مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

نقصانيّتها ، لا أنّ في مفهوم الكون المصدريّ شدّة وضعفا.

تشريق

(٣٣ ـ التماميّة والنقص في موارد مختلفة)

فالتماميّة والنقص في الهويّة الفرديّة شدّة وضعف في الكيف ، وقلّة وكثرة في الكم المنفصل ، وزيادة ونقصان في الكم المتّصل. فتلك أنحاء مختلفة تستحقّ أسامى مختلفة.

أليس ما به الفضل في التّماميّة المقداريّة بما هي تلك التّماميّة ليس بنفس الهويّة التامّة ، بل عضة موهومة منها مضاهية الحقيقة للهويّة الناقصة ولمساويتها الّتي هي العضة الأخرى من الهويّة التامّة؟ فلذلك لم يكن يمتنع هناك الاتحاد في الوجود ، إذ كانت الحقيقة المشتركة [٧٤ ب] هي الممتدّ بالذّات ، وإنّما الافتراق بتخصّصات الأبعاد الامتداديّة في المساحة. وفي التماميّة الّتي في الكميّة الانفصاليّة بما هي تلك التماميّة أيضا عضة من الهويّة التامّة ولكن مباينة الماهيّة والوجود للعضة الأخرى منها ولمساويتها الّتي هي الهويّة الناقصة ، وليس يتصوّر هناك الاتحاد بالوجود أصلا.

وأمّا التماميّة الّتي في الكيف بما هي تلك ، فطباعها : أنّ ما به الفضل فيها ليس عضة من الهويّة التامّة موجودة أو موهومة ؛ بل ما به الأتميّة هناك هي نفس خصوصيّة الهويّة التامّة من حيث تلك الهويّة بكليّة ذاتها الخاصّة.

وإنّما يستتبّ ذلك لو كان لطبيعة ما جنسيّة ، كالماهيّة السواديّة ، فصلان يحصّلان حقيقتين متباينتين. يكون كلّ واحدة منهما بنفسها أتمّ وأشدّ من الأخرى ، لا بجزئها الممايز في الوجود أو في الوهم للجزء الآخر ؛ إذ لو صحّ ذلك من تضامّ طبيعة نوعيّة مشتركة وعوارض لاحقة مصنّفة أو مشخّصة كانت تلك العوارض ، لا محالة ، متمايزة في الوجود والتصوّر ، وإن كانت الطبيعة موجودة بعين وجود الصّنف والشخص بتّة. فكان ما به الأتمّيّة في الهويّة الشديدة الصّنفيّة أو الشّخصيّة عضة منها متميّزة الوجود أو الوضع ، وهو خرق الفرض ومخالفة الحدس والفطرة.

فإذن ، قد استبان سبيل البرهان : على أنّ الشدّة والضّعف بتباين الحقيقة النّوعيّة واختلاف الفصول المقوّمة ، والتّشديد والضعيف مختلفان بالنّوع ، وكذلك الكثرة والقلة والكثير والقليل ، بتّة [٧٥ ظ]. وأمّا الزيادة والنّقصان فباختلاف المشخّصات و

١٤١

تكثّر الهويّات الشّخصيّة ، وكان ذلك أيضا على سلف العشيرة عسيرا ، فاضطرّهم إلى أن يكلوا الأمر رأسا إلى الحدس الصائب. فإذن ليس في الكيف زيادة ونقصان ، ولا تزيّد وتنقّص ، بل إنّما شدّة وضعف [واشتداد وتضعّف. ولا في الكم شدة وضعف] ولا اشتداد وتضعّف ، بل إنّما الزيادة والنّقصان والتزيّد والتنقّص.

وأمّا مقولة الجوهر ، فليس يصحّ فيها شيء من ذلك ، وليس الاشتداد ببقاء الضعيف متغيّرا في نفسه ، ولا بانضمام شيء ما إليه ، بل بتحرّك الجوهر الموضوع باقيا بعينه ، على أن ينسلخ عن النّوع الضّعيف ويتلبّس بالنّوع الشّديد بالحركة ، وهذا الأخير قد استمرّ عليه اتفاق الفئتين.

تشريق

(٣٤ ـ في تشكيك الطبيعة المرسلة)

فإن شاء شاء أن ينقاد للحقّ ، يستمع لضابطة الاختلاف التشكيكىّ ، فليعلم أنّ التّشكيك : هو أن يختلف قول الطبيعة المرسلة على أفرادها في نحو الفرديّة وفي درجة الفرديّة وأنواعه أولويّة وأقدميّة وأتميّة ، إمّا بالأشديّة أو بالأكثريّة أو بالأزيديّة. وأمّا الاختلاف بالنفسيّة والجزئيّة وبالذّاتيّة والعرضيّة ، فوراء طباع التشكيك ، وليس يسوغ شيء من الأنواع في الماهيّة وفي جوهريّاتها أصلا. أمّا الأوّلان ، فلاستواء نسبته الطبيعة إلى الأشياء الطّبيعيّة الّتي هي ذاتيّة لها ، وامتناع تخلّل الاقتضاء بين جوهر الشّيء وجوهريّة. وأمّا الأخير بأصنافه الثلاثة ، فلما تلى عليك [٧٥ ب] ، والنقض بالعارض ساقط.

فالذى يقال بالتّشكيك مطلقا هو العرضىّ المحمول. والكماليّة المعتبرة في الأتميّة منه إنّما هي في خصوصيّة الفرد القائم في المعروض من أفراد العارض المبدأ لاشتقاق المحمول بحسب الهويّة الفرديّة. فطبيعة السّواد ، مثلا ، على التّواطى الصّرف في أفرادها الشديدة والضعيفة قاطبة. وإنّما المشكّك مفهوم الأسود على معروضي الفردين المختلفين بالشدّة والضّعف في حدّ الهويّة الفرديّة. وأمّا ازدياد الطبيعة المرسلة في بعض الأفراد فقد أحاله البرهان المتلوّ عليك إحالة مرسلة على الإطلاق.

فكما لا كميّة أزيد في أنّها كميّة من كميّة وإن كانت كميّة أزيد من كميّة ، ولا كثرة أكثر في أنّها كثرة من كثرة وإن كانت كثرة أكثر من كثرة ، ولا سواد أشدّ في أنّه سواد

١٤٢

من سواد وإن كان سواد أشدّ من سواد ؛ فكذلك لا متكمّم أزيد في أنّه متكمّم من متكمّم وإن كان متكمّم أزيد في الكميّة العارضة له من متكمّم آخر في كميته العارضة ، ولا متكثّر أكثر في أنّه متكثّر من متكثر وإن كان متكثر أكثر عددا ـ العدد العارض له ـ من متكثّر آخر في عدده القائم فيه ، ولا مسودّ أشدّ في أنّه أسود من مسوّد وإن كان مسوّد أشدّ في سواده القائم فيه من مسوّد آخر في سواده.

فإذن ، لا تشكيك إلّا في «المشتقّ» عن العوارض المختلفة بالتماميّة والنقصيّة في حدّ هويّاتها المتخصّصة ، لا في سنخ ماهيّتها المرسلة بالقياس إلى معروضاتها الّتي هي أفراد بالعرض للمشتقّ.

وإذ مقولة «الجوهر» ماهية [٧٦ ظ] منعوتيّة غير قائمة في شيء ، فلا تشكيك فيها أصلا ، ولا جوهر أتمّ جوهرية من جوهر ، بل إنّما الجواهر الأولى أولى وأقدم من الجواهر الثّانية في التّجوهر والوجود ، لا في الجوهريّة. وربّ حقيقة جوهرية هي كاملة تامّة بحسب ذاتها الخاصّة بالقياس إلى حقيقة أخرى ناقصة جوهريّة. كالعقل بالنسبة إلى الهيولى ، والإنسان بالنسبة إلى الفرس ، لا في طباع الجوهريّة ، ولا على شاكلة التماميّة الّتي تعرّفتها في الكيف والكمّ.

ثمّ المتّصل والمنفصل والوجود المطلق الفطرىّ التّصوّر يختلف في الموجودات بالأولويّة والأقدميّة ، وليس يتصوّر له أفراد متحصّلة في أنفسها حتّى يصحّ اختلاف بينها بالتماميّة والنقصان ، بل إنّما حصص متخصصة متمايزة بنفس الإضافة إلى الموضوعات المختلفة ، لا قبل الإضافة.

تقديس

(٣٥ ـ الواجب بالذّات هو الواجب الحقّ والكمال المطلق)

ألم يستبن لك أنّ حيثيّة الوجوب بالذّات فعليّة محضة من كلّ جهة ليس يعتريها شوب قوّة ، ولا يشذّ عنها حيثيّة ما كماليّة أصلا ، بل هي بعينها جملة الحيثيّات الكماليّة والتماميّة وفوق التماميّة. فإذن ، وجود الواجب بالذّات وكمال وجوده ، وحقيقته وكمال حقيقته واحد ، وكذلك كماله وأقصى الكمال أى : لا تناهيه في مراتب الشدّة واحد. فليس يصحّ أن يكون واجبان بالذّات ، مختلفا الهويّة بالتماميّة واللاتماميّة ، حتّى يكون

١٤٣

أحدهما أتمّ حقيقة وأكمل هوية وأجمل ذاتا وأسبغ كمالا من الآخر. فالواجب بالذّات هو الوجود الصّرف والوجوب البحت والجمال الحقّ والكمال المطلق.

تقديس

(٣٦ ـ حقيقة الوجوب لا تكون ماهيّة نوعيّة)

إنّ حقيقة [٧٦ ب] وجوب التّقرّر والوجود بالذّات يمتنع أن تكون ماهيّة نوعيّة لمختلفين بالعدد. ألم يبلغك ما أثبتناه ، في صحفنا ، أنّ كلّ ما يخصّه حدّ نوعىّ ، فإنّه لا يحتمل أشخاصا كثيرة إلّا من جهة المادّة. أليس ما هو في ذاته بريء من الشوائب المادّيّة والغواشى الغريبة الّتي لا تلزم ماهيّته ، عن ماهيّته. إنّما يلحقه ما يتبع ماهيّته عن ماهيّته. فلا يمكن أن يتكثّر إلّا بالماهيّة ، لا بالأشخاص الداخلة تحت ماهيّة محصّلة نوعيّة. فإنّما تشخّص النّوع المتكثّر الأشخاص بالمادّة الحاملة ، من حيث إنّها تقبل الشخصيّات الكثيرة ، لا من حيث إنّها تفعل التشخّص ، أو إنّ لها صنعا ما في فعله ، بل جاعل التّقرّر والوجود هو الّذي يفعل التشخّص. على أن من تلقائه الوجود المتعين بامتناع الشركة من حيث الارتباط بالمتشخّص بالذّات. والأعراض المحمولة ، كالأين والوضع ومتى ، مثلا ، مسماة بالمشخّصات ، على أن هي لوازم وأمارات لمشخّصيّة الوجود المادّيّ.

فإذن ، الماهيّة المجرّدة عن المادّة لا يمكن أن تكون لذاتين ، وإنّما من حقّ طباعها أن يكون نوعها لشخصها بعينه ، والشيئان إنّما هما اثنان ، إمّا بسبب المعنى ، وإمّا بسبب الحامل للمعنى ، وإمّا بسبب الوضع والمكان أو الوقت والزمان ، وبالجملة لعلّة من العلل.

فكلّ معنى موجود بعينه ، لا لشخص بعينه فقط ، فهو متعلّق الذّات ، لا محالة ، بشيء من العلل ولواحق العلل ، فلا يكون هو بعينه الحقيقة القيّوميّة الّتي هي بعينها الوجوب بالذّات. ومن أسلوب آخر : المعنى الوحدانىّ لا يتكثّر بذاته ، وإلّا لم يكن يوجد لواحد ، [٧٧ ظ] وإذ لا وحدة فلا كثرة. فنكون إذا كثّرناه بنفسه ، فقد أبطلنا كثرته ، فقد أبطلنا نفسه. فإذن وجب أن يكون لتكثّره ولوجود كثيرين منه علل ، فاستحال أن يتصوّر ذلك في حقيقة الوجوب بالذّات بتّة.

وأيضا لو كان معنى الوجوب بالذّات طباعا نوعيّا ، وليس هو لواحد شخصىّ

١٤٤

بعينه فقط ، بل ولغيره أيضا : فإمّا أنّ كون ذلك الواحد واجبا بالذّات هو نفس كونه هو بعينه ، فلا يكون الغير واجبا بالذّات بالضّرورة ، وإمّا أنّ كونه واجبا بالذّات أمر وراء كونه هو بعينه ، فيكون هو بعينه شيئا خارجا عن طباع الوجوب بالذّات ، فيكون هو بهويّته المعيّنة ، لا محالة ، جائزا فاقرا معلولا.

تقديس

(٣٧ ـ حقيقة الوجوب لا تكون ماهيّة مبهمة)

وكما امتنع أن تكون حقيقة الوجوب بالذّات ماهيّة محصّلة نوعيّة ، فكذلك يستحيل أن تكون هي طبيعة مبهمة جنسيّة منقسمة بالفصول. أما استبان لك ، في الحكمة الّتي هي فوق الطبيعة وفي الفلسفة الّتي هي مكيال العلوم ، أنّ الفصل أو ما يقام مقامه ليس يستتبّ لجوهر الجنس ، أى : ليس يفتاق إليه قوام سنخ الطبيعة الجنسيّة أو ما يقام مقامها ، بل الفصول مضمّنة في سنخ جوهر الطبيعة المرسلة المبهمة الّتي هي الجنس ، وإنّما فصل ما بعينه يعيّنها ويحصّلها ويفيدها استكمال تقوّم الحقيقة التّامّة المحصّلة واستتمام تصحّح الإنيّة والحصول بالفعل؟

فإذن ، إذا كانت الطبيعة ، كالحيوان واللّون ، أى : ليس الحصول بالفعل هو نفس طباعها ولا مضمّمنا في جوهر ذاتها ، ساغ أن يكون قد بقى لها منتظرا أن تتقوّم ذاتا خاصّة في الوجود وحقيقة [٧٧ ب] مستتمّة التّحصّل في الفعليّة ، فيكون لها فصل ليس يفيد المعنى الجنسىّ حقيقته وقوام جوهره من حيث معناه ، بل يفيده التقوّم بالفعل ذاتا محصّلة موجودة.

فأمّا حقيقة الوجوب بالذّات فهى نفس تأكّد التّقرّر وتمحّض الوجوب ، وليست الموجوديّة بالفعل أمرا خارجا عن مرتبة نفسها وعن معنى ذاتها. فلو كان لها العموم الجنسىّ كان ما هو كالفصل هناك مفيدا معنى ذاتها وطباع حقيقتها. فكان ما هو كالفصل بما هو كالفصل داخلا في طبيعة ما هو كالجنس بما هو كالجنس ، في اللحاظ الّذي فيه تمايز موضوعى التّعيّن والإبهام مع تخالطهما ، وهو خلف فاسد.

تقديس

١٤٥

(٣٨ ـ الوجوب بالذات لا يحتمل الاشتراك)

وبالحريّ أن تقول قولا مرسلا : إنّ كلّ طبيعة مرسلة ، جنسا كانت أو نوعا ، فإنّ الفصل المنوّع أو الخاصّة المصنّفة أو المشخّصة ليس يسوغ أن يدخل في سنخ معناها ويفيد نفس ذاتها العامّة المرسلة ، بل إنّما يكون مناط تحصّلها ومعيار موجوديّتها بالفعل والوجوب بالذّات هو نفس التّقرّر والوجود ، مع امتناع البطلان وعدم العدم بالنّظر إلى نفس المعنى وطباع سنخ المفهوم. فإذن ، الموجوديّة بالفعل مثابتها هناك مثابة نفس اللونيّة والإنسانيّة هاهنا ، فكيف يصحّ أن تناط بشيء من الفصول أو الخصوصيّات والعوارض.

والواجب بالذّات هو الغنىّ المطلق ، وليس له وجود ثان ، بعد ما له في مرتبة ذاته بحسب نفس معناه. واللّون أو الإنسان ، له ، بعد اللّونيّة أو الإنسانيّة ، وجود يستند إلى علله. فإذن ، قد بزغ أنّ وجوب التّقرّر والوجوب بالذّات ليس يصحّ أن يكون طباعا يحتمل الاشتراك [٧٨ ظ] أصلا.

وبالجملة ، القيّوم الواجب بالذّات يجب أن يكون متوحّدا بحقيقته ومتشخصا بذاته. لست أقول «بلوازم حقيقته وبعوارض ذاته» ، وإلّا لم يكن ماهيته هي بعينها إنيّته. فليس يسوغ أن يقال له : إنّه طبيعة مرسلة ، ولا إنه شخص بعينه من طبيعة مرسلة ومن لوازم مخصّصة مشخّصة ، بل إنّه بنفس ذاته ينفرد ويمتاز عن كلّ شيء هو غير ذاته ؛ ويمتنع أن يكون حقيقته لغير هويّته الواحدة ، ولا يوصف بأنّه كلّىّ وطبيعة مرسلة ، ولا بأنّه جزئيّ وفرد من طبيعة مرسلة ، بل هو الواحد الحقّ من كلّ وجه ، والأحد المطلق من كلّ جهة.

تقديس

(٣٩ ـ المتوحّد بالحقيقة لا شريك له ، متقدس ، لا علّة له ، ولا حدّ له ، حقيقته وجوده) وإذ حقيقة الوجوب بالذّات فعليّة محضة من جميع الجهات. فالوحدة الشّخصيّة المبهمة ، كما للهيولى الأولى المبهمة الذّات الموجودة والمبهمة الهويّة الشّخصيّة ، ليست عن ساحة جنابه إلّا في قصيا مراتب النأى والابتعاد. وإذ هو متوحّد بالحقيقة متشخص بالذّات، غير متعلّق بالغير ، فلا مثل له. وإذ ليس يصحّ تكافؤ بينه وبين

١٤٦

شيء في قوّة الوجود ، فلا ندّ له ولا شريك له. وإذ هو وجود بحت متمجّد عن إمكان العدم وصحة الفساد ، متعال عن الموضوع ، متقدّس عن المادّة وعلائقها. والأضداد بما هي أضداد متفاسدة متكافئة إمكان الاستعقاب والتعقّب على موضوع واحد ، فلا ضدّ له ، ولا كيفيّة ، ولا كميّة ، ولا وضع ، ولا أين ، ولا متى له.

وإذ لا علّة له فلا لم له. وإذ لا جنس له ولا فصل ، بل لا جزء له أصلا ، ولا احتمال حيثيّة وحيثيّة فيه ، بل لا صحّة الاكتساء بحيثيّة مغايرة أصل الذّات مطلقا [٧٨ ب]. فلا حدّ له ولا ما يقام مقام الحدّ توسعا ولا ماهيّة له ، بل ماهيّته : إنّه ، وحقيقته : وجوده. وليس له شيء ممّا تشا به الذّات ، وإنّما يوصف بعد الإنيّة بسلب المشابهات عنه وبإيجاب الإضافات كلّها إليه ، فإنّ كلّ شيء منه. وليس شيء ممّا منه ، وهو كلّ شيء ، مشاركا له ، وليس هو شيئا من الأشياء بعده.

تقديس

(٤٠ ـ الواحد الحقيقىّ لا حدّ له فلا برهان عليه بل هو البرهان والشّاهد)

وإذا لا حدّ له ولا ما يقام مقام الحدّ على سبيل التوسّع ، بل إنّ العقل ربّما ألجأه الاضطرار في شرح اسمه إلى استيناف توسّع آخر في التوسّع المألوف ، والحدّ والبرهان متساوقان متشاركان ، فلا برهان عليه أصلا ، بل هو البرهان على الآفلين والآفلات ، أي : كلّ ما في عالم الجواز الّذي هو افول جوهر الذّات في الليس الخالص والهلاك السّاذج ؛ فهو الشّاهد على كلّ ماهيّة ووجود ، وكلّ ذات وصفة ، كما يقول القرآن الحكيم : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت ، ٥٣). ويقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (آل عمران ، ١٨).

وإنّما على السّبيل إليه دلائل واضحة وبوارق لامعة. فالذى يحاول ، أوّلا ، أن يبرهن عليه هو ثبوت ما من الثبوتات الرابطة في العقود الّتي هي الهليّات المركبة لشأن ما من الشئون الإضافيّة لذاته ، ككونه جاعل الماهيّات وصانع العالم ، أعني فاقة العالم إلى جاعليّته وصانعيّته على أن يكون حالا للعالم ، لا حالا للجاعل الصانع. أى : يلحظ أنّ العالم ذو جاعل صانع واجب الوجود. أو كونه فردا لمفهوم الموجود المطلق ، أى : كونه المنتزع منه لمفهوم الوجود المصدريّ الفطريّ و

١٤٧

المصداق لمفهوم الموجود المشتقّ منه ، أعنى استدعاء [٧٩ ظ] طباع هذا المفهوم المصدريّ ذلك ، على أن يكون بهذا اللحاظ حال المفهوم المنتزع ، لا حال الذّات الّتي هي المنتزع منه. فيبيّن الأمر من جهة العلّة ، إذ طباع الجواز وطبيعة الوجود بحسب صحّة الانتزاع بالفعل من الذّوات الجائزة علّة لذلك. فالمعلول بحسب الوجود المحمول ربّما يكون علّة بحسب الثّبوت الرّابط ، كالمؤلّف بالقياس إلى المؤلّف.

ولزوم الشّيء لملزومه قد يلحظ بحيث يكون حال الملزوم ، وقد يلحظ بحيث يكون حال اللّازم. ثمّ اللازم قد يكون بخصوصه علّة للّزوم مهما لحظ على أن هو حاله ، أى : اعتبر كون اللّازم بخصوصه بحيث لا يتبع إلّا ذلك الملزوم بعينه ، كما أنّ الملزوم أيضا علّة له مهما لحظ على أن هو حاله ، أى : اعتبر كونه في ذاته بحيث يستتبع ذلك اللّازم ، كما الحال في الحرارتين المختلفتين بالنّوع اللازمتين للشمس والنار ، وليس يلزم كون شيء واحد هو اللزوم مستندا إلى علّتين هما الملزوم واللازم.

فإذن ، يستبين ، بالفحص من طريق اللمّ ، أنّ العالم الموجود مفتاق البتّة في الحصول بالفعل إلى الصّانع الواجب بالذّات ، فيتمّ أنّ الواجب بالذّات صانع للعالم ، عقدا إيجابيا. فيكون إذن وجود موضوع ذلك العقد في نفسه من البيّنات بالضّرورة الفطريّة ، ثمّ يتدرّج على التنزل منه ومن وجوده وخيريّته إلى مراتب المجعولات على سبيل البرهان اللمّىّ إلى أقصى الوجود.

مفحص

(٤١ ـ الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر)

لا ينخبئنّ عن فطانتك : أنّ جوهريّات الماهيّات الجوازيّة ، وكذلك عرضيّاتها المقابلة للجوهريّات ، ليست هي المفهومات المعبّر عنها. فإنّ المعبّر به خاصّة [٧٩ ب] ولازم لما يعبّر عنه على الإطلاق ، وإنّما المحكوم عليه بأنّه جوهريّ أو عرضى هو المعبّر عنه الّذي هو بذاته مبدأ لزوم ذلك اللّازم وخاصيّته ، والاختلاف بالجوهريّة والعرضيّة في اولات العنوانات في حدّ ذواتها ، لا في مفهومات العنوانات أنفسها.

أليس ممّا قد بان لك في الفلسفة الّتي فوق الطبيعة : أنّ الفصول المقوّمة للأنواع مطلقا ، والأجناس العالية الّتي لا جنس فوقها ، إذ هي بسائط في ذواتها وعند العقل

١٤٨

أيضا لا يمكن تعريفها وتحديدها. والأشياء الّتي يؤتى به على أنّها فصول أو أجناس فإنّما هي تدلّ عليها ، وهي لوازم وعنوانات.

بل إنّ رهطا من شركائنا الرؤساء السّلّاف ربّما تسمعهم يقولون :

«ليس في قدرة البشر الوقوف على حقائق الأشياء ، ولا سيّما البسائط منها ، إلّا من سبيل اللوازم. ونحن لا نعرف حقيقة «الحيوان» ، مثلا ، وإنّما نعرف شيئا له خاصيّة الإدراك والفعل. والمدرك الفعّال ليس هو حقيقة الحيوان ، بل هو خاصّة أو لازم. والفصل الحقيقىّ له لسنا ندركه ، وكذلك لا نعرف حقيقة «الجسم» ، بل نعرف شيئا له هذه الخواصّ ، وهي الطّول والعرض والعمق» (ابن سينا ، التعليقات ، ص ٣٤).

والّذي يقضي به الفحص البالغ أنّه ربّما تنطبع في العقل حقيقة ، كجنس مقولة «الجوهر» ، وإذ هي بسيطة لا يحلّلها العقل إلى جنس وفصل ، فليس للعقل أنّ يعرّفها ويعبّر عنها بصرف كنهها ، فيدرك منها خاصيّة أوليّة تلزمها بنفس ذاتها. وهي أنّها ماهيّة منعوتيّة ، حقّها أنّها إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، فيعبّر عنها بتلك الخاصيّة ويجعلها عنوان نفس الحقيقة ، فمفهوم العنوان وإن كان عرضيّا لازما إلّا أنّ [٨٠ ظ] ذا العنوان والمعبّر عنه هو نفس جوهر الحقيقة. وفصول الأنواع بأسرها على هذه الشّاكلة.

فالفصل المقوّم للإنسان ، مثلا ، يدرك ويعبّر عنه بالناطق ، أى : مستحقّ إدراك الكليات ومبدأه ، لأنّه يدلّ على الفصل المقوّم ، وهو المعنى الّذي أوجب للنوع أن يكون ناطقا. فإذن التّحديد بمثل هذه الأشياء تكون رسوما اقيمت مقام الحدود على التوسّع ، لا حدودا حقيقيّة. وليس يتصوّر في الفصول والأجناس البسيطة إلّا مثل هذا التّحديد الّذي هو على سبيل التوسّع والتجوّز.

ثمّ المركّبات يصحّ تحديدها بالحدود التوسّعيّة وبالحدود الحقيقيّة أيضا. فالإنسان ، مثلا ، إذا عرّف ب «الحيوان الناطق». فإن عنى بهما مبدأهما ، أى : المعنى الّذي بنفسه أوجب الحيوانيّة والمعنى الّذي بنفسه أوجب الناطقيّة ، كان حدّا حقيقيّا من جنس وفصل حقيقيّين ؛ وإن عنى به عنواناهما المفهومان ، كان رسما

١٤٩

بالحقيقة وحدّا على التوسّع من جنس توسّعيّ وفصل توسّعيّ ، لا كالرّسوم المشهورة من العوارض اللاحقة والعرضيّات المصطلحة الّتي ليست هي عنوانات جوهر الحقيقة ، بل هي عنوانات امور تلحق الذّات بعد قوام الحقيقة ، كالضاحك والكاتب.

فإذن ، قد استبان : أنّ العرضىّ الّذي بإزائه الجوهريّ كالأبيض ، عنوان المفهوم منه ، وذو العنوان المعبّر عنه بالعنوان كلاهما عرضيّان. وأمّا الجوهرىّ ، فإنّ عنوان المفهوم منه عرضىّ ، بخلاف ذى العنوان المعبّر عنه بالعنوان ، فإنّه جوهرىّ بتّة. وإنّ أجزاء لحدّه البسيط أجزاء لحدّه ، لا لقوامه ، وأجزاء حد المركب ، أى : الجنس والفصل ، أجزاء لحدّه ولقوام جوهره جميعا. وإنّ الرؤساء الشّركاء يقولون : ربّما تقام رسوم [من أجناس وخواصّ مقام حدود حقيقيّة] من أجناس وفصول ، ويرومون بالخواصّ الفصول التوسّعيّة [٨٠ ب] المعبّر بها عن الفصول الحقيقيّة ، لدلالتها عليها بالذّات.

وبالجملة ، الفصول والأجناس البسيطة تلحظ لها لوازم وعنوانات يوصل الذهن تصوّرها إلى حاقّ الملزومات ؛ وتعريفها بها لا يقصر عن التعريف بالحدود ، فلذلك تعدّ حدودا على التوسّع ، وذلك في مطلبى «ما الاسميّة» و «ما الحقيقيّة» كليهما. والسؤال مطلقا عن نفس الماهيّة ، ولكن تارة بحسب استعمال الاسم وتارة بحسب التّقرّر والوجود. والأتباع المقلّدون ، إذ لا قسط لهم من التفتيش إلّا الذهول عن كنه الأمر ، يغلطون فيزعمون أنّه ريمت بالخواصّ العرضيّات اللاحقة المستعملة في إزاء الجوهريّات. ثمّ ربّما يخصّصون الحكم بمطلب «ما الشّارحة للاسم». وليسوا يشعرون أنّه إنّما المعلوم بالحقيقة في العلم الارتسامىّ الصّورة الّتي في الذهن ، ثمّ الأمر العينىّ معلوم ثان بالعرض لا بالحقيقة ، وأنّ افتراق العلم بالشيء بالوجه عن العلم بوجه الشّيء ليس إلّا بضرب من الاعتبار ؛ والمعلوم بالحقيقة في الصّورتين ليس إلّا كنه الوجه ؛ ولا علم بالذّات إلّا العلم بالكنه ، إلّا أنّه ربّما كان كنه شيء ما وجها لشيء آخر. فإذا اعتبر بما يصلح للانطباق عليه ، قيل : إنّ معلوميّته بالذّات معلوميّة ذلك بالعرض ، وليس يصحّ أن مائيّته أو هليّته مائيّة أو هليّة له. ثمّ إنّ مطلب «ما الشّارحة» ينقلب بعينه مطلب «ما الحقيقة» بعد العلم بالتقرّر ، فكيف يصحّ اختلاف الجواب فيهما بالحديّة والرسميّة؟

تقديس

١٥٠

(٤٢ ـ تعريف الحقيقة القيّومية متعالية عن الماهيّات الجائزات)

فاعلمن أنّ سنّة الحقيقة القيّوميّة الوجوبيّة متعالية عن شاكلة هذه الماهيّات ، فإنّها على الأحديّة الحقّة والبساطة المطلقة ، بخلاف البسائط الجوازيّة. فليس للعقول القادسة إلى اكتناه حقيقة يعبّر عنها بالوجوب بالذّات سبيل أصلا ، بل إنّما يعقل مفهوم الواجب بالذّات من غير أن يدرك شيء هو حكايته وعنوانه. لكنّ الفحص يشهد بلسان [٨١ ظ] البرهان : أنّ في التّقرّر قيّوما لو أدرك بذاته ، كان مفهوم الوجوب الذّاتيّ والواجب بالذّات عنوانا له وحكاية عنه. فهذا المفهوم له كعنوانات الجوهريّات للماهيّات. إلّا أنّ تلك بحسب إدراك القوى العاقلة ونيلها ، وهذا بحسب شهادة البرهان وحكمه ، مع أنّ العقول النّوريّة ليست بعقليّتها تنال من المشهود له شيئا. فإذن قد انفصلت وانحازت نسبة الوجوب بالذّات إلى البارئ الحقّ تعالى عن نسبة عرضيّات الماهيّات وجوهريّاتها إليها على الإطلاق.

فإذن ، شرح اسم القيّوم الواجب بالذّات يضطرّ العقل إلى أن يستأنف توسّعا آخر في التوسّع المألوف الشّائع في بسائط الجائزات على نمط أرفع واسلوب أقدس ، ويعبّر في زبر السّالفين عن استيناف التوسّع في التوسّع بالاضطرار ، ويجعل مقابلا للتوسّع وشقيقا له. وبالجملة إذ هو ، جلّ ذكره ، منفصل الحقيقة عمّا عداه مطلقا ، فليس له لازم يوصل تصوّره العقل إلى حقيقته ، بل لا وصول للعقول إلى حقيقته. فإذن ، كما لا حدّ له ، لا تعريف له يقوم مقام الحدّ على التوسّع ، بل هناك ضرب آخر من التوسّع يعرف بالاضطرار.

تشريق

(٤٣ ـ المعنى المصدرىّ لا يكون من عوارض الذّات والماهيّة)

كلّ معنى مصدريّ يكون مبدأ انتزاعه من الشّيء ذاته بذاته ، لا باقتضاء الذّات لذلك ، ولا باعتبار حيثيّة من الحيثيّات مع الذّات أصلا لا تقييديّة ولا تعليليّة ، فإنّ ما في ذلك الشّيء مطابق الانتزاع ومصداق الحمل بالذّات [٨١ ب] يجب أن يكون إمّا نفس ماهيّته ، كما في الإنسانيّة بالنّسبة إلى ذات الإنسان ، أو شيئا ممّا يدخل في جوهر الماهيّة ، كما في الحيوانيّة بالنّسبة إليه. وبالجملة ، لا يكون ذلك المعنى من لواحق الذّات وعوارض الماهيّة ، فإنّ شيئا من العوارض اللاحقة ليس ينتزع من

١٥١

الذّات بما هي هي ، ولا يحمل عليها بنفس جوهر الماهيّة.

تقديس

(٤٤ ـ وجوب التّقرّر للقيّوم الواجب يكون بنفس ذاته)

أما بان لك ، في ما سلف ، تصحّح قولنا : كما أنّ لازم الحقائق المختلفة يجب أن يكون في الحقيقة لازما للطباع المشترك ومستندا إليه ، والخصوصيّات بأسرها ملغاة ، فكذلك المعنى المصدرىّ المنتزع من ذاتين بنفس الذّات ـ لا بحيثيّة ما وراء الذّات ، تقييديّة أو تعليليّة ، كما الإنسانيّة من زيد وعمرو ، والحيوانيّة من الإنسان والفرس ـ يجب أن يكون ما هو مبدأ انتزاعه بالحقيقة ومطابق حمل المشتقّ منه بالذّات ، هو الطباع المشترك بين الذّاتين. ولا حظّ لشيء من الخصوصيّتين بخصوصهما من الدّخول في ذلك إلّا بالعرض ، وإلّا لم يكن يسوغ الانتزاع والحمل بالنّظر إلى الخصوصيّة الأخرى. وكذلك الوجود المنتزع من الماهيّات المتغايرة إنّما مناط منشئيّة انتزاعه حيثيّة مشتركة بين الجميع هي حيثيّة الصدور عن القيّوم الواجب بالذّات والاستناد إليه ؛ ولا مدخل في ذلك لخصوصيّة ماهيّة ما بخصوصها أصلا.

فالوجود إنّما ينتزع من الإنسان المتقرّر ، مثلا ، ويحمل عليه بما هو صادر عن القيّوم الواجب بالذّات ومستند إليه ، لا بما هو على خصوصيّة الانسانيّة ؛ وكذلك في قاطبة الماهيّات. وقد كنت دريت أنّ الوجود ووجوب التّقرّر والوجود يجب أن يكون للقيّوم الواجب [٨٢ ظ] بالذّات بنفس ذاته ، لا بحيثيّة ما غير الذّات أصلا.

فإذن لو فرض قيّومان واجبان بالذّات ـ تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك علوّا كبيرا ـ لكان مبدأ انتزاع الوجود ووجوب التّقرّر والوجود من كلّ واحد منهما ، ومطابق حمله عليه بالذّات هو الطّباع الذّاتىّ المشترك بينهما ، لا محالة ، وكانت الخصوصيّات ملغاة بالضّرورة الفحصيّة والغريزة العقليّة. فحينئذ نقول : ذلك الطّباع المشترك إمّا نفس الماهيّة المستتمّة التقوّم ، وإمّا داخل في الماهيّة ، وقد استبان لك سبيل إحالتهما جميعا.

تقديس

(٤٥ ـ الوجوب بالذّات عنوان حقيقة القيّوم بالذّات)

إنّك مهما حصّلت ما أصّلناه لك : ـ «أنّ الوجوب بالذّات هو بنفسه حقيقة ومبدع ، لا

١٥٢

أنّه وصف لماهيّة أو عارض لحقيقة ، و [أنّ معنى قولنا إنّه] واجب التّقرّر والوجود : أنّه يجب تقرّره ووجوده بنفس حقيقته ، وحقيقته وجوده ، ووجوده وجوبه ، لا أنّه ما يجب وجوده ، أى : شيء متقرّر موضوع فيه الوجود أو الوجوب. إذ ليس يتصوّر هناك محمول وراء نفس الموضوع ، وهو الواحد الحقّ والأحد البحت» ، ورسخ في سرّك عرق استتقانه واستحصافه ، وأنت مستقيم الجبلّة ، مستوى الغريزة ، ملقّح العقل بلقاح الاصول الحكميّة ، معاير النظر بمعايير الأحلام الفحصيّة ـ

انصرح لك أنّ مصداق ذلك الحمل وهو نفس ذات الحقّ بالذّات من دون قيام شيء به أو انتزاع مفهوم عنه أو إضافته إلى شيء أصلا ، هو الّذي قصارى عقليّة العقل أن يعبّر عنه بالوجوب بالذّات والقيّوم الواجب بالذّات ، ويجعل ذلك شرح اسمه وعنوان حقيقته ، من غير أنّ له سبيل إلّا إلى مجرّد المفهوم المعبّر به ، إذ هو المتمثّل فيه [٨٢ ب] ، وذو العنان والمعبّر عنه ليس للعقول أن تناله وتصل إلى إدراكه.

فإن كنت قد تعوّدت تثقيف البصيرة النافذة في عمق العلم وسمك الحكمة ، تعرّفت وتحقّقت : أنّ صرف الوجود الواحد الحقّ ، الّذي يمتنع أن ينقسم في ذاته ويتطرّق إليه التّحليل إلى شيء من وجوه الأثنوة أو انتزاع شيء من اعتبارات الكثرة ، ليس يمكن أن يختلف بالعدد ، وكلّ ما يقدّر أنّه ثان له فهو بعينه. والتقدير باطل ، لأنّ المعبّر عنه بالوجوب بالذّات قطعىّ الاشتراك بين اللذين هما مفروضا الوجوب بتّة. فإذ ليس هناك إلّا الحقيقة البسيطة الحقّة الصرفة لم يكن يتصوّر اختلاف بالعدد أصلا.

وبالجملة ، وجوب التّقرّر والوجود بالذّات يستحيل أن يكون عارضا لماهيّة ؛ وإلّا لكان معلولا في ذاته ، فلم يتصوّر أن يكون ينبوع الوجوبات ومفيض الحقائق بأسرها. وأيضا كانت تلك الماهيّة في مرتبة نفسها عروا عن الوجوب بالذّات. ثمّ إذا هي متكسّية به أخيرا ، فكانت بحسب مرتبة ذاتها ، إمّا ممكنة بالذّات ، أو ممتنعة بالذّات ، أو فاسخة ضابط القسمة المستوفاة الحقيقيّة المستغرقة قاطبة الذّوات والمفهومات والعقود بقاطبة الاعتبارات. فإذن هو بنفسه حقيقة بالذّات ، وليس يعقل فيه وقوع الاسم بالاشتراك على مختلفين بالمعنى.

فلو فرضت هناك اثنوة ، كان التميّز والتخصّص ، لا محالة ، بأمر آخر زائد على

١٥٣

حقيقة الوجوب بالذّات. فإن كان من لوازم نفس الحقيقة كان نوعها في شخصه ولم تكن اثنوة. وإن كان لاحقا غريبا افتيق إلى علّة منفصلة عن الحقيقة ، وانخرق فرض الوجوب بالذّات لكلّ من الاثنين المفروضين. ثمّ أيّا ما كان ، يلزم أن يكون الوجوب بالذّات طبيعة مرسلة متشخّصة بنفس [٨٣ ظ] الذّات. وذلك غير مشكوك ، في إحالته ، بما بان لك في ما قد سلف.

تقديس

(٤٦ ـ انتظم برهان التّوحيد نظمه الطبيعىّ)

ومن أسلوب آخر ، أما كان قد تبرهن لك امتناع أن تستند طبيعة ما وحدانيّة بما هي طبيعة واحدة إلى طبيعتين مختلفتين ، وسواء في ذلك التعاقب على التعقّب والتبادل من بدء الأمر والعلّة الجاعلة وسائر العلل. فإنّما العلّة على ذلك التقدير الطباع المشترك ، وليس يصحّ أن يكون مفهوم واحد لازما لكلّ من الحقائق المتكثّرة بخصوصيّتها ، بل إنّما الملزوم هناك بالذّات ما هو القدر المشترك ، وهو أمر واحد.

فإذن لو فرض تعدّد الواجب بالذّات على أن يكون مفهوم وجوب الوجود من العرضيّات اللازمة ـ تعالى الواجب الحقّ عن ذلك علوّا كبيرا ـ كان الملزوم بالذّات لطبيعة وجوب الوجود إنّما هو الطّباع الذّاتىّ المشترك بين الواجبين. فإذن ، يلزم أن يكون الواجب بالذّات قد فاتته البساطة الحقة ، واعتراه أن يكون ذا ماهيّة مرسلة غير متشخّصة بنفس الحقيقة ، جلّ عن ذلك كلّه مجده وعزّه.

وأيضا ، ألسنا قد نبّهناك : أنّ في طبيعة الماهيّة الجوازيّة تقرّرها وفعليّتها بالاستناد إلى الواجب بالذّات ، ومن طباع الوجوب بالذّات إبداعها وتأسيسها بالجعل والإفاضة. وما لا يكون استناد ماهيّة ما إليه مناط تصحّح فعليّة تلك الماهيّة ومستتبع انتزاع الوجود المطلق الفطريّ منها بالفعل ، فإنّه لا يستحقّ اسم الواجب بالذّات ، ولا يستوجب نصيبا من مفهوم المتقرّر بنفسه بحكم الحدس وقضاء البرهان؟

فإذن ، لو اختلف الواجب بالذّات بالعدد ـ تعالى عن ذلك ـ كان استناد [٨٣ ب] كلّ ماهيّة جائزة بعينها إلى كلّ من الواجبين موجب فعليّتها ومصحّح انتزاع الوجود المصدريّ منها وحمل الموجود المشتقّ منه عليها ، إذ لو تخصّص ذلك بأحدهما

١٥٤

بعينه لم يكن الآخر واجبا بالذّات. فإذن ، تعود خصوصيّة كلّ منهما ملغاة في الحكم ، ويرجع الأمر في مناطيّة الجاعليّة والمفيضية واستتباع الوجوب ، فالوجود المعبّر عن ذلك بالإيجاب ، ثمّ الإيجاد إلى القدر المشترك الذّاتيّ بين حقيقتى الواجبين.

ثمّ إنّه يختصّ حينئذ وجوب الوجود ولوازمه بذلك الطّباع المشترك ، وتنحاز خصوصيّة كلّ بخصوصه عمّا هو حقيقة الوجوب بالذّات وينخرق ما ريم بالفرض. فإذن ، قد انتظم برهان التّوحيد نظمه الطبيعىّ من أنهاج شتّى واستقام ما سلكته سلّاف الشّركاء من رؤساء العشيرة العقليّة من قبل.

تقديس

(٤٧ ـ المجعول الأوّل يستدعى الجاعل الواجب بالذّات)

هل تعرّفت في تضاعيف العلم الرّبوبىّ : أنّ المجعول الأوّل ، بما له الفاقة المقتضاة لطباع الجواز ، يستدعى الجاعل الواجب بالذّات ، وبما أنّه بخصوصيّة هويّته أكرم المجعولات المفارقة وأقدس المفارقات المجعولة وأتمّ الأنوار العقليّة المبدعة ، يأبى إلّا أن يكون في سلسلة البدء أقرب المبدعات من المبدع الحقّ ، فليس يتعلّق في تجوهره ووجوده إلّا بالقيّوم الواجب بالذّات ، ولا يفتاق مطلقا إلّا إليه؟ وقد كنّا أدريناك في ما سلف : أنّ من خواصّ القيّوميّة والوجوب بالذّات أن يتصحّح التّقرّر والوجود ، لأيّ شيء كان من الجائزات ، بالاستناد إليه بالفعل ، لا بوسط أو بوسوط ولا بشرط أو بشروط.

فإذن لو فرض واجبان [٨٤ ظ] بالذّات ، كان المجعول الأول بخصوص هويّته بالقياس إلى كلّ منهما ، بحيث يكون استناده إليه بالفعل مصحّح فعليّة التّقرّر والوجود له ، البتّة. فإن كان ذلك بالقياس إلى خصوصيّتهما ، بما هما الخصوصيتان ، كان يصحّ لهوية واحدة علتان مستبدّتان. وإن كان بالقياس إلى أمر واحد هو طبيعة مشتركة بينهما ، كانت هوية شخصيّة مجعولة طبيعة مرسلة بما هي مرسلة ، لا بما هي متشخصة.

تقديس

(٤٨ ـ الناظم للنظام الجملى الواحد الأتمّ نظام الخير قيّوم واحد)

هل أتاك نبأ ما أصّلناه نحن لمعاشر الحكماء الرّبّانيّين في أمر النظام الجملىّ لعوالم

١٥٥

الجواز المعبّر عنه بنظام الخير : أنّه شخصىّ واحد بالارتباط والاجتماع بالفعل في وعاء الوجود الّذي هو الدهر وإن كان متكثّرا بالأجزاء والتأليف ، فإنّ ضرورة وجود الشّيء عند وجود أجزائه بالأسر من الفطريّات ، وليس يعتبر تألّف الشخص الجملىّ إلّا من الموجودات بالأسر؟

وأيضا للهيئة الجمليّة والمرتبة الاجتماعيّة ، كالخمسيّة والعشريّة ، مثلا ، معروض حاصل بالفعل في الأعيان بتّة ، بكون العروض بحسب الأعيان وإن كان في الذّهن ، لأنّ العارض ، أعني المجموعيّة ، من الاعتبارات الذّهنيّة ، وليس هو شيئا من الآحاد والعضين ، فيكون هو ، لا محالة ، المجموع. وكلّ مجموع آحاد من شخصيّات صرفة أو هويّات شخصيّة وطبائع مرسلة ، فإنّه بهويّته المجموعيّة شيء وراء الأجزاء ، وإن هو إلّا واحد شخصىّ ليس يحتمل الشركة.

ثمّ هل استنام سرّك إلى ما برهنّا عليه : أنّ الشخص الجملىّ أتمّ ما يعقل من النظامات وأسبغها وليس يسوغ أن [٨٤ ب] يتصوّر نظام آخر هو فوقه تماميّة وكمالا ، أو في حيّزه خيريّة وسبوغا. فالأتمّ من هذا النظام ليس من مفهومات هي لحقائق سائغة التّقرّر ، بل هو مفهوم يختلقه الذّهن. ونظام الخير التامّ الشريف السّائغ يأبى إلّا أن يكون نوعه في شخصه الحاصل بعينه. أليس ما ليس وجوده في مادّة أو عن مادّة لا يعوزه استعداد مرهون بأمد واستحقاق مربوط بأجل ، فيمتنع أن يكون ممنوعا عن قسطه الأوفر ، أو معوّقا عن كماله الأوفى وأن يكون نوعه متكثر الأشخاص. وأيضا قانون الإمكان الأشرف منسحب الحكم على كلّ ما ليس تحت الكون وفي افق الزمان ومتيهة الهيولى.

وأيضا ، القيّوم الواجب بالذّات هو الّذي بذاته يعقل النّظام الجملىّ الواحد بالشخص ، إذ لا خارج عنه سواه. وما لم يكن المجعول من جاعله التامّ على أقرب النّسب بالقياس إلى غيره لم يتخصّص ممّا عداه بالاستناد إليه بتّة. فإذ الجاعل تامّ وفوق التمام ، وهو بذاته يعلم ذاته ولوازم ذاته بذاته ، فلمّا عقل من ذاته خيريّة نظام الكلّ على الوجه الأتمّ الأسبغ والكمال الأفضل الأقصى أوجبت عنايته وجواديّته أن يفعله بذاته.

فكما أنّ النّور المفارق ، أعني الجوهر العقلىّ ، يتحد فيه مطلب «ما هو» ومطلب «لم

١٥٦

هو» ، وعلّته الفاعلة هي علّته الغائيّة ، وأيضا علّة بدئه هي بعينها علّة تمامه ، إذ ليس يتصوّر هناك بدء متقادم وتمام متراخ ؛ فكذلك النظام النظامىّ الجملىّ ، فمهما علم «ما هو» ، وعلم أنّ بدأه هو بعينه تمامه ، ووجوده بعينه كماله ، وفاعله هو بعينه غايته وليس يعقل له خير مرجوّ وكمال مرتقب ، إذ ليس هو حاصل الفعليّة [٨٥ ظ] عن الهيولى القابلة قائم الوجود فيها ، فهو ، لا محالة خير ما يمكن ، وأفضل ما يصحّ وأكمل ما يتصوّر.

فإذن إذا لوحظ الشخص الجملىّ بوحدته الشّخصيّة ، بان أنّ فاعله وغايته بالذّات وبالقصد الأوّل إنّما هو الجاعل الّذي هو مبدأه بذاته من غير وسط وشرط أصلا. وإذا ريم تشريحه والنظر فيه على سنّة المشرّحين ، استبان أنّ أشرف أعضائه النّوريّة العقليّة وأفضلها هو أقرب أجزائه من الجاعل الحقّ في سلسلة البدء ، وأكرم المجعولات وأقدمها بحسب الترتيب من تلقاء جوده ، ثمّ يتلوه في المجعوليّة ما يتلوه بالرتبة ، وهكذا إلى أن يبلغ الأمر أقصى الوجود.

فإذن ما أسهل ما يتأتّى لك بالاصول المعطاة أن ترى من قطعيّاتك أنّ تعدّد الواجب بالذّات مبدأ استيجاب طباع مشترك يستند إليه شخص هذا النظام الجملىّ المتّسق ، فيلزم أن تكون العلّة الجاعلة للهويّة الواحدة بالشخص طبيعة مرسلة ، وذلك أمر غير سائغ ، فيفسد النظام الشخصىّ المتّسق. فإذن ، قد انصرح كنه الأمر وبزغ نور الحقّ وذاع سرّ ما قد قيل : «أبى النظام شمسين ، فكيف لا يأبى إلهين». فربّما يقال من باب ضرب الأمثال : «نور الأنوار شمس عالم العقل» وإن كان لا نسبة بالحقيقة بين النّسبتين أصلا.

ولعلّ هذا الأسلوب أدقّ الأساليب وأحقّها في قول الله العظيم في القرآن الحكيم : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء ، ٢٢). فمعاد ضمير التثنية جملة عوالم السّماويّات من العقول والنفوس والأجرام ، وعوالم الأسطقسّيات [٨٥ ب] من الأجسام والطّبائع والقوى والنفوس. وأمّا مسألة التمانع وما يجري مجراها ، فإنّما تورد على سبيل قشور الأقوال لإرشاد الغاغة من العوامّ ، لا على سياق لبّ الأسرار والحقائق المقشوّة لإدراك الراسخين في العلم من الخاصّة.

تقديس

(٤٩ ـ القيّوم الواجب هو الوجود الصرف الحقّ)

١٥٧

أليس لا ميز في صرف شيء ، فصرف الوجود الّذي لا أتمّ منه ، وهو تامّ المجد والبهاء ، وفوق التمام بما لا يتناهى من القوّة والشدّة ، كلّ ما فرضته على أنّه ثان له ، فإذا حدّقت النظر فيه لم تجده إلّا نفس الأوّل ، فكان هو بعينه.

فالقيّوم الواجب بالذّات ، إذ تقدّس عن ماهيّة وراء الوجود ، فهو النّور الحقّ المحض والوجود الصّرف البحت ، الّذي لا يشوبه شيء ، من خصوص وعموم وتحيّث وإرسال أصلا ، وهو كلّ الوجود وكلّه الوجود ، وكلّ البهاء والكمال ، وكلّه البهاء والكمال ، وما سواه على الإطلاق لمعات نوره ورشحات جوده وظلال ذاته. وإذ كلّ هويّة من نور هويّته ، فهو الحق المطلق ، ولا هو على الإطلاق إلّا هو ، وأنّ تعدّده محال بالذّات ، لا في الأعيان فقط ، بل وفي التّصوّر أيضا.

فإذن ، كلّ ذى ماهيّة مجعول ، والجاعل لا ماهيّة له ، وهو الأول الحقّ. والثوانى وهي قاطبة ما سواه لها ماهيّات هي بأنفسها أفراد مفهوم ما بالقوّة ، وفي حيّز ذواتها بما هي هي جائزة التّقرّر والوجود ، وليس تعرض لها الفعليّة إلّا من تلقائه. فذوات الماهيّات منه تفيض ماهيّاتها ووجوداتها على الاستغراق الحاصر الشّمولىّ ، وهو مجرّد الوجود المحض بشرط سلب العدم [٨٦ ظ] عنه من كلّ جهة ، وكذلك سائر الزّوائد.

ولسنا نعنى بهذا : أنّه الموجود المرسل المشترك فيه ، فذلك ليس الموجود المطلق المجرّد بشرط السلب ، بل الموجود لا بشرط الإيجاب ؛ ولكنّا نعنى في الأوّل الحقّ أنّه الموجود مع شرط لا زيادة تألّف وتحيّث. والمرسل هو الموجود لا بشرط الزيادة ، فلذلك ما أنّ المرسل يحمل على كلّ شيء ، وهذا لا يحمل على ما هناك زيادة ، وكلّ شيء غيره فهناك زيادة.

تقديس

(٥٠ ـ كافّة الماهيّات ترتبط بواحد حق قيّوم)

إن اجتهدت في استتقان القوانين الملقاة إليك ، لم تر عضيلا على الحادس الشديد الحدس أن يحدس ، من اشتراك كافّة الماهيّات والهويّات الجوازيّة ، في معنى الوجود المرسل الفطريّ المنتزع منها بحسب التّقرّر في الأعيان ، ارتباطها وتعلّقها طرّا بواحد حقّ قيّوم بذاته هو حقيقة الوجود ومبدأ انتزاع الموجوديّة.

١٥٨

فقاطبة الجائزات مشترطة في هذا الرباط ، متفقة في هذا العلوق ، (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (الملك ، ٣). (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم ، ١٠). وبالجملة لو استندت إلى فاطرين مختلفين بالحقيقة لم يكن يتهيّأ أن ينتزع منها قاطبة معنى واحد فطرىّ الوحدة هو الوجود ، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون ، ٩١).

تقديس

(٥١ ـ الصفات الكماليّة في الماهيّات ظلال الكمالات في القيّوم بالذّات)

فإذن ، وحدة الوجود الانتزاعيّ ظلّ وحدّته الحقّة ، تقدّس شأنه وتمجّد سلطانه ، وبساطته لمعة أحديّته المطلقة [٨٦ ب]. وإذ قد دريت أنّ الوجود هو نفس صيرورة الشّيء ، والواحد الحقّ هو مصيّر الأشياء بأسرها ، لست أقول : إنّه يصير الماهيّات ماهيّات والهويّات هويّات ، كما هو سبيل التصيير المؤلّف الّذي متعلقة الهيئة التأليفيّة ، بل إنّه يصيّر الماهيّات والهويّات على سنّة التصيير البسيط الّذي أثره ومتعلّقة نفس الحقيقة ، فهو مبدأ انتزاع الصيرورة والكون عنها بأسرها.

فإذن ، قد انصرح لك ، لو كنت على ثقاف البصيرة ، أنّ بارئ الماهيّات ومفيض الهويّات هو بالحقيقة وجود زمر الموجودات وموجدها معا ، لا أنّه موجدها فقط ، أعني أنّه موجدها بالوجود المنتزع منها ووجودها الوجود الحقيقيّ الّذي هو بذاته مبدأ أن ينتسب هي إليه بالارتباط الصدوريّ ، فينتزع منها الوجود الانتزاعىّ. فهو وجود الماهيّات وراسمها ، غير داخل فيها ، بل مفصّلا عنها بذاته ، وإنّما هو قيّوم بذاته تلزمه نسب لاحقة وإضافات عارضة.

ولا تقيسن ذلك بما يقرع سمعك : «أنّ الشّعلة المجتالة ، والنقطة الفاعلة ، والحركة التوسّطيّة ، والآن السيّال ، امور بسيطة شخصيّة ترسم متصلات ، هي منفصلة عنها مباينة إيّاها ، وهي مستمرّة الهويّات الشّخصيّة غير مستقرّة النّسب اللاحقة إلى الحدود المفترضة» ، فإنّ الأمر هناك أقدس من أن توصف وأعلى من أن يقاس. واعتبر الحكم في سائر الصفات الكماليّة على هذا السنّة ، فقد عرّفك مسلف القول : «أنّه لا يهب الكمال القاصر عنه ، وما ليس الكمال عين ذاته فهو قاصر عنه».

١٥٩

فكما مطلق الوجود منته إلى [٨٧ ظ] الوجود القائم بذاته ، فكذلك مطلق العلم [منته] إلى العلم القائم بذاته ، ومطلق القدرة والإرادة والحياة [منته] إلى القدرة والإرادة والحياة القائمة بالذّات. فسبيلها سبيل الوجود في أنّ النظر فيها بما هي هي يسلك بالعقل إلى إثبات المبدأ الحقّ. ثمّ الفحص البالغ عنها يتأدّى إلى توحيده. فإذن ، الوجود الانتزاعيّ وكمالاته المطلقة ظلال الوجود القائم بالذّات ، فإنّ استناد الذّوات إليه بحسب كلّ اعتبار واسم مبدأ الاتصاف بفعليّة وكمال.

فإذن ، القيّوم الحقّ : وجود الموجودات بمعنى ، وموجدها بمعنى آخر ، وعلم العلماء بمعنى ، ومفيض العلم عليهم بمعنى آخر ، وكذلك قدرة القادرين ومقدرهم ، وحياة الأحياء ومحييهم ، وإرادة المريدين وخالق الإرادة فيهم. فهذه أرصاد عقليّة ومعاريج حدسيّة ، تولّيناها باستيقاد نور القريحة والاستصباح بزيت السّجيحة من بعد سلوك سبيل القدس ورفض عالم الطّبيعة. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (الحديد ، ٢١).

ظنون وتنبيهات

(٥٢ ـ تعريفات للتوحيد ليست مرضيّة عند المصنف)

فأمّا الّتي كسبتها أيدى أنظار المتفلسفين ولفّقها ألسن أفكار المتعسّفين فهى بالسفسطة أشبه منها بالفلسفة ، وإلى المغالطة أقرب منها إلى البرهان.

[١] كقولهم : «لو تعدّد الواجب بالذّات فإمّا أن يكون بينهما تلازم في الوجود ، فيكون أحدهما علّة للآخر ؛ أو هما معلولى علّة واحدة ، أو لا ، فيمكن أن يتحقّق أحدهما مع عدم الآخر ، وهو إمكان عدم الواجب».

[٢] وقولهم : «التكثّر إمّا أنّه يجب [٨٧ ب] بالنّظر إلى طباع الوجوب بالذّات ، فيلزم أن يتحقق الكثير من دون الواحد أو أنّه يمكن بالنّظر إليه ، فيجوز ارتفاعه ، وفيه جواز ارتفاع الواجب بالذّات أو أنّه يمتنع بالنسبة إليه ، وهو الحقّ المطلوب» ، فإنّ فيهما تدليسا من جهة خلط الجواز بالقياس إلى الغير بالجواز بالذّات.

[٣] وكقولهم : «مجموع الواجبين ، أى : معروض الاثنوة ، جائز بالذّات للفاقة إلى الجزءين فيفتاق ، لا محالة ، إلى علّة ولا يصلح للعلّة شيء من الجزءين ولا نفس

١٦٠