مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

مصنّفات ميرداماد

(١)

الإيماضات

(الشهادة بأنّ هذه الرسالة تكون بخطّ صدر المتألّهين)

هذا كتاب الإيماضات والتشريقات ، الموسوم بالصحيفة الملكوتيّة والحكمة السّويّة ، في مسائل الحدوث والسّرمديّة وإبطال الفلسفة النيّة وإثبات الحكمة السّويّة ، منّ الله علينا بإتمامه بعظيم منّه وجميل إكرامه. كان الشروع فيه في رابع ذى قعدة الحرام لعام ١٠١٢ من الهجرة المباركة النبويّة ، حيث كانت الشمس في شرفها والزّهرة في بيتها والقمر مسعود الحال ، والعلويّان في القوس على حدّ قوّة الاتّصال بعد القران وقبل بلوغ الانصراف بتسع درجات.

[اللهمّ أبّد وخلّد ترويح الأرواح وتطييب النّفوس من فيوض إفاداته وفنون مقالاته ، على قلوب أرباب الفضل والكمال وأصحاب الوجد والحال ، بمحمّد وآله وعترته وذرّيته ، عليهم أزكى الصلوات وأو في التحيّات.]

لا يخفى على من له بصيرة أنّ من جملة الأمور الّتي يجب اعتبارها في الكتب ، صحّتها ، ولا يحصل القطع بذلك إلّا بالأمارات المعتبرة. ومن زمرة الأمارات الصّحيحة على الصحّة أن يكون بخط المصنّف هو ، وهاتان النسختان ، على ما ثبت عندنا ، يكونان بخطّ صدر المتألهين ، قدس‌سره ، وهو عليه رضوان الله ، كان من أعظم تلاميذ المصنّف ، قدّس الله روحه ، وقد صنّف مصنّفهما إلى ما كتب في هاتين الدّفّتين. حرّره في سنّة ١١٨٦. [٢ ظ].

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والاستيفاق من العليم الحكيم

سبحانك اللهمّ ربّ الخلق والأمر ، لك الملك ولك الحمد ومنك البدء وإليك العود. وأنت بكلّ شيء عليم ، فاطر الملك والملكوت ، عالم الغيب والشهادة. يسبّح لك ما في السماوات وما في الأرض ، وأنت العزيز الحكيم.

خصّص أكرم مصطفيك من النّفوس القادسات وأعلم الهداة إليك بالباقيات الصالحات ، سيّدنا ونبيّنا محمدا وعترته الأنجبين وحامّته الأقربين ، بأتمّ صلواتك وأعظم بركاتك ، إنّك أنت ذو الفضل العظيم والطول القديم.

وبعد ، فإنّ أحوج المربوبين إلى الربّ الغنىّ محمد بن محمد ، يلقّب باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى يقول : إنّ هذه صحيفة ملكوتيّة سطيعة هي عين العلم في أرض القدس ، منها يجرى نهر من الحكمة الإلهيّة على شطّ القوّة النظريّة. عملناها للأخلاء الرّوعيّة والأقرباء العقليّة ، مصفاة للبيان في مرقاة التبيان ومرآة للعيان في ميقات البرهان ، ريم بها حقّ اليقين فى مسائل الحدوث والسّرمديّة وإنضاج [٢ ب] القول في طبخ الفلسفة النيّة وتقويم الحكمة السويّة ، مقصورا طورها على مقشوّ القول الناصع ومروّق الفحص اليانع ، إذ قد ضمن النظر السابغ والبحث البالغ كتابانا «الأفق المبين» و «الصراط المستقيم». فالبسط والتفصيل والرمّ والتحصيل على ذمّتهما وفي منّتهما. صانهما الله عن فتن الفطر العاميّة وظلمات المدارك السوداويّة ، وصرف عنها كيد الأفهام المئوفة وشرّ الأذهان العسوفة وأوهام أتباع الظنون وأمانيّ أصحاب الميون ، وأقرّ بها عين الأمّة الوسط من حزب الحقّ وجند العقل ورجال الحكمة ، وكفاها جور الجدليّين من الفئة اللّانسلميّة واللّدديّين من الفرقة اللم لا يكونيّة ، إنه يسمع ويجيب.

فسنريكها إن شاء الله ، وقد استنامت إليها العقول الموزونة وإن تجافت عنها النّفوس الملحونة ، واستعذبتها القرائح اللطيفة وإن اشمأزت عنها الأذواق السخيفة ، واستعظمتها البصائر العقلانيّة وإن استهزأت بها السلائق الوهمانيّة. فالعقل سموح رعوج والوهم جموح لجوج. والمروم ذكره يوعى في تقدمة وسياقات وتختمة ، وبالله الاعتصام ومنه العصمة.

٢

التّقدمة

في تحديد حريم النّزاع في حدوث عالم الجواز [٣ ظ]

أما علّمناك ، في حكمة ما فوق الطّبيعة : أنّ تخصّص التّقرّر بآن ما أو بزمان ما مقطوع من جهة البداية ، يقال له «الحدوث الزّمانيّ» ، وموضوعه ، وهو «الحادث الزّمانيّ» ، يكون لا محالة مسبوق الوجود في افق التّقضّى والتّجدّد بالزّمان القبل وباستمرار عدمه الواقع فيه سبقا زمانيّا. ويقابله «القدم الزّمانيّ» ، وهو أن يستوعب استمرار الوجود قطر أفق التّقضّي والتّجدّد ، فيتحقّق في جميع الأزمنة والآنات ، وليس الاتّصاف بهما إلّا للزمانيّات.

ووقوع التقرّر ، غبّ العدم الصّريح في وعاء الدّهر ، يقال له «الحدوث الدّهريّ». وموضوعه ، وهو «الحادث الدّهريّ» ، مسبوق الوجود في الدّهر سبقا دهريّا بعدم صرف فى الأعيان ، لا بزمان أو آن ، ولا باستمرار للعدم ، أو لا استمرار يتّصف به الحادث الزّمانيّ بما هو موجود متقرّر في وعاء الدّهر ، لا بما هو زمانيّ واقع في أفق الزّمان. ويقابله «القدم الدّهريّ» ، وهو السّرمديّة ، أي تسرمد الوجود في وعاء الدّهر ، لا في أفق الزّمان.

وفعليّة التقرّر بعد بطلان الحقيقة وهلاك الذّات في لحاظ العقل ، يقال لها «الحدوث الذّاتيّ» ، وموضوعه ، وهو «الحادث الذّاتيّ» في حدّ نفسه مسبوق الذّات والوجود ، وهو موجود ما دام موجودا بالبطلان والعدم [٣ ب] أبدا ، ولكن سبقا بالذّات وفي لحاظ العقل ، لا سبقا دهريّا وفي الأعيان ، وهو يستوعب عمود عالم الإمكان على الاستغراق ؛ ويقابله «القدم الذاتيّ» المساوق للوجوب بالذّات.

فاعلمن أنّه ليس يعقل التّنازع في المعنى الأوّل ، فكيف يدّعى للمفارقات المحضة وللزّمان نفسه ولسائر المبدعات ؛ ولا في الثّالث ، فأنّى لأحد أن يفكّ رقبة الإمكان من أسره. فالثّانى هو حدّ حريم الخلاف لا غير ، حيث إنّ جماهير المتهوّسة بتسرمد المبدعات قد زعموا ، في جاهليّة الفلسفة ، أنّ الحدوث الدّهريّ والحدوث الزّمانيّ وإن لم يكونا متساوقين بحسب المفهوم إلّا أنّهما متساوقان بحسب التّحقّق ؛ ولا يوصف بالحدوث الدّهريّ إلّا الحادث الزّمانيّ ، وله اعتبار أن يعرضه

٣

بحسبهما المعنيان.

فالكائنات مسبوقة الوجود بحسب الوقوع في وعاء الدّهر بصرف العدم مسبوقيّة دهريّة، وبحسب الوقوع في افق التّغيّر باستمراره وبالمدّة والمادّة مسبوقيّة زمانيّة. وأما المبدعات فهي سرمديّة الوجود في وعاء الدّهر ، وليست مسبوقة إلّا بذات الجاعل فقط ، مسبوقيّة بالذّات ، لا غير.

وإذ قد آن للعقل أنّ يتمّ نوره بالبرهان ، فقد استبان في استواء الحكمة : أنّ الحدوث الدّهريّ وإن باين الحدوث الذّاتيّ بحسب المعنى لكنّه يساوقه بحسب [٤ ظ] التّحقّق في الموضوعات ويضاهيه في استيعاب عمود عالم الجواز على الاستغراق ؛ والحدوث الزّمانيّ مباين لهما بحسب المعنى وأخصّ منهما بحسب العروض للموضوعات. وليس أنّ كلّ حادث دهرىّ فهو حادث زمانيّ البتّة ، بل إنّ كلّ حادث ذاتيّ فإنّه حادث دهريّ بتّة.

والكائن والمبدع متضاهيان في المسبوقيّة بوجود القديم الفرد وبصرف العدم الصّريح في وعاء الدّهر ؛ وإنّما الاختلاف بحسب التّعلّق بالمادّة بالطّبع وفى المسبوقيّة باستمرار العدم وبالمدّة والمادّة في أفق التّقضّي والتّجدّد والقدم الدّهريّ ، وهو السّرمديّة في الوجود ، قد استأثر به الجاعل المبدع الحقّ ، تعالى كبرياؤه ، كما استأثر بالقدم الذاتيّ. فهو الّذي استوى على عرش السّرمد ، ولم يكن له شريك في الملك ، وسبحان الله عمّا يشركون.

٤

السّقاية الأولى

فيها فرقان شئون الموجود بحسب أطوار أوعية الوجود ثمّ سياق التّبيان على نمط آخر

إيماض

(١ ـ الزّمان والمكان والدّهر)

ألم يستبن لك ، في حكمة ما فوق الطّبيعة ، أنّ الامتداد من خواصّ المتّصلات ليس يصحّ أن يوصف به إلّا الكميّات القارّة ؛ والكميّة الغير القارّة هو بمقابله إلّا مباديهما ، اللهمّ إلّا بالعرض بحسب المقارنة لما هو الموصوف حقيقة.

فالأيس بما هو أيس واللّيس بما هو ليس خارجان عن جنس الامتداد واللّاامتداد ، و [٤ ب] الاستمرار واللّااستمرار ؛ كقولنا : «الكيف خارج عن القسمة واللّاقسمة ، والفلك لا خفيف ولا ثقيل ، والصّوت لا مرئيّ ولا متستر» ، أي غير داخل في الجنس ، لا كقولنا : «هذا الماء لا حارّ ولا بارد» أي فاتر خارج عن الطّرفين بالمتوسّط.

فإذا كان الموضوع من الزّمانيّات أو الآنيّات ، وصف الوجود والعدم بالاستمرار أو اللّااستمرار ، لا بما هما وجود وعدم ، بل بحسب المقارنة لامتداد الزّمان أو لامتداد الآن ؛ وإن كان من الدّهريّات المحضة لم يكن يعقل هناك شيء من ذلك أصلا. والزّمان متى المتزمّنات ، وليس لنفسه متى ، بل هو موجود في الأعيان لا في زمان ، كما ليس لنفس المكان أين وهو أين المتمكّنات ، والدّهر وعاء وجود الزّمان.

والقوى الشّاهقة من الأنوار القدسيّة والمفارقات النّوريّة ، لتجرّدها عن المادّة وغواشيها وعلائقها وسلاسلها وأغلالها ، متقدّسة عن الأين والمتى ، وموجودة في وعاء الدّهر ، لا في زمان وآن أو مكان وحدّ ، ولا في جميع الأزمنة والآنات أو جملة الأمكنة والحدود. والبارئ الفاطر ، وهو نور الأنوار ، جلّ مجده ، مستقرّ على عرش السّرمد ومحيط بالدّهر والزّمان وما فيهما جميعا ، وكبرياؤه متعال عن ذلك كلّه ، و

٥

الدّهر محاط بالسّرمد وكظلّ له ومعلول له (اى : كمعلول له. منه).

ومن سبيل آخر : من المنصرح أن محلّ الشّيء وحامله وعلّته ومبدعه يستحيل [٥ ظ] أن يكون فيه ومشمولا له ؛ فإذا كان الزّمان نفسه موجودا لا في زمان أصلا ، فمحلّه وحامل محلّه يمتنع عليهما ذلك. والقوى العالية والأنوار العقليّة أولى بهذا الامتناع ؛ فما ظنّك بفاطر الكلّ ومبدع الجميع.

فإذن ، ليس في الدّهر والسّرمد امتداد ، لا في الوهم ولا في الأعيان ؛ وليس يتصوّر فيه حدّ وحدّ ، ولا مضىّ واستقبال ، إذ لا يعقل تغيّر وسيلان ، بل إنما ذلك كله من خواصّ أفق الزّمان ، ووجود الشّيء في الأعيان ، إمّا في زمان ما ، أو في جميع الأزمنة ، أو لا في زمان ما ولا فى جميع الأزمنة.

وبالجملة ، الشّيء يكون في المكان بما هو جسم أو جسمانيّ ، لا بما هو موجود ؛ وفي الزّمان بما هو متحرّك أو متغير ، لا بما هو موجود. والموجود بما هو موجود لا يلزمه أن يعتوره المكان والزّمان ، بل قد يلحقه أنّ يوصف بالكون فيهما بحسب كونه جسما ومتحرّكا ، لا بحسب طبيعة الوجود إلّا أنّ الوهم لا يألف إلّا هنا أو هناك ، وكان أو يكون أو كائن. فيعسر على النّفوس الوهمانية أن تؤمن بوجود يتقدّس عن ذلك ، ويفارق جملة الأبعاد والامتدادات ، والأمكنة والحدود والأزمنة والآنات. ولكن لا يعبأ بوسوسة الوهم ، بعد حكم البرهان.

إيماض

(٢ ـ الزّمان والدّهر والسّرمد)

ما يعطى الحكم بوجود الزّمان هو سبق استمرار العدم على بعض الوجودات وترتّب القبليّات والبعديّات (١) والمعيّات المتقدّرة الامتداديّة وتصرّمها [٥ ب] وتجدّدها على

__________________

(١) قوله : «وترتّب القبليّات والبعديّات» «إلى آخره». أي : ليس مناط إثبات الزّمان مجرد القبليّة الواحدة بحسب الدّهش الليسيّة في الوجود ، بل ترتب القبليّات والبعديّات المترتبة وهذا ما رامه صاحب «التلويحات» من قوله : «وتقرير البرهان فإنّ حال اللّاكون لا يجتمع مع حال الكون. وإذا حصل شيء آخر لم يكن حين كان هذا ففي حالة كون هذا اللّاكون الثّاني فهو قبله ، وكذلك ما بعد الثّاني. فهاهنا قبليّات واجبة التّجدّد ـ إلى قوله : ـ وهذا القبليّات لها مقدار ، فانّ قبلا يكون أبعد من قبل» ، انتهى. فلا بدّ من أن يؤخذ في البيان : إما ترتب القبليّات المتقدّرة المختلفة بالأشديّة ، أو تقييد القبليّة بأن يصحّ بحسبها تصوّر امتداد مارّ ـ

٦

الاتّصال. وبالجملة مسبوقيّة بعض المتقرّرات باستمرار البطلان ، ثمّ التّقرّر على استمرار خاصّ ، ثمّ انبتات التّقرّر ، وكذلك إمكان اختلاف الحركات أو تساويها أو تشابههما.

وما يوجب الإذعان بوعاء الدّهر هو وجود المتقرّرات الثّابتة على صرف الثّبات بحيث لا يعقل تغيّر وانتقال من حال إلى حال ، فلا يتصوّر امتداد ولا انبتات ، وإن كان ذلك مسبوقا بصريح البطلان الباتّ ، لا باستمراره أو لا استمراره.

وما يهدى إلى الإيمان بعرش السّرمد هو وجود الوجود الحقّ القيّوم المتعالي عن التّبدّل والانتقال ، بحسب جميع الشّئون والأحوال ، المحيط بالدّهر والزّمان بجملة ما فيهما في الآباد والآزال. فالسّرمد لا يحتمل الامتداد واللّاامتداد ، ولا طروء العدم ولا سبق اللّيس أصلا. والدّهر لا يصحّ فيه الامتداد واللّاامتداد ، ولا طروء البطلان بعد التقرّر ، ولا سبق استمرار اللّيس أو لا استمراره ، وإن صحّ فيه سبق أصل اللّيس الخارج عن جنس الوصفين.

والزّمان يقع فيه التّغيّرات والتّبدّلات وحصول الوجودات بعد العدمات المستمرّة ، ثمّ انبتات الاستمرارات ، وأفق الزّمان أمر زائد على معنى الوجود وعلى المتى ، أي : نفس النّسبة المعبّر عنها بالكون في الزّمان ، كما المكان على الأين ؛ فالمقدار المتقضّي المتجدّد بنفس ذاته لا يكون نفس الوجود ولا نفس النّسبة.

وأما وعاء الدّهر ، فليس هو شيئا وراء صرف الوجود ، ونسبة الموجود الثّابت إلى الموجودات بالقبليّة أو المعيّة وإن كان ذلك [٦ ظ] ربما يكون بعد العدم الصّرف. وكذلك عرش السّرمد هو نفس محوضة الموجوديّة والنّسبة الّتي هي للموجود المحض لا من بعد العدم إلى الموجودات الثّابتة بالقبليّة أو المعيّة.

فكما يقال : الخارج ظرف من ظروف الوجود ، ولا يعنى أنّ هناك شيئا غير الوجود العينيّ ، بل إنّما إنّ لعين الشّيء وجودا (حصولا) أصيلا ، لا في لحاظ الذّهن فقط ، بل خارج الأذهان أيضا ؛ فكذلك يقال : وعاء الدّهر وعرش السّرمد نوعان من ظروف الوجود وأوعيته ؛ ويعنى الحصول الأصيل للشّيء في الأعيان خارجا عن افق الزّمان وما يعتريه إما مع صدق سبق العدم الصّرف ، أو بحيث يتعالى من كلّ وجه عن احتمال العدم.

__________________

ـ بالقبل والبعد ، على ما نحن أوردناه في «الأفق المبين» : وفي «الصراط المستقيم» : (منه دام ظلّه العالى).

٧

إيماض

(٣ ـ الوجود في الزّمان أخص من الموجود في الدّهر)

لعلّك قد تحدّست الآن أنّ الوجود في زمان ما فقط أو في جميع الأزمنة أخصّ من الوجود في وعاء الدّهر ومستلزم له ، بخلاف العدم في زمان ما أو في جملة الأزمنة ، فإنّه غير مستلزم للعدم في وعاء الدّهر. أليس العدم في وعاء الدّهر إنّما يصدق بارتفاع جملة أنحاء الوجود في الأعيان ، ومن جملتها الوجود لا في زمان بخصوصه ولا في جميع الأزمنة. أفلم يقرع سمعك في طبقات الصّناعة أنّ الطّبيعة تتحقّق بتحقّق فرد ما ، ولا ترتفع إلّا بارتفاع جميع الأفراد.

وهذا كما يقال : ارتفاع النّقيضين في بعض أنحاء نفس الأمر من لحاظ العقل ، أي :

لحاظ مرتبة الماهيّة من حيث هي هي ، ليس فيه استيجاب ارتفاعهما في نفس الأمر، لأنّها أوسع منه ، كما ليس [٦ ب] الخروج من دار من دور البلد مستوجب الخروج منه ، لكونه أوسع منها. فهذا القول ليس يتعدّى الحقّ من هذا النّمط. ولكنّي إنّما أسوّغ إيراده على سنّة التّنظير ، ولست أنصّ عليه نصّ المستصحّ اياه ، لتجاوزه الصّحّة من سبيل آخر.

إيماض

(٤ ـ الدّوام الدّهريّ هو السّرمديّة)

وإذ أفق الزّمان منقسم ، ووعاء الدّهر مرتفع عن توهّم الانقسام واللّاانقسام فيه ، فالإيجاب والسّلب على نسبة عقديّة بعينها لا يتناقضان بحسب أفق الزّمان إلّا بوحدة الوقت. وأما بحسب وعاء الدّهر فلا يعتبر في التّناقض وحدة الحدّ ، إذ لا يعقل هناك اختلاف حدّين ، ولذلك لا يصدقان معا بالإطلاق العامّ الدّهريّ ، وكثيرا ما يتّفقان في الصّدق معا بالإطلاق العامّ الزّمانيّ وإذ يصدق الموجب الدّهريّ بالإطلاق العامّ يبطل صدق السّالب الدّهريّ ، ومع ذلك فليس يصدق الإيجاب بالدّوام الدّهريّ إلّا إذا كان الموضوع سرمديّا غير مسبوق باللّيس أصلا لا باستمراره ولا بنسخه.

فالدّوام الدّهريّ هو السّرمديّة ، والوجود بعد العدم في وعاء الدّهر هو حصوله في حيّزه بدلا عنه ، كوقوع جسم بعينه بعد جسم بعينه. في مكان بعينه وأمّا الوجود

٨

بعد العدم في أفق الزّمان فليس يبطله ليقع في حيّزه ، بل إنّما يبتّ استمراره ، وذلك كحصول جسمين في مكانين فى زمان واحد.

إيماض

(٥ ـ عدم الحادث من مبادى وجود الزّمان)

ومن هناك يستبين حكمهم : أنّ عدم الحادث في افق الزّمان من المبادي العرضيّة لوجوده [٧ ظ] ولا يلزم أن يكون نقيض الشّيء مبدءا له ، ولعلّنا نتلوه عليك ، إن شاء الله تعالى.

إيماض

(٦ ـ السبق الزّمانيّ والدّهريّ السّرمديّ)

السّبق الزّمانيّ : هو أنّ يتخلف عن شيء شيء في افق الزّمان ، لتخصّص حصولهما بحدّين منه ، فلا محالة يتوهّم مرور امتداد بهما ، وليس يصادم ذلك حصولهما معا في وعاء الدّهر المعبّر عنه بالواقع ، كما ليس يصادم السبق المكانيّ في الحصول في زمان واحد ؛ والمعيّة الزّمانيّة هي أن يتخصّصا في الحصول بحدّ واحد منه ، وهي نفس الفيئيّة أو منتهية إليها.

والسّبق الدّهريّ السّرمديّ ، كسبق القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، على الحوادث الزّمانيّة ؛ مثلا ، هو أن يوجد شيء في وعاء الدّهر ، وليس آخر فيه ليسا صرفا ، لا مستمرّا أو غير مستمرّ ، فيبطل ليسه من سنخه ويقع الوجود في حيّزه.

فلا جرم لا يتوهّم تخلّل امتداد أو طرف امتداد بينهما ، وينقلب السّبق عند وجود المسبوق معيّة دهريّة ، وهي اجتماع شيئين في صدق عقد الوجود عليهما بالإيجاب بحسب الواقع ، لا بحسب الحصول في جزء أو حدّ بعينه من أفق الزّمان ، كمعيّة المفارقات بعضها لبعض ، وهي مباينة للفيئيّة وغير منتهية إليها.

إيماض

(٧ ـ القبليّة السّرمديّة والبعديّة الدّهريّة)

٩

اعلمن أنّه ليس يمكن في السّبق الدّهريّ أن يترتب قبليّتان وبعديّتان على التّعاقب ، فضلا عن قبليّات وبعديّات متعاقبة الحصول ؛ إنّما احتمال ذلك شأن السّبق الزّمانيّ ويتبرهن من سبيلين : أحدهما النظر في طباع وعاء الدّهر ، إذ ليس يتصوّر فيه امتداد وحدود ، والآخر لحاظ طباع السّبق الدّهريّ مع عزل النّظر عمّا يأباه طباع وعاء الدّهر. [٧ ب] أليس مقتضاه أنّه كان المسبوق معدوما عدما باتّا ساذجا لا يوصف باستمرار وتقدّر مع وجود السّابق وجودا صرفا لا يشوبه تماد وتقدّر ، فكان الصّادق عقدان دهريّان سالب وموجب ، فوجد ، فكذب السّالب وصدق عقد الإيجاب عليهما معا بالإطلاق.

فإذا فرض «أ» سابقا على «ب» سبقا بالدّهر ، وهو على «ج» كذلك ، كانا معا معدومين مع وجود «أ». ثمّ إذا «ب» قد بطل عدمه وعدم «ج» بعد محفوظ ، فلا محالة يقع تقدّر في عدم «ج» وفي وجود «أ» جميعا ، فإذن يكون سبق الأوّل على الثّالث بحسب استمرار الوجود وتمادى العدم ، لا بحسب سنخهما ، وهو خرق الفرض. وهذا الأصل ممّا تواطأت عليه الفلسفة النيّة اليونانيّة والحكمة السّويّة اليمانيّة ، لكنّ الاختلاف في نحو التأسيس عليه.

فالفلاسفة المتهوّسة بتسرمد المبدعات تجعلها جميعا مع مبدعها البارئ ، تعالى شأنه ، في السّبق السّرمديّ ، وقاطبة الحوادث الكونيّة معا في التّأخّر الدّهريّ والحكيم القائم بالقسط لا يشرك بربّه أحدا في القبليّة السّرمديّة ، ويجعل زمر قطّان عالم الجواز من المبدعات والكائنات معا في البعديّة الدّهريّة كنفس واحدة.

وهم وإزاحة

(٨ ـ التقدّم من صفات الحقّ تعالى)

ولعلّ الوهم يزعج سرّك : أنّ الخلف ناهض هناك في قبليّة واحدة ، فإنّ «أ» يوجد مع عدم «ب» ثمّ ينحفظ وجوده مع وجوده ، فيعتريه لزوم الامتداد وإن لم يلزم في عدم «ب» ولا في وجوده.

فيزاح : بأنه إنّما يكون كذلك لو وقع وجوده في حدّين ، ووجود «ب» في الأخير منهما فقط. فتكون [٨ ظ] القبليّة في الأوّل والمعيّة في الأخير ، كما هو سنّة القبليّة والمعيّة الزّمانيّتين. وقد دريت أنّ الأمر هناك على طور آخر ، والمعيّة تقع في

١٠

حيّز القبليّة ، وعندها ترتحل هي عن ساهرة الواقع من أسّها ، لا عن حدّ المعيّة فقط. وليس العدم شيئا تعتبر المعيّة بالقياس إليه ، فهو انتفاء شيء ، لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء. فلذلك ليس يصحّ أن يحكم عليه ولو بالسّلبيّة وامتناع الوجود ، بل إنّما يؤخذ مفهومه المتمثّل في الذّهن ، وهو ليس حقيقة العدم ، بل مفهوم ما يضع الذّهن أنّه عنوان لتلك الحقيقة الباطلة ، فيعقد الحكم عليه بالسّلبيّة وبالامتناع ، مثلا ، حكما على التّقدير ، لا حملا على البتّ. فكان «ا» وليس «ب» ، لا على التّقدّر ، فوجد ، وصارا معا في الذّهن خارجين عن جنس التّقدّر واللّاتقدّر ، وعن توهّم الحدود والامتداد ، إذ الوجود بما هو وجود لا يتصوّر فيه حدّ وحدّ. ولا يحتمل أين ومتى.

ثمّ هذا التّقدّم من صفات الجاعل الحقّ ، تمجّد قدسه. وليس للعقول النقيّة النّوريّة والأنوار المفارقة العقليّة إلى اكتناه شيء منها من سبيل ، فأنّى للأذهان البتريّة الإنسانيّة والقرائح الغير البشرانيّة تكنيهه وتحديده. وإنّما صيّور الفحص والبرهان يوجبانه : أنّ هناك تقدّما مجهول الكنه مباين الحقيقة ، ومخالف الأحكام للتقدّم الزّمانيّ وسائر التقدّمات ، ضرورة أنّ الحادث اليوميّ متخلّف في الوجود منه ، سبحانه ، بتّة ، ويتعالى كبرياؤه عن التّقدّم الزّمانيّ ، إذ معروضه بالذّات ليس إلّا أجزاء الزّمان ولا يوصف به بالعرض إلّا المتزمّنات.

فإذا علم البرهان [٨ ب] تحقّقه ، وأنّه لا سبيل إلى تعرّفه بالكنه ، كان ذلك سادّا مسدّ المعرفة. فالجهل المعلوم بالبرهان قصيا درجات مراتب العرفان. وهو العلم المأمور به في كتاب الله الأعظم وناموسه الأقوم ، والفارق بين الرّاسخين في العلم من زمرة العاقلين وبين النّفوس المعطّلة من غاغة الغافلين وكذلك الشّأن في سائر صفات البارئ الفاطر ، تعالى عزّه وتعاظم مجده ، فهذا سنن الحكمة النّضيجة السّويّة.

وأما المتهوّسون بالفلسفة النيّة ، فيقولون : هذا السّبق شأن البارئ الأوّل ومفطوراته المبدعة ، من الجواهر العقليّة والمفارقات النّوريّة جميعا. والوهم حيث إنّه ألف الأبعاد ، وصحب الجهات ، ورأى كلّ شيء في زمان ، وكلّ سبق ولحوق على حدّي امتداد ، يصرف العقل ، ما دامت النّفس في دار غربتها ، من عالم الحسّ عن اكتناه الأمر فيه ، فيقاس بالسّبق الزّمانيّ ويوهم الامتداد ، كما يقاس مطلق الموجود بالجسمانيّات ،

١١

فيستعسر التّصديق : بأنّ الإله الحقّ ، سبحانه ، لا داخل العالم ولا خارجه.

إيماض

(٩ ـ الطارئ هو الوجود والعدم في الزّمان حقّ)

فإذا تعرّفت ذلك ، فقد آن لك أن تتحدّس : أنّه لا يصحّ في وعاء الدّهر بطلان طار على التّقرّر. بل الحوادث الدّهريّة تبقى بقاء دهريّا ، لا زمانيّا ، بإفاضة الجاعل إيّاها أبدا على الثّبات الصّرف ، إذ لو عدم الشّيء بعد حدوثه ، لزم إما الحدود والامتداد في الدّهر ، أو كون عدمه الطارئ هو بعينه عدمه السّابق ، لا يغايره إلّا بحسب اللفظ والتعبير اللهجيّ. وأما في أفق التّقضّي والتّجدّد ، فكثيرا ما يعدم الشّيء بعد زمان الوجود ، لكنّه ليس طاريا بحسب الواقع [٩ ظ] أليس طروء العدم في الواقع إنّما يصحّ بارتفاع جميع أنحاء الوجود ، والوجود في زمان الوجود لا يرتفع عن زمانه وإلّا اقترن النّقيضان ، بل هو ثابت في الدّهر أبدا متخصّصا بذلك الزّمان ، وارتفاعه عن الزّمان البعد غير معقول ، إذ لم يكن متحقّقا فيه قطّ. فإذن طروء العدم هناك ليس إلّا انبتات استمرار الوجود ، لانقطاع فيضانه عن الجاعل، لا لارتفاع ما قد فاض. والعدم في الزّمان البعد حقّ في الآزال والآباد. فإذن إنّما الطاري هو الوجود ، وكلّ عدم أزليّ.

إيماض

(١٠ ـ الحادث يبطل العدم الزّمانيّ)

كلّ ما يحدث من الزّمانيّات يبطل سنخ عدمه الزّمانيّ. لست أعنى : أنّ له عدمين ، بل أنّ لعدمه السّابق اعتبارين ، فإذ هو يوجد يبطل ذلك العدم بما هو واقع في وعاء الدّهر ، لا بما هو واقع في زمان ، هو قبل زمان الوجود. وإنّما يبطل استمراره في سائر الأزمنة ، وكلّ ما ينعدم من الحوادث الزّمانيّة يبقى سنخ وجوده الدّهريّ ويبطل استمرار وجوده الزّمانيّ. لست أعني : أنّ له وجودين ، بل أنّ لوجوده اعتبارين ، وهو يبقى بما هو واقع في وعاء الدّهر ابدا ، ولا يرتفع بحسب افق الزّمان عن زمانه قطعا ، وإنّما ينبتّ استمراره الزّمانىّ في سائر الأزمنة.

إيماض

(١١ ـ نسبة الموجود إلى سائر الموجودات)

١٢

نسبة الموجود المعيّن إلى سائر الموجودات ، أي : جملة ما قد دخل في الوجود بالإطلاق العامّ، إما نسبة متقدّرة امتداديّة تختلف بحسبها حاله في الوجود بالقياس إلى تلك بالمعيّة واللّامعيّة ، فيكون إذ هو مع البعض ، لا مع سائر الأبعاض ، ولا مع الجملة ، فيقع فيها امتداد غير قارّ لا محالة ؛ وإما نسبة دهريّة وسرمديّة غير متقدّرة ، يمتنع أن يكون بحسبها هو مع البعض في الوجود ، وليس هو [٩ ب] مع سائر الأبعاض ولا مع الجملة ، فيكون الجميع سواسية في الوجود بالنّظر إليه ، فلا يقع تقدّر وامتداد في نفس النّسبة أصلا ، وإن كان بعض المنسوب إليه في نفسه موصوفا بالامتداد.

كما أنّ نسبة الشّيء إلى الأشياء في الوجود : إما نسبة متقدّرة مسافيّة تختلف بحسبها المسافات والأيون ، بالقرب والبعد من ذلك الشّيء ، أو نسبة إحاطيّة خارجة عن جنس التّقدّر واللّاتقدّر ، تكون بحسبها جملة الأمكنة والمتمكّنات والأيون والمسافات بالقياس إليه على سنّة واحدة. فهي في أنفسها موصوفة بالتقدّر والامتداد والجهات والأبعاد ، ولا يعقل شيء من ذلك فيه وفي نفس النّسبة.

تشريق

(١٢ ـ معيّة الحقّ القديم ونسبته تعالى)

مفارقات عالم الهيولى ، كالكلّيّات ، من الأحكام التّصديقيّة وأطرافها التّصوّريّة والحقائق الّتي قبلنا. بطبائعها المرسلات فقط ، والأنوار القدسيّة الشّاهقة بطبائعها وشخصيّاتها جميعا ، لتبرّئها عن الأين والمتى تأبى أن تعرضها النّسبة المتقدّرة المسافيّة ، أو النّسبة المتقدّرة الزّمانيّة ، وإنّ فاطر السّماوات والأرض مبدع المكان والزّمان ، وجاعل الماهيّات والإنّيّات ، وخالق الكلّ ، ومن ورائهم محيط ، فهو ، بمجده وقدسه بالتّقدّس عنهما ، أجدر وأحقّ.

وهذا الأصل ممّا الحكمة السّويّة والفلسفة النيّة قد تواطأتا على تأصيله ، والحكماء الرّاسخون والفلاسفة المتهوّسون في مسلك إثباته على موطئ واحد ، والقرآن العزيز ناصّ عليه ، بقوله جلّ ذكره : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد ، ٤). فأينما كنتم ، ينفى التّقدّر المسافيّ ويجعل جميع الأمكنة والممكنات بالنّسبة إليه تعالى على سبيل واحد. وضمير خطاب الجمع ، إذ ليس [١٠ ظ] يختصّ بأبناء عصر بخصوصه ، بل يجمع

١٣

قاطبة أصحاب العصور الخالية والباقية معا ، ينفى التّقدّر الزّمانيّ ، ويجعل جملة الأزمنة والزّمانيّات (والمتزمّنات ، ل) بالقياس إليه ، سبحانه ، على نسبة واحدة.

فالمعيّة المثبتة لا هي مكانيّة ولا هي زمانيّة ، بل هي نسبة إحاطيّة غير متقدّرة ، ومعيّة دهريّة غير بائدة. وزمر قاطبة سواد الإمكان في هذه النّسبة كموجود واحد محتشد الأجزاء. وبارئها ليس يفارقها أبدا ، ولا يقارنها مقارنة مكانيّة أو زمانيّة ، كما قال مولانا أمير المؤمنين وسيّد المسلمين ، عليه صلوات الله وتسليماته : «ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج». (١)

سياقة

(١٣ ـ الحدوث الدّهريّ لعوالم الجواز والإمكان)

هل أنت ذو قريحة نقيّة ، فيعطيك ما تلقّيته الحكم على جملة عوالم الجواز بالحدوث ، حدوثا دهريّا. أليس إذا كان بعض الجائزات متسرمد التّقرّر ، وبعضها مسبوقا بالبطلان الدّهريّ ، كان القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، مع المتسرمد ، وهذا المسبوق بالبطلان معدوم في الدّهر. ثمّ اذا هو ، سبحانه ، صار معه أيضا إذ وجد فيه ، فقد تحقّقت المعيّة الاولى في الدّهر مفترقة عن الثّانية ، ثمّ استمرّت معها فيه ، فقد لزم حصول امتداد في الدّهر وعروض نسبة متقدّرة امتداديّة للقدّوس الحقّ ، وهما محالان.

فإذن يتعيّن : إمّا أن يكون كلّ ما على ساهرة عالم الإمكان سرمديّا ، وهو فطرىّ السّفسطيّة ، وإما أنّ تكون قاطبة قاطنتها من المفارقات العقليّة والذّوات النّوريّة إلى المتزمّنات الكيانيّة والهويّات الهيولانيّة سواسية في الوجود بعد العدم في الدّهر ، فهذا هو الحكمة الحقّة.

فالجاعل الحقّ قد أخرج جملة المعلولات من [١٠ ب] متن اللّيس الصّريح وكتم العدم الباتّ المعبّر عنه باللاخلاء واللّاملاء الزّمانيّ الى صرحة التّقرّر والوجود في وعاء الدّهر مرّة واحدة دهريّة ، فبطل عقد العدم عليها بالإطلاق العامّ الدّهريّ. فنسبته ، عزّ مجده ، إلى هذا الجزء من الزّمان ، مثلا ، بالقبليّة فالمعيّة الدّهريّتين ، كنسبته بهما إلى نفس الزّمان جملة ، وكذلك إلى هذا الحادث اليومىّ لا إلى المجعول الأوّل ، بل زمر المعلولات كافّة.

__________________

(١) قال صلوات الله عليه في خطبة اخرى : «لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق». منه دام ظلّه.

١٤

وعلى هذا ينصّ القرآن الكريم : «ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفس واحدة» (لقمان ، ٢٨) ، وفي السّنّة النّبويّة وأحاديث الأوصياء الطّاهرين ، صلّى الله عليهم ، نصوص وإشارات ليس يسعها طور هذه الصّحيفة إحصاء وذكرا.

حكومة

(١٤ ـ آراء المشّائيّة والرّواقيّة والحكماء السّبعة)

كأنّه إذن ، قد بزغ أنّ الفلاسفة المتهوّسين من الفئة المشّائيّة لم يصدقوا (١) دعواهم تعرّف الأمر في استحالة تصوّر الامتداد في وعاء الوجود الّذي هو الدّهر والسّرمد ، وبطلان توهّم النّسبة المتقدّرة للبارئ الحقّ الأوّل ، وإن أصرّوا وأطنبوا. بل إنّما (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (التّوبة ، ٣٠). وأما ثلّة من الرّواقيّة والحكماء السّبعة الأصول (٢) والأساطين ، أفلاطون وسقراط وفيثاغورس وأنباذقلس وانكسيمايس وثالس وانكساغورس ، وعمود الحكمة اغاثاذيمون وهرمس ، فأولئك في هذه المسألة إخواننا الذّاهبون ، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدى على فراقهم ، لكنّهم وإن صادفوا سمت الوجهة ولّوا الوجوه شطر السبيل ، إلّا أنّهم لم يكونوا يورثون الأخلاف بمرموزات كلماتهم ما يستنام إليه السّرّ في حلّ عويصات الشّكوك وعقد الإعضالات ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد ، ٢١) ، (١١ ظ).

استشراق

(١٥ ـ الفاعل الحقّ لا تجدّد فيه)

أما قرع سمعك من العلم الأعلى ما سنؤتيك برهانه من ذى قبل ، إن شاء الله تعالى ، وهو أنّ واجب الوجود بالذّات واجب الوجود من جميع الجهات ، وما يصحّ عليه بالإمكان واجب له بذاته حاصل له بالفعل على السّرمديّة والأبديّة ، وليس يتصوّر له حركة وتغيّر وانتقال من صفة أو حال أو شأن إلى صفة أو حال أو شأن أصلا ، ونسبته إلى كافّة مجعولاته ومعلولاته بالتّأثير والإفاضة (٣) واحدة أبدا ، ولا تجدّد وتعاقب

__________________

(١) من قبيل قوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ، وقوله سبحانه : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) (منه دام ظله).

(٢) وبعضهم عدّ الحكماء الاصول لمّة أخرى غير التسعة الأساطين (منه).

(٣) قوله : «بالتأثير والإفاضة» عطف الإفاضة على التأثير تفسيرا له ، تنبيها على أنّ التأثير يطلق على معنيين : أحدهما أمر إضافىّ هو المؤثريّة المضايفة للمتأثرية ولا يعرض للعلّة إلّا من حيث يكون مع المعلول و ـ

١٥

في جنبة الفاعل الحقّ (١) بل إنّما التّجدّد والتّسابق والتّعاقب في جنبة المعلولات ، والمتجدّد هو نفس المعلول ، لا حال أو شأن لصانعه القديم الأوّل ، سبحانه ، وعلى جملة ذلك إجماع الفلاسفة. (٢) فهل أنت ذو سرّ نقىّ وقريحة مستضيئة ، فتستشعر أنّ هذا الأصل الكريم إنّما يستقرّ لو كانت المعلولات بشعبها وشعوبها متضاهية في الحدوث الدّهريّ فيكون فاعلها الحقّ قد فعلها في الدّهر مرّة واحدة دهريّة. أما مبدعاتها فلا في زمان ، بوجه ما أصلا ، وأما كائناتها فكلا في وقته. والإفاضة على هذا المرصاد باقية لا تدثر ولا تبيد أبدا. وأما المعلولات المفاضة ، فمنها زمانيّات داثرة في أفق التّقضّي والتّجدّد ، لا في الوعاء الّذي هو الدّهر ، بل هناك يتخصّص الوجود كلّ منها بوقت بعينه لا يتعدّاه ؛ ومنها مفارقات غير زمانيّة ولا داثرة.

__________________

ـ لسنا نعنيه. والثّاني إفاضة الجاعل المجعول واقتضاؤه وإبداعه إيّاه ، وهو بهذا المعنى متقدّم على ذات المجعول ثمّ على الإضافة العارضة لهما ، وإنّما نظرنا فيه. وكذلك الصدور قد يطلق على المعنى الإضافىّ العارض للعلّة والمعلول من حيث يكونان معا ، وقد يطلق على كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول وهو متقدّم على المعلول ثمّ على الإضافة العارضة لهما (منه دام ظلّه).

(١) قوله : «ولا تجدّد وتعاقب في جنبة الفاعل الحقّ» ولا في صفاته الإضافيّة المقرّرة في ذاته تعالى أصلا عند زمرة المحصلين من الحكماء وفاقا. وتحقيق ذلك أنّ الإضافات الّتي تعرض الشّيء : منها ما تبدّلها وتعاقبها ليس يستلزم تغيّرا في ذلك الشّيء وتعاقبا في صفاته المتقرّرة فيه ، إذ ليس يجب أنّ يكون بإزائها مباد تتقرّر في الشّيء من قبل ذلك الشّيء وهذه من الإضافات المحضة ، وتبدّلها وتعاقبها يرجع بالحقيقة إلى تبدّل أمور مباينة لذلك الشّيء منفصلة عنه وعمّا يتقرّر فيه وتعاقبها أنفسها لا غير كما إذا انتقل ما على يمينك إلى يسارك وأنت على ثباتك على وضعك الأوّل. ومنها ما تبدّلها وتعاقبها فى ما يستلزم تغيّرا ما في ذلك الشّيء وتعاقبا في ما يتقرّر فيه البتّة ، إذ بإزائها مباد تتقرّر فيه لا محالة ، وهذه إضافات مترتّبة على صفات متبعة لها غير منسلخة عن لزوم اقترانها البتّة ، كما إذا تبدّل معلومك أو معلولك وتعاقب معلوماك أو معلولاك ، فإنّ ذلك ليس يتصوّر إلّا بتبدّل علم أو تأثير وتعاقب علمىّ أو تأثير من قبل ذاتك بالنسبة إليه وبالقياس إليها بتّة.

ومن يجوّز تبدّل الاضافات وتسابقها وتعاقبها بالقياس إلى الأوّل الحق ، سبحانه ، إنّما يروم القسم الأوّل لا الأخير قطعا ، وإلّا لزم تغيّر ما في ذاته وتسابق وتعاقب في صفاته الثّبوتية المتقرّرة فيه ، جلّ عن ذلك وتعالى عنه علوّا كبيرا. وإنّما مرجع التجدّد والتّعاقب والتدريج في نفس الأشياء المباينة المنفصلة. فإذن لا تجدّد ولا تعاقب ولا تدريج إلّا في جنبه المعلولات وصفاتها ، والمتجدّد والمتبدّل والمتسابق والمتعاقب ، والحاصل على التدريج من المعلومات هي بحسب أنفسها ، لا بقياس بارئها إليها ، أو بقياسها إلى بارئها. فتبصّر وكن من المهتدين ، (منه دام ظله).

(٢) ورأس المشائيّة قد توغّل هناك في الفحص ، ورؤساء مشائية الإسلام بسطوا القول فيه في وجائز زبرهم ، فضلا عن مبسوطات كتبهم ، ونحن في مترقب البيان سنفصله إن شاء الله تفصيلا (منه دام ظلّه).

١٦

أليس أنه إذا تسرمد بعض المجعولات دون بعض ، كان للجاعل الحقّ إفاضة ذاك ، إذ ليست له إفاضة ذا ، وإلّا فقد تخلّف المفاض عن الإفاضة ، ثمّ قد لحقته إفاضة ذا أيضا. (١) فإذن تجتمع فيه إفاضتان متقرّرتان على السّبق واللّحوق ، فيكون تقرّر الإفاضة على التّسابق والتّلاحق ، فيلزم انفصام تلك الأحكام ، بل انهدامها [١١ ب] بالمرّة ف (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران ، ٧١).

تنبيه

(١٦ ـ الزّمانيّ دهريّ ولا عكس)

__________________

(١) قوله : «ثمّ قد لحقته إفاضة ذا أيضا». أى : كما كانت إفاضة ذاك وحدها حاصلة له أولا ، فقد حصلت له إفاضة ذا أيضا أخيرا. فالإفاضتان المجتمعتان أخيرا محكوم عليهما بالسبق واللّحوق بحسب الواقع ، فيكون حصول الإفاضة له وتقرّرها فيه على سبيل التسابق والتلاحق بحسب الواقع. وهى من الصفات الثبوتية المتقررة في ذات الموصوف. فإذن يلزم تجدّد وتلاحق في صفاته الثبوتية المتقررة فيه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

فإن اوهم : أنّه على تقدير استيعاب الحدوث الدّهرىّ لجملة المعلولات أيضا يحصل له إفاضة الجميع بعد أن لم تكن حاصلة له ، فلا محيص عن التجدّد أصلا.

ازيح : أوّلا ، بأنّ السلب حقيقته الانتفاء لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء ، فليس سلب الإفاضة هناك شيئا يعتبر تجدّد الإفاضة ولحوقها بعده.

وثانيا ، بأنّ سلب شيء عن شيء يفتقر إلى ثبوت مسلوب ومسلوب عنه يتقدمانه ، وليس يكفى فيه ثبوت المسلوب عنه فقط. وكذلك إضافة شيء إلى شيء واتّصاف شيء بشيء فهذه أمور لا تتحقّق عند وجود شيء واحد لا غير ، بل يستدعى وجود أشياء فوق واحد يتقدمها. وسيتلى عليك في مسألة : «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد» إن شاء الله تعالى. فإذ كان الجاعل الحقّ سبحانه موجودا لا غير لم يتحقق سلب شيء عنه أصلا. ثمّ إنه جعل جملة المجعولات وأفاضها في وعاء الدّهر مرة واحدة دهرية. فصدق عقد الوجود عليها جملة بالإطلاق العام الدّهرى. فأين هناك وضعان يحكم عليهما بالسبق واللحوق ، وعلى القدر المشترك بينهما بالحصول على التسابق والتلاحق. وذلك هو الذي يعتبر عنه عندهم بالتغيّر والتبدّل.

وثالثا ، بأنّ وجود المجعولات قاطبة على ذلك التقدير يقع في وعاء الدّهر بدلا عن العدم المطلق وفي حيّزه ، لا في حدّ متأخر عن حدّه ، على ما قد تعرفت سالفا. فحينئذ مع صدق الحكم بالإفاضة ليس يبقى الحكم بالإفاضة أصلا ولا بالإطلاق العامّ حتى يتصوّر هناك تجدّد وتلاحق ، ولا كذلك تسرمد بعض المجعولات دون بعض ، فإنّه يستوجب أن يكون تقرر الإفاضة في ذات المفيض الحقّ ، وهى من صفاته الثبوتية المتقررة فيه على سبيل التجدد والتلاحق بتّة ، وهو خلف محال وفاقا.

وبالجملة ، الفرق بين صورتى استيعاب الحدوث الدّهرىّ لجملة الجائزات واختصاصه بالبعض قد استبان سبيله غير مرّة. وانما الذي قد بقى للوهم عليه سلطان هو أن يسأل : أنّه لم لم يفض المجعولات على السّرمدية. فيجاب : بأنّ ذلك ليس من تلقاء الجاعل ، بل إنه من نقصان ماهيّة المجعول ، وسينكشف عليك من ذي قبل ان شاء الله تعالى (منه دام ظله).

١٧

أما تعرّفت ممّا عرّفناك : أنّ كلّ وجود زمانيّ فإنّه دهرىّ بلحاظ آخر ، ولا عكس. فالشّيء الزّمانيّ : إن اعتبر بطبيعته المرسلة كان من المجرّدات والدّهريّات ، ولم يصحّ أنّ يعدّ ممّا هو متأيّن أو متمت أصلا. وإن اعتبر بهويّته الشّخصيّة المتزمّنة. فإن لوحظت بما هي متقرّرة في وعاء الوجود الّذي هو الدّهر ، مع عزل اللّحظ عن وقوعها في افق التّقضّي والتجدّد وفي جزء أو حدّ منه بخصوصه ، كانت موجودة دهريّة وإن كان وجودها في الدّهر بوجودها في الزّمان وفي ذلك الجزء أو الحدّ منه بعينه. وإن لوحظت بما هي متخصّصة التّقرّر بافق التّغيّر وبشيء من أجزائه وحدوده ، كانت موجودة زمانيّة ، كما أنّ وجود الشّيء في نفس الأمر هو وجوده لا بتعمّل العقل مع عزل النظر عن خصوصيّة اللّحاظ لا بحسب الخصوصيّة فإنّها ملغاة في ذلك. (١) وأيضا الصّورة العلميّة الارتساميّة هي بعينها المعلوم بالذّات (٢) والعلم بحسب ذينك الاعتبارين.

فإن استغرب أنّ الزّمانيّ كيف يصير دهريّا؟ قيل : هذا كما انّ الشّيء المادّىّ بحسب شخصيّته هيولانىّ يناله الحسّ دون العقل ووجوده طبيعيّ ومع الكثرة ، وبحسب طبيعته المرسلة مجرّد معقول ليس للحسّ أن يناله ووجوده إلهيّ وقبل الكثرة. فالطبيعة هي عين الفرد في الوجود وفي اللحاظات إلّا في لحاظ التعيّن والإبهام ، وهناك أيضا بأحد اللّحظين فيه ، وهي من المجرّدات المعقولة ، وهو من ذوات الأوضاع

__________________

(١) قوله : «فإنّها ملغاة في ذلك». وهذا الحكم مطّرد في سائر الافراد بالنسبة إلى الطبائع المرسلة ، فإنّ خصوصيّة الفرد بمعزل عمّا بحسبه سنخ الفرديّة ، وإنّما هي مناط خصوص الفردية لا غير (منه دام ظله العالى).

(٢) قوله : «هي بعينها المعلوم بالذّات. الخ» وأما عينيتها بالنسبة إلى المعلوم بالعرض ، وهو الأمر الخارجىّ فبمعنى الاتحاد بالماهيّة لا غير. وتفصيل ذلك أنهم يقولون : العلم والمعلوم متحدان بالذّات. فإن عنوا بالمعلوم ، الشّيء الخارجىّ ، وهو المعلوم بالعرض ، أرادوا بالاتحاد بالذّات مجرد الاتحاد بالماهيّة دون الهويّة الشخصية بناء على انحفاظ جوهر الماهيّة وجوهرياتها في أنحاء الوجود دون التشخصات المتبدلة بحسبها فالصورة الذّهنيّة غير الذّات الخارجية بالوجود والتشخّص. وإن عنوا بالمعلوم الصّورة العلمية الارتسامية ، وهي المعلوم بالذّات ، أرادوا كون تلك الهويّة الشخصية بعينها هي المعلوم من حيث إنّها حقيقيّة متقرّرة في نفسها مع عزل النظر عن خصوص لحاظ الذّهن والعلم بمعنى الصّورة العلمية من حيث خصوص الارتسام الذهنى وبحسب حصول في ذلك اللحاظ بخصوصه ، وكذلك الشأن في العلم الحضورى فالذات العينيّة بخصوص هويتها الشخصية الخارجية هي المعلوم بالذّات والعلم بمعنى الصّورة العلمية الحضورية هي باعتبارين سينكشفان في سقاية صفات الربوبية إن شاء الله تعالى (منه دام ظله).

١٨

المحسوسة. (١) ولا استغراب في أحكام العقل بالفطرة أو بالبرهان. [١٢ ظ] (٢)

تذييل

(١٧ ـ مناط علاقة المفارق مع الزّمانيّ)

من المنصرح : أنّ علاقة المفارق المحض مع الهويّة المتزمّنة بالمعيّة في التّحقّق إنّما مناطها أنّ وعاء صرف التّقرّر والوجود يجمعهما ، لا أنّ تلك الهويّة المتزمّنة واقعة في زمان وفي زمان ما بعينه ، إذ ليس بذلك الاعتبار (٣) بينها وبين النّور المفارق معيّة ولا تقدّم ولا تأخّر ، إذ ليس يتصوّر أنّ يجمعها افق الزّمان أصلا.

فإذن مهما حكم على شيء من المتمتّيات والمفارق المطلق بالمعيّة أو القبليّة ، وجب أنّ يعتبر وجود المتمتّى بما هو وجود واقع في الدّهر ، لا بما هو وجود زمانيّ متمّت متغيّر في افق الزّمان ، أي : بحسب خصوصيّة هويّته باعتبار التّزمّن.

وهذا ، كما إذا اتّفق لأحدنا أنّ يكون مع متمكّن ما في دار ، فإنّه حينئذ كان مع كلّ جزء من أجزاء ذلك المتمكّن في تلك الدّار ، من حيث إنّ تلك الدّار تجمعه وذلك الجزء ، لا من حيث إنّ ذلك الجزء بخصوص هويّته متخصّص بحدّ ما بعينه من حدود ذلك المتمكّن ومن حدود مكانه. فبحسب هذه الحيثيّة بخصوصها ليس يعقل أن يحكم بالاجتماع في تلك الدّار أو بالافتراق في دارين. فهي بخصوصيّتها ملغاة في الحكمين جميعا.

__________________

(١) فإذن ، إنّما المستحيل اتّحاد الأنوار المفارقة والذّوات الهيولانيّة ، لا اتحاد الطبائع المجرّدة المعقولة وأفرادها المادية المحسوسة. فإنّ ما يتّحد مع المحسوس لا يلزم أنّ يكون محسوسا البتّة ، إذ ربما لا يكون الاتحاد بحسب حيثيّته المحسوسيّة ، بل يتكثّر موضوع المحسوسيّة واللّامحسوسيّة بحسب التحليل في لحاظ العقل. وليعتبر مثل ذلك في الزّمانية والدّهرية. منه دام ظله.

(٢) قوله : «بالفطرة أو بالبرهان» ، إذ حيث يحكم البرهان يعلم أنّ الاستغراب إنّما هو من استيحاشات الوهم (منه).

(٣) قوله : «أليس بذلك الاعتبار. الخ». وهذا معنى ما قال في «المطارحات» موافقا لما في «الشفاء» ، وغيره من كتب شركائنا السالفين : «وليس كلّ شيئين ليس بينهما تقدّم وتأخّر زمانيّ هما معا زمانا ، فإنّ المفارق بالكلية لا يتقدّم على زيد زمانا ولا يتأخّر منه وليس معه الزّمان أيضا ، وكذا غيره. فاللذان هما معا في الزّمان بالحقيقة يجب أن يكونا زمانيّين ، كما أنّ اللّذين هما معا في الوضع والمكان هما مكانيّان». ليسوا يعنون : أنه لا يكون معه في الوجود شيء من الاعتبارات أصلا ، إذ المعيّة الدّهريّة ثابتة بتّة ، ولكن إذا اخذ زيد بما هو موجود واقع في الدّهر ، لا بما هو متزمّن متغيّر (منه دام ظله العالى).

١٩

السّقاية الثّانية

فيها طائفة من شئون شعوب الحوادث بحسب أحكام أنحاء الحدوث

ثمّ سياق التّبيان على نمط آخر

إيماض

(١ ـ أنواع السّبق الباقية)

قد أسلفنا اثنين من أنواع السّبق السّبعة. والخمسة الباقية : ما في «المرتبة» باعتبار كون الشّيء هو المبدأ المحدود أو أقرب إليه في النّسبة ويكون في العقليّات وفي الوضعيّات ، وبحسب الطبع [١٣ ب] ، وبحسب الاتّفاق ، وبحسب الأحرى. وما في الفضل والشّرف ، وما فيه السّبق فيه هو نفس المعنى المجعول ، كالمبدإ المحدود ، لا التّرتيب بحسب القرب والبعد منه. وهذه الأنواع الأربعة ليست بحسب علاقة التّوقّف والافتياق. وما بالماهيّة ، وهو الّذي في مرتبة التّقرّر ، بحسب قوام سنخ جوهر الماهيّة ، مع عزل النّظر عن مرتبة الوجود العارض المنتزع أخيرا ، وهو من حيّز الجعل البسيط المستتبع. وما بالطّبع في مرتبة الوجود المنتزع عن نفس ذات الماهيّة ، وهو من حيّز الجعل المؤلّف التّابع. وما بالعليّة ، وهو الّذي في استحقاق حصول التّجوهر والوجود ووجوبهما بالفعل. وهذه الأنواع الثّلاثة من جهة التّوقّف والافتياق ، ويجمعها السّبق بالذّات.

فما بالماهيّة ، وما بالطّبع إنّما يلزمهما التّرتّب العقلىّ لإحدى الذّاتين على الأخرى في قوام جوهر الماهيّة وفي الوجود. وأما التّعاكس أو اللّاتعاكس في اللزوم فخارج عمّا يستوجبه طباعهما ، بل ربّما يعرض لخصوصيّات زائدة ، كما في الفصل والعلّة الصّوريّة ، أو في الطّبيعة الجنسيّة والعلّة الماديّة.

فأما العلّىّ ، فإذ هو تقدّم الموجب التّامّ على ما يمتنع أن يتخلّف عنه في الوجود ،

٢٠