مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فهذه أنقص مراتب الإدراكات وأدونها.

ثمّ النفس المستتمّة الذّوات بعقلها المستفاد عالما عقليّا مضاهيا للعالم الحسّىّ ونسخة مطابقة لكتاب الله المبين ، الّذي هو النظام المتسق الوحدانىّ [١١٥ ظ] لعوالم التّقرّر ، بكلّيّاتها وجزئيّاتها وجملها وتفاصيلها ؛ إذا استمكت عن سمط الامتداد الزمانىّ الّذي هو عنصر التغيّر إلى حيّز الدهر الّذي هو وعاء صرف التّقرّر ، وخرجت عن قرية الهيولى الظالم أهلها ، وانصرفت عن قبّة الطبيعة الغاسق جوّها ، ونسيت مصطبة الحسّ الميّت فوجها ، كما كانت قد نسيت فيها وطن سنخ ذاتها ومسقط رأس حقيقتها ، فاقترّت في مقرّ القرار ، واستقرّت على مستقرّ الثّبات في عالمها الّذي هو صقع القدس وعرض البهجة وأرض الحياة : انتقلت من شوب القوّة النفسيّة إلى محوضة الفعل العقلىّ ، وانقلبت إدراكاتها النفسانيّة المتعاقبة تعقّلات عقلانيّة متصافقة متصاقبة. فهنا لك تكون قد نضّت عوارض النّفوس ورفضت خواصّها واستحقّت اسم القادس.

تعقيب

(٨٤ ـ تعرّف الإنسان بالأسماء الحسنى لله تعالى)

لعلّ المستحصف حظّه ، من أحصاف ما تلونا عليك ، في العلم والتّوحيد ، يستحقّ روعه العقلىّ نصيبا ملكوتيّا من تعرّف أسماء الله الحسنى واستيناس الأنوار المودعة في بطون أسرارها وبهجة قدسيّة من الألفاظ بذكر القيّوم ، الواحد ، الأحد ، الوتر ، الصمد ، الملك ، الحقّ الغنىّ ، العليم ، الحكيم ، السميع ، البصير ، الجامع ، الواحد ، الواسع ، المحيط ، الخبير.

تقديس

(٨٥ ـ جاعل النظام مفيض الخير بالعلم والاختيار)

أليس من المستبينات : أنّ الفاعل بالطبع ليس يفعل عن علم ، بل يتبعه الفعل ، لا عن علم به وظنّ صلاح فيه ؛ والفاعل عن علم يفعل بالإرادة ويختار بالعلم لا محالة ، ويتبع الفعل علمه بوجه [١١٥ ب] الخير فيه أو بكونه متشوّقا له ومؤثرا عنده.

٢٠١

وقد تحقّقت : أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الّذي هو أتمّ العلوم بكلّ معلوم معقول أو محسوس. فإذن ، هو ، سبحانه ، فاعل بالإرادة والاختيار بتّة ، فإنّه يعلم ذاته ، وإنه بنفس حقيقته ، ينبوع كلّ تقرّر ووجود وكلّ كمال تقرّر وجود ، وذاته حقيقة محضة من كلّ جهة. فلا يوصف إلّا بالخيريّة المطلقة ، لا على أن هي وصف له بعد مرتبة الذّات ، بل على أن ذاته نفس الخيريّة المحضة. فذاته بذاته مفيض الخير وجاعل النظام الفاضل على الإطلاق.

فإذ يعلم من ذاته كيفيّة الخير في الكلّ ، فيتبع ذاته ومعقوليّة ذاته فيضان الموجودات عنه على النظام المعقول عنده من معقوليّة ذاته. لا على أن يتبعه ذلك اتّباع الضّوء للمضيء والإسخان للحارّ ، تعالى عنه عزّه ، بل على أنّه عالم بكيفيّة نظام الخير في الوجود ، وأنّه فائض عنه ، وعالم بأنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود على التّرتيب الّذي يعقله خيرا ونظاما فاضلا. وفيضان الخير والفضل عنه غير مناف لذاته ، بل إنّه مناسب لجنابه ، إذ هو تابع خيريّة ذاته ومقتضى جوده التامّ الذي هو نفس ذاته. فإذن ، مجعولاته مرادة له ، ونظامها الصادر عنه مرضىّ لذاته. وليس أنّه يعلمها ثمّ يرضى بها ، بل إنّ نفس علمه بنظامها الجملىّ الفاضل نفس رضاه بها ، وذاته [الحقّ] بخيريّته الحقّة وحقيقته المحضة هو الّذي دعاه إلى اختيارها.

فإذن ، كما قد أسمعناك (١) أنّ : «إنّه عاقل وإنه معقول» ، فيه واحد ، فكذلك نتلو على سمعك أنّ : «إنه مريد وإنه عالم» ، هناك واحد ، وأنّ إرادته للكلّ عين علمه بنظام الخير الأكمل الأصلح ، وهو بعينه داعيه إلى اختيار الجعل وإيثار الإفاضة ، وهو [١١٦ ظ] نفس ذاته الحقّ المستحقّ بحسب نفس ذاته ووجوده لتلك الأسماء المقولة على الذّوات الجائزة بحسب جهات متكثّرة وحيثيّات مختلفة.

تقديس

(٨٦ ـ القيّوم المفيض للمجعولات يعلمها ويوحى بها من غير طلب وشوق)

إنّ شاكلتنا في ما هممنا بفعله وصنعه إنّما نتصوّره ، فنتعرّف تعرّفا ظنّيّا أو تخيّليّا أو

__________________

(١) أى : إنّ قولنا : «إنّه عاقل الخ» ، فليس فيه اجتماع أنّ وإنّ. على أنّ الممتنع دخول إنّ بالكسر على أنّ بالفتح. فلا يقال مثلا : «إنّ أنّ زيدا منطلق». منه ، دام ظلّه.

٢٠٢

علميّا أنّ فيه صلاحا ونفعا أو منقبة ومحمدة ، وبالجملة خيريّة ما بالقياس إلى ذاتنا أو بالقياس إلى قوّة ما من قوى ذاتنا ، فينبعث من ذلك شوق إليه. فإذا قوى الشوق وتأكّد الإجماع ، اهتزّت القوّة الشوقيّة والإرادة المتجدّدة ، أى : الإجماع [المنبعث] منها. فحرّكتا القوّة المحرّكة الّتي في العضلات ، وهنا لك تتحرّك الأعصاب والأعضاء الأدوية ، ثمّ تتحرّك الآلات الخارجة إلى تحصيله.

فالمعنى الّذي هو فينا إدراك الفعل. وإدراك وجه الخير فيه ، غير المعنى الّذي هو سبيل تحصيله ، وهو الشوق ومرتبته المتأكّدة الّتي هي الإجماع والإرادة ، إذ أفعالنا بالآلات وهي ليست تتحرّك إلّا بالشوق ، وما به رضانا بالفعل هو معرفتنا لوجه الخير العائد إلينا فيه.

فأمّا القيّوم الحقّ ، سبحانه ، فإذ جلّ جنابه عن أن يكون فعله بالآلة وعن أن يتصوّر له خيريّة غير حاصلة له في مرتبة ذاته بذاته ، فليس يعقل أن يتكمّل ويتجمّل ذاته بمعنى ما هو وراء مرتبة ذاته ، فلا محالة ، لم يكن له شوق إلى شيء أصلا ، وكان ما به رضاه بمجعولاته هو نفس علمه بها وبأنّها خيرات في أنفسها ، لا بأنّ لها خيريّة ما عائدة إليه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهذا العلم هو بعينه ذاته الحقّ ، وهو عين الإرادة. فإذن ، هو ، سبحانه ، شاء بذاته ، لا بهمّة تعرض ذاته. ومعنى واحد منه وهو ذاته هو إدراك المجعولات ووجه الخير فيها وسبيل إلى الجعل والإفاضة.

فكما فينا تترتّب حركة [القوّة] الشّوقيّة على نفس تصوّرنا [١١٦ ب] الشيء واعتقادنا أنّه نافع أو صواب بالقياس إلينا من دون أن يتوسّط بين التصوّر والاعتقاد وبين اهتزاز الشوق إرادة أخرى غير نفس ذلك الاعتقاد ؛ ففى الصّنع الرّبوبىّ يترتّب الجعل والإفاضة على نفس علمه ، سبحانه ، بالشيء وأنّه حسن وخير في نفسه ، من غير أن يتوسّط بينهما شوق وإرادة أخرى وراء ذلك العلم الذي هو بعينه نفس مرتبة الذّات. فهو ، سبحانه ، بذاته يعلم المجعولات ويرضاها ، فيفعلها طولا وجودا ، لا على أن يطلبها ويشتاق إليها. فهو ، سبحانه ، أعلى في إرادته من الاختيار الّذي للمختارين من مجعولاته ، فضلا عن الإيجاب الّذي للطّبائع المضطرّة إلى أفاعيلها ، وهي بذواتها وخواصّها مسخّرات بأمر الله وحده.

٢٠٣

تقديس

[٨٧ ـ العالم الحقّ كما لعلمه مراتب لإرادته أيضا مراتب]

فإذ قد انصرح لك : أنّ إرادته تعالى غير مغايرة الذّات والمفهوم لعلمه ، فاعلمن : أنّه، كما لعلمه ، سبحانه ، مراتب ، وأخيرة مراتبه وجودات الموجودات ، على معنى أنّ وجودها غير محتجبة عنه هو بعينه معلوميّتها له ، لا عالميّته بها ، على ما قد تعرّفت ؛ فكذلك لإرادته ، جلّ ذكره ، مراتب ؛ وأخيرة مراتب الإرادة هي بعينها ذوات الموجودات وهويّاتها المتقرّرة بالفعل ، وإنّما هي عين الإرادة بمعنى مراديّتها له ، لا بمعنى مريديته لها.

ثمّ المراديّة أيضا : بمعنى صدورها عنه بالفعل مرضيّا بها ، لا بمعنى كونها مرضيا بها ، فإنّ ما به فعليّة الرّضا ومبدئيّة التخصّص هو نفس ذاته سبحانه ، وذلك أقوى في إفادة الاختيار : ممّا أن يكون ما به فعليّة الرضا بالفعل أمرا زائدا على ذات الفاعل ، وممّا أن تكون فاعليّة الفاعل لا بنفس ، ذاته بل بأمر ما يلحق ذاته. فإذن ، مجعولاته ، سبحانه ، مرضىّ بها قبل الصّدور [و] عند [١١٧ ظ] الصدور على سبيل واحد ، وليس يتجدّد الرضا عند الصّدور بالفعل ، بل [إنّما] الحادث المتجدّد وجودها بالفعل مرضيّة.

وهذا على مضاهاة ما أسلفنا في العلم : أنّ المعلوميّة الّتي هي بعينها ذوات المتقرّرات ، إنّما معناها تقرّرها بالفعل منكشفة ، لا منكشفيّتها بالفعل ، إذ تلك حاصلة قبل التّقرّر وعند التّقرّر على سبيل واحد. وما به الانكشاف هو نفس ذات الجاعل التّامّ العليم. والمنكشفيّة ، إذ ذاك أقوى ممّا أن يكون ما به الانكشاف هو وجود ذات المعلوم بالفعل ، أو حصول صورته الظلّيّة.

فمن المستبين : أنّ الشّيء الواحد بعينه يصحّ أن تكون له صور ظلّيّة غير محصورة بحسب أذهان كثيرة أو بحسب أوقات كثيرة ، وليس يصحّ إلّا ترتّب المجعول الواحد بعينه على جاعله التامّ الواحد بعينه. فانكشاف الجاعل التامّ أقوى إفادة لتعيّن ظلّه الّذي هو جوهر ذات المجعول المترتّب على نفس ذاته من انكشاف الصّورة الظلّيّة.

فإذن ، قد استبان : أنّ الإرادة الّتي هي عين هويّات المخلوقات إنّما هي تقرّرها بالفعل مرادة ، وهي ليست صفة للخالق متجددة له أخيرا ، بل هي من شئون هويّات

٢٠٤

المخلوقات. وعند هذا بزغ سرّ ما قد رواه بعض الأقدمين من فقهائنا المحدّثين عن سادتنا الطاهرين وأئمّتنا المعصومين ، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين ، في زيادة الإرادة على ذاته ، سبحانه ، وحدوثها أخيرا.

وأمّا ظنّ فريق من جماهير المتكلّفين «أنّ له ، عزّ مجده ، إرادة هي من صفاته وحيثيّاته متجدّدة الحصول لذاته» ؛ فتخمين غير معقول. أليس هو ، سبحانه ، يعلم في مرتبة ذاته نظام الخير في ما عدا ذاته على الوجه الأكمل [١١٧ ب] ، وليس يليق بجود الجواد الحقّ وحكمة الحكيم المطلق أن يعقل ما هو حسن وخير في نفسه على جهة حسنه وخيريّته في نفسه من غير أن يكون على منافاة لذاته ولما عليه ذاته ولا يرضاه.

وبالجملة ، إنّما المتجدّد نفس ذوات المجعولات والمعلومات والمرادات ، لا شيء ما في ذات الجاعل العليم المريد ، أو جهة ما من جهات ذاته. فهو ، جلّ ذكره ، في مرتبة ذاته يرضى نظام الخير المعقول من معقوليّة ذاته غير تائق إليه ، ثمّ يفعل الكلّ على النظام الأكمل المعقول جودا وتفضّلا ، لا برويّة وتفكّر وهمّة.

تذييل

(٨٨ ـ مراتب العلم والإرادة)

فإن سألت : ما خطبكم تجعلون نفس هويّات الأشياء بتقرّراتها ووجوداتها العينيّة من مراتب «العلم» و «الإرادة» على نحو من الاعتبار ، ولستم تعتبرون مثل ذلك في «القدرة»؟ قيل لك : إنّ لفظ «العلم» في الاصطلاح الصّناعىّ يقع بالاشتراك على معان ثلاثة : أحدها : المعنى المصدرىّ الإضافىّ ، وهو زائد على كلّ حقيقة أصيلة التّقرّر ، فما ظنّك بالحقيقة القيّوميّة!

وثانيها : المعنى الذي هو مبدأ تصحّح إطلاق العالم بالشيء على الموجود المجرّد وما به انكشاف الشّيء المعلوم لديه. وهو عين الحقيقة الحقّة القيّوميّة في علمه ، سبحانه ، بذاته وبما عدا ذاته مطلقا ، وأمر زائد على الماهيّات الجائزة والحقائق المجعولة على الإطلاق ، لكنّه نفس وجودات الجواهر العاقلة القائمة بأنفسها ، لا بمادّة في عقلها لذواتها.

٢٠٥

وثالثها : الصّورة العلميّة المنكشفة الحاضرة من المعلوم لدى العالم ، وهو بهذا المعنى يحمل ، لا محالة ، على هويّات المتقرّرات في الأعيان والمنتقشات في المدارك بالقياس إلى الموجود الحقّ ، عزّ مجده ، إذ هي بتقرّراتها العينيّة وانطباعاتها [١١٨ ظ] الذهنيّة حاضرة لديه ، تعالى ، غير عازبة عنه ، سبحانه.

فحيث إنّ «الإرادة» ، مطلقا ، ضرب ما من العلم ـ على اعتبار ما أخصّ من اعتبار مطلق العلم ، لا أنّها مباينة الذّات والمفهوم للعلم على شاكلة القدرة وسائر الصفات ولا سيّما إرادته ، سبحانه فقد دريت أنّها بعينها علمه بوجوه الخيرات المرضيّة فى أنفسها ؛ فلا محالة ، مراتب العلم على تلك الاعتبارات هي مراتب الإرادة ، والمرتبة الأخيرة تقرّر الأشياء المرادة بالفعل ، بما هي في أنفسها خيرات معلومة مرضيّة ، ومفيضها الجواد يفعلها بجوده غير هام بها ولا مروّ في فعلها ولا متفكّر.

وربّما تطلق «الإرادة» على نفس الجعل والتأييس ، لا برويّة وتفكّر ، والإبداع والاحداث لا بتشوّق وهمّة ، أى : قصد حادث زائد على نفس ذات الفاعل ، كما في القرآن الحكيم : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس ، ٨٢).

تقديس

(٨٩ ـ فاعليّة الفاعل الحقّ والغرض والغاية والفائدة)

إنّ العلّة الغائيّة : هي الّتي بماهيّتها وشيئيّتها علة لفاعليّة العلّة الفاعلة ، فهى العلّة الأولى الفاعلة ؛ والغرض : ما يلحظه الفاعل ؛ والغاية : ينتهى إليه الشّيء والفائدة : ما يترتّب عليه.

ومن المنصرح : أنّ فاعليّة الفاعل الحقّ ، سبحانه ، للكلّ ، إنّما هي بنفس ذاته ، عزّ مجده ، لا بامر ما يلحق ذاته ويزيد على حقيقته ، إذ كلّ ما هو وراء حقيقته داخل في ما يستند إلى ذاته ، وهو يفعله بجوده التامّ الذي هو بعينه نفس مرتبة ذاته.

فهو بذاته الفاعل الأوّل القريب والعلّة الغائيّة الأولى لنظام الكلّ ولآحاد الجائزات ، بحسب لحاظها في [١١٨ ب] السّلسلة العرضيّة ، ومن حيث هي أجزاء النظام الجملىّ المستند باتّساقه العرضىّ وبرمّته الشّخصيّة الجمليّة إليه ، سبحانه ، مرّة واحدة.

٢٠٦

مصنّفات ميرداماد

(٣)

الإيقاظات

صورة خطّ المصنّف دام ظلّه

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الإيقاظات ، يسّرنا الله ، تعالى لإتمامه بمنّه وإكرامه. كان الشّروع فيه فى أواخر عام ١٠٢٥ من الهجرة المباركة النبويّة ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتى

الحمد لله ربّ العالمين حقّ حمده ، والصلاة على خيرته من خليفته محمّد والمعصومين من عترته.

(مقدّمة)

(فى مسألة خلق الأعمال)

وبعد ، فلقد سألتنى ـ أفاض الله تعالى عليك سجال فيوضات عالم القدس ـ عن مسألة خلق الأعمال وقراح الحقّ وصراح الأمر فيها. وهي من غامضات أغوار العلم وغوامض أسرار الحكمة. ولقد أوفيناها حقّها من بالغ الفحص وسابغ النظر ، في كتبنا العقليّة وصحفنا الحكميّة ، وفي كتابنا «الرّواشح السماويّة في شرح أحاديث الإماميّة» ، وهو شرحنا لكتاب «الكافى» لشيخنا الأقدم ، رئيس المحدّثين أبى جعفر الكلينىّ ، رضوان الله تعالى عليه. فالآن نلقى عليك ، ما إن أخذت الفطانة بيدى

٢٠٧

قريحتك لفطّنك لما يفى بإزاحة الشكوك وإماطة الأوهام بإذن الله سبحانه.

فاعلمن أنّه فرقان ما بيّن ، بين الفاعل لفعل ما بالإرادة والاختيار وبين جاعله التامّ ، الموجب بإرادته واختياره ، المفيض لوجوده ووجود علله وأسبابه (٢ ظ) وشرائطه ومنتظراته على الإطلاق ؛ فالمباشر الذي اختياره أخير ما تستتمّ به العلّة التامّة لفعله ، فاعل لذلك الفعل بالاختيار لغة وعرفا واصطلاحا لدى الجماهير من العامّة والخاصّة. وليس هو بالجاعل التّامّ الموجب إيّاه بالإرادة والاختيار إلّا إذا كان مفيضا لوجوده بإفاضته وإفاضة جملة ما يفتقر إليه من العلل والأسباب.

وإذ دريت ذلك بزغ لك أنّ الإنسان حيث إنّه مباشر لفعله واختياره أخير منتظرات الفعل وآخر أجزاء علّته التامّة ، فهو لا محالة فاعل مختار لأفعاله وأعماله. وحيث إنّه ليس الذي يفيض وجود الفعل وعلله وأسبابه ، إذ من جملة العلل والأسباب وجود نفسه وتحقّق قدرته واختياره وسائر ما يتعلّق به ذلك ممّا يغيب عن عقولنا ، ولا تحيط به أوهامنا. فليس هو الجاعل التامّ الموجد الموجب لأفعاله بالضرورة الفحصيّة ؛ بل إنّما الجاعل التامّ الموجد الموجب لكلّ ذرّة من ذرّات نظام الوجود بالإرادة والاختيار هو الملك الغنىّ الحقّ المفيض لعوالم الوجود بقضّها وقضيضها على الإطلاق ؛ وليس يصادم ذلك توسيط العلل والأسباب والشرائط والروابط الفائضة جميعا من جناب فيّاضيّته الحقّة المطلقة. ومن جملة العلل الرابطة والأسباب المتوسطة قدرة العبد ومنّته وشوقه وإرادته بالنسبة إلى ما يؤثره من أعماله وأفعاله.

وذلك ، كما أنّ الله ، سبحانه ، هو الموجد المفيض الجاعل لذات زيد ووجوده مثلا ، مع أنّ أباه وأمّه وغيرهما ممّا يتوقّف عليه دخوله فى دائرة الوجود من جملة علله وأسبابه المستندة في سلسلتيها الطوليّة والعرضيّة جميعا إلى جاعليّته التامّة ، تعالى شأنه وتعاظم سلطانه. (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد ، ١٦).

وهذا البيان يستكشف غطاء الخفاء عن سرّ قول سادتنا الطاهرين المعصومين ، صلوات الله وتسليماته على أرواحهم وأجسادهم أجمعين : «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين» (بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ١٢).

ومن هناك ما تسمع بعض شركائنا السّالفين من الحكماء الراسخين يقول : «الإنسان

٢٠٨

مضطرّ في صورة مختار» ، ومنهم من يعكس القول ، فيقول : «مختار في صورة مضطرّ».

وعند هذا سقط ما أعضل لك في أمر المسألة ، من قولك : «إذا كان الفعل من العبد لزم تعدّد المؤثّر ، وإذا كان من الله سبحانه لزم الجبر». بقوّة هذا الأصل يماط أذى الشكّ عن طريق العقل في أمر الدعاء. إذ يتشكك ويقال : «إن كان ما يروم الدّاعى بالطلب والسّؤال إنجاحه ممّا لم يجر قلم القضاء الأزلىّ بتقدير وجوده ولم يتطبّع لوح القدر الإلهيّ بتصوير حصوله ، فلم الدعاء وما فائدته؟ وإن كان ممّا قد جرى به القلم وتطبّع به اللوح فما الداعى إلى تكلّفه؟ وأىّ افتقار إلى تجشّمه؟» ويزاح : بأنّ الطلب أيضا من القضاء ، والدعاء أيضا من القدر ، وهما من شرائط المطلوب المقضىّ ومن أسباب المأمول المقدّر. فإذا كان قد جرى القضاء والقدر بحصول مأمول ، ما كان الطلب والدعاء اللذان هما من شرائطه وأسبابه المتأدّية إليه أيضا من المقضىّ المقدّر ، وإلّا فلا. وقد تكرّر ورود ذلك في الحديث عن خزنة الوحى وأصحاب العصمة ، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين.

فأمّا ما قد استصعب واعتاص على سلّاف العشيرة وشركاء الصّناعة عن آخرهم هنالك من التعضيل : ب «أنّه إذا تأسّس أنّ فعل العبد لا يكون إلّا بإرادته واختياره ، عطف النظر ونقل القول إلى الإرادة نفسها : أهي أيضا بالإرادة والاختيار وكذلك إرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة؟ وهكذا ، فيلزم في كلّ فعل إرادات متسلسلة إلى لا نهاية». وذلك مع بطلانه في نفسه وشهادة صريح الوجدان بانتفائه ليس ممّا ينجع أصلا. إذ سلسلة الإرادات الغير المتناهية جميعا بحسب لزوم الاستناد إلى إرادة أخرى حينئذ في حكم الإرادة الاولى بعينها أم حصولها بالاضطرار الصرف والإلجاء الباتّ من دون إرادة واختيار. فقد رجع الأمر إلى الجبر وانصرم القول بالاختيار ، فلم يكن إلى زمننا إلى إزاحة سبيل تحصيلىّ إلّا من كلماتنا وأقاويلنا. فنقول بإذن الله سبحانه :

إنّه إذا انساقت العلل والأسباب المترتّبة المتأدّية بالإنسان إلى أن يتصوّر فعلا ما ويعتقد أنّه خير ، حقيقيّا كان أو مظنونا ، أو أنّه نافع في خير حقيقىّ أو مظنون ؛ انبعث له من ذلك شوق إليه. فإذا تأكّد الشوق وصار إجماعا ، وذلك الذي يعبّر عنه بالإرادة المستوجبة اهتزاز العضلات والأعضاء الأدوية ؛ كانت تلك الحالة الشوقيّة الأكيدة

٢٠٩

المتأكّدة حالة إجماليّة ، بحيث ما إذا قيست إلى نفس الفعل وكان هو الملتفت إليه باللحظ بالذّات ، كانت هي شوقا وإرادة بالقياس إليه ؛ وإذا ما قيست إلى إرادته والشوق الإجماعىّ إليه وكان الملتفت إليه باللحظ بالذّات تلك الإرادة والشوق ، لا نفس الفعل ، كانت هي شوقا وإرادة بالقياس إلى الإرادة من غير شوق آخر مستأنف وإرادة أخرى جديدة. وكذلك الأمر في إرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة ، إلى سائر المراتب.

فإذن كلّ من تلك الإرادات المفصّلة يكون بالإرادة والاختيار ، وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقيّة الإجماليّة المعبّر عنها بإرادة الفعل واختياره. وسبيل الإرادة في ذلك سبيل العلم ، فإنّهما يرتضعان في الأحكام من ثدى واحد ، وتناغيهما القريحة العقليّة في مهد واحد.

أليس إذا كانت القوّة العاقلة قد تطبّعت بالصورة العلميّة لمعلوم ما ، وحصلت للنفس المجرّدة الحالة الإدراكيّة المعبّر عنها بالعلم الذي هو من الكيفيّات النفسانيّة كانت تلك حالة إجماليّة ، بحيث ما إذا لوحظ المعلوم كان معقولا بتلك الصورة ومعلوما بذلك العلم. ثمّ إذا لوحظت تلك الصورة كانت معقولة لا بصورة أخرى غيرها ، بل بنفسها. وإذا لوحظ العلم الذي هو الحالة الإدراكيّة كان معلوما لا بعلم آخر مباين ، بل بنفسه فقط ، من غير أن يتضاعف الصور والعلوم المتباينة بالذّات ، بل إنّما تتضاعف الاعتبارات المتعلقة بذات الجوهر العاقل وبتلك الصورة العلميّة وبتلك الحالة الإدراكيّة على سبيل التركيب لا غير. وكذلك الأمر في علمنا بذاتنا.

وما في اعتراضات شرف الدين المسعوديّ : «إنّه إذا كان تعقل ذاتنا نفس ذاتنا ، فعلمنا بذاتنا إمّا أن يكون علمنا بذاتنا ، وحينئذ يكون هو ذاتنا بعينها. وهلمّ جرّا في التركيبات الغير المتناهية ؛ وإمّا أن لا يكون هو علمنا بذاتنا ، ويلزم منه أن لا يكون أيضا علمنا بذاتنا نفس ذاتنا» (شرح الإشارات ، ج ٢ ، ص ٣٢١).

فالجواب عنه ؛ ما أورده خاتم المحصّلين في «شرح الإشارات» : «إنّ علمنا بذاتنا هو ذاتنا بالذّات وغير ذاتنا بنوع من الاعتبار. والشيء الواحد قد تكون له اعتبارات ذهنيّة لا تنقطع ما دام المعتبر يعتبرها».

فكما هناك صورة علميّة وجدانيّة وحالة انكشافيّة مجملة ، يفصّلها العقل إلى

٢١٠

مراتب مرتّبة على حسب تضاعف الاعتبارات والالتفاتات ، هي العلم بالمعلوم ، والعلم بالعلم بالمعلوم ، والعلم بالعلم بالعلم ؛ ويحكم أنّ المراتب اللامتناهية مضمّنة بأسرها في تلك الحالة الانكشافيّة بصورة واحدة بسيطة ؛ فكذلك هنا حالة شوقيّة إجماعيّة مجملة يفصّلها العقل على حسب تضاعف الالتفاتات والاعتبارات إلى مراتب متسلسلة مترتّبة هي إرادة الفعل وإرادة إرادة الفعل ، وإرادة إرادة الإرادة ؛ ويحكم بأنّ المراتب المتسلسلة المرتّبة الغير المتناهية مضمّنة الحصول جميعا في تلك الحالة المجملة الإجماعيّة بهيئة واحدة بسيطة. لكنّ الترتّب هنا متصاعد ، كما بين أبعاض الحركة الواحدة المتصلة المتسابقة إلى مبدأ المسافة. وهناك متنازل ، كما بين أبعاضها المتلاحقة إلى منتهاها.

ومن هذا السبيل أمر النيّة في العبادة. فالعبادة منويّة بالنيّة والنيّة منويّة بنفسها. وكذلك نيّة النيّة ونيّة نيّة النيّة إلى حيث يعتبرها الذهن ، لا بنيّة أخرى مبانية لنفسها. فهى بنفسها كأنّها نيّة لأصل العبادة. ولتلك النيّات جميعا على الإجمال باعتبارات متضاعفة. ومن هناك ينحلّ تشكيك أبى حنيفة في نيّة الطّهارة المائيّة. وإن هو إلّا شبهة نيّة الورود على اشتراط مطلق العبادة بالنيّة.

وممّا يجرى هذا المجرى من وجه آخر أمر اللّزومات المتضاعفة لا إلى نهاية ، في لزوم شيء لشيء. ومرّ الحقّ وكنه الأمر فيه ما أوردناه في كتابنا «الأفق المبين».

وممّا في هذا السبيل أمر الحركة الإراديّة في المسافة القابلة للانقسام لا إلى نهاية ، إذ هناك إرادة وحدانيّة إجماليّة إزاء لوحدة المسافة المتصلة منحلّة في لحاظ العقل إلى إرادات متعدّدة حسب انقسام تلك المسافة الى إجزائها الوهميّة المقداريّة.

فإن أزعج سرّك أنّه وإن استتبّ القول واستقام الكلام حينئذ في توسيط اختيار العبد ، لكن بقى الإعضال في أمر استحقاقه المثوبات والعقوبات الوارد لها الوعد والوعيد في التنزيلات الكريمة الإلهيّة والأحاديث الشريفة النبويّة ، فإنّ فعله وإن كان مترتّبا على إرادته إلّا أنّ إرادته للفعل وإرادته لإرادة الفعل وإرادته لإرادة الإرادة ، وهلمّ جرّا في تمادى الاعتبار إلى لا نهاية واجبة الحصول جميعا ، لا منه ، بل من تلقاء مبدأ آخر ، فمن أين له استحقاق المثوبة والعقوبة؟

٢١١

فتدبّر في فحصك وتثبّت في أمرك ، وافقهنّ أنّه كما فعل العبد وإرادته واختياره إيّاه من القضاء الربوبىّ والقدر الإلهيّ ، حسب ما أوجبه علمه التامّ القيّومىّ وإرادته الحقّة الوجوبيّة الموجبة لإفاضة الخيرات على طباق استعدادات الموادّ وبمقدار استحقاق الماهيّات ، على ما يقول القرآن الكريم : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الإنسان ، ٣٠) ، ويقول عزّ قائلا : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الكهف ، ٢٣) ؛ فكذلك المثوبة والعقوبة من القضاء والقدر ، كما قاله شريكنا السالف في رئاسة الفلسفة الإسلاميّة في كتاب «الإشارات» (شرح الإشارات ، ج ٣ ، ص ٣٢٨). وأنّ استيجاب المثوبة والعقوبة من لوازم ماهيّات الأفعال الحسنة والسيّئة المتفاوتة بحقائقها المختلفة في اقتضاء درجات الحسن والقبح الذاتيين على المعنى الذي هو حريم التنازع بين الفريقين المتخاصمين ؛ واختلاف تلك الدرجات الحسنة والقبيحة مبدأ استيجاب اختلاف المثوبات والعقوبات الإلهيّة وإنّما يرجع ذلك إلى الفاعل المباشر ، لأنّه المحلّ القابل دون المفيض الموجد.

وهذا ، إن هو في الاعتبار والمقايسة لدى العقل الصريح ، إلّا كما الأدوية الترياقيّة والسميّة إنّما تظهر خواصّها وآثارها في أبدان شاربها وأمزجتهم ، لا في ذات موجدها الجاعل إيّاها ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، فالطّبّ الروحانىّ في ذلك على قياس الطبّ الجسمانيّ ، والأدوية العقلانيّة على قياس الأدوية الجسدانيّة.

فإذن ، الثواب والعقاب مترتّبان على إرادة الفاعل المباشر المستحقّ لهما بإرادته واختياره ، واختلاف مراتبها جزالة وطفافة وشدّة وضعفا على حسب اختلاف ذوات الحسنات والسّيئات المستوجبة لها في حدّ أنفسها.

ثمّ اعلمنّ أنّ الشرور والآلام الواقعة في الوجود في هذه النشأة والنشأة الآخرة إنّما استنادها إلى الإرادة الربانيّة والإفاضة السبحانيّة بالعرض من حيث هي لوازم للخيرات الكثيرة التي يجب في سنّة الفيّاضيّة الحقّة والوهّابيّة المطلقة تعلّق إرادته سبحانه بها بالذّات.

وأيضا قد اقترّ في مقارّه أنّ لوازم الماهيّة إنّما تستند بالذّات إلى نفس الماهيّة ، وأمّا استنادها إلى جاعل الماهيّة فبالعرض. على أنّك إنّ دقّقت التأمّل وفتّشت

٢١٢

بالتبصّر صادفت بعقلك أنّ الشرور المرادة لا بالذّات بل بالعرض في النشأتين. إنّما شريّتها بالقياس إلى جزئيّات بخصوصها وأشخاص بعينها من أجزاء نظام عوالم الوجود هي طفيفة جدّا بالنسبة إلى سائر الأجزاء. فأمّا بالقياس إلى النظام الجملىّ الواحد بشخصيّته الجمليّة. وكذلك بالقياس إلى تلك الأشخاص والجزئيّات ، لا بحسب أنفسها برءوسها ومن حيث هويّاتها على انفرادها ، بل بما هي أجزاء الشخص الجملىّ والنظام الكلّىّ التّامّ الفاضل الشريف الكامل ، فلا شرّ ولا شريّة أصلا.

فلو أنّ اللاحظ لنظام الوجود ، المصادف بلحاظه شرورا واقعة فيه كان واسع العلم ، تامّ الإبصار ، محيط اللّحظ بجملة النظام على هيأته الوحدانيّة وبالاسباب المتأدّية إلى المسبّبات جميعا على سياقتها الاتساقيّة ، لم يكن يجد في الوجود ما يصحّ أن يطلق عليه الشرّ أو تنسب إليه الشرّيّة بوجه من الوجوه ، فليتبصّر.

ولعلّ لكلا الوجهين قال عزّ قائلا في آية الملك : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران ، ٢٦) ، لا للأوّل منهما فقط ، كما في بيان البيضاويّ ، حيث قال : «ذكر الخير وحده ، لأنّه المقضىّ بالذّات ، والشّرّ مقضىّ بالعرض» ، إذ لا يوجد شرّ جزئيّ ما لم يتضمّن خيرا كليّا. وكذلك في حديث الدعاء بين التكبيرات السبع للصلاة : «لبّيك وسعديك ، والخير في يديك والشرّ ليس إليك» (بحار الأنوار ، ج ٩٩ ، ص ٢٣٩).

وممّا يجب أن يعلم أنّ الشرور الواقعة في الوجود إنّما دخولها بالعرض في القضاء لا في القدر. فما استوجبه القضاء بالذّات أو بالعرض واستجمعه على النظام الإجمالىّ والسياقة الإجماعيّة يستعرضه القدر بالذّات ويفصّله قضّا وقضيضا على التكثّر والتدريج والتسابق والتلاحق فليفقه. فهذا شطر من جزيل القول هناك ، وحقّ البسط فيه على ذمّة ما يسرّنا الله له بعظيم فضله وكبير طوله.

٢١٣

إيقاضات

الإيقاظ الأوّل

(خيرات نظام الوجود والشرور)

خيرات نظام الوجود وكمالاته ، الفرائض والنوافل بأسرها ، من الذوات والصفات والأخلاق والملكات والأفعال والأعمال ، إنّما انبعاثها بالذّات من إرادة الله الحقّة الواجبة ورحمته الفيّاضة الواسعة وخيريّته المحضة التامّة ووهّابيّته الفعّالة الدّائمة وإن كان فيضانها من فيض جوده العظيم بمقدار استعدادات الموادّ وعلى مبلغ استحقاقات الماهيّات. فأمّا الشرور والآلام والنقائص والآثام فمن تلقاء سوء الاستعدادات ونقص الاستحقاقات وتزاحمات أرهاط الهيولانيّات وتصادمات سكّان سواد عالم الظلمات ، لا من بخل من المفيض وضنانة من الجائد أو عجز في القدرة وقصور في الإفاضة ، تعالى جناب الفيّاض الحقّ عن ذلك كلّه علوّا كبيرا. ومن هناك قوله الكريم في تنزيله الحكيم : «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك».

فلان أوهمك موهم : أنّ الاستعداد والاستحقاق أيضا موجده ومفيضه هو الله سبحانه ، إذ ما من شيء إلّا وهو من صنعه وإبداعه وتكوينه واختراعه. ولا في أقاليم قوام التقرّر وعوالم نظام الوجود إلّا صنائع جوده وقدرته وآثار فيضه ورحمته ؛ وهو فعّال التقرّر وخلّاق الوجود على الإطلاق. فما السبب في اختلاف الاستعدادات؟ وما مغزى قولكم : «الحقّ الأوّل يهب لكلّ شيء ما يستأهله باستحقاقه ويعطى كلّ مادّة ما يليق باستعدادها» ، وهو الجواد المطلق الذي لا يتوقف سيب جوده إلّا على استعداد القابل ، ولا ينتظر فيض رحمته إلّا ورود المستحقّ.

فاستدفع كيد الوهم عن عقلك واستكسح شوك الشّكّ عن صدرك ، بما نتلوه على سمع قلبك ، ونلقيه إلى اذن فؤادك ، بإذن الله ، سبحانه. وهو أنّ خصوصيّات

٢١٤

الاستعدادات والاستحقاقات لخصوصيّات الموادّ والماهيّات ولازم الماهيّة بحقيقته التصوريّة مجعول صنع الجاعل الحقّ كسائر الجائزات ، وبحصوله الرابطىّ الذي هو مفاد الهيئة العقديّة من حيث النسبة الارتباطيّة معلول نفس الماهيّة ومقتضاها : بل إنّ لازم الماهيّة مطلقا إنّما هو المحكىّ عنه بالهيئة التأليفيّة من النسبة العقديّة ، ككون الأربعة زوجا ، وكون المثلّث ذا الزوايا مثلا. فكلّ واحدة من حاشيتى اللزوم من حيث حقيقتها التصوريّة مجعولة الجاعل الفياض.

وأمّا مفاد الهيئة العقديّة اللازم حقيقة بما هو كذلك ، فمستند إلى خصوصيّة ذات الملزوم الذي هو بجوهر ذاته ، وأنّ كلّا من هيوليات الأفلاك ملزوم استعداد خاصّ جزئيّ يتأبّى جوهر ذات الملزوم بحقيقته النوعيّة الانسلاخ عنه.

فأمّا هيولى عالم الأسطقسات ، فلها بخصوصيّة ذاتها القوّة الاستعداديّة المطلقة. ولها حركة في الكيفيّة الاستعداديّة ، كما للأفلاك حركة وضعيّة في أجرامها ، وحركة كيفيّة إشراقيّة وشوقيّة في نفوسها العاقلة. والحركة الاستعداديّة الأسطقسيّة مترتّبة على الحركة الدوريّة الفلكيّة في الأوضاع ، وهي على الحركة النفسانيّة المذكورة في الأشواق والإشراقات. وكلّ من تلك الحركات الثلاث حركة وحدانيّة متصلة. مهما اعتبرت بوحدانيّتها كان الترتّب بينها على هذا السبيل. ثمّ إذا اعتراها التحليل وانقرضت فيها الأجزاء كان كلّ جزء عاقب مترتّبا على الجزء الدراج ، وكان يتعاكس الترتّب بين أجزاء حركتى الفلك الجرمانيّة والنفسانيّة من الجنبتين ، ولكن لا على الوجه الدائر ، بل على نمط محصّل ، قد بسطنا القول فيه في «خلسة الملكوت».

فإذن إن سئلنا عن سبب الاستعداد الكلّىّ المطلق والحركة الوحدانيّة الاستعداديّة المتصلة ، كان الجواب أنّ ذلك من لوازم الذات بالنسبة إلى المادّة الأسطقسيّة وماهيّة تلك المادّة بجوهرها مخصّصة لتلك الحركة الوحدانيّة المستمرّة الاتصال. وإن عطف اللحظ إلى الاستعدادات الجزئيّة والأبعاض الانفراضيّة في تلك الحركة الاستعداديّة ، قيل : كلّ استعداد جزئيّ لاحق متعيّن بالفرض ، فإنّه يترتّب على جملة ما يسبقه من الحركات المتصلة والامكانات الاستعداديّة التي فيها الحركة ويتمادى الأمر في ذلك على سبيل اللّانهاية اللّايقفيّة ،

٢١٥

لا العدديّة ، كما يظنّه الأتباع والمقلّدون. أليس براهين استحالة التسلسل ـ ولقد أوردناها في كتاب «تقويم الإيمان» ـ قد أحالت اللّانهاية العدديّة على التصاعد في قبال العلل وأصنافها مطلقا ، سواء عليها أكانت في الأعيان أم في الذهن ، وأ كانت في الوجود الزمانىّ أم في الوجود الدهريّ جميعا.

على أنّ هناك تبيانا آخر من جهة لزوم الاجتماع في آن واحد معا قد حققناه في كتاب «خلسة الملكوت» ، وأورده أيضا شريكنا السالف في ثانى سادسة إلهيّات «الشفاء» فقال : «ولا نمنع أن تكون علل معينة ومعدّة بلا نهاية ، بعضها قبل بعض ، بل ذلك واجب ضرورة ، لأنّ كلّ حادث فقد وجب بعد ما لم يجب ، لوجوب علّته حينئذ ، كما بيّنّا. وعلّته ما كان أيضا فوجبت ، فيجب ، في الأمور الجزئيّة أن تكون الأمور المتقدّمة التي بها يجب في العلل الموجودة بالفعل ، أن تصير عللا لها بالفعل أمورا بلا نهاية. ولذلك لا يقف فيها سؤال «لم» البتة.

ولكنّ الإشكال هاهنا في شيء ، وهو أنّ هذه التي بلا نهاية لا يخلو : إمّا أن يوجد كلّ واحد منها آنا ، فتتوالى آنات متشافعة ليس بينها زمان ، وهذا محال ؛ وإمّا أن يبقى زمانا ، فيجب أن يكون إيجابها في كلّ ذلك الزمان لا في طرف منه ، ويكون المعنى الموجب لإيجابها أيضا معها في ذلك الزمان ، ويكون الكلام في إيجاب إيجابها كالكلام فيه ، وتحصل علل بلا نهاية معا.

وهذا هو الذي نحن في منعه ، فنقول : إنّه لو لا الحركة لوجب هذا الإشكال ، إلّا أنّ الحركة تبقى الشيء الواحد لا على حالة واحدة ، ولا يكون ما يتجدّد من حالة في آن بعد آن بمشافعة ومماسّة ، بل كذلك على الاتصال ، فتكون ذات العلّة غير موجبة لوجود المعلول، بل لكونها على نسبة ما ، وتلك النسبة تكون علّتها الحركة ، أو شريكة علّتها ، أو التي به العلّة علّة بالفعل الحركة ، فتكون العلّة حينئذ لا ثابتة الوجود على حالة واحدة ولا باطلة الوجود حادثته في آن واحد. فباضطرار إذن تكون العلّة الحافظة أو المشاركة لنظام هذه العلل الّتي بسببها تنحلّ الإشكالات هي الحركة. وسنوضح هذا في موضعه إيضاحا أشفى من هذا» (ص ٢٦٥). انتهى قوله بأليفاظه.

٢١٦

وقال في حادى عشر ثالثة الفنّ الأوّل من طبيعيات «الشفاء» : «إنّ الحركة وكلّ ما لم يكن ثمّ كان ، فله علّة توجب وجوده بعد عدمه ، ولولاها لم يكن عدمه بأولى من وجوده ، ولا يتميّز له أحد الأمرين لذاته ، فيجب أن يتميّز لأمر. وذلك الأمر إن كان تميّز ذلك الوجود عنه عن العدم ولا تميّزه سواء ، كان الأمر بحاله ، بل يجب أن يكون الأمر يترجّح فيه تميّز الوجود من العدم ، والترجيح إمّا أن يكون ترجّحا يوجب أو ترجّحا لا يبلغ أن يوجب ، فيكون الكلام بحاله ، بل يجب لا محالة أن يوجب. وعلى كلّ حال فيجب أن يكون سبب مرجّح أو موجب قد حدث.

والكلام في حدوثه ذلك الكلام بعينه ، فإمّا أن يكون لحدوثه أسباب ذات ترتيب بالطبع ، لا نهاية لها موجودة معا ، أو موجودة على التتالى. فإن كانت موجودة معا فقد وجد المحال. وإن كانت موجودة على التتالى ، فإمّا أن يكون كلّ واحد منها يبقى زمانا أو تتتالى الآنات ، فإن بقيت زمانا كانت حركة بعد حركة على التشامع لا تنقطع ، وكان قبل الحركة الأولى حركة ، وكانت الحركات قديمة ، وقد جعلنا لها مبدأ ، هذا خلف ؛ وإن بقيت آنات فتتالت الآنات بلا توسّط زمان. وذلك محال.

فبيّن أنّه إذا حدث في جسم أمر لم يكن ، فقد حصل لعلّه ذلك الأمر إلى الجسم نسبة لم تكن. وتلك النسبة نسبة وجود بعد عدم لذات أو لحال ، إمّا حركة توجب قربا أو بعدا أو موازاة ، أو خلافها ، وإمّا حدوث قوّة محرّكة لم تكن وإمّا إرادة حادثة.

وكلّ ذلك فلحدوثه سبب الاتصال شيئا بعد شيء. [وذلك لا يمكن إلّا بحركة تنظم الزمان شيئا بعد شيء] ، ويحفظ الاتصال لامتناع تتالى الآنات ، ولأنّه إن لم تكن حركة تنقل أمرا إلى أمر وجب أن تقع العلل والمعلولات معا. فإنّ السبب الحادث الموجب أو المرجّح إن كان قارّ الوجود فإنّه إمّا أن يكون بطبيعته يوجب ويرجّح ، أو يكون لأمر يعرض له. فإن كان ذلك لطبيعته تميّز عنه وجود ما هو علّته ، وإن كان لعارض فليس هو لذاته علّة، بل مع ذلك

٢١٧

العارض. فيجب إن كانت قارّة الوجود أن يجب معها المعلول بلا تأخّر وأمّا إذا كانت دائمة غير متجددة لزم بعينه الكلام الأوّل.

فإذا كانت العلل أو الأحوال التي بها العلل عللا قارّة الوجود حادثة أو غير حادثة ، لم يتمّ للحادث بها وحدها وجود. فإنّ القارّ إن كان دائما كان موجبه لا يتأخّر فيصير حادثا ؛ وإن كان حادثا كان لكونه علّة علّة أخرى. فيجب إذن أن تكون في العلل أو أحوال العلل علّة غير قارّة الوجود ، بل وجودها على التبدّل وعلى التنقّل من أمور إلى أمور ، وليس هذا غير الحركة أو الزمان ، والزمان في نفسه لا يفعل فعلها. فالحركة تقرّب وتبعّد ، فتكون سببا وعلّة بوجه ما ، إذ تقرب العلّة» انتهى كلامه بعبارته (ص ٢٣٥).

وكذلك التلميذ في طبيعيات «التحصيل» قال : «الأمور الواقعة تحت الكون والفساد أمور حادثة ، فيجب أن تكون عللها حادثة. فيجب أن تكون تلك العلل بالحركة حتى يصحّ الحدوث ، كما عرفت ، فإذن تعلّق حدوثها بالحركة الدوريّة. وأمّا وجود صورها فبسبب المفيد للصور الذي اثبتناه في ما تقدّم.» (ص ٦٤٤).

ومساق القول في زيادة بيان هذا إلى إثبات حركة المادّة في الاستعدادات المختلفة بالشدّة والضعف والكمال والنقص. ثمّ أخذ في فصل كيفيّة دخول الشرّ في القضاء الإلهي والإشارة إلى نظام العالم ، وقال فيه :

«إنّ الإرادات حادثة ، وكلّ حادث فله أسباب غير متناهيّة ، كما عرفته. فيكون أيضا تعلّقها بالحركة التي يصحّ فيها وجود غير المتناهي. وخصوصا بالحركة المتصلة السرمديّة التي هي حركة الفلك ، وأنّ الحركة صادرة عن الأوّل ، فيجب أن تكون إرادتنا أيضا بهذا متعلقة بواجب الوجود بذاته وسببها هو» (ص ٦٥٧).

ثمّ قال : «وأمّا وجود أصناف الشرّ في هذا العالم وكيفيّة دخوله في القضاء الإلهيّ فعلى ما أقوله ، معلوم أنّه ليس للماهيّات الممكنة في ذواتها وفي كونها ممكنة سبب ؛ ولا في حاجتها إلى علّة لوجودها ، سبب ، ولا لكون المتضادين متمانعين في الوجود علّة ، ولا لكون كلّ كائن فاسد علّة ، ولا لقصور الممكن عن الوجود الواجب الوجود بذاته ونقصانه عن رتبته علّة ، ولا

٢١٨

لكون النار محرقة علّة ، ولا لكون المحترق في قبوله الإحراق علّة. إذ كلّ ذلك من مقوّمات الماهيّات وطبائع الأركان أو من لوازمها.

ولهذا نظائر ، مثل كون غايات بعض الموجودات مضرّة ببعض الموجودات أو مفسدة له ، كما أنّ غاية قوّة الغضب مضرّة بالعقل وإن كان خيرا بحسب القوّة الغضبيّة.

وقد عرفت في ما تقدّم الضرورات التي تلزم الغايات ، وكلّ ما وجوده على كماله الأقصى ، وليس فيه ما بالقوّة ، فلا يلحقه شرّ. فإنّ الشرّ هو عدم وجود أو عدم كمال وجود ، وكلّ ذلك حيث يكون ما بالقوّة. والنقصان عن رتبة الأوّل في الماهيّات متفاوت ، فإنّ نقصان الأرض عن رتبته أكثر من نقصان الشمس عن رتبته. وكلّ ذلك لاختلاف الماهيّات في ذواتها. فلو كان النقصان في جميع الماهيّات متشابها لكانت الماهيّات واحدة. وكما أنّ ماهيّات الأنواع متفاوتة في ذلك فكذلك ماهيّات الأشخاص التي تحت الأنواع».

هذا ما قاله بعبارته. ثمّ ذكر : أنّ النقصان قد يكون من اقتضاء المعدّات المستتبعة لنقصان الاستعدادات العارضة للموادّ ، وأنّه قد أعطى كلّ ما استحقّه من الصورة والكمال ، وأنّ بعض الموادّ أنقص من غيرها بسبب المعدّات التي هي غير متناهية. وبيّن أنّ ذلك يجب أن يكون بحركة دوريّة متصلة يكون التغيّر والتبدّل والفوات واللحوق ذاتيّا لها ، لئلّا يلزم الدور والتسلسل. وقال :

«وبالجملة ، فإنّه كان محالا أن يكون أمرا مبيّنا على الحركة ، ثمّ كان مقتضى جميع الحركات فيه واحدا ، بل يجب أن يكون مقتضى كلّ حركة غير مقتضى الأخرى. فإن كان مقتضى الأولى موافقا كان مقتضى الثانية غير موافق. فلهذا وجب أن تكون الأمور المنسوبة إلى الشرّ موجودة في هذا النظام وكلّه خير وحكمة ونظام ، وما كان في الحكمة أن لا يخلق هذا الخلق الذي يلزمه شرّ ، لما ذكرنا» (ص ٦٦١). انتهى ما رمنا نقله من ألفاظه.

ثمّ في الإلهيّات «التحصيل» استأنف القول فقال في فصل من المقالة الثانية : فى أنّه ليس للحركة والزّمان شيء مقدّم عليهما إلّا ذات البارى جلّ جلاله :

٢١٩

«وسنبيّن ، في ما بعد ، أنّ إمكان الوجود يجب أن يكون في موضوع ، وهناك يتبيّن أن كلّ حادث فإنّه يسبقه مادّة والشيء الذي فيه وجود الحركة هو الذي من شأنه أن يتحرّك. فظاهر من هذا أنّه إذا كان ذلك الشيء موجودا ولا يتحرّك. فلأنّ العلّة المحركة أو الأحوال والشرائط التي لأجلها يصدر التحريك من المحرّك غير موجودة. فإذا تحرّك فلحدوث علّة محرّكة.

والكلام في حدوث العلّة كالكلام في حدوث الحركة. فإنّه إمّا أن يكون لحدوثها أسباب ذوات ترتيب بالطبع لا نهاية لها موجودة معا في آن واحد ـ وسنبيّن استحالة هذا بعد ـ أو لأسباب لا نهاية لها موجودة على التتالى حتّى يكون وجود كلّ علّة وعدمها دفعة، أو يبقى واحدة منها زمانا ؛ فإن بقى كلّ واحدة منها زمانا كانت حركة بعد حركة من غير انقطاع وكانت الحركة سرمديّة ، وإن بقى كلّ واحدة منها آنا ، لزم تتالى الآنات بلا توسّط زمان. وسنذكر استحالة هذا.

فبيّن أنّه إذا حدث في جسم أمر لم يكن ، فقد حصل لعلّة ، أو لوجود نسبة بعد عدمها إمّا بحركة توجب قربا أو بعدا أو حدوث قوّة محرّكة لم تكن أو إرادة حادثة. ولحدوث جميع هذه الأشياء أسباب تتصل لا يمكن إلّا بحركة متصلة» (ص ٤٤٤).

ثمّ قال : «فلو لا أنّ الحركة لا أوّل لها ، لما صحّ وجود الحوادث ، ولا عدم الأمور التي يصحّ عليها العدم. فإنّ العدم يكون بسبب عدم علّة الوجود ، ولا محالة يعدم الشيء بسبب يحدث ، وعلّة الحدوث ، كما عرفت ، الحركة. ولو لا أنّ في الأسباب ما يعدم بذاته لما صحّ العدم. وذلك هو الحركة التي لذاتها وحقيقتها تفوت وتلحق. ومثل هذه الأسباب ـ كما ستعرفه ـ تكون أسبابا بالعرض ، أعنى أنّها لا تفيد الوجود ، بل تفيد هذه الصفة ، أعنى الحدوث للوجود.

ولنجمل هذا الكلام فنقول : إنّ الفاعل إمّا أن يريد حدوث ما يحدث عنه بلا شرط ، فيجب ان يكون موجودا معه ؛ وإمّا أن يريد تعلّق وجوده بشرط. والكلام في ذلك الشرط كالكلام في الأوّل فتسلسل إلى غير نهاية. وهذه الشرائط إمّا أن تكون ثابتة فيجب وجود أسباب لا نهاية لها معا في آن واحد ، وهذا محال. وإمّا

٢٢٠