارا ، ليس يستوجب السبق الزّمانىّ أو الدّهريّ البتّة ، بل إنّما تقدّم الإرادة تقدّما بالذّات ، والإيجاد إنّما هو حالة الوجود ، ولكنّ للذات المرسلة لا بشرط الوجود والعدم ، وإنّما تحصيل الحاصل الباقى بنفس التّحصيل الأوّل لا

٣٤

بتحصيل مستأنف ، ولو استغنى الباقى لا نسلخ عن طباع الإمكان ، وهو مستحيل.

إيماض

(٢١ ـ الحدوث لازم الذّات والبقاء لاحق)

فإذن ، ليس يتّزن بميزان الحقيقة إلّا أنّ التأثير في نفس الذّات ، لا في وصفي الحدوث والبقاء ، بل الحدوث لازم جوهر الذّات بما هي الذّات ، والبقاء لاحق يلزم الذّات المستبقاة من جهة دوام الإفاضة واتّصال التأثير ، وإذ الزّمان كم متصل فالزمانىّ المستمرّ إنّما يستبقيه الفاعل بأن يفعل ذاته في جملة زمانه الشخصىّ المتّصل مرّة واحدة بإفاضة واحدة.

ثمّ إذا حلّله الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات ، كانت تلك الإفاضة الواحدة بعينها مستمرّة الذّات الشخصيّة ، متكثرة النسب العارضة بحسب الإضافات إلى تلك الأحيان المتكثرة ، فهذا سبيل استحفاظ [١٩ ظ] البقاء الزّمانيّ ، وأما غاغة الجمهور ، من المتمسّكة بحديث البناء والبنّاء ، والمنى والممني ، فغير فارقة بين جاعل الذّات وفاعل الإنّية وبين ما يجرى مجرى المعدّات وييسر مسير الروابط.

تشريق

(٢٢ ـ البارئ الفعّال يذوّت على الاتّصال)

قد التمع لك أنّ البارئ الفعّال يشيّء الشيء على الاستدامة ويذوّت الذّات على الاتّصال. فلو جذّ الفيض وأمسك عن الجعل ، لانقضّ جدار العالم ، وصارت الذوات الجوازية والماهيّات الإمكانية إلى هلاكها الذّاتي وبطلانها الأزلىّ ، فعادت دار الأيس بلقعة اللّيس ، وارتجعت ديار الإمكان قفار البطلان ، واستردّ السلب من الثبوت واسترجع العدم من الوجود. فسبحان من (يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (من الحج ، ٦٥) ، (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (من الفاطر ، ٤١).

وربّما استوضح الأمر بما استضاء من الشمس بالمقابلة ، إذ كلّما حجب عنها زال ضوءه ، لكنّ النور الحقّ لا يقاس بغيره ، فالأنوار المفارقة العقلية ظلمة صريحة

٣٥

بالقياس إليه ، كالسواد الصّرف عند البياض الحقّ ، إذا فرض غير متناهي البياضيّة ، فأنّى للنّور المحسوس القائم بالجسم الدّائر والجرم الدّائب أن يكون له هناك مثل سائر وذكر سائب.

سياقة

(٢٣ ـ كلّ حادث ذاتيّ حادث دهريّ أيضا)

ألم يأن لك ، بعد ما تلى على سمعك ، أن يخشع قلبك لذكر الحقّ ، فيثلج سرّك بما للوجود البحت الواجب من الاستيثار بالقدم السّرمديّ ولزمر الماهيّات بقضّها وقضيضها من الاستيعاب بالحدوث الدّهريّ؟ أما استبان لديك : أنّ كلّ حادث زمانىّ فإنّ له حدوثا دهريّا أيضا؟ أفيستحيل العقل ، لا بقريحة سقيمة وفطرة مئوفة ، أن يكون موقّت الحصول بسويعات بعد قرون غير محصورة وأدوار غير محصاة مع مبدع الأزمنة والأوقات في أزليّة التّقرّر وسرمديّة الوجود؟

وقد دريت أيضا : أنّ طباع [١٩ ب] الحدوث الزّمانيّ ليس يستوجب سبق العدم الصّريح في وعاء الدّهر ، ولا التعلّق بالمادّة ، والمسبوقيّة باستعدادها ممّا هو مبدأ هذا الاستيجاب. أليس ذلك إنّما يستدعى سبق المادّة والاستعداد بالزمان ولا يصادم وجود المادّة وذي المادّة معا في الدّهر على الدّوام الدّهريّ دون الزّمانيّ وإن كان بينهما تقدّم وتأخّر بالطّبع.

فإذن ، ليس يصلح لاستيجاب الحدوث الدّهريّ إلّا اعتبار الإمكان ، وهو الطباع المشترك بين جملة الجائزات. فهو كما يوجب الحدوث الذّاتي فكذلك يستوجب الحدوث الدّهريّ. والّذي ينشأ منه الحدوث الزّمانيّ هو التعلق بالمادّة وحركتها الاستعداديّة.

فإذن كلّ حادث ذاتيّ فإنّه حادث دهريّ أيضا. وإنّما الفصل بين الحوادث الزّمانيّة وبين سائر الجائزات بحسب الحدوث الزّمانيّ وعدمه لا بحسب شيء من ذينك الحدوثين.

تشريق

(٢٤ ـ الحادث الزّمانيّ يستدعى سبق العدم الزّمانيّ)

٣٦

فإذ قد تعرّفت أنّ كلّ ما يلحق عدّة خصوصيّات ، فإنّما لحوقه بالذّات للطباع المشترك وليس لخصوصية ما منها بخصوصها من المدخليّة في ذلك أصلا ، بل الخصوصيّات بأسرها ملغاة في اقتضاء اللّحوق بالذّات وإن اتّفق أن وقعت ملحوقا بها ؛ فاحكم أنّ الحدوث الدّهريّ من لوازم طباع الجواز ، ولكنّ ثبوته في الحوادث الزّمانيّة من الفطريّات ، ثمّ يقتنص بسبوغ الفحص ودقّة النظر [اللّحظ ب] أنّ ما ينشأ منه استيجابه إنّما هو طباع جواز الذّات ، لا خصوصيّة الزّمانيّة والهيولانيّة.

فقد فقهت أنّ التخصّص بزمان ما يستدعى سبق العدم في الأزمنة السّابقة ، لا سبق العدم الدّهريّ ولا خصوصيّات الحقائق ، كالإنسانيّة والبياضيّة ، أو خصوصيّات الشخصيّات منها ، فإنّه قد لحقها جميعا ، لا شيئا منها بعينه فقط ، فليس لحوقه بالذّات إلّا بالطباع المشترك الّذي هو الجواز. فهناك يستبين استغراقه لجملة الجائرات في أقطاع عوالم [٢٠ ظ] الإمكان وأقطارها من الطبائع المرسلة والماهيّات الكليّة والهويّات الشخصيّة قاطبة. فإذن قد استقرّ عرش الحكمة السّويّة وانقضّ جدار الفلسفة النيّة. والحمد لله ربّ العالمين.

تشريق

(٢٥ ـ الله سبحانه متقدّم بالذّات وبالسّرمد)

فقد انصرح : أنّ لله ، سبحانه ـ على نفس الزّمان الممتدّ الشخصيّ وعلى كلّ من أجزائه المقطوعة البداية الممكنة الانفراض بالتّوهّم ـ تقدّما بالذّات وتقدّما بالسّرمد من غير تفاوت. والفلاسفة المتهوّسة يحسبون أنّ ذلك بالنّسبة إلى تلك الأجزاء فقط ، وأما بالنّسبة إلى نفس الزّمان المتّصل الشّخصيّ في الأعيان فليس إلّا التّقدّم بالذّات.

وهذا من معاقد التعضيل عليهم ، إذ يلزم اختلاف نسبته إلى الكلّ والجزء ، وكذلك إلى الجزء المقطوع البداية والجزء الممتدّ لا إلى بداية. فيثلم قولهم الحقّ أنّ نسبته إلى جميع الأجزاء (الأوقات ل) وجملة الأحيان واحدة ، ثمّ كيف يصحّ ذلك في الكم المتّصل وأجزائه المقداريّة ، وهي والكلّ متّحدة بالوجود متشابهة بالماهيّة.

إيماض

(٢٦ ـ كلّ حادث مسبوق الوجود بالمادّة)

٣٧

ألم تسمعهم يقولون : كلّ حادث فإنّه مسبوق الوجود في الأعيان بالمادّة ، فاشعر أنّ ذلك ليس إلّا في الحوادث الزّمانية بما هي حوادث زمانيّة ، لا بما لها الحدوث الدّهريّ ، فضلا عن الحدوث الذّاتيّ. فتعاقباتها في الوجود وتخصّصاتها بالأوقات ، إذ لم يكن في جنبة الفاعل تغيّر لا تكاد تتصوّر إلّا وهناك مادّة تعرضها انفعالات ويقوم بها استعدادات بالقياس إلى حصول الحادث في وقته متفاوتة بالشدّة والضّعف والقرب والبعد. فإذا قويت القوّة الانفعاليّة وتمّ نصاب الاستعداد ، حان حين فيضان [٢٠ ب] الحادث عليها من تلقاء الفاعل الحكيم الجواد. فإذن كلّ حادث زمانيّ يسبق وجودها في أفق الزّمان قوّة ومادّة أو موضوع يقوم بها ويوجد فيها أو يتقوّم بها ويتحصّل منها أو يتعلّق بها ويدبّرها ويستكمل.

إيماض

(٢٧ ـ الإمكان الذاتيّ والاستعداد)

إمكان الشّيء يقع باشتراك اللفظ على معنيين : أحدهما الإمكان الذّاتيّ ، وهو صفة عقليّة يوصف بها ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات ، وينتزعها العقل من موصوفاتها بعد الفعليّة ، ويحكم بتقدّمها على الوجود والإيجاد تقدّما بالذّات لا غير ، ولا يستوجب اتّصاف الماهيّة بها كونها مادية. والثّاني الاستعداد ، وهو عروض موجود معدود من أنواع جنس الكيف غير باق بعد خروج الشّيء إلى الفعل ، فلا محالة يحتاج قبل الخروج إلى محلّ ، وهو المادّة.

إيماض

(٢٨ ـ الحادث الممكن بحسب الذّات والتّعلّق بالموادّ)

إنّ وجود الشّيء المادّيّ في نفسه ، نوعيا كان أو شخصيّا ، هو تلبّس المادّة به بالتّنوّع أو بالتّشخّص ، فهو وجود رابطىّ للمادّة باعتبار آخر ، وكلّ إمكان فهو في تقرّر وبالقياس إلى وجود. والوجود إما بالذّات ، كوجود البياض في نفسه ؛ أو بالعرض ، كوجود شيء آخر له ، أو وجوده لشيء آخر ، أو وجوده لشيء آخر ، أو صيرورته موجودا آخر.

فإذا كان الشّيء حادث الوجود في أفق الزّمان ، وهو ممّا يوجد في مادة أو موضوع أو من مادّة أو مع مادّة ، كان إمكانه بحسب وجوده في نفسه من لوازم ماهيّته

٣٨

وغير متعلّق إلّا بذاته ، وبحسب ارتباطه في الوجود بالمادّة متعلقا أيضا ، لا محالة ، بتلك المادّة العينيّة وإن كان هو من الاعتبارات الذّهنيّة ، كما القبليّة والبعديّة صفتان عقليتان ومتعلقتان بالأشياء العينيّة من جهة ما هي واقعة في الأعيان.

فإذن ، إمكانات الأشياء الحادثة [٢١ ظ] بحسب التّعلّق بالموادّ ، يقال : إنّها تقارن عدمها قبل وجودها ، ويعبّر عنها بالقوّة. ولا يرتاب في أنّ ذلك ليس إلّا بحسب استعدادات متعاقبة مختلفة بالبعد والقرب ، زائلة مع خروج الوجودات من القوّة إلى الفعل ، لا من حيث هي إمكانات بالذّات ، وبهذا الاعتبار يقع اسم الإمكان عليها بالتشكيك. فأما بحسب ما هي إمكان الموجودات الممكنة في أنفسها بالذّات ، فأمور لازمة لماهيّاتها المرسلة مع عزل اللّحظ عن الفعليّة واللّافعليّة ، وهي سواسية في استحقاق الوقوع تحت اسم الإمكان ، بل الإمكان مفهوم واحد سلبيّ متخصّص بنفس الإضافة إلى الماهيّات ، لا قبل الإضافة.

إيماض

(٢٩ ـ إمكان الإبداعيّات وافتقار المادّيّات)

إنّ الأمور الإبداعيّة لا يتصوّر فيها استعداد يتقدّم وجودها ، وإمكانها إنّما يعقل عند تقرّرها ، وهو صفة لماهيّتها الّتي لا تتحقق قبل تقرّرها ، فإمكان وجودها ليس إلّا في ذواتها ، لا في شيء آخر. والماديّات : منها : [ما] وجوده في المادّة أو عنها ، كالصّور الجوهريّة والأنواع الجسمانيّة وكذلك الأعراض ، وهناك الافتقار إلى المادّة لتقوّم الموجود ولترجّح وجوده المتخصّص بوقته جميعا ، إذ قوّته على الفعليّة واللّافعليّة سواء. وليس يستبدّ الإمكان الذّاتيّ بقبول الفيض ، كما في المبدعات. ومنها ما وجوده مع المادّة ، كالنفوس المجرّدة الإنسانيّة ، وافتقارها إلى المادّة ليس للتقوّم ، بل إنّما لترجّح الوجود بحسب الحدوث فقط دون البقاء ثمّ للاستكمال. فالنّفس لو لم تكن مفتاقة إلى الاستكمال لم تكن تعتلق بعالم الطّبيعة ، بخلاف ما تقوّمه بالمادّة وتحصّله عنها.

إيماض

(٣٠ ـ الحادث ممكن قبل الوجود)

٣٩

فما قال رأس المشّائية ورؤساؤها : «الحادث ممكن قبل الوجود ، وليس إمكانه هو اقتدار الفاعل عليه ، لصحّة التّعليل ، ولا ممّا يقوم بنفسه ، وإلّا لاستوت نسبته إليه وإلى غيره ، ولم يصحّ [٢١ ب] التّوصيف ؛ أو بأمر منفصل ، إذ صفة الشّيء لا تقوم بمباينه. فإذن ، هو قائم بمادّته» (الاشارات ، ص ٩٧).

يصحّ أن يفسّر بالاستعداد ، وهو عرض موجود ، أو بإمكان الوجود إذا اخذ رابطيّا ، وهو صفة عقليّة ، ولكن للشّيء العينيّ بحسب الوقوع في الأعيان ، فالمادّة حامل إمكان الوجود بالمعنيين. وما في «المطارحات» و «التلويحات» على الأخير ساقط.

وأما موضوع إمكان الوجود إذا أخذ محمولا لا رابطيّا فنفس الماهيّة لا غير ، والمفارقات المحضة إنّما إمكانها وقوّتها على قبول التّقرّر والوجود من الجاعل المبدع ، لا على أن تصير بالفعل شيئا ، فإنّها فعل مطلق بإفاضة الجاعل ، وليس لها معنى ما بالقوّة ، بل معنى ما بالقوّة فقط.

إيماض

(٣١ ـ الحادث محتاج إلى سبق وكذا العدم)

كما الوجود الحادث ليس له بدّ من سبق استعداد المادّة ، فكذلك العدم الطارئ. والفحص يحقّق : أنّ معناه انجذاذ الوجود ، فيرجع الأمر حقيقة إلى سبق الاستعداد على الوجود بما هو متخصّص بزمان محدود مجذوذ من جهتي البداية والنهاية جميعا. وأيضا الصّور المنجّزة الوجود مستردفة صورة أخرى ترد على المادّة مع انجذاذ الأولى. فورود الأخيرة الحادثة يقارن طروء العدم على المردفة المنجّزة ، وهو مسبوق بالاستعداد ، لا محالة ، فينسب ذلك إلى طروء العدم بالعرض.

فإذن ، إنّما مسبوقيّة العدم بعد زمان الوجود باستعداد المادّة بالعرض من سبيلين ، لا بالذّات وعلى سبيل الحقيقة ، فليس ذلك يصادم أزليّته بما هو عدم وليسيّة أصلا.

تنبيه

(٣٢ ـ السبق والاستعداد بالمادّة زمانيّ لا دهريّ)

إنّما المسبوقية بالمادّة واستعدادها هناك زمانيّة ، فحسب ، لا دهريّة أيضا. فهي

٤٠