مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

يزعمون ذلك ـ فإنّما حسبانه هذا وتقوّله عليهم من الجهل المضاعف.

وصراح قول رؤسائهم : «أنّ الفاسدات إن عقلت بالماهيّة المجرّدة وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص ، لم تعقل بما هي فاسدة». وهو فاسد ، إذ [هي] مجعولة بما هي فاسدة ، وجاعلها الحقّ قد رتّب الأسباب ، أواخرها فانتهت إلى الجزئيّات الشّخصيّة على سبيل الايجاب والتّرتيب الّذي عنده شخصا فشخصا بغير نهاية. فكلّ كلىّ وجزئيّ مرسل وشخصىّ ظاهر عن ظاهريّته الأولى ، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخيص إدراكا زمانيّا متغيّرا لم تكن معقولة بل محسوسة [أو متخيّلة].

ونحن قد بيّنّا في كتب أخرى أنّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خياليّة ، فإنّما تدرك بما هي محسوسة أو متخيّلة إدراكا حسيّا أو تخيّليّا بآلة متجرّئة. وكما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للقيّوم الواجب بالذّات نقص له ، فكذلك إثبات كثير من التعقّلات.

فالقيّوم بالذّات إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّىّ ، أى : عقلا تامّا غير زمانىّ لا يعتريه التغيّر ، ومع ذلك فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّماوات ولا في الأرض. وهذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة. فأمّا كيفيّة ذلك ، فتحقيقها على ذمّة بيان وفيّ من قبلنا يضمن ثلوج النفس لكلّ ذى تأمّل غائر وتعقّب واسع.

تشريق

(٧٠ ـ العلّة الأولى للتكثر هي الموجود القارّ القابل للوضع)

من المستبين : أنّ الكثرة المتّفقة الحقيقة ، إمّا هى بآحاد غير قارّة التّقرّر أو بآحاد قارّة. والأولى : لا يمكن [١٠١ ب] حصولها إلّا منسوبة الوجود إلى الزمان بالفيئيّة أو بالمعيّة المنتهية إليها ، فتكون هي ، لا محالة ، متزمّنات متخصّصة بأزمنة متعيّنة. فالعلّة الأولى للتغيّر في الوجود على هذا السّبيل هي الموجود الغير القارّ بالذّات الّذي بذاته يتصرّم ويتجدّد على الاتصال وهو الزّمان ، ويتغيّر بحسبه ما هو فيه أو معه تغيّرا على تلك الشّاكلة. والثّانية غير متصوّرة الحصول إلّا أن يكون وجودها في المكان أو مع المكان معيّة منتهية إلى الفيئيّة ، فتكون هي ، لا محالة ، متأيّنات متخصّصة بأيون متميّزة وأمكنة متعيّنة.

فالعلّة الأولى للتكثّر في الوجود على هذا السّبيل هي الموجود القارّ الّذي لذاته

١٨١

يقبل الوضع ، أى : يكون بحيث يصحّ أن يشار إليه إشارة حسّيّة فيلزمه التجزّي بأجزاء مختلفة الأوضاع بذلك المعنى وبالمعنى الّذي يتخصّص بعض الأجزاء بنسبة إلى البعض ، على أن هو في جهة من الجهات وسمت من السّموت منه دون جهته وسمته ، وعلى بعد من الأبعاد غير بعده. وكلّ موجود تلك شاكلته فهو هيولانىّ الوجود لا محالة.

والطّبائع المرسلة المعقولة ليست بماديّة التّقرّر وإذا تحصّلت في شخصيّات عديدة كانت العلل الأول لشخصيّاتها وتعيّن أشخاصها هي إمّا الأزمنة كما للحركات ، أو الأمكنة كما للأجسام ، أو كلاهما مع سائر العوارض المادّيّة المسمّاة مشخّصات ، كما للأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع ما من الأنواع (مستفاد من شرح مسألة العلم ، ص ٣٨).

تشريق

(٧١ ـ الزمان والدهر والسّرمد)

ألم يلح لك في ما أوتيت من الحكمة : أنّه [١٠٢ ظ] حيث لا حجم ولا تكمّم ، أى : لا انبساط في الجهات لا امتداد قارّا ، فلا علق بالمكان أصلا ؛ وحيث لا فوت ولحوق ـ أى : لا حركة ـ لا امتداد متقضّيا ومتجدّدا ، فلا علق بالزمان أصلا. فإنّما في المكان الأجسام بما هي متكممات وذوات حجوم ، وفي الزمان بما هي متغيرات واولات حركات. فالجسم في المكان بالذّات ومقارناته فيه بالعرض. والحركة في الزمان بالذّات وما في الحركة فيه بالعرض. فأمّا مطلق الوجود والعدم بما هما وجود وعدم فبمعزل عن ذلك كلّه ، فضلا عن الوجودات الّتي هي للمفارقات الثّابتة. فالعقل مستنفر عن استنادها إلى شيء من ذلك.

وليس بمستسوغ أن يقال : «الإنسان الصّراح من حيث طبيعته المرسلة أين يوجد أو متى يوجد؟ والخمسة نصف العشرة في أيّة بلدة يكون أو في أيّ زمان يكون؟» بلى إذا تعيّن شخص ، كهذا الإنسان وهذه الخمسة والعشرة ، ساغ العلق بأين ومتى من حيث الشّخصيّة. فالأشخاص المتفقة الحقيقة زمانيّة ومكانيّة ، وبالجملة ، متعلّقة الوجود بالمادّة بتّة. وربّما كانت الأشخاص المختلفة الحقائق أيضا متعلّقة بالمكان والزمان ، إذا كانت هيولانيّة الذّوات ومعروضة الحركات ، كالأجرام العلويّة وكلّيّات الكرات السّلفيّة الأسطقسيّة.

١٨٢

وأمّا الثّابتات الصّرفة المفارقة الذّوات من كلّ جهة ، فلا يعقل كونها مكانيّة أو زمانيّة أو متمّتية بجهة من الجهات أصلا. ثمّ من الموجودات ما ينشأ منه الزمان ويقوم [١٠٢ ب] وجوده فيه ، كالفلك الأقصى وحركته ، فكيف يوجد في الزمان ، وهو متقدّم الوجود عليه. وإذن فما ظنّك بالثابتات الصريحة المحضة ، أعني الجواهر العقليّة الّتي هي أقدم في التّقرّر والوجود من الفلك أقدميّة بالذّات. ثمّ بالموجود الحقّ الّذي هو مبدع الجميع وجاعل الكلّ على الإطلاق.

فإذن ، الثّابتات الصّرفة ليست توجد في الزمان ، كما الزمانيّات ، بل إنّما وجودها مع الزّمان الممتدّ من آزاله إلى آباده ، ومع أيّ جزء مفروض فرض فيه معيّة ، على خلاف شاكلة المعيّة الزّمانيّة ، هذه المعيّة لها بإزاء تلك الفيئيّة للزّمانيّات. فتلك الفيئيّة متى الزّمانيّات. وهذه المعيّة للثابتات بإزاء المتى. فهذا نحو من الكون أرفع من الكون الزّمانىّ ، وهو المسمّى بالدّهر ، وهو وعاء الزّمان ، بل وعاء الوجود الصريح المرسل على الإطلاق ؛ وليس يتصوّر فيه إمداد ينطبق عليه الممتدّات والمستمرّات ، ولا طرف امتداد ينطبق عليه الدّفعيّات الغير المستمرّة ، لا بحسب الأعيان ولا بحسب التوهّم.

وبالجملة ، «الزمان» ظرف التغيّرات والحركات ، وما فيه حدود فوت الفائتات ولحوق اللّاحقات ، وما به القبليّات المترتّبة المتعاقبة ، وما به المعيّات الزمانيّة الدفعيّة والاستمراريّة. و «الدهر» وعاء التّقرّر السّاذج والثّبات الباتّ ، وما به القبليّة الواحدة الّتي هي للجاعل الفاطر السّرمديّ على قاطبة الحوادث ، وهي زمر مفطوراته ومجعولاته بحسب وجوده الحقّ ، وعدمها فوجودها الصّريحين ، أى : اللّذين لم يشابا بامتداد ومقابله ، وما به [١٠٣ ظ] المعيّات الغير الزّمانيّة والغير الآنيّة ، وما لا يعقل فيه حدّا فوت ولحوق ، بل يقع فيه وجود الحادث في حيّز عدمه الصّريح بعينه على الاستبدال وهناك كون متقدّس على نحو آخر أعلى من أن يوصف ، وأقدس من أن يقاس ، محيط بالزّمان والدهر إحاطة غير متناهيّة الشدّة والقوّة ولا متصوّرة الكنه ، وهو المصطلح على التّعبير عنه ب «السّرمد».

تشريق

(٧٢ ـ نسبة الأمكنة والأزمنة إلى القيّوم واحدة)

١٨٣

فإذ قد لاح لك : أنّ الأيس ، وكذلك اللّيس يكون في زمان أو في جميع الأزمنة ، بما هو مستمرّ استمرارا زمانيّا ، صالحا لأن ينحلّ في الوهم إلى أبعاض مترتّبة وتنتزع منه حدود غير متشافعة ، وفي آن بما هو منبتّ ليس يفضل شيء من فعليّته عن الدفعة اللّامنقسمة المطبقة على طرف الامتداد ، وفي حاقّ الأعيان صريحا ، لا في زمان ولا في آن ولا في جملة الأزمنة والآنات ، بما هو أيس أو ليس صراح غير مشوب بالغواشى الهيولانيّة والعوارض المادّيّة.

فالأيس العينىّ أعمّ من الوجود في الآن ومن الوجود في الزمان ، إمّا على سبيل التطابق أو لا على سبيله ، ومن الوجود الصّراح في حاقّ الأعيان لا في عالمى الزمان والمكان.

والثّابتات العقليّة ، إذ هي فوق أرض الهيولى ووراء كورة الأبعاد القارّة والامتدادات الغير القارّة المتّصلة التقضّى والتجدّد ، فهى ، لا محالة ، ليست بواقعة في ذينك العالمين ، ولا بمنفصلة عنهما انفصالا متقدّرا [١٠٣ ب] زمانيّا أو مكانيّا ؛ بل هي سواسية النّسبة إلى جملة الأزمنة والأمكنة وإلى زمر المتزمّنات والمتمكّنات نسبة غير متقدّرة على سنّة متّفقة وسبيل واحد.

فإذن ، فادر أنّ إدراك المتغيّرات بحسب حال مدركها على ضربين : زمانىّ متغيّر وعقلىّ ثابت.

«فإذا كان المدرك متعلّق الهويّة بعالمى الزمان والمكان وإنّما تصحّ الإدراكات له بآلات هيولانيّة ، كالحواسّ الجسدانيّة الظاهرة والباطنة ، فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ، ويحكم بوجودها ، ويفوته ما وجوده في زمان غير زمانه فيحكم بعدمه ويقول : إنّه متى كان أو سيكون وليس الآن ، وكذلك يدرك المتكثّرات المكانيّة الّتي له أن يشير إليها ، فيحكم أنّها في أيّة جهة منه وعلى أيّة مسافة وأيّها دان منه وأيّها ناء عنه.

وإذا كان مرتفع الذّات عن آفاق الزمان والمكان ، فإنّه يكون تامّ الإدراك ، محيطا بالكلّ على نسبة متّفقة وسنّة غير متبدّلة ، عالما بأنّ أىّ حادث متزمّن هو موجود في أيّ زمان من الأزمنة ومتخصّص الوجود به ، وكم من المدّة بينه وبين الّذي يتقدّمه

١٨٤

في أفق التّقضّى والتجدّد أو يتأخّر عنه ؛ ولا يحكم على شيء من ذلك بالعدم ، إذ ليس يصحّ العدم إلّا إذا رفعت جملة الوجودات ؛ بل بدل ما يحكم المدرك الزمانىّ حين حكمه أنّ الماضى ليس موجودا في الحال ، هو أبدا يحكم على كلّ متزمّن بعينه بأنّه موجود في زمانه بعينه ، وليس بحاصل التّقرّر في غير ذلك [١٠٤ ظ] الزمان من الأزمنة الّتي قبله أو بعده. وكذلك يكون عالما بكلّ شخص مكانىّ بعينه ، وأنّه حاصل الوجود في أىّ جزء بعينه من عالم المكان وأيّة نسبة مسافيّة بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته وكم الأبعاد بينها جميعا على الوجه الواقع في نظام الوجود.

فإذن ، هو ليس يحكم على شيء أصلا بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك بالقياس إليه أو معدوم ، والأشياء ليست تنقسم عنده إلى حاضر وغائب ، لأنّه ليس بزمانىّ ولا مكانىّ ، بل نسبة الأزمنة والأمكنة جميعها إليه واحدة. وإنّما يتخصّص بهذا الآن أو بهذا المكان وبالحضور والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم فوقىّ أو تحتيّ أو قدامي أو خلفىّ من يقع وجوده في الزمان وفي زمان بعينه ، أو في المكان وفي مكان بعينه» (نصير الدين الطّوسى ، شرح مسألة العلم ، ص ٣٩ ، ٤٠).

تأنيس تمثيلىّ

(٧٣ ـ نسبة الأشياء والموجودات إلى البارى تعالى)

إنّ من في عريش وهو ناظر إلى الخارج من ثقبة ضيّقة إنّما يبصر العساكر المجتازة واحدا فواحدا ، أو المقادير الطويلة العظيمة شيئا فشيئا ، وهى محتشدة في الوجود خارج العريش. والذي هو بارز فاتح عينيه يبصرها محتشدة معا على ما هي عليه مرّة واحدة.

وإذا أمررت سلكا مختلفا ألوان أبعاضه على بعض ضيّقات الحدقة ، كذرّة أو غيرها ، كانت السواسية الحضور لديك ، لسعة إحاطتك بتلك الجملة متعاقبة في الظهور عليها لضيق حدقتها ، والإنسان الحسّىّ الّذي هو صنم للإنسان العقلىّ مواضع أعضائه مختلفة ، والإنسان العقلىّ جملة [١٠٤ ب] أعضائه روحانيّة لا تعقل لها مواضع مختلفة.

فاعتبر من ذلك كلّه واخبر اختلاف نسبة الامتداد الزمانىّ جملة بقاطبة مقارناته من الحوادث المرتبطة بالأزمنة والآنات إلى النظر الوهمىّ للقوى المدركة الزمانيّة وإلى البصر العقلىّ البارز عن عريش التغيّر إلى سماء الثّبات تعاقبا واجتماعا. فالسالك

١٨٥

طريقا ما أرضيّا إذا صار إلى آخره فارق أوّله. وأمّا السّالك في أرض الحياة ، فإنّه يسلك إلى الأقصى من غير مهاجرة من المبدأ الأوّل ، ويكون في الأولى وفي القصيا وفي ما بينهما على حالة واحدة.

تشريق

(٧٤ ـ التّشخّص مطلق على معنيين)

ألم يبلغك أنّ لفظة التّشخّص يقع في الإطلاق الصّناعىّ على معنيين : أحدهما تميّز الشّيء عن سائر مشاركاته في الوجود ، والآخر امتناع الشّركة الحمليّة فيه بحسب نفسه. فالأوّل كثيرا ما يفيده تضامّ مرسلات عدّة ، ومنها الأعراض المادّيّة المسمّاة مشخّصات. وذاك الّذي يرام في قولهم : «الأشخاص المتّفقة الماهيّة» ، يتشخّص بالوضع والوضع يتشخّص بذاته وبالزمان ، والزمان بالوضع ، وكذلك المكان. وأمّا الثّاني ، فليس يسوغ أن يتصحّح من ذلك. وجملة الطبائع المرسلة المتضامّة متناهية ومتمادية إلى لا نهاية في حكم طبيعة واحدة في عدم الصّلوح لإفادته. فإذن ليس شيء من مقولات الجائزات ما بحسبه الشّخصيّة المقابلة لصحّة الشّركة ، ولو كان كلّ شيء ذا ماهيّة مرسلة لم تكن في التّقرّر ولا في التّصوّر هويّة شخصيّة [١٠٥].

تغريب وتشريق

(٧٥ ـ الجاعل التامّ يفعل تشخّص الهويّة بذاته)

لا تستسوغنّ ما قد يخمّنّ بالظنّ أنّ مبدأ الشخصيّة ، الّتي هي امتناع الشركة الحمليّة في كلّ هويّة متشخّصة جائز الذّات من أشخاص الطّبائع المرسلة ، جائز ما متشخّص بذاته ، غير مندرج بجوهر حقيقته تحت طبيعة ما أصلا. وإن ساغ أن يخرج من جملة المقولات ما ليس له ماهيّة محصّلة متأحّدة تأحّدا نوعيّا بعد أحديّة جنسيّة ، فإنّه إنّما لن يستطيع ذاكر أن يذكر شيئا لا يقع بجوهر ذاته تحت واحدة منها إذا كان قد تحصّلت له ماهيّة متأصّلة ذات تأحّد نوعىّ من بعد أحديّة جنسيّة.

أليس من المتبرهنات ، بل من البيّنات ، بصريح الغريزة القويّة الحدس ، أنّ كلّ جائز الذّات فإنّ وجوده وراء جوهر حقيقته ، والعقل ليس يستصحّ أن يضع للتشخّص مرتبة

١٨٦

قبل مرتبة الوجود ، فليس يصحّ أن يتشخّص بنفس ذاته إلّا الذي تكون إنيّته بعينها ماهيّته. ثمّ لا يمترى في أنّ المتشخّص بحقيقته يجب أن يكون بسيط الحقيقة بساطة حقّة على الإطلاق. فيلزم أن يكون في الوجود بسائط حقّة بعدد أشخاص الموجودات.

ولا تستصحّنّ أيضا ما قد يخرص بالوهم أنّ الشخصيّة والإرسال والجزئيّة والكليّة من عوارض الإدراك ، لا من أوصاف المدرك ، وليس يتفاوت الشخصىّ والمرسل والجزئيّ والكلىّ بأمر ما في المدرك ، بل إنّما باختلاف نحو الإدراك. فمناط الشّخصيّة والجزئيّة هو الإدراك الإحساسىّ أو إدراك المجرّد نفسه إدراكا شهوديّا. ومناط الإرسال والكليّة الإدراكات [١٠٥ ب] التعقّليّة. ولا يزيد الشخص ، كزيد ، على الطبيعة النّوعيّة ، كالإنسان ، بشيء يدخل في الحقيقة الشّخصيّة ، ولا يدخل في النّوع المرسل. فلذلك ما إذا سئل عن الشخص ب «ما هو» لا يقع في الجواب إلّا النّوع.

أليس من البتّيّات الباتّة : أنّ كلّ شخص من أشخاص الطّبيعة ، فإنّ له في حدّ هويّته وبحسب نفسه ، مع عزل النظر عن وقوعه في التصوّر ، صلوح أنّ يحلّله العقل إلى هويّة شخصيّة مستحيلة الحمل على هويّات متعدّدة ، وطبيعة مرسلة هي تلك الطّبيعة الجائزة الانسلاخ الإرسالىّ عن تلك الشّخصيّة والاشتراك الحملىّ بين شخصيّات عدّة. فالهويّة الشخصيّة منحازة في اللّحاظ التحليلىّ عن الطبيعة النّوعيّة ومتأخّرة عنها تأخّرا بالذّات ، أى: تأخّرا بالماهيّة وتأخّرا بالطبع ، ولها مطلب «من» ، كما للحقيقة النّوعيّة مطلب «ما». ثمّ إنّ الشخص ، بما له الهويّة الشّخصيّة الممتنع قولها على الكثرة ، ربّما يدرك كذلك إدراكا تعقّليّا من جهة العلم الإحاطىّ بجملة الأسباب المتأدّية إلى شخصيّته. فكيف يكون التعقّل هو مناط الإرسال والكليّة.

فإذا نفضت قريحتك من الظنون الكاذبة نفضا ، ورفضت سبيل التّخمينات المكذوبة رفضا ، فاعلمن أنّ متشخّصيّة الهويّة الشّخصيّة الجائزة هي نحو وجودها الّذي يخصّها على الانفراد منفصلة منحازة عن سائر الهويّات الشّخصيّة الّتي هي مشاركاتها في الحقيقة والوجود.

لست أعني [١٠٦ ظ] بذلك : أنّ تشخّصها هو الوجود على الحمل الأوّلىّ أو على الحمل الشّائع الصّناعىّ ، ولا أنّ مبدأ شخصيّتها هو وجودها الخاصّ ، أى : حصّتها من

١٨٧

الوجود المرسل المنتزع منها. فالوجود مباين التشخّص بالمفهوم. وإنّما تحصّصه بالهويّة المتشخّصة بعد استتمام شخصيّتها ، كما تشخّص الأعراض القائمة الوجود فيها بعد ذلك. بل إنّما أعني : أنّ استنادها إلى الموجود الحقّ المتشخّص بذاته ممتازة منحازة عن سائر المستندات إليه من الهويّات ، هو ما به متشخّصيّتها ، أى : امتناع قولها على الكثرة ، والعوارض المشخّصة بالتّسمية الاصطلاحيّة لواحق النّوع ومفيدة التميّز عن سائر الهويّات ولوازم الشّخصيّة المقابلة لإمكان الشركة وأماراتها. فإذن ، جاعل الذّات والوجود هو فاعل التشخّص.

فاستذكر ما علّمناك في مسلف القول ، من الفرق بين المنتزع منه ومطابق الانتزاع ، وتعرّف أنّ سبيل الوجود والتشخّص في ذلك واحد. فكما الوجود ينتزع من الجائزات على أن هي بذواتها ليست مطابق الانتزاع ، بل إنّما مطابقه ومصحّحه استنادها إلى الموجود الحقّ بنفس ذاته ، فكذلك التشخّص ينتزع من الأشخاص الجائزة على أن هي بهويّاتها ليست مطابق الانتزاع ، بل إنّما مطابقه ومبدأ تصحّحه استنادها إلى المتشخّص الحقّ بنفس ذاته.

فكما تعرّفت : أنّ الجاعل الحقّ ، سبحانه ، موجد الموجودات ، ووجودها أيضا الوجود الحقيقىّ ، لا الانتزاعىّ ، فتعرّف أنّه ، عزّ شأنه ، مشخّص المشخّصات ، وتشخّصها أيضا التشخّص الحقيقيّ الّذي هو مبدأ امتناع الشركة ، لا الانتزاعيّ [١٠٦ ب]. فالاستناد إليه ، على سبيل الانفراد والانفراز عن سائر الشخصيّات بتضامّ عوارض مميّزة تلحق الطبيعة المرسلة ، مناط المتشخّصيّة ، كما للهويّات الشّخصيّة وعلى سبيل المخلوطيّة ، والاتّحاد بالهويّة المتشخّصة مناط المحفوفيّة بالشخص ، كما للطبائع المرسلة.

فلذلك ليس تعدّد الأشخاص تعدّد الطبيعة المرسلة بالذّات ، بل إنّما بالعرض ، إذ العقل في اللحاظ التحليلىّ يجد الوجود في الأعيان إنّما بالذّات للهويّات بما هي هويّات متعدّدة وللطبيعة المرسلة بما هى هى ، لا بما هي واحدة أو متعدّدة. وقولنا في أضعاف الصّناعة : «الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد» ، إنّما نروم به المعنى الأعمّ من المشخّصيّة ومن المحفوفيّة بالتشخّص.

واعلمن : أنّ الهويّة إذا كان نوعها فى شخصها ، فالجاعل التامّ يفعل تشخّصها

١٨٨

بذاته ويفيض شخصيّتها من حيث هي هي بالذّات. وإذا كانت طبيعتها النّوعيّة منتشرة في أشخاصها عديدة ، كان الجاعل الحقّ إنّما يفعلها بشخصيّتها من حيث إنّه جزء النظام التّامّ الواحد بالشخص على الانفصال عن سائر الأجزاء المتمايزة المتفارزة فى الذّات والوجود.

وإن سألت الصّواب القراح ، فالجاعل الحقّ بذاته يفعل شخصيّة النظام الجملىّ بالذّات وبالقصد الأوّل ، وسائر الشخصيّات من حيث هي أجزاء نظام الغير الشخصىّ الواحد بالشخص منحازا بعضها عن بعض. فالتّشخّص مطلقا من حيث إنّ نوع النظام لا يصحّ إلّا في شخصه الّذي يفعله الجاعل الحقّ بمحض جوده الّذي هو نفس ذاته.

فهذا مبلغ كنه المعرفة في مسألة التشخّص [١٠٧ ظ] ، وهو ما تواطأت عليه كرام الفلاسفة الأوّلون ورؤساء الصناعة الأقدمون من المشّائيّة والرّواقيّة. ولكنّا نحن قد أسبغنا رمّه وأبلغنا ثمّة ، فالفلسفة المنسوخة اليونانيّة والحكمة الناسخة اليمانيّة في رصد هذه الحقيقة لبمرصاد واحد ، لكنّ الحكمة اليمانيّة على غضاضة بصيرة ونضارة غضيضة ، وإنّ أمّة الظنّ والتخمين عن سبيل الملكوت لفى ضلال بعيد وجهالة عريضة.

تشريق

(٧٦ ـ العلم بالجسمانى إحساسى او تعقلى)

فإذن ، لا يختبئنّ عن خبرك : أنّ العلم بالشخصىّ الجسمانيّ المدرك بشخصيّته وجسميّته يتصوّر على سبيلين : أحدهما : أن يكون إشاريّا إحساسيّا انفعاليّا ، مستفادا عن نفس وجوده المتخصّص بوضعه وأينه ومتاه ، وعن خصوصيّة وضعه ومكانه وزمانه. وهو الإدراك المتغيّر بتغيّر المعلوم بتّة. ويسمّى في الاصطلاح الصّناعىّ بالعلم الزمانىّ وبالعلم بالجزئىّ على الوجه الجزئيّ. وثانيهما : أن يكون علما تعقّليّا فعليّا من جهة العلم بجملة علله والإحاطة بجميع أسبابه المتسلسلة على الترتيب والتدرّج منتهية إليه. وهذا هو المسمّى في الصّناعة بالعقل التامّ الغير الزمانىّ وبالعلم الجزئيّ على الوجه الكلّىّ ، لأنّه كتعقّل الطّبائع المرسلة والكليّات في الثّبات على حالة واحدة.

فهو ليس يتبدّل ولا يتغيّر بتغيّر المعلوم في نفسه بحسب افق التقضّى والتجدّد ، بل المعلوم وإن كان متغيّرا في الزمان فإنّه بشخصيّه يحضر مع وقته ومكانه

١٨٩

الشّخصيّين ، المتخصّص وجوده [١٠٧ ب] بهما عند عاقله المحيط به وبأسبابه أبدا ، أبديّة دهريّة غير زمانيّة. فالمعلوم واحد في الضّربين. وهو الهويّة بما هي شخصيّة ممتنعة الشركة، وإنّما المختلف نحو العلم ، إذ ما هو المحسوس في الضّرب الزمانىّ بالإدراك الإحساسىّ هو بعينه معقول في الضّرب التامّ بالعلم التعقّلىّ الغير المتغيّر.

فمن المستبين : أنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة موجب العلم بالمعلول ، لا موجب الاحساس به أو تخيّله ، بل إنّه مستوجب إحالة الإحساس والتخيّل. أليس هو موجب العلم التامّ به من تلقاء إيجاب الجاعل إياه وتأدية الأسباب إليه لا من جنبة أعضاء أدويّة وآلات متجزّية. والإدراك الإحساسىّ أو التخيّلىّ ليس يمكن إلّا بالقوى الهيولانيّة ، كالحواسّ الجسمانيّة.

فإذن ، قد اقترّ أنّ مناط الانكشاف في العقل التامّ من تلقاء عقل الأسباب ظهور تأدية الأسباب وظاهريّة الجاعل التامّ من حيث كنه ذاته. ولا حظّ لوجود المعلوم من المدخليّة في تصحيح أصل الانكشاف أو أشديّته واشتداده هناك أصلا. إنّما ذلك في الإدراكات الانفعاليّة. فالشخص الهيولانىّ معقول بشخصيّه في هذا العقل ، قبل وجوده وحين وجوده على سبيل واحد ، وليس وجوده بالفعل يزيده بسطة في الظّهور والانكشاف ، بل إنّما يوجد حين ما يوجد منكشفا غير محتجب.

تقديس

(٧٧ ـ القيّوم الواجب أقدس من أن يكون زمانيّا أو مكانيّا)

ألم ينصرح لك : تبيان أنّ القيّوم الواجب (الحقّ) على أعلى المراتب في سنّة التقدّس والمكان والزمان من عوارض المادّة الهيولانيّة؟ فهو أقدس من أن يكون مكانيّا أو زمانيّا ، وأيضا هو خالق الزمان والمكان ومبدع [١٠٨ ظ] عللهما ، فكيف يكون فيهما؟

وأنّه كما ليس الوجود إلّا الموجوديّة المصدريّة ، لا حيثيّة ما تقييديّة وراء الماهيّة هي ما به الموجوديّة ؛ وإنّما صحّة انتزاعه من الموجود الحقّ بنفس ذاته ، لا بحيثيّة ما تقييديّة ولا تعليليّة ، ومن الموجودات الجوازيّة بحيثية هي استنادها إلى الموجود الحقّ ؛ فكذلك التّشخّص ليس إلّا المشخّصيّة المصدريّة ، لا حيثية ما تقييديّة ، تنضمّ إلى الماهيّة ، فتكون ما به المتشخصية ، بل إنّما صحّة انتزاعه من المتشخّص الحقّ

١٩٠

بنفس ذاته ، لا بحيثيّة ما تقييديّة ولا تعليليّة ، ومن كلّ من الأشخاص الجوازيّة بحيثيّة ما تعليليّة هي استنادها إلى المشخّص الحقّ بنفس ذاته ، استنادا منفعلا ؛

وأنّ الجاعل الحقّ يعقل ذاته عقلا تامّا ، ويعقل أنّه جاعل كلّ ماهيّة وهويّة ؛ فيعقل أوائل المتقرّرات عنه وما يتولّد عنها. ولا شيء من الأشياء إلّا وقد صار واجب التّقرّر والوجود من تلقائه ، يتأدّى إليه بعينه قدره الّذي هو تفصيل قضائه الأوّل تأدّيا واجبا ؛ وأنّه جلّ قدسه ، يمتنع أن يستفيد أو يزداد من وجود الأشياء علما أو يكون له حالة ما يتجمّل به ذاته أخيرا ، إذ ذلك من خواصّ الانفعال ، وهو من عوارض القوّة الانفعاليّة الّتي هي شأن جوهر الهيولى.

فإذن ، قد آن لك أن تستيقن أن العليم الحقّ ، سبحانه ، ليس يسوغ أن يدرك المتقرّرات الزمانيّة والمكانيّة إدراكا حسيّا أو خياليّا ، ويشير إليها إشارة حسّية ، وهي امتداد وضعىّ من ذى وضع إلى ذى وضع آخر كائن منه في جهة معيّنة [١٠٨ ب] ، أو يعقل الأشياء شيئا فشيئا على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول ، بل إنّه يجب أن يعقل قاطبة الماهيّات والهويّات العقليّة والحسيّة معا ، عقلا تامّا وفوق التمام ؛ ويحيط بجملة امتداد الزمان من أزله إلى أبده ، بما فيه من الأجزاء المفترضة وجميع المتزمّنات المقارنة لزمان زمان ، وجملة النسب الواقعة بينها ومقادير قبليّاتها وبعديّاتها على ما هي عليه في الوجود ؛ وكذلك بجملة الأحياز والأمكنة السّارية في الجهات مع المتمكّنات الّتي تحويها والأوضاع والجهات والنسب الّتي هي عليها وما يتألف منها إلى لا نهاية ، وكيفيّة الإشارات الحسيّة من كلّ إلى غيره ، ومقادير الامتدادات بينها على ما عليه الوجود.

فالأشياء تامة الحضور عنده أبدا ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، والماضى هناك قائم والمستقبل حاضر. وبالجملة يحضر عنده عرش الزمانيّات وفلك المتغيّرات وعنصر التقضّى والتجدّد وسنخ الامتداد بما يحتفّ به من الضرّات والذرّات. وهو يعقل الأشياء الغير المتناهية على مراتبها واختلاف شئونها ، من الأبديّة والبائديّة ، والقارّيّة واللّاقارّيّة ؛ فهى كلّها حاصلة بالفعل عنده. والموجود المتقضّى شيئا فشيئا ، والمعدومات في الماضى ، والمعدومات في المستقبل كلّها بالإضافة إليه موجودة

١٩١

بالفعل ؛ لأنّه جاعل ماهيّاتها وإنّيّاتها ، ومبدأ الأسباب الّتي بمصادماتها ومصاكّاتها ومصادفاتها ومطابقاتها واجبة الانتهاء إليها بتّة.

فهو يعقل ذاته ولوازمه ولوازم لوازمه إلى أقصى التّقرّر ، دائما على سنّة ثابتة ، من غير أن يقتنص حين وجودها علما جديدا ، أو يستأنف معرفة طريّة. فهى فى ظهور وجودها له على حالة سواء في كلّ حال ، أعني [١٠٩ ظ] قبل حصولها بالفعل ومع الحصول وبعد الحصول.

ويجب أيضا أن يعلم الشّخصيّات المحسوسة الزمانيّة والمكانيّة على الوجوه الشّخصيّة الغير القابلة للاشتراك الحملىّ ، علما عقليّا هو أتمّ العلوم وفوق التمام ، فيعقل كلّا منها شخصيّا في وقته الشخصىّ ومكانه الشخصىّ أبدا بعلله وأسبابه المتأدّية إلى شخصيّته.

فنظام الوجود بجملة أجزائه وأحواله ، وإن لم يكن بحسب نفسه وفي حدّ طبيعته بحيث يأبى مطابقة صور عوالم غير هذا العالم ، هي أمثال هذا العالم ، إلّا أنّ صدوره عن جاعله التامّ المتشخّص بذاته وارتباطه بجنابه وترتّبه على نفس حقيقته الحقّة الشّخصيّة قد أحال تلك المطابقة وأوجب له امتناع الشركة.

فالجاعل الحقّ ، إذ يعلم صدور كلّ هويّة شخصيّة عن ذاته الأحديّة المشخّصة صدورا متميّزا على سبيل الانفراد ، وذلك مناط المتشخّصيّة ، فلا محالة يعلمها متشخّصة ممتنعة الشركة. فإذن ، إنّما الّذي ليس يليق بمجده هو نحو العلم الإحساسىّ أو التخيّلىّ ، لا العلم بالجزئيّات المحسوسة والمخيّلة مطلقا ـ أى : أىّ نحو كان من العلم ـ فإنّه يعلمها بهويّاتها المحسوسة والمخيّلة ، علما عقليّا هو أتمّ العلوم ، والزمان محسوس لنا من وجه ومعقول من وجه ، ومعقول له من كلّ وجه.

وكذلك ، فكلّ ما هو محسوس لأحدنا بحاسّة ما في وقت بخصوصه ، فإنّه بعينه معقول له ، سبحانه ، على أفضل الأنحاء دائما أبدا بجملة علله وأسبابه ، لا بآلة ، وما به الانكشاف لدينا وجود ذلك المحسوس بالفعل ، وعنده ، عزّ مجده ، نفس ذاته الأحديّة الحقّة.

وكما لا يسوغ أن يقال «إنّه ، تقدّست أسماؤه ، ذائق أو لامس ، مع علمه[١٠٩ ب]

١٩٢

بالمذوقات والمشمومات والملموسات ، لا محالة ، وليس يثلم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده» ، فكذلك لا يسوغ أن يقال : إنّه عالم بالهويّات الشّخصيّة الهيولانيّة علما جزئيّا زمانيّا متغيّرا مع علمه بها علما عقليّا تامّا ثابتا على أكرم الوجوه بتّة ، وليس يثلم ذلك في تقديسه ، بل إنّه يؤكّده.

ولو كنّا نحن نعرف حقيقة القيّوم الحقّ وما يوجبه ذاته بذاته من صدور اللوازم كلّها عنه ، لازما بعد لازم ، إلى أقصى النظام ، لكنّا أيضا نعلم الأشياء بأسبابها علما تعقّليّا غير متغيّر. فلو كنّا نحيط بأسباب شخص ما وضعىّ زمانىّ ، لكان يتهيّأ لنا أن نتعقّله بشخصيّته تعقّلا أبديّا غير زمانىّ. لكنّا إنّما نستفيد العلم به بخصوصه من وجوده ووضعه ومكانه وزمانه.

وكذلك المنجّم ، بالقياس إلى تحقّق هذا الكسوف ، مثلا ، بالفعل ، في هذا الآن بخصوصه ، وإنّ قدّرنا أنّه قد تثقّف وأحاط بحركات السّماويّات ، فلا جرم ، لسنا ندركه إلّا بالإحساس أو التخيّل ، وهو أنّه ليس يدرك هذا الكسوف الشخصىّ إلّا بالمشاهدة الحسيّة.

والجاعل الحقّ يعلمه مرتبطا بذاته المتشخّصة مسبّبا عن جملة الأسباب الّتي أفاضها ورتّبها منتهية إليه ، فلا محالة ، يعلمه شخصيّا ويبصره متخصّصا بأينه ووضعه ومتاه. لست أقول : أينه ووضعه ومتاه بالقياس إليه ، فإنّه ، تعالى عن ذلك ، جاعل الوضع والأين والمتى وربّ الكلّ ومن وراء الجميع محيط ؛ بل أقول : أينه بالقياس إلى المتأيّنات ، ومتاه بالقياس إلى المتمتّيات ، ووضعه بالقياس إلى ذوات الأوضاع.

حكمة تفسيرية

(٧٨ ـ توضيح في العلم الإلهي في الكتاب الكريم)

لعلّ في قول الله [١١٠ ظ] العظيم في القرآن الحكيم : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) ـ بعد قوله ، سبحانه ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة ، ٢٥) ، دلالة ، بل تنصيصا على أنّ الملكوتيّات والملكيّات والماضيات والمستقبلات والحاضرات والغائبات ، سواسية الفعليّة في علمه المحيط ، وتنبيها على أنّه إنّما العلم بها ـ لأنّها ذوات ناعتيّة وموجودات رابطيّة بالقياس

١٩٣

إليه تقرّرها ووجودها له ، سبحانه. وقوله ، سبحانه : (بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أى : بشيء من هويّات الموجودات ، الّتي هي بعين ذواتها ووجوداتها أخيرة مراتب علمه التفصيلىّ.

ولعلّ في قوله عزّ من قائل : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (الأنعام ، ٥٩) إشارة إلى الإحاطة بالأسباب المنتهية إلى شخصيّات نظام الوجود ، فهى مفاتيح الغيب ، وليس يحيط بجميع الأسباب إلّا هو. ثمّ في قوله الكريم : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (الأنعام ، ٥٩) ، وكذلك في كريمة أخرى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يونس ، ٦١) ، إن سيق القصد إلى انكشاف الموجودات بحسب وجوداتها العينيّة ، ريم ب (الْكِتابِ الْمُبِينِ) شخص النظام الجملىّ التامّ المتّسق. وإن سيق إلى معلوميّتها بحسب صورها المنطبعة في المدارك العقلانيّة والنفسانيّة عنى به جوهر مفارق ينتقش فيه صورة نظام الوجود من أوّله إلى أقصاه. والله عنده علم الكتاب.

وهم وتقديس

(٧٩ ـ علم البارى العلم التامّ بكنه الماهيّة ليس يزداد أو يشتدّ)

ربّما وسواس الوهم يزعج [١١٠ ب] سرّك : أنّ الحوادث لم تكن متقرّرة الذّوات في الأعيان ، ثمّ تقرّرت من بعد البطلان ، وقد أصّلتم أنّ ذوات الموجودات ووجوداتها هي بعينها أخيرة مراتب العلم. فهذه المرتبة من العلم لم تكن عند عدم الحوادث ، ثمّ إنّها كانت من بعد اللّاكون حين وجودها ، فما شأنها؟ أهى من المراتب الكماليّة للعليم الحقّ ، فكيف يصحّ عدمها أوّلا ، ثمّ حدوثها أخيرا ، أو لا؟ فكيف تليق بجنابه؟

فإن كنت ، بعد ما فصّل عليك ، في ريب من أمرك ، كرّر عليك القول المزيح ، لذلك الإزعاج على سبيل الاستيناف ، فقل لى انزعاجك فى العدم الزمانىّ للحوادث الزمانيّة ، فقد عرّفناك أنّ العدم الزمانىّ إنّما يحسب عدما في أفق التقضّى والتجدّد وبالقياس إلى الذّوات الزمانيّة ، لا بحسب الواقع في وعاء الوجود الّذي هو الدهر وبالنسبة إلى الموجود الحقّ والجواهر التامّة فالمعدوم الزمانىّ موجود بالفعل ، بحسب نفس الأمر في حدّ وقته ، ووجوده في ذلك الوقت بخصوصه مبصر البصير الحقّ دائما أو في العدم الدهرىّ للحوادث الدهريّة ، وهي جملة الجائزات طرّا. فقد

١٩٤

نبّهنا ، من قبل ، على أنّ العلم الّذي هو بعينه هويّات الموجودات ووجوداتها ، إنّما معناه معلوميّتها ، أى : مجعوليّتها ، للجاعل الحقّ ، مكشوفة غير محجوبة.

وليس يصحّ أن يعنى به العالميّة الّتي هي من جهات ذات البارئ الجاعل وأسماء حقيقته المقدّسة وأنّه ، جلّ مجده ، يمتنع أن يصير بحالة ما زائدة على ذاته بعد مرتبة ذاته وأنّ علومه التفصيليّة ، حين وجود معلوماته الّتي معلولاته بالفعل ، أيضا علوم عقليّة فعليّة تامّة. إنّما ما به الانكشاف ومناطه [١١١ ظ] فيها هو نفس ذاته الحقّة ومبدئيّته بذاته لصدور نظام الوجود عنه على تراتيبه وتفاصيله.

وكون مناط انكشاف الشّيء العلم التّامّ بجاعله التّامّ بنفس ذاته ، والإحاطة بجميع أسبابه المتأدّية إليه ، أقوى في إفادة الظّهور من كون مناط الانكشاف وجوده وحضوره بمجرّد هويّته الموجودة ، لا بعلله وأسبابه التّامّة. فالأوّل يوجب العلم التّامّ بكنه الماهيّة والإنّيّة جميعا. والثّاني ربّما لا يفيد إلّا علما بالإنّيّة. وذلك إذا كانت الإنيّة الحاضرة بمجرّد هويّتها من الأشياء الّتي هي ذوات العلل وأولات الأسباب ، وأنّ علمه الفعلىّ التامّ بالموجودات من حيث الإحاطة بعللها وأسبابها ليس يزداد أو يشتدّ حين وجودها بالفعل أصلا ، على خلاف شاكلتنا في علومنا الفعليّة بأمور نصنعها ، فإنّا إنّما نعلمها علما فعليّا ناقصا ، لعدم إحاطتنا بأسبابها جميعا.

ثمّ إذا ما هي صنعت ووجدت ، ازددنا عالميّة بها ، لاستفادتنا من وجودها [بالفعل] معرفة جديدة انفعاليّة. وكذلك الأمر في إدراكاتنا وعلومنا الإجماليّة والتفصيليّة. ولو كنّا نحيط بالأسباب ونتقدّس عن الانفعال ، لكنّا لم نزدد بوجود المعلوم علما ، بل كان علمنا به ، قبل وجوده ومع وجوده ، على سبيل واحد.

فإذن ، قد انصرح أنّ وجود الحوادث المنكشفة عند بارئها إذا ما هي متقرّرة بالفعل من الأمور الملغاة في تصحيح الانكشاف ، وإنّما هو داخل في الشّيء المنكشف ، لا أنّه معتبر في ما هو مناط الانكشاف وملاك المعلوميّة.

فنسبة وجود المعلوم الموجود بالفعل إلى معلوميّته لبارئه ، بمعنى كونه ظاهرا له غير عازب عنه ، نسبة الجار إلى صاحب الدار. ونسبته إلى معلوميّته ، بمعنى مجعوليّته له وصدوره عنه بالفعل مكشوفا غير محجوب [١١١ ب] أحد اعتبارى

١٩٥

ذات الشّيء الواحد إلى اعتباره الآخر.

فإذن ، عاد العدم الصريح للحوادث الدهريّة في وعاء الدهر قبل الوجود إلى ليسيّتها في نفسها ، وانتقاء معلوميّتها بالمعنى الأخير ، أى : كونها فائضة بالفعل عن مفيضها الحقّ منكشفة غير محتجبة ، لا انتفاء معلوميّتها بالمعنى الأوّل ، أى : ظاهريّتها له وعدم عزوبها عنه بنفس ظهور ذاته الفيّاض الّذي هو ما به الظاهريّة والانكشاف مطلقا قبل تقرّر المجعولات المنكشفة وعند تقرّرها.

فإذن ، مرجع عدم الموجودات الجائزة ، أوّلا ، إلى عدم المعلومات أنفسها ، لا عدم العلم بها. وإنّما كانت مجعوليّتها بعد اللامجعوليّة ، أوّلا ، بعدية دهرية غير زمانيّة ، لأنّ طباع الجواز ليس يسع الأزليّة السّرمديّة ، بل إنّه يتأبّاها ، لأنّ الجاعل كان يفقد قوّة أو حالة أو تعوزه أداة أو آلة لم تكن حاصلة أوّلا ، ثمّ إذا هي قد حصلت أخيرا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ تقرّر الحوادث في وعاء الوجود الّذي هو الدهر يشغل حيّز البطلان الدهريّ ، ولا يذر للعدم حدّا ، ولا يدع للحكم به بالإطلاق العامّ صحّة على خلاف شاكلة الوجود والعدم الزمانيّين. فإذن ، ليس يبقى للوهم أن يتوهّم ، بعد حدوث الوجود في الدهر الذي هو متن الأعيان وصلب نفس الأمر ، للعدم السّابق فيه ، حدّا وحيّزا يسأل عن المعلوميّة بحسبه. وبالجملة ، إنّما المحال : المعلوميّة واللامعلوميّة بحسب حدّين متميّزين عند الوهم ، إذ ذلك مستلزم التغيّر ، لكنّ الفتوى في سبيل التّقديس على النّمط المقدّم [١١٢ ظ].

شكّ وتقديس

(٨٠ ـ إضافات الجاعل العالم الحقّ إلى مجعولاته ومعلوماته بغير نهاية)

فإن اغتال قريحتك تشكيك المتشكّكين : أنّه كيف يعقل أن تكون الحوادث الكائنة الفاسدة هيولانيّة الذّوات ، زمانيّة الهويّات ، ومعلوميّتها الّتي هي بعينها وجوداتها الزمانيّة معقوليّة ثابتة غير زمانيّة ولا وضعية ؛ فاستذكر ما أسّسناه في صحفنا ولا سيّما في «الصحيفة الملكوتيّة» : أنّ الثّابتات العقليّة غير متعلّقة بالهيولى وعوارضها الّتي هي الوضع والمكان والزمان ، لا بحسب ذواتها ووجوداتها في أنفسها ، ولا

١٩٦

بحسب تقرّرها ووجودها لجاعلها. وأمّا الهيولانيّات الوضعيّة ، فبحسب وجودها في أنفسها مكانيّة وزمانيّة متخصّصة الهويّات بأوضاع وأمكنة وموادّ أو موضوعات وأزمنة أو آنات ، وبحسب تقرّرها ووجودها لجاعلها غير واقعة في شيء من ذلك.

فلذلك كلّ منها له في نفسه مدّة أو طرف مدّة ، وله في نفسه مادّة ، وليس بشيء منها بحسب صدوره عن الجاعل ووجوده بالقياس إليه وحضوره عنده تكتنفه غواشى المادّة. فماديّة المادّيات وزمانيّة الزمانيّات بحسب اعتبار ذواتها في حدّ أنفسها ، لا بحسب اعتبارها بالقياس إلى جاعلها المحيط بكلّ شيء ، وإنّما معلوميتها عين وجوداتها بلحاظها رابطيّة. فإذن ، هى فى أنفسهما هيولانيّات زمانيّات مختلفة بالمضىّ والاستقبال والحاليّة ، ومعلوميّتها الّتي هي عين وجودها الرابطىّ معقوليّة تامّة غير وضعيّة ولا زمانيّة.

وليس يصحّ أن يقال : إنّها معلومية زمانيّة بالعرض. وذلك ، كما قد استبان لك في أضعاف العلم [١١٢ ب] : أنّ كلّ شخصىّ من شخصيّات الكثرة المتّفقية الحقيقة مادّىّ الهويّة ، محسوس الذّات ، ونوعه المرسل متحد معه في التّقرّر والوجود ، متقرّر بعين تقرّره ، موجود بعين وجوده. وليس يصحّ أن يقال : إنّه مادّىّ بالعرض ، محسوس بالعرض ، بل إنّما يصحّ أن يقال إنّه مخلوط في الوجود بالمحسوس. وإضافات جاعليّة الجاعل الحقّ وعالميّته إلى مجعولاته ومعلوماته بغير نهاية ، مرّات غير متناهيّة. وهي بأسرها حاصلة بالفعل غير متعاقبة الحصول بالقياس إلى جنابه ، سبحانه. فكلّ يوم هو في شأن ، ولا يشغله شأن عن شأن. فهذا نمط من العجائب الملكوتيّة ، المحوج إدراكها ، بعد رفض الوهم وتنظيف الغريزة ، إلى توسيع العقل وتلطيف القريحة.

تقديس

(٨١ ـ مراتب علم الفيّاض سبحانه بتراتيب النظام)

علّك ، إذن ، قد تحقّقت : أنّ البارئ الفيّاض ، سبحانه ، يصبّ الفيض على «عالم الجواز» في وعاء التّقرّر الصّرف الّذي هو الدهر أبدا ، صبّة واحدة ، فلا يزال يفيض جملة العوالم معا مرّة واحدة غير زمانيّة. أمّا «عالم الحمد» ، أعني الأنوار العقليّة والجواهر الثّابتة ، ففى متن الأعيان ، لا في زمان ولا في آن. وأمّا «عالم الملك» ، أعني

١٩٧

الظّلمات الهيولانيّة والبرازخ الجسمانيّة ، ففى الأزمنة والآنات والأحياز والأمكنة ، كلّ شخصىّ منها بشخصيّته في وقت بخصوصه وحيّز بعينه.

على ما في القرآن الحكيم : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان ، ٢٨). وفي السنّة الشّارعة النبويّة : «جفّ القلم بما هو كائن». (١) و «جفّت الأقلام وطويت الصّحف». (٢) و «ما من نسمة كائنة إلى يوم [١١٣ ظ] القيامة إلّا وهى كائنة». (٣)

فاعلمن : أنّ لعلمه تعالى بتراتيب النظام الصادر مراتب : أولاها : نفس ذاته ، الأحد الحقّ ، الّذي هو علمه البسيط المطلق بكلّ شيء. وثانيتها : «القلم» ، أى : الجوهر العقلىّ الأوّل الثّابت بما يتمثّل فيه من صور عالم الوجود ، غير مغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وهو محصيها. وهذه أولى مراتب التّفاصيل العلميّة المتكثّرة. وثالثتها : اللوح المحفوظ ، أى : النّفوس المفارقة العاليّة ، بما يرتسم فيها من صور المرسلات والكليات. ورابعتها : «كتاب المحو والإثبات» ، أى : القوى العلويّة بما ينطبع فيها من صور الشخصيّات والجزئيات. وخامستها : «الكتاب المبين» ، الّذي هو النظام الجملىّ التّامّ المتّسق بجملة ما فيه ، غير مغادر شيئا من الماهيّات والهويّات العينيّة والصّور الإدراكية المنتقشة في المدارك العقلانيّة والمشاعر الإنسانيّة. وجميع علومه ، سبحانه ، بما عدا ذاته ، عقليّة فعليّة تامّة. وأمّا علمه بذاته القدّوس فأقدس من أن تضرب لمجده الأمثال أو يشرح سبيل عزّه بالمقال.

إيقاظ

(٨٢ ـ علم الجاعل الحقّ بأفعال الإنسان لا يصادم اختيار الإنسان)

لا تحسبنّ كون علمه ، تعالى عزّه ، بأفاعيل الإنسان فعليّا ، مصادم ما عليه أصحابنا الإماميّون المتمسّكون بحبل آل سيّدهم السّانّ الرّسول ، صلوات الله عليه وعليهم ، «أنّ فعل العبد مسبوق بإرادته ومستند إلى اختياره» ، فعلّيّة الشّيء للشىء وجاعليّته

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٩٤.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٤٩.

(٣) صحيح البخارى ، ج ٧ ؛ النكاح ، ص ٤٣.

١٩٨

له ليست تصادم توسيط وتسبيب الأسباب ، كما جاعليّته لهذا [١١٣ ب] الإنسان ، مثلا ، مع تسبّب والديه وسائر الأسباب والشرائط له ، وكذلك لذرّات الوجود. ثمّ الوجوب بالاختيار الواجب حصوله بعلله وأسبابه ـ ومنها الاستعدادات المتسابقة المتأدّية إليه ـ ليس ينافي الاختيار.

والحقّ القراح والكلمة السّواء في ذلك قول مولانا الصادق ، عليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين». وفي السّنّة السّانّيّة النّبويّة وأحاديث الأوصياء المقدّسين ، صلوات الله وتسليماته على ذواتهم الطاهرة ونفوسهم القادسة ، في المعارف الرّبوبيّة إشارات برهانيّة ونصوص شعشعانيّة يتضيّق عن استعراضها طور هذه الصحيفة.

تقديس

(٨٣ ـ أكمل الإدراك للبارى تعالى ، ثمّ إدراك الأنوار العقليّة ثمّ العلوم النفسانيّة)

فبما أنبهناك وبما أدريناك ، تلخّص لك : أنّ الإدراك يقع على ضروب الإدراكات بالتشكيك. فله اعتبار من حيث هو إدراك ، واعتبار من حيث هو حالّ ما للمدرك ، واعتبار من حيث هو حالّ ما للمدرك ، وله بكلّ واحد من الاعتبارات مراتب مختلفة : أمّا اختلافه بحسب ماهيّته ، فبكونه تارة إحساسا ، وتارة تخيّلا ، وتارة توهّما ، وتارة تعقّلا. وأمّا بحسب القياس إلى المدرك ، فبكون العاقل شديد التّقدّس عن عوالم المادّة وغواشيها ، أو هاويا متوسّط الهويّ إلى الانغماس فيها ، أو متوغّل الاغتماس فيها وفي علائقها ، وبكونه فاعلا لمدركه أو منفعلا عنه.

فالإدراك الفعلىّ المقتضى لكون المدرك فاعلا ـ إذ ليس معناه إلّا صدور ذات الشّيء عن فاعله ، المفيض إيّاها ، منكشفة عنده ـ أتمّ حقيقة ووجودا [١١٤ ظ] من الإدراك الانفعالىّ المقتضى لكونه منفعلا ، إذ ليس معناه إلّا حصول صورة الشّيء في نفس مدركه أو في آلته الّتي هو أداة إدراكه ، وأيضا لأنّه مفيد وجود ، وهو مستفاد من وجود.

وأمّا بحسب القياس إلى المدرك ، فبتجرّده عن المادّة أو ارتباطه بها أو مغموسيّته فيها ، وبانكشافه بظهور معلولاته أو بحضور ذاته أو بحضور علله وأسبابه إذا كان ذا أسباب وعلل. فالمدرك المجرّد عن المادّة أتمّ في كونه مدركا من المغموس فيها ، والمدرك بعلّته وبحضور جملة علله أتمّ ظهورا من المدرك بمعلوله أو بشهود وجوده

١٩٩

المعلول من غير شهود علله.

وقاطبة الأشياء ، مرسلة أو شخصيّة ، وكلّيّة أو جزئية ، لها إلى بارئها ، سبحانه ، نسبة المعلوميّة على أن هي معلومته ، سواء في ذلك أدخل شيء منها في التّقرّر بالفعل أم لم يدخل ، ونسبة المجعوليّة على أن هي مفاضته [و] مجعولته غبّ عدمها الباتّ الصريح ، فيضانها عنه لا ينسلخ عن انكشاف ذات ما فاض عنه بالفعل. بل إنّ معلوماته ، جلّ ذكره ، تبقى عند الصّدور عنه بالفعل على انكشافها الّذي قد كان من قبل من غير أنّ يغيّر ذلك أمرا منه في الحالين وفي الأحوال كلّها.

فإذن ، أكمل الإدراكات وأتمّها في ذواتها : إدراك البارئ الحقّ ، سبحانه ، لذاته بذاته على ما عليه ذاته ، ولجميع ما سواه أيضا بذاته من حيث هو عاجلها التّامّ بنفس ذاته. وهو أيضا أفضل أنحاء كون الشّيء مدركا ، لأنّه فعلىّ ذاتيّ ؛ وأفضل أنحاء كون الشّيء مدركا ، لأنّه تامّ حاصل من الوجه الّذي يجب أنّ يحصل [١١٤ ب].

ثمّ يتلوه إدراك الأنوار العقليّة. أمّا إدراكها لكنه ذات بارئها فغير متصوّر الحصول أصلا. وأمّا إدراكها لوجوده ، إدراكا تامّا فائضا ، غير ممكن من ذواتها المجعولة ، إلّا أنّ المبدع الحقّ ، لمّا كان معقولا لذاته ، وهى عاقلة لذواتها ، فبإشراقه ، سبحانه ، عليها عقلت نور وجوده ومجد قدسه وعزّ جلاله ، ثمّ عقلت ما دون الأوّل الحقّ ، سبحانه ، من تعقّل ذات الأوّل وقيّوميّته ، تعقّلا تامّا غير نفسانىّ ، دون تعقّل الأوّل ، سبحانه ، إيّاها بمراتب غير محصورة ومرّات غير متناهيّة.

ثمّ بعد ذلك ، العلوم النفسانيّة ، وهى إدراكات النّفوس المستفادة من طرق الحواسّ والتخيّلات وغيرها ، وتلك بأسرها نقوش ورواشم عن طابع عقلىّ ، إذ مخرج النّفوس من القوة إلى الفعل عقل متصوّر بصور المعقولات ، فبحسب استعداداتها واتصالاته تنطبع منه فيها على الانعكاس أو على الانعكاس أو على الرّشح صور معقولة ، وهى إدراكات : مترتّبة الفعليّة ، متبدّدة المبادى ، إذ عضة منها تصاد بالحدس ، وعضة تقتنص من تلقاء العلّة ، وعضة من تلقاء المعلول ، وعضة من طرق غيرها. ومتبدّدة المناسب ، إذ الانتقال إلى العلم بالشيء ، تارة يكون من العلم بما يضاهيه ويلائمه ، وتارة من العلم بما يوازيه ويقابله ، وتارة على وجوه غيرها.

٢٠٠