مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

المجموع ولا أمر خارج». فإنّ فيه تلبيسا من جهة الخلط بين معروض الاثنوة بما هو معروض الاثنينية ، أى : بما هو مؤلّف ، وبينه بحسب خصوصيّة الأجزاء ، ثمّ بين فاقة التألّف وبين فاقة الصدور ، فإنّما الجواز الذّاتىّ بحسب طباع التأليف مع عزل النظر عن خصوصيّة الأجزاء ، فمهما استغنت استغنى وتكون الأجزاء بالأسر علّة تامّة ومجموع الأجزاء معلولا. وبين الاعتبارين فرقان مبين ، كما في الحدّ والمحدود ، وسواء في ذلك أكان للمؤلّف جزء صورىّ أم لا.

[٤] وكقولهم : «إنّ الوجود الحقيقيّ بصرافته إمّا أن يمتنع تعدّده ، وهو المطلوب ، أو لا ، فتكون نسبة مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد إليه واحدة ، فلا يترجّح له شيء منها إلّا بعلّة منفصلة. فالمعنى كما يفتاق في تعدّده إلى الغير ، فكذلك في تعيّن عدد بعينه له دون غيره من الأعداد». فإنّ فيه نسيانا لتشكيك الأصل الّذي ريمت الفصية عنه ، وهو تسويغ حقيقتين مفترقتين بتمام الماهيّة [٨٨ ظ] كلّ منهما وجود حقيقىّ يجهل كنهه ، وليس هناك طبيعة مشتركة يسوغ بالنّظر إليها التعدّد.

تقديس

(٥٣ ـ إطلاق «الوجود لا في موضوع» على القيّوم الواحد ليس من قبيل الجنس)

ألسنا قد أوضحنا لك : أنّ البارئ لا ماهيّة له ، فلا جنس له ، إذ الجنس مقول في جواب ما هو ، والجنس من وجه هو بعض الشّيء. والبارئ قد تحقّق : أنّه أحد حقّ ، وبسيط محض. فإذن ، هو لا يشارك شيئا في معنى جنسىّ ولا نوعىّ ، حتّى يجب أن ينفصل عنه بمعنى فصلىّ أو عرضىّ ، بل هو منفصل عن الأشياء بتمام ذاته.

ولا تظنّنّ : «أنّ «الموجود لا في موضوع» يعمّ البارئ وغيره عموم الجنس ، لكونه الّذي اعتبرناه رسم جنس الجوهر». فإنّه ظنّ مختلق ، والوجود زائد طار على الماهيّات من تلقاء جعل الجاعل إيّاها. فكيف يصير الموجود المشتقّ منه ـ وهو مفهوم ما من العرضيّات بانضياف معنى سلبىّ إليه ـ جنسا لمقولة؟ بل المعنى الّذي جنّسناه لمقولة الجوهر : «أنّه الشّيء ذو الماهيّة المنعوتيّة الّتي حقّها : أنّها مهما كانت متقرّرة في الأعيان كان وجودها وجودا ليس في موضوع وإن كان بشخصيتها وبحسب وجودها الشخصىّ في محلّ ؛ كما الصّور الجرمانيّة والصّور المنوّعة الطّبيعيّة». وهذا

١٦١

المعنى غير مقول على البارئ ، لأنه ليس بذى ماهيّة ، بل هو وجود صرف.

وكذلك أمر العرض على هذه الشّاكلة : فإن جعلنا معناه : «أنّه الطبيعة الناعتيّة الّتي حقّها أنّها مهما كانت متقرّرة في الأعيان كان وجودها في نفسها ، سواء أخذت بحسب شخصيّتها أو بحسب طبيعتها المرسلة ، هو بعينه وجودها في موضوع» [٨٨ ب] ، جنّسناه لمقولات الأعراض التسع. وإن جعلناه «الموجود بالفعل في الموضوع» ، قلنا : إنه من عرضيّات المقولات التسع فقط ، بحسب التّقرّر في الأعيان ، ومن عرضيّات مقولة الجوهر أيضا بحسب التمثيل الذهنىّ ، ولكن من جهة الشّخصيّة الذهنيّة بخصوصها ، لا من حيث الطبيعة الجوهريّة المرسلة. فإذن ، مقولات الجائزات محصورة في الوقوع تحت جنسين عاليين ، وتسع منها تحت واحد منهما بعينه ، وإنّما الأجناس في العشر للمتقرّرات بالذّات ممّا له تأحّد جنسىّ.

وأمّا ما لا يتحصّل تحصّلا وحدانيّا ولا يتأحّد تأحّدا جنسيّا ـ كمفهومات العرضيّات الّتي هي موجودات بالعرض ولا حقيقة لها متحصّلة متأحّدة ، وفصول الأنواع الّتي هي بسيطة لا جنس لها وإنّما تحمل الأجناس عليها بالعرض ، والأشخاص الّتي لا حقيقة لها نوعيّة» ، والأنواع الّتي لا طبيعة لها جنسيّة إن صحّ لها تحقق ـ فليس يقع في المقولات ، ولا يقال عليه شيء من الأجناس قولا بالذّات ، وليس الحكم بالإحاطة التامّة والقسمة المستوفاة بالقياس إلى ذوات الطبيعة الجنسيّة يستضرّ بذلك. [وذلك ، كما إذا قيل : المدن محصورة في بلاد عشرة ، سنّة التمدّن فيها على شاكلتين ، ثمّ وجد قوم بداة لا يتمدّنون ، فإنّه ليس ضارّا في ذلك القول]. فهذا سبيل الحكمة المستوية النضيجة.

فأمّا الفاشى في الأذهان المشهوريّة الدائر على الألسن الجمهوريّة : «أنّ اعتبار المعنيين ، على أنّ أحدهما عنوان الجنس العالى للمقولة ورسم حقيقته ، والآخر عنوان المفهوم العرشىّ له ، ليس إلّا في الجوهر ، والعرض لا يجعل معناه إلّا الموجود بالفعل في الموضوع الّذي هو من العرضيّات». أو «أنّ اعتبارهما مستمرّ في الموضعين ، لكنّهما جميعا من عرضيّات مقولات [٨٩ ظ] الأعراض ، إذ لا جنس فوق الأجناس العالية. فالأوّل يقال عليها قول مفهومات العرضيّات الّتي هي لوازم الماهيّات ، لا قول عنوانات الجوهريّات الّتي هي مقوّمات الحقائق. «والثّاني يقال

١٦٢

عليها قول العرضيّات الغريبة الّتي هي للذات بعلل خارجة عن جوهر الماهيّة».

فمن الفلسفة الفجّة النيّة ، لا من الحكمة الحقّة السويّة ، وليس إلّا تحكّما غاسقا قد عارضه الفحص ، وتقحّما عاصفا قد صادمه البرهان. أما تحقّقت أنّ مفهوما واحدا لا يلزم أمورا مختلفة إلّا إذا كان هناك طباع مشترك هو الملزوم بالذّات حقيقة ، وإلّا لم تكن الخصوصيّات ملغاة فلا يتلأب اللزوم على الاشتراك؟ ثمّ ما الّذي أوجب أن تكون المقولات التّسع أجناسا عالية ، والماهيّة الناعتية طبيعة مشتركة بين الجميع بحسب حقائقها المرسلة ، كما الماهيّة المنعوتيّة بين الجواهر جملتها بتّة؟

فإذن ، مرّ الحقّ إن رفضت الملاجّة ليس إلّا تثنية الجنس الأقصى المبتدأ أوّلا ، ثمّ إدراج المقولات فيهما على القسمة المستوفاة. وشريكنا السّالف في فنون «الشفاء» بين تناقض في القول في هذه المسألة ومعصية للبرهان.

تقديس

(٥٤ ـ وحدة البارى تعالى ليست وحدة عدديّة)

هل بلغك قول السّالفين الأولين : «وحدة البارئ الأوّل ، تعالى ، ليست وحدة عدديّة».

فاعلمن : أنّ الّذي من فتاوينا في معناه المحصّل : هو أنّ الوحدة العدديّة هي ما تكرّرها محصّل الكثرة ، إذ ليس حقيقة الكثرة إلّا الوحدات المتكرّرة ، وليست هي بمجهولة الكنه ، ولا بممكنة القيام بنفسها. فإنّ لها موضوعا تخرج هي عن قوام ماهيّته وتعرضه بعد مرتبة الذّات [٨٩ ب] ، لا بحسب نفس جوهر الحقيقة بتّة ، كما الكثرة ، وليست حقيقتها إلّا نفس الوحدات المعروضة للتعدّد ـ كالاثنينيّة والثلاثيّة ، مثلا ، ـ يمتنع أن تكون قائمة بنفسها ، إلّا بمعروض هو مجموع معروضات الوحدات بالأسر. ووحدة الأوّل الحقّ وحدة قائمة بذاتها غير معلومة الكنه ، وجودها وتشخّصها بعينه نفس ذاتها ، وتكرّرها ممتنع بالذّات بحسب الأعيان وبحسب تصوّر العقل جميعا ، إذ كلّ ما يوضع بالفرض أنّه ثان لها ، فهو هي بعينها عند التّحديق فإذن ليست الوحدة العدديّة مضاهيتها. بل هي أقدس وأرفع.

ومن سبيل آخر : أنّ وحدة البارئ الفاطر لا يصحّ أن تكون شيئا من الوحدات الّتي تتألّف منها كثرة ما ، فلا شيء من الكثرة يعقل [أن يتحصّل من وحدته ووحدة أخرى

١٦٣

غيرها ، لما قد انصرح لك :] أنّ وحدته تعالى وحدة حقّة صرفة ليس يصح تحليلها إلى شيء وشيء أصلا. بخلاف الوحدة العارضة لأيّة حقيقة فرضت من الماهيّات الجائزة. أليس كلّ حقيقة جوازيّة فللعقل أنّ يفصّلها باللحاظ التحليلىّ إلى جنس وفصل ، وإلى ماهيّة وإنيّة؟ وهذا الأخير يستوعب قاطبة الجائزات ، حتّى الأجناس القاصية والفصول البسيطة. فكلّ جائز زوج تركيبيّ. ولا وحدة في الطّبائع الجوازيّة مركّباتها وبسائطها ؛ بل إنّما هناك تأحّد واتحاد ويتوسّع في التعبير عنه بالوحدة.

فالوحدة الّتي للطبيعة البسيطة ، كالجنس القصيّة والفصول الذّاتيّة والقاصيّة ، ظلّ للوحدة الحقّة الصرفة وكذلك الوحدة الشّخصيّة الّتي لأشخاص الجائزات. والوحدة الصرفة لا تكون إلّا قائمة بنفسها ، واجبة الوجود بذاتها. فإذن ، ليس شيء من الوحدات العارضة لما في عالم الجواز من جنس الوحدة القائمة [٩٠ ظ] بالذّات ، فلا شيء من الكثرة يصحّ أن يتقوّم من الوحدة العارضة والوحدة الحقّة.

فمن البتيّات أنّ شيئا من الكثرة لا يتألّف إلّا من الوحدات الّتي هي نوع واحد من الوحدة ، ضرورة أنّ الكثرة إنّما تحصل بتكرّر الوحدة وتعدّدها ، إذ المفهوم من الوحدات الوحدة المتكرّرة ، فما لم تتكرّر وحدة ما بأخرى مثلها لم تكن كثرة أصلا. فكلّ كثرة إنّما أجزاؤها الوحدات العارضة ، ولا يعقل أن يقع في شيء منها الوحدة البحتة الحقّة. فإذن ، ليست هي وحدة عددية هي مبدأ الكثرة ، بل هي خارجة عن أقسام الوحدة الّتي يعرف كنهها.

فأمّا قولى في بعض صحفى : «إنّ الكثرة في عالم التّقرّر غير مشكوك في تحقّقها ، وليست هي إلّا جملة من الوحدات وتنتهى ، لا محالة ، إلى الّتي هي الصّرفة وإلّا لتمادت إلى لا نهاية ، فلم تكن وحدة فلم تكن كثرة. فإذن ، الوحدة الصّرفة مبدأ الكثرة ، ولا وحدة في عالم الجواز صرفة. فالواحد الجائز على الإطلاق زوج تركيبيّ متأحّد من ازدواج حيثيّتين مختلفتين. فإذن ، قد وجب الانتهاء إلى الوحدة الحقّة الوجوبيّة بالذّات لتكون مبدأ الكثرة».

فإنّما عنيت به : أنّه ليس بدّ من تحقّق الوحدة الحقّة ليتصحّح تحقّق الوحدة العارضة ، فيتقوّم الكثرة من تكرّرها ، ضرورة أنّ الوحدة العارضة ظلّ الوحدة الحقّة و

١٦٤

مجعولتها ، فلا هي لو لا هي ، فلا كثرة أيضا. لا أنّ الوحدة الحقّة من جملة الوحدات الّتي يأتلف منها الكثرة. فليس أنّى وضعت ثمّ رجعت ، بل إنّما المبدأ في الموضعين بمعنيين على اشتراك اللفظ.

ولشريكنا السّالف في «المباحثات» و «التعليقات» (ص ١٠٠) بيان على اسلوب دقيق ، حاول التلميذ في [٩٠ ب] «التّحصيل» (ص ٥٧٠) أن يشرحه ولم يأت بمشبع. فحقّ تلخيصه : أنّ من الوحدة ما سلب الكثرة من لوازمه ، ومنها ما هو من لوازم سلب الكثرة. وأولات الماهيّات ليس معنى الوحدة فيها بعينه سلب الكثرة بحسب جوهر الحقيقة وفي مرتبة نفس الذّات ، بل كلّ ذى ماهيّة فإنّ وحدته أمر غريب عن حقيقته تلحق ذاته ، كما إنّيته أمر غريب داخل على حقيقته حين ما هي متقرّرة من الغير على أن هي بنفس جوهرها مستفادة منه. فكما الوجود ليس من حيث نفس الماهيّة بما هي هي فكذلك الوحدة ليست من جهة نفسها.

وأيضا معنى الوحدة ، في كلّ ما له ماهيّة ، ما يصير به جملة معان أمرا متأحّدا ، ثمّ طبيعة ذلك الأمر شيئا واحدا بالشخص غير مشارك في ذاته الشّخصيّة من جهة ما يخصّه من نحو الوجود المتخصّص المستفاد من الوجود المتشخص بذاته. فإذن ، كلّ ماهيّة إنّما تكون واحدا بوحدة دخيلة عليه من جهة تأحّده وتوحّده.

وأمّا الوجود الحقّ ، فإذا وصف بأنه واحد ، فمعناه : أنّه بذاته ، لا بحيثيّة ملتقطة من ذاته ولا لسبب خارج ، عنه ، بحيث لا ينقسم ولا يتكثّر بوجه أصلا ، ولا يتصوّر له نظير ولا وجود في رتبة وجوده ، فسلب الكثرة هناك بحسب مرتبة الذّات ومن حيث نفس الحقيقة ، وليست الوحدة من لوازم (لواحق ل) الحقيقة. فهو وجود بحت مسلوب عنه الكثرة والشركة والازدواج من ماهيّة وإنيّة ووجود ووجوب. ورسم حقيقته : أنّه لا اسم له يدلّ به على نفس الحقيقة. وشرح اسمه : أنّه يجب وجوده [٩١ ظ] بلا علّة ، لا ما يجب وجوده.

فإذن ، الوحدة في صفاته تعالى ليست معنى وجوديّا بحسبه يستوجب الذّات سلب الكثرة ، كما هي في الذّوات الجائزة والموجودات الفاقرة ، إذ يلحقها وحدة ، فتكون هي واحدة بتلك الوحدة. بل معناها أنّه غير مشارك في وجوده وفي رتبة كما

١٦٥

له ومجده الّذي يخصّه ، فهذا سلب محض ، إلّا أنّه يلزمه في العقل وجود ، وهو أنّه واحد بذاته. وبالجملة ، لا يعقل له وحدة تلحق ذاته ، فيكون هذا واحدا بتلك الوحدة ، بل وحدته سلب الشريك عنه بنفس ذاته.

ومن هذا النّمط ما قال فيثاغورس ، واستمرّ عليه الفيثاغوريّون :

«تارة إنّ الوحدة : إمّا وحدة غير مستفادة من الغير ، وهي مبدأ المخلوقات ، وتارة إنّ الوحدة على الإطلاق وحدة قبل الدهر ووحدة مع الدهر ووحدة بعد الدهر ، وهذه وحدة النفس ، ووحدة مع الزمان وهذه وحدة الأسطقسات والمركّبات».

إلّا أنّ مقالتهم : «ثمّ الأعداد هي مبادى الموجودات ، وإنّما اختلفت الموجودات في طبائعها ، لاختلاف الأعداد بخواصّها» ، إلى سائر المعزوّات إليهم ، لا يستصحّها البرهانيّون وربّما تعدّ مرموزات فاقرة إلى تأويلات.

تقديس

(٥٥ ـ مبحث العلم ، علم الواجب الحقّ أكمل العلوم)

ألم يقرع سمعك في أضعاف الصّناعة : أنّ المعقوليّة مطلقا هي وجود الشّيء للموجود المفارق ، وعاقليّة الموجود [٩١ ب] المفارق هي وجود شيء له. ففى العقل الحضوريّ يوجد الشّيء بعينه له ، وفي العقل الانطباعىّ بصورته المتمثلة فيه. ووجود المعقول بما هو معقول في نفسه هو بعينه وجوده لعاقله ، وجوده لعاقله هو بعينه عقله اياه. وكذلك المحسوس بما (ممّا) هو محسوس ، وجوده في نفسه هو بعينه وجوده للجوهر الحاسّ ، ووجوده للجوهر الحاسّ هو بعينه محسوسيّته له وحاسيّته الحاسّ إياه.

وبالجملة ، مطلق العلم هو بعينه الوجود للعالم. والصّادّ عن التعقّل ليس إلّا الهيولى وعلائقها. فالجوهر البريء الذّات عن علائق المادّة ، إذ وجوده لذاته ، لا للمادّة. فذاته غير محتجبة من ذاته ، بل وجوده لذاته هو بعينه عقله لذاته. وبالجملة فالذي ذاته له ، فهو عقل ذاته معقول ذاته وفيكون ذاته ، بما هي متقرّرة ، موجودة لنفسها عقلا وعاقلا ومعقولا ، فوجوده هو بعينه الصّورة العقلية من ذاته لذاته.

وأمّا الوجود الصّورىّ العقلىّ في العقل [الارتسامىّ ، فهو الوجود الّذي إذا تقرّر في الشّيء صار للشىء به عقل. والّذي] يحتمل نيله هو عقل بالقوّة. أعني العقل بالملكة

١٦٦

بعد العقل المنفعل الهيولانىّ. والّذي ناله بعد القوّة هو عقل بالفعل على سبيل الاستكمال. فإذن ، ما أيسر لك أن تستيقن أنّ الجوهر المفارق الذّات مدرك ذاته ، وإدراكه ذاته ليس يزيد على وجوده ، وإنّما يزيد على ماهيّته ، إذ ليست ماهيته هي بعينها إنّه.

وأمّا الموجود الحقّ المتقدّس عن الماهيّة ، فضلا عن الموادّ والعهد وسائر ما يجعل الماهيّة بحال زائدة ، فهو ظاهر لذاته وبنفس ذاته. وإذ [٩٢ ظ] إنّه بعينه حقيقته ، أى : وجوده ماهيّته ، وهو على أعلى مراتب التجرّد والتقدّس ، فعلمه بذاته كما ليس يزيد على وجوده فكذلك ليس يزيد على نفس حقيقته ، وهو أكمل العلوم وأشدّها نوريّة وتقدّسا.

تنبيه

(٥٦ ـ الشّيء العاقل المجرد معقول نفسه وعقل ذاته)

إنّ الشّيء إذا ما جرّده العقل تجريدا تامّا صارت صورته المجرّدة القائمة في محلّها المفارق معقول المحلّ وعلمه. فما ظنّك به إذا تجرّد بنفسه وقام بذاته ، أينسلخ عن شأن المعقوليّة أم يصير معقول نفسه وعقل ذاته.

فتفكّر : أنّ الحرارة الّتي بها حارّيّة النار ما دامت قائمة فيها إذا تجرّدت وقامت بنفسها ، أتتعرّى عن كونها حرارة ، أم تكون حارّة بنفسها وحرارة لذاتها؟ والضّوء الناعت للشمس إذا ما تذوّت وقام بذاته أيهجر حقيقته الضوئيّة ، أم يستوى ذاته ويتمحّض ضوء لذاته ومضيئا بنفسه؟ ثمّ اعتبر من ذلك وتدبّر في أمرك.

تقديس

(٥٧ ـ العلم والكمالات عين الحقيقة الحقّة)

ثمّ أما أسمعناك ، من قبل ، أنّ العلم «كمال مطلق» للتقرّر والوجود بما هو تقرّر ووجود ، وما هو كذلك لا يمتنع على نفس ذات الموجود الحقّ بذاته. وكلّ ما ليس يمتنع عليه ، فإنّه يجب لذاته في نفس مرتبة الحقيقة ، إذ لا تصحّ في الوجود الرّبوبىّ جهة جوازيّة بحسب مرتبة نفس الحقيقة ، بل الجواز العامّ هناك وجوب صرف ، لا غير.

فإذن ، قد وجب أن يكون العلم ، وكذلك الكمالات الّتي هي مضاهيته ، عين الحقيقة الحقّة الواجبيّة ، [٩٢ ب] وإنّما نروم ب «الكمال المطلق» : ما كماليّته على

١٦٧

الإطلاق من كلّ جهة ، غير متخلّل فيها قد وقد ، وحيث وحيث ، فإنّ الّذي يكون كمالا من جهة ونقصانا من جهة يوجب ، لا محالة ، تجسّما أو تكثّرا بالفعل أو تركّبا في لحاظ العقل أو يحلّله تحليلا في الذهن إلى شيء وشيء ، وقد تعالى القيّوم بالذّات عن ذلك كلّه علوّا كبيرا.

تقديس

(٥٨ ـ القيّوم الحقّ هو علم محض لا كثرة فيه من جهة العلم)

لا يتوهمنّ أنّ عالميّته ومعلوميّته ممّا تكثر الحيثيّة والاعتبار فيه ، فليس نفس كون المفارق عاقلا ومعقولا يوجب اثنينيّة في الذّات ولا فى الاعتبار أيضا. بل الذّات واحدة والاعتبار أيضا واحد ، إذ ليس تحصيل الأمرين إلّا اعتبار أنّ هويّة مجرّدة لذاتها ، وهو المعقولية ، وأنّ هويّة مجرّدة ذاتها [لها] ، وهو العاقليّة ، فههنا تقديم وتأخير في الترتيب ، والغرض المحصّل شيء واحد بلا كثرة ولا قسمة أصلا. فالأشياء لا تعقل إلّا بالقوّة العاقلة ، والقوّة العاقلة إنّما تعقل بنفسها ، كما كلّ شيء غير الوجود يكون موجودا بالوجود ، والوجود موجود بنفسه ، لا بوجود آخر وراءه ، وكلّ شيء يكون مضافا بإضافة ، والإضافة هي المضاف بذاته ، لا بإضافة أخرى.

والزمانيّات تتقدّم وتتأخّر بالزمان ، والزمان بنفسه لا بزمان آخر. والأشياء تظهر بين يدى الحسّ بالنور ، والنّور بنفسه لا بنور آخر. والمادّيّات تختلف بالمادّة ، والمادّة بنفسها لا بمادّة أخرى. والمعلومات العينيّة تعلم بالصورة العلميّة ، والصّورة العلميّة بنفسها لا بصورة علميّة أخرى [٩٣ ظ].

وبالجملة ، العاقل هو الموجود المفارق ، بما أنّ هويّة الشّيء أعمّ من أن يكون الشّيء هو أو آخر غيره. والمعقول هو الشّيء بما أنّ هويّته لموجود مفارق ، سواء كان هو أو آخر غيره ، فما من الموجود المفارق بإزاء العاقليّة هو ما منه بإزاء المعقوليّة ، لكنّك إذا ما قايست بينه وبين عاقلات لمعلولات هي غيرها وجدته بهويّته مستحقّا لاسمى العاقل والمعقول لما له بنفسه ما للذوات العاقلة وما للحقائق المعقولة ، لا على أنّ أحد الاعتبارين في ذاته تغاير الاعتبار الآخر. فهو بما هو هويّة موجودة لذاتها لا لمادّة عقل ، وبما يعتبر له أنّ ذاته المجرّدة لها هويّته عاقل ، وبما يعتبر له أنّ هويّته

١٦٨

لذاته المجرّدة معقول.

فإذن ، إنّما العاقليّة والمعقوليّة توجب تكثير الحيثيّة في المفارق الجائز الذّات من حيث التغاير بين ماهيّته ووجوده وكون العاقليّة والمعقوليّة عين الوجود المجرّد ، لا من حيث إنّهما اعتباران متغايران البتّة ، فإنّ اعتبار العاقليّة ليس يستوجب أن يغاير اعتبار المعقوليّة ولا العكس. فالقيّوم الواجب بالذّات ، إذ هو نور مقدّس ووجود متمحّض ، فهو علم محض ، فلا كثرة فيه من جهة العلم أصلا ، لا بحسب العالميّة والمعلوميّة ، ولا بحسب الوجود والماهيّة.

تشريق

(٥٩ ـ العلم بالعلّة يوجب العلم بماهيّة المعلول وإنيته)

أمّا قبلك من البتيّات : أنّ كلّ ما عقل سببه التامّ بما هو سببه التامّ ـ لست أقول بلحاظ حيثيّة السّببيّة المضايفة للمسببيّة ، بل أقول الحيثيّة الّتي هو بها سبب تامّ ، عقلا تامّا ـ فلا محالة قد عقل هو أيضا [٩٣ ب] عقلا تامّا. والعلم التامّ اليقينيّ بذوات الأسباب إنّما حصوله من حيثيّته العلم بأسبابها. وأتمّ العلوم بذى السبب هو العلم به من تلقاء العلم بأسبابه المتأدّية إليه من الحيثيّة الّتي بنفسها يترتّب عليها التأدية.

فكلّ من لا يعزب عنه الجاعل التامّ لمجعول ما بما هو جاعل تامّ موجب له بنفسه ، أى : يكتنهه ويعقله من كنه الحيثيّة الّتي هي بنفسها بحيث ينشأ منها المجعول ، فكذلك لا يعزب عنه إنّيّة ذلك المجعول ولا ماهيّته ، بل إنّه يكتنهه ويعقله بعينه عقلا تامّا ، فإنّ المجعول بأنّه وبماهيته من لوازم الجاعل الموجب التامّ بأنّه.

فإذن فاحكم أنّ كون الشّيء مدركا بعلّته أفضل من كونه مدركا بمعلوله ، لأنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة يوجب العلم التامّ بمعلولها ، وليس العلم التامّ بالمعلول يستوجب علما تامّا بعلّته. إذ العلّة ، بما هي تامّة ، موجبة معلولها المعيّن من حيث هو هو بعينه والمعلول بما هو معلول إنّما يقتضي علّة واحدة لتقرّره ، أيّة علّة كانت ، لا أمرا متعيّنا بعينه لا غير ، فمعلول الشّيء ليس يجب أن يكون معلول نفسه ، بخلاف علّته ؛ ولأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بماهيّة المعلول وإنيّته ، والعلم بالمعلول ليس يقتضي إلّا العلم بإنيّة العلّة دون ماهيتها ، فلذلك كان أفضل البراهين وأوثقها وأحقّها باسم

١٦٩

البرهان وبإعطاء التّعيّن : هو الّذي من النمط اللّمّى. (١)

تشريق

(٦٠ ـ المعلوم الفعلىّ والمعلوم الانفعالىّ)

مهما كان تقرّر جوهر المعلوم مسبوقا بصورته العلميّة منبعثا عنها مترتّبا عليها ، كان العلم فعليّا يفيد وجود ذى الصّورة ، وهو المعلوم بالقصد الثّاني. وتلك الصّورة هي العلم والمعلوم بالذّات وبالقصد الأوّل ، كما الصّورة الصّناعيّة المتقرّرة أوّلا في ذهن من يصنع شيئا بالقياس إلى مصنوعه.

ومهما كانت [٩٤ ظ] الصّورة العلميّة الّتي هي المعلوم بالذّات مستفادة من جوهر المعلوم المتقرّر متأخّرة عنه تأخّرا بالذّات ، كان العلم انفعاليّا يتبع وجود المعلوم في ذاته ، وإن كانا على التطابق بحسب الماهيّة. كما علمنا بالموجودات الّتي ليست هي بصنعنا ، وهو منحطّ في الفضل عن العلم الفعلىّ ، فإنّه ، لا محالة ، أفضل منه وأقوى وأتمّ. ومهما كان جوهر المعلوم الموجود وذاته المتقرّرة هو بعينه صورته العلميّة ، ولا صورة له في العلم إلّا نفس هويّته العينيّة ، كان العلم ظهورا خارجا عن القبيلين لا يعقل فيه فعل ولا انفعال ، كما علم الذّوات العاقلة بأنفسها ، والاسم يقع على الثلاثة بالاشتراك ، ثمّ كلّ يختلف في الموضوعات بالتشكيك.

تقديس

(٦١ ـ علم الجاعل التامّ بنفسه وبالأشياء فوق التمام)

أما استيقنت أنّ سنّة الوجوب بالذّات إفاضة الخير من غير ضنين ، واصطباب العالم من فيضه بلا رهين وضمين ، وأنّ كون البارئ الفاطر واجبا بذاته هو بعينه كونه مبدءا لفيضان الخير عنه بالذّات. فنظام الخير ـ أى : نظام الكلّ الواحد ـ بالشخص الّذي هو «الإنسان الكبير» ، إنّما يتعيّن ويتخصّص من تلقاء ذات المبدأ الحقّ بذاته ويفيض من مجرّد وجوده الّذي هو بعينه نفس ذاته.

__________________

(١) هذا ينافي ما تقرّر عنده ، دام إفضاله ، من أنّ المعلول يقتضي بحسب ذاته استناده إلى الجاعل القيّوم الواجب الوجود.

١٧٠

فهو ، جلّ اسمه ، بنفسه جاعله التامّ وموجبه الكامل وغايته المطلقة. وآحاد المجعولات الّتي هي أجزاء النظام الشخصىّ بأسرها سواسية بحسب هذا اللحاظ في الافتياق إلى مبدئيّته الحقّة والاستناد إلى جاعليّته المطلقة ، وهو افتياق عرضىّ. والنظام الجملىّ بحسبه سلسلة عرضيّة ، إنّما الجاعل الحقّ فاعلها وغايتها ، مرّة واحدة. فكلّ تقرّر [٩٤ ب] وكلّ كمال تقرّر ، وكلّ وجود وكلّ كمال وجود ، صنع فضله واصطناع رحمته ، على الإطلاق الشّمولىّ والاستغراق الإحاطىّ على سنة واحدة. ثمّ إذا التفت لفت الآحاد متفاصلة متباينة بما هي هي ، لا بما يتأحّد منها نظام متّسق ، صودف أكرمها في سلسلة البدو أقرب من الجاعل الحقّ.

ثمّ الأمر متدرّجا في التنازل على الترتيب السّببيّ والمسبّبىّ إلى أقصى الوجود ، وذاك استناد طولىّ ، والنظام بحسبه سلسلة طوليّة. وعضة من الآحاد كسلسلة الحوادث الكيانيّة متوقفة في هذا الالتفات على عضة ، كالإبداعيّات. وهي قاطبة ترتقى على الترتيب الصاعد ارتقاء منتهيا الى الجاعل التامّ المطلق. ولها أيضا في التصاعد الطّولىّ غايات أوليّة قربية مرتقية إلى الغاية الأخيرة الّتي هي غاية الغايات ، أعني نفس ذات الحقّ الأوّل.

فإذن ، عالم الجواز بأسره قطران : طولىّ وعرضىّ ، وهما منتهيان إلى المحيط الّذي هو الجاعل التامّ من حيث نفس ذاته. وقد دريت أنّه يعلم ذاته أتمّ العلوم وأقدسها. فهو ، لا محالة ، يعلم أيضا ما بعد ذاته ، وهو سائر الأشياء من حيث وجوبها عن نفس ذاته في سلسلة الترتيب النازل طولا وعرضا ، علما تامّا وفوق التمام تقدّسا وتمجّدا.

تقديس

(٦٢ ـ عقل الشّيء لذاته وجوده لذاته وعقله لغيره وجود الغير عنده)

أليس المجعول بما هو مجعول من نعوت جاعله التامّ وشئونه؟ فمن غريزيّات الفطرة العقلانيّة : أنّ حصول الشّيء لفاعله ليس في كونه حصولا لغيره دون حصول الشّيء لقابله. فإذن ، تقرّر المجعول بما هو مجعول في نفسه هو بعينه تقرّره الرابطىّ لجاعله. والمجعولات بما هي مجعولات حقائق رابطيّة وذوات ناعتيّة لجاعلها ، وإن كانت غير رابطيّة في محلّ أو موضوع ، [٩٥ ظ] لكونها جواهر قائمة في الوجود

١٧١

بذواتها ، لا في موضوعات.

وقد تعرّفت : أنّ وجود الشّيء للذّات المجرّدة مطلقا هو بعينه معقوليّته لها. فكما وجود المجرّد لذاته هو بعينه عقله ومعقوليّته لذاته ، ووجود الصّورة في الجوهر العاقل هو بعينه معقوليّتها له ، فكذلك تقرّر الجائزات ووجودها في ذواتها بما هو تقرّرها ووجودها لجاعلها القدّوس هو بعينه معقوليّتها له وحضور هويّاتها لديه وشهوده إيّاها بأعيانها. فعقل الشّيء لذاته هو وجوده في ذاته ، وعقله لغيره هو وجود هويّة الغير له وعنده.

بسط

(٦٣ ـ المعلومات متضاعفة الفاقة الى الجاعل العالم بها)

ومن سبيل آخر ، لست أظنّك من الممارين أو الممترين في أنّ القدّوس الحقّ ليس يحتجب عن علمه التامّ شيء من جهات ذاته ، بل إنه يعلم ذاته من جميع جهاته ولوازمه علما تامّا. ومن جهات ذاته : أنّه فاطر مفطوراته. فلا محالة ، علمه التامّ بذاته من جميع جهاته ولوازمه يتضمّن العلم بقاطبة مجعولاته ومفطوراته : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ، ١٤). وبالجملة ، العاقل كما ليس تعوزه في إدراك ذاته صورة غير صورة ذاته الّتي بها هو هو ، فليس أيضا يعوره [في] إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته صورة غير صورة ذلك الصادر الّتي بها هو هو.

واعتبر من نفسك أنّك تعقل شيئا بصورة تتصوّرها أو تستحضرها ، فهى صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا ، بل بمشاركة ما من غيرك ، بل إنك بالقياس إليها تسير مسير الشّروط والمصحّحات ، وتجرى مجرى القوابل والماهيّات ، والمفيض الواهب هو الفاطر الحقّ.

ومع ذلك ، فأنت لست تعقل تلك الصّور بغيرها ، بل كما تعقل ذلك الشّيء بها ، كذلك تعقلها [٩٥ ب] أيضا بنفسها ، من غير أن تتضاعف الصّور فيك ، فتمادى إلى لا نهاية ؛ بل ربّما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصّورة ، فحسب ، على سبيل التركّب. وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك ، بل عن غيرك بتهييئ وتهيّؤ منك على هذه الشّاكلة ، فما ظنّك بشأن العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه.

١٧٢

ولا تظنّنّ أنّ كونك محلّا لتلك الصّورة شرط في عقلك إيّاها. ألست عاقل ذاتك مع أنّك لست بمحلّ لها ، بل إنّما محليتك لها مصحّحة حصولها لك الّذي هو مناط عقلك إيّاها. فإن حصلت هي لك على جهة وراء الحلول ، لعقلتها من غير حلول فيك. ومن المنصرح : أنّ الحصول للفاعل ، في كونه تقرّرا رابطيا بالإضافة إليه ، أقوى من الحصول للقابل. فإذن المعلولات الذّاتية للعاقل الفاعل بذاته حاصلة له بأعيانها غير حالّة فيه ، فهو عاقل إيّاها بأنفسها وهويّاتها من غير أن تكون متقرّرة فيه.

فإذ قد علمت أنّ البارئ الفاطر عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلّا في اعتبار المعتبرين ، ودريت أنّ عقله لذاته علّة لعقله لمفطوره الأوّل الّذي هو من اللوازم الأوّلية لفيّاضيّة ذاته ، فقد استبان لك أنّه كما العلّتان ـ أعني ذاته تعالى وعقله لمفطوره الأوّل ـ شيء واحد في الوجود ، وإن لوحظ تغاير فيهما كان اعتباريا صرفا ، فكذلك المعلولان ، أعني مفطورة الأوّل وعقله إياه ، شيء واحد في الوجود غير معقول فيهما تغاير إلّا الاعتبارىّ الصّرف.

فإذن ، وجود المجعول الأوّل هو بعينه عقل جاعله الحقّ إياه من غير صورة متقرّرة منه فيه ، تعالى عنه. وعلى هذه السنّة وجودات الجواهر العقليّة وما فيها من صور الموجودات [٩٦ ظ] المرسلة والشّخصيّة الكليّة والجزئيّة بأعيان تلك الجواهر والصّور ، وكذلك نظام الوجود على ما هو عليه بقضّه وقضيضه وضرّاته وذرّاته ، إذ الوجود منساق منه ، تعالى ، على الترتيب إلى التفصيل الّذي لا تفصيل بعده وقد تلونا عليك : أنّ كلّا من المعلولات الأخيرة كالكيانيّات وإن لم يكن مستندا إليه في السلسلة الطّوليّة من بدء الأمر إلّا أنّها مستندة إليه ، عزّ اسمه ، في السلسلة العرضيّة ابتداء بالذّات وبالقصد الأوّل.

فكلّ معلول أخيرا في الترتيب ، كما يفتاق إلى الجاعل الحقّ من حيث إنّه علّة علّته ، فكذلك هو ، بما هو يفتاق إليه بالذّات مع عزل النظر عن المتوسّطات ، لكونه من الجائزات ، وطباع الجواز موجب الافتياق إلى الواجب بالذّات بتّة ، فالفاقة إلى القيّوم الحقّ ، والاستناد إليه طباعىّ كلّ ماهيّة ممكنة ، ومن خواصّ كلّ هويّة جائزة. وقاطبة الجائزات بأسرها بحسب هذه الفاقة والاستناد سلسلة عرضيّة منتهية إليه ،

١٧٣

جلّ جنابه ، بالذّات وبالقصد الأوّل من بدء الأمر.

فإذن ، المعلولات متضاعفة الفاقة إليه ، تعالى ، بحسب البعد عن جنابه في السلسلة الطّوليّة وبعدد ما يعوزه من المعدّات والشرائط ، وسواسية الفاقة إليه ، تقدّست أسماؤه ، بالنّظر إلى طباع الجواز وبحسب هويّاتها بأعيانها في السلسلة العرضيّة ، فهذا ما يهتف به البرهان من بطنان الحكمة.

تلويح

(٦٤ ـ الوجود الواجب بالذّات له الاضافة الجاعلية إلى غير ذاته)

أمّا قرع سمعك : أنّ النفس تستخدم قوّة سلطانها في حيّز الرّوح الّذي ، في الجزء الأوّل ، من التّجويف الأوسط الدّماغىّ ، تفصّل وتركّب [٩٦ ب] وترتّب ، هي المتفكّرة والمتخيّلة باعتبارين فبذلك الاستخدام تنزع الطّبائع من الشخصيّات وتأخذ النّتائج من المبادى ، فهى ، لا محالة ، تطالع الطّبائع المرسلة والهويّات الشّخصيّة والقوّة الخادمة جميعا. وتلك لا سبيل لها إلى مطالعة المرسلات ولا إلى مشاهدة نفسها ، لكونها جرمانيّة وتقرّر الجرميّات والجرمانيّات في ذواتها هو بعينه تقرّرها الرابطىّ للمادّة الّتي ليس طباع جوهريّتها إلّا فعليّة القوّة المحضة.

فنفسك كما تعقل ذاتها بنفس هويّتها العينيّة ، تدرك قواها الشّخصيّة بنفس هويّاتها وصور المرسلات المتقرّرة في ذاتها ، والشّخصيّات المنطبعة في تلك القوى الحاضرة لها بنفس تلك الصّور. والمدرك هو نفس الصّورة الحاضرة ، لا ما خرج عن التصوّر ، إلّا بقصد ثان.

فإذن ، لا إدراك بالحقيقة إلّا العلوم الحضوريّة الشهوريّة. والنفس غير غائبة عن ذاتها ولا قواها ، ولا الصّور المتمثّلة فيها وفي قواها محجوبة عنها ، ولا بدنها الشخصىّ مختف عليها. وأمّا الإدراكات الانطباعيّة فعلوم بالعرض لمعلومات لا بالذّات بل بالقصد الثّاني. ولو كان تجرّد النفس أكثر وأشدّ كان الإدراك لذاتها أزيد وأتمّ ، ولو كان سلطانها على البدن أقوى كان حضور قواها أشدّ وظهور [الصّور] المنطبعة أصفى ، ولو كنّا ذا سلطنة على غير بدننا سلطتنا عليه لكنّا أدركنا إياه.

فإذن قد لاح أنّ الوجود البحت الواجب بالذّات ، إذ هو أعلى ما يتصوّر تجرّدا و

١٧٤

تقدّسا ، وأقدس ما يعقل تعاليا وتمجّدا ، وله إضافة الجاعليّة إلى ما سوى ذاته طرّا ، وسلطانها على الكلّ لا يحدّ ولا يقاس ، فأعداد الوجود وذرّاته سواسية الهويّات في الحضور لديه والمثول [٩٧ ظ] بين يديه بذواتها وأعيانها ، وهو بكلّ شيء محيط ، ([أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ]) (فصّلت ، ٥٤).

تقديس

(٦٥ ـ ذات الجاعل العالم محيط بكل المعلومات)

لا يستحلّنّ أن يقال : إنه ، سبحانه ، يعقل الأشياء من الأشياء ، وإنّ للأشياء صورا متقرّرة في ذاته ، تعالى عن ذلك مجده. وإلّا فإمّا ذاته متقوّمة بما يعقل فيكون تقوّمه بالأشياء ، وإمّا يعرضه بعد مرتبة الذّات أن يعقل فلا يكون واجب الذّات من كلّ جهة بذاته ، ويكون لو لا امور من خارج لم يكن هو بحال هو كمال له ، ويكون له تجمّل بحال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ، فيكون لغيره فيه تأثير ، ويكون الجاعل الواجب محلّا لمجعولاته الجائزة ، وتكون المتكثّرات منطبعة في الأحد الحقّ ، ويكون تقرّر الصّور في ذاته غير مسبوق بعقله إيّاها مسبوقيّة بالذّات ، فيكون نفس الذّات مبدأ اقتضائها لا عن علم ، كالطّبائع العديمة الإدراك في مرتبة الذّات للوازمها ، ويكون الأشياء بهويّاتها العينيّة غير معلومة له بالحقيقة ، بل إنّما بالعرض ، إذ تلك شاكلة العلوم الانطباعيّة. والأصول المسلفة تبطل هذه التوالى وما شاكلها.

فإذن ، إنّما عقله للأشياء من ذاته ، فيعلم من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للموجودات التامّة بأعيانها ، وللموجودات الكائنة الفاسدة بطبائع أنواعها أوّلا ، ثمّ بهويّات أشخاصها. فكلّ ما عقله خيرا فقد جعله ، والأشياء عقلت من ذاته ، فجعلت من تلقائه.

ثمّ وجودها في الأعيان هو بعينه عقله إيّاها ، ومعقوليّتها له صدورها عنه منكشفة غير محجوبة ، وليس [أنّ] له الإضافة العقليّة [إليها] من حيث وجودها في الأعيان [فيلزم أن لا يعقل المعدوم منها إلى أن يتقرّر في الأعيان] ، فيكون لا يعقل من نفسه أنّه مبدأ [٩٧ ب] ذلك الشّيء على التّرتيب إلّا عند فعليّته ، فلا يعقل ذاته ، لأنّ ما من شأن ذاته بذاته أن يفيض عنه كلّ تقرّر وكلّ وجود ، وإدراك الذّات ، من حيث من شأنها أن يصدر عنها كذا ، موجب إدراك كذا ، بل متضمّنه بتّة وإن لم يوجد كذا بالفعل.

١٧٥

فإذن يجب أن يكون العالم الرّبوبىّ محيطا بالوجود الحاصل بالفعل والممكن الفعليّة من حيث الإحاطة بأسبابه المنتهية إلى الانسياق إليه في الترتيب الواجب من تلقاء الفياضيّة المطلقة الربوبيّة فيكون لذاته الحقّة إضافة العاقليّة إلى الأشياء طرّا من حيث هي معقولة من تلك الجهة المساقة إلى وجودها في الأعيان ، لا من حيث لها وجود في الأعيان تتبعه المعقوليّة.

فعلمه المحيط بالأشياء الموجودة قبل وجودها ومع وجودها على نمط واحد. وليس يسوغ أن يكون معقوليّتها له قبل تقرّرها في الأعيان ، إنّما تصحّحها وفعليّتها من حيث هي صور موجودة في عقل أو نفس. فإذا عقل الفياض الحقّ تلك الصور ارتسمت في أيّهما كان ، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوع لتلك الصّور المعقولة ، وهي معقولته على أنّها فيه ، ومعقولة الفيّاض الحقّ على أنّها عنه ، وهو يعقل من ذاته أنّه مبدأ لها.

أليس يكون إذ ذاك من المجعولات ما المعقول منه أنّ الجاعل الحقّ مبدأ له بلا واسطة صورة علميّة سابقة ، بل يفيض تقرّره ووجوده عنه أوّلا من غير العلم به قبل الإفاضة قبليّة بالذّات ، وهو ذلك العقل أو النفس. وما المعقول منه أنّه مبدأ له بتوسّط صورة سابقة ، فهو يفيض عنه ثانيا ، وهو ما بعد المجعول الأوّل. والصّور المرتسمة في المجعول الأوّل [٩٨ ظ] تدخل أيضا في جملة ما الجاعل الحقّ يعقل ذاته مبدأ له وليست هي مسبوقة بصور أخرى قبلها ، فيلزم أن لا يكون صدور تلك الصّور ومحلّها عن الجاعل الحقّ على سبيل أنّها عقلت فجعلت.

وقد كنت تحقّقت أنّ سنّة إفاضته ، تعالى ، لأيّ شيء كان ، أنّه إذا عقله خيرا جعله وأفاضه. وكذلك من هذا السّبيل ليس يجوز أن يكون عقله للاشياء من حيث يكون لها وجود مفارق لذاته ، تعالى ، ولسائر الذوات كصور مفارقة على ترتيبات موضوعة في صقع الربوبيّة ، وهي الصّور الأفلاطونيّة على أنّ تلك الصّور إن صحّت تكون من الجائزات.

وقد برهنّا في صحفنا : على أنّ الجائزات بأسرها حوادث دهريّة ، وأنّ طباع الجواز يأبى الأزليّة السّرمديّة. وأفلاطون والأفلاطونيّون إخواننا الذّاهبون في الإيمان بهذه المسألة ، ومن المنصرح أنّ علم الجاعل الحقّ واجب الأزليّة غير سائغ

١٧٦

الانفصال عن السّرمديّة. فإذن ، وجب أن يكون الفيّاض الحقّ يعلم من ذاته قاطبة الأشياء على ما عليه نظام الوجود ونضده ، فإنّه يعقل ذاته ويعقل أنّ ذاته مبدأ كلّ طبيعة وكلّ هويّة، فيعقل من ذاته كلّ شيء طبيعة مرسلة كانت أو هويّة شخصيّة.

فذاته ، تعالى ، علم بسيط شيء ، فهو لذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثّر ذاته بها أو يتقرّر في ذاته صورها ، فالعالم الرّبوبىّ عظيم جدّا ، وهو بعين ذاته الأحد الحقّ كالصّورة العلميّة لجملة الأشياء ، وهو العلم بالأشياء قبل الجعل والإفاضة ، ثمّ هي تفيض عنه معقولة [٩٨ ب] غير محجوبة ، وصدورها عنه منكشفة حدوثا وبقاء هو نفس معلوميّتها له أخيرا عند التّقرّر ، فالجعل والإيجاد تفصيل العلم المتقدّم.

وبالجملة ، القيّوم الواجب مبدأ كلّ فيض ، وهو ظاهر بذاته. فهو بما هو ظاهر لذاته ينال الكلّ من ذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه. فعلمه بذاته وبالكلّ نفس ذاته ، ثمّ علمه بالكلّ أى : معلوميّة الكلّ له ، عين الكلّ. وبعد ذاته فيكثر علمه بالكلّ ، أى : معلوميّة الكلّ لدى التّقرّر بعد ذاته ويتّحد الكلّ بالنّسبة إلى ذاته ، فكأنّه هو الكلّ في وحدة ، وهو أولى بأن يكون علما بالكلّ من تلك التفاصيل الفائضة عن ذاته وعن علميّته.

تشريق

(٦٦ ـ علوم العقول من فيوض علم الحقّ سبحانه)

ألم تتحصّل ، في كتاب النفس ، من علم الطبيعة ، أنّ الإدراكات النفسيّة الانفعاليّة والفعليّة بأنواعها الأربعة ، من الإحساسات والتخيّلات والتّوهّمات والتعقّلات النفسانيّة المتبدّدة المبادى والمناسب ، إمّا رسم وروسم عن شاهد حسّيّ ، أو رشم وروشم عن طابع عقلىّ. وهي على لونين : إجماليّات وحدانيّة بصورة بسيطة واختزاليّات تفصيليّة بصور كثرانيّة. فالعقل البسيط في المرتبة الّتي هي العقل بالفعل مبدأ التفاصيل الفكريّة المتقرّرة في النفس ، لامعا ، دفعة ، بل على الترتيب والتدريج.

ومن ذلك : ما إذا نوظرت في مسألة ، فهجس في نفسك علمها دفعة ، بصورة وحدانيّة بسيطة ، هي بعينها فاعلة التفاصيل المتصوّرة في ترتيب الأجوبة ، فتلك المرتبة البسيطة هو علم بالفعل وصنيع الفعاليّة للمراتب الأخيرة المتتالية ، الّتي هي العلوم التفصيليّة ، كما قوّة القدرة على تحريك مرتبة وزينة بعينها من ثقيل [٩٩ ظ]

١٧٧

بعينه كالحديد قوّة وقدرة بالفعل على تحريك كلّ من شخصيّاتها المعيّنة بحسب موادّها الشّخصيّة. فأمّا المتكلّفون الحاسبون أنّها عقل لا بالفعل ، بل بالقوّة القريبة من الفعل ، فغير مميّزين بينها بالنسبة إلى تفاصيلها وبين العلم بالأصل ، ك «كلّ إنسان حيوان» ، بالنسبة إلى الفروع ، ك «زيد حيوان» و «عمرو حيوان».

فالعقل الإجمالىّ كأنه بعينه هو جملة تلك العقول التفصيليّة في وحدة. وليس في وسع النفس ما دامت في أرض الغربة ودار الجسد ، مكسوّة كسوة الحسّ مسحورة سحر الطّبيعة ، أن تعقل التفاصيل والكثرانيّات دفعة واحدة. فتعقّلاتها التفصيليّة ما دام لبثها في افق التقضّى والتّجدّد نفسانيّة على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول ، على التّدريج ، والتّرتيب.

نعم كلما كانت أوفر طسقا من رفض ظلمة الجسد ، وأكثر تحرّزا من شرّ سحر الطبيعة ، وأصدق تأسّيا وتشبّها بالعقول الفعّالة ، كان عقلها الإجمالىّ أحقّ فعليّة وأشدّ بساطة وأقوى فعاليّة للمراتب التفصيليّة وارتباطا بها. فكان ، لا محالة ، أشبه بعلوم العقول الّتي هي فيوض العلم الحقّ وظلاله. وأيها أيها لها مع تجرّدها وسبوغها أن تشبهه تماميّة وتقدّسا.

تقديس

(٦٧ ـ العلم البسيط الحقّ ابلغ العلوم تجردا)

فإذن ، قد استبان أنّ العلم البسيط الحقّ بالموجودات الّذي هو نفس ذات فاعلها القيّوم أبلغ العلوم تجرّدا وأقدسها بساطة وأتمّها خلّاقيّة للعلوم التّفصيليّة الّتي هي بعده. وهي ذوات الأشياء الصادرة عنه بطبائعها وهويّاتها ، وأنّ علمه ، جلّ ذكره ، بالتّفاصيل [٩٩ ب] ليس كالعلوم النّفسانيّة ، بل إنّه بقضّها وقضيضها ، أزلا وأبدا ، على شأن واحد وسنّة غير متبدّلة ، وإنّما عقله للشىء على أنّه عنه ، أى : على أن هو مبدأ فاعليّ له ، ويعقل غيره على أنّه فيه ، أى : على أن هو مبدأ قابلىّ. وبالجملة ، كما وجوده الّذي هو ذاته مباين لوجودات الموجودات ، فكذلك علمه مباين لعلوم الموجودات العاقلة ، وعلى هذه السّنّة جميع شئونه ، فهو لا يقاس بشيء ممّا سواه في حال من أحواله ، والعقول الخالصة القادسة في سبيل إدراكه دهشة حائرة.

١٧٨

استشراق

(٦٨ ـ الفاعل الحقّ العالم بالأشياء أقرب من كل شيء)

أليست الصّورة الذهنيّة المعلومة ، بالقصد الأوّل في العلوم الانطباعيّة مع مباينتها للذّات العينيّة في نحو الوجود والتّشخّص ، وتخالفهما في القيام بالذّات وبالغير ، عنوانا لمدركيّة تلك الذّات تامّة في محاكاتها والنّيابة عنها في الحضور ، ونسختها المطابقة لها في الانكشاف والمعلوميّة. فلا تستغربنّ أن يكون حضور الفاعل التّامّ الّذي يفعل الشّيء ويشيّئه بأنّه وذاته ، لا بصفة تلحق إنه وذاته ، هو كحضور ذلك الشّيء ، بل أقوى منه في تصحيح حكم الانكشاف. فالشيء يتميّز في الانكشاف عن أغياره بصورته الظّليّة القائمة بالذّهن ، وهي ظلّ ذاته العينيّة ، فكيف لا يتميّز بجاعله التام الذي منه جوهر ماهيّته وخصوصيّته ذاته وهويّته ، وهو بماهيّته وهويّته الخاصّة الممتازة عمّا عداه ظلّ إنه وذاته. بل لا تقاس تبعيّة ومقهوريّة إنّه وذاته لأنّه وذاته بتبعيّة ومقهوريّة الظّلّ لذى الظلّ.

وقل لى : ما حسبانك أ ، إذا كانت الحركة التوسّطيّة المستمرّة [١٠٠ ظ] الذّات الشّخصيّة الغير المستقرّة النّسب إلى الحدود المفترضة في المسافة عاقلة ذاتها الشّخصيّة على الجهتين ، وكذلك الآن السيّال والشّعلة المجتالة ، كانت من تعقّل ذواتها على الوصفين تعقل مرسوماتها الّتي هي الحركة القطعيّة والزمان الممتدّ والدّائرة المشعلة ، أم كانت تذهل عنها؟ لست أظنّك في ذلك من الممترين ، فما ظنّك براسم الذّوات والهويات بمجرّد إنّه الّذي هو نفس ذاته العليم.

فإذا كان كلّ جائز الماهيّة في حدّ ذاته ليسا صرفا ، ولا شيئا بحتا ، وإنّما تشيّأ ماهيّته وتجوهر ذاته وتعيّن هويّته من تلقاء المفيض الحقّ الّذي هو الجاعل البحت ، لا الشّيء الجاعل، فتكون جملة الجائزات لوازم إنّه الّذي هو صرف ذاته ، فتكون برمّتها لوازم ذاته بذاته.

فلا محالة ، ينطوى في ظهور ذاته ظهور أعداد التّقرّر وذرّات الوجود ، كما ينطوى في عقل النّفس ذاتها ونيلها شيئا ما عقل ذلك العقل ونيل النيل وعقل عقل العقل ونيل نيل النيل ، لا إلى نهاية. لست أقول إلى لا نهاية. وأمّا في عقل العقل ذاته فيتمادى إلى لا نهاية ، إذ ليس لذاته معنى ما بالقوّة بحسب نفس الأمر ، وإن كان في حدّ ذاته

١٧٩

بحت معنى ما بالقوّة.

وبالجملة ، الإيجاب والجعل التامّ يجعل الأثر المجعول بحيث يصير بالنّسبة إلى الموجب التامّ الجاعل بصرف ذاته : كهو مع نفسه في الارتباط والاقتراب وعدم الاستتار والاحتجاب. فلا تبتعدنّ عن السّبيل ، فبارئك المحيط أقرب إليك من ملاك نفسك إلى طلسم جسدك من طبائع ذاتك إلى جوهر هويّتك مرّات [١٠٠ ب] لا متناهية.

تقديس

(٦٩ ـ القيّوم بالذّات يعقل كلّ شيء عقلا غير زمانىّ)

أليس إذن من بتّىّ الثّبوت لديك : أنّ شخصيّات النّظام وذرّات الوجود ، أبديّاتها وبائداتها ، ثابتاتها ومتغيّراتها ، واجبة الانتهاء والاستناد إلى القيّوم بالذّات ، وهو عالم بذاته وبجميع جهاته ، أتمّ العلوم ، والعلم بالجاعل التامّ علم تامّ بمجعولاته. وأيضا الماهيّات والهويّات بأسرها متقرّرات رابطيّة ، إنّما تقرّرها ووجودها لجاعلها الحقّ. كما قال في القرآن الحكيم : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة ، ٢٥٥) ، ومعلوميّة الشّيء لغيره هي وجوده الرّابطىّ لذاته المجرّدة.

وأيضا ، قد أقرأناك ، من صحفنا ، أنّ قسطاس التشخّص ، بمعنى امتناع المقوليّة على الكثرة ، من بعد اعتبار التّمييز المستفاد من تضامّ الخواصّ والعوارض المسمّاة مشخّصات ، إنّما هو نحو الوجود المتخصّص من حيث الاستناد إلى الموجود الحقّ المتشخّص بنفسه في مرتبة ذاته.

فإذن ، ليس في منّة العقل الصّريح إلّا أن يستيقن أنّ العليم الحقّ يعقل الثّابتات الشّخصيّة بهويّاته الثّابتة ، والفاسدات المتشخّصة بشخصيّاتها الكائنة الفاسدة على أيّ ما هي عليه من الأوصاف والأحوال والجهات والأوضاع ، عقلا تامّا ثابتا قبل الكون وقبل الفساد وبعد الكون والفساد من سبيل واحد وعلى سنة واحدة.

فمن يحسب أنّه ، جلّ ذكره ، إنّما يعلم الفاسدات على الوجه الكلىّ ـ أى : كلّ شخصىّ منها بطبائع ومفهومات مرسلة منطبقة عليه بعينه ، لا تتعدّاه في الوجود ، وإن كانت في حدّ أنفسها لم تأب القول على الكثرة ، وليس يعلمها بهويّاتها الشّخصيّة [١٠١ ظ] المتغيّرة الفاسدة متغيّرة فاسدة على الوجوه الجزئيّة ، أو يتقوّل على الفلاسفة أنّهم

١٨٠