مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

تسويغ السّؤال ، لتعاليه عن تصوّر التّكنيه والتّحديد. إذ عزّة أعظم من أن يسعه مدرك ما ، وأحديّته أقدس من أن يلتقط من ذاته معنى ما أصلا. فليس يمكن أن يشرح اسمه أو يعبّر عن حقيقته إلّا بلوازمه وعوارضه المعقولة. وكذلك مرتبة مطلب «هل» هناك هي بعينها مرتبة مطلب «ما» ، وبالعكس ، كما أنّ مرتبة مطلب «هل البسيط الحقيقى» هي بعينها مرتبة مطلب «هل البسيط المشهوريّ». فإذن قد استبان أنّ تكثّر المطالب إنّما هو في الماهيّات الجائزة ، فأمّا في الحقيقة الحقّة فقاطبتها واحد.

وإذ حقيقة الجواز سلب طرفي التّقرّر واللاتقرّر وضروريّتهما بالنّظر إلى نفس الذّات ، ويتبعه سلب طرفي الوجود والعدم وضروريّتهما سلبا بسيطا تحصّليّا ، وهو صادق في مرتبة نفس الماهيّة ، وليس من لوازم الماهيّة على الاصطلاح الشّائع ، والشّيء بحسبه ، لا المتقرّر ولا اللّامتقرّر ، ولا الذّات ولا اللّاذات ، بل في مفازة القوّة المحضة وفي بلقعة الليس السّاذج ؛ فلا محالة الموجود الجائز هالك الذّات ، [٦٢ ظ] باطل الحقيقة في الآزال والآباد ، وإن كان مجعول الذّات والوجود بالفعل. فكلّ معلول فإنّه بلسان ماهيّته يشهد بليسيّته. فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات هو الحقّ ، وما سواه هالكات باطلات ، كما يقول القرآن الحكيم : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص ، ٨٨).

تقديس

(٨ ـ الواجب بالذّات مبدأ وجوب التّقرّر بالفعل)

إنّ القيّوم الواجب بالذّات يلزمه ، بحقيقته ، أنّ الاستناد إليه بالفعل مبدأ استيجاب وجوب التّقرّر والوجود بالفعل ، واللّااستناد إليه مبدأ استيجاب امتناع الحصول بالفعل بتّة ؛ والممكن الجائز الماهيّة أنّ الاستناد إليه ليس يستوجب شيئا من التّقرّر واللاتقرر بالفعل أصلا. ألم يقرع سمعك : أنّ الفحص يقضي ، أوّلا ، أنّ طباع الجواز هو العلّة المفقرة إلى العلّة الجاعلة ، ثمّ يستبين ، بتأمّل أدقّ ونظر أبلغ ، أنّه علّة الافتياق إلى الجاعل الواجب بالذّات ، جلّ مجده ، وأنّ الشّيء ما لم يجب لم يتقرر ، وما لم يوجبه الجاعل لم يجعله ، والمجعول ممتنع التّخلّف عن الجاعل التامّ. فالاستناد إلى الواجب بالذّات غير ممكن الانسلاخ عن الوجوب بالغير ، وإلى الجائز بالذّات غير ممكن الاستيجاب له بتّة.

١٢١

فحص

(٩ ـ القيّوم بالذّات في الوجود)

إنّ القيّوم الواجب بالذّات ليس يصحّ أن يكون مكانىّ الذّات في الوجود لقيّوم آخر واجب الوجود ، أو مستلزم الذّات له ، لو فرض أن يوجد ، تعالى القيّوم الحقّ عن ذلك علوّا كبيرا ، بحيث يتحقّق بينهما علاقة ذاتيّة يمتنع بحسبها بالنّظر إلى كلّ منهما أو أحدهما أن يكون موجودا ، وليس هو مستصحب الآخر في الوجود ، وهما متكافئان في الوجود [٦٢ ب] بالذّات.

أليس إذا كان أحد الواجبين بالذّات له وجوب أيضا بحسب اعتباره. مع الثّاني ، كان ذلك الوجوب إمّا بالثانى والواجب بالذّات ليس يجوز أن يعرضه الوجوب بالغير ، أو بالقياس إلى الثّاني. والوجوب بالقياس إلى الغير لا يكون للشىء إلّا بالقياس إلى ما هو علّة أو معلول له ، أو ما هو معه في معلوليّة علّة واحدة. وريثما ليست علاقة العليّة والملوليّة ليس وجوب بالقياس. فإذن كلّ منهما لا يأبى ذاته أن يتقرّر ويوجد وليس يتقرّر ويوجد الآخر وإن كان كلّ يجب بالنّظر إلى ذاته أن يوجد ويمنع أن لا يوجد.

فالوجوب بالذّات ليس بطباعه يصادم الإمكان الخاصّ بالقياس إلى الغير. وإنّما يمتنع بلحاظ علاقة العليّة. فإنّ للمعلول بالنّظر إلى العلّة وجوبا بالغير ووجوبا بالقياس إلى الغير جميعا ، وللعلّة بالنّظر إلى المعلول وجوبا بالقياس إلى الغير فقط ، لا وجوبا بالغير أيضا. فهما تحققت علاقة العلّة ، صحّ الإمكان العامّ بالقياس إلى الغير ، لصحّة الوجوب بالقياس إلى الغير الّذي هو أخصّ منه.

تقديس

(١٠ ـ تضامّ الحقائق ليس يفيد تحصّلا نوعيّا)

أمّا قبلك من المستبينات ، بل من الفطريّات والحدسيّات ، أنّ تضامّ الحقائق المتباينة بالنّوع المختلفة بالجنس ، ليس يستحقّ أن يفيد تحصّلا نوعيّا ويحصّل ذاتا أحديّة وواحديّة محصّلة ، بل ربّما يستوجب تصنّفا أو يحصّل هويّة شخصيّة ، كما الأعراض المصنّفة أو المشخصة تدخل في صنف ما أو شخص ما جوهريّ ، ولا تدخل في قوام الحقيقة النّوعيّة الجوهريّة ، وكيف تتأحّد من ماهيّتين مختلفتين حقيقة وحدانيّة.

١٢٢

أفليس ما يدخل في قوام جوهر الحقيقة بما هي هي جوهريّاتها المحمولة ، وهي الطّبائع المرسلة المتّحدة ، هي تلك الحقيقة ، وبعضها [٦٣ ظ] وبعض آخر ذاتا ووجودا في الأعيان وفي لحاظات الذهن إلّا لحاظ التّعيّن والإبهام الذي هو بعينه ظرف التمايز والتخالط باعتبارين ولحظين ، فكيف تكون هي ماهيّات مختلفة متباينة؟ وما يدخل في تقوّمها بحسب الوجود أجزاؤها الوجوديّة الّتي بإزائها الجوهريات المحمولة. وهي وإن كانت ممايزة الذّوات ، متفارزة الوجودات ، إلّا أنّها تلتحق بالمتحدات في ضرب من لحاظ العقل. فالمادّة تنقلب جنسا والصّورة فصلا باعتبار اللابشرطيّة والإرسال في لحاظ آخر. وأيضا مع عزل النظر عن ذلك ، لا محالة ، يتأحّد منها في الوجود حقيقة وحدانيّة محصّلة ، فكيف تكون هي ماهيّات مختلفة من مقولات متناهيّة؟

فإذن أنت ميسّر لأن تستيقن : أنّ القيّوم الواجب بالذّات أحدىّ الذّات ، بسيط الحقيقة من كلّ وجه ، ليس يجوز أن يأتلف من مباد عينيّة هي الأجزاء الوجوديّة ، ولا أن يتقوّم من طبائع مرسلة هي الذّاتيّات المحمولة. وبالجملة ، لا تعقل في حقيقته كثرة ، ولا يتصوّر تحليل إلى حيثيّات ، ولا يلتقط من ذاته حيثيّة ما أصلا ، وراء حيثيّة نفس الذّات الأحديّة البسيطة الحقّة من كلّ جهة. أليس إذا كانت له أجزاء عقليّة أو عينيّة ، كانت إمّا بأسرها جائزات الماهيّة ، هالكات الحقيقة ، في حيّز نفس الذّات ، أو بأسرها قيّومات واجبات بالذّات ، أو متشابكة من الجائز بالماهيّة والواجب بالذّات.

فالأوّل ، كأنّه غريزىّ الاستحالة ، فطريّ البطلان ، أفكيف يسوغ أن يتصحّح الحقّ المحض من الباطلات الصرفة ، ويتحصّل الغنيّ المطلق والفعليّة الحقّة من الفاقرات البحتة والهالكات السّاذجة.

والثّاني ، مستبين الفساد ، بماريت أنّ الواجبات بالذّات إن فرضت لا تتصوّر إلّا وهي ذوات متلاينة متفارقة متّفقة [٦٣ ب] في الوجود بصحابة اتفاقيّة ، لا بعلاقة ذاتيّة لزوميّة، فكيف تتأحّد منها حقيقة وحدانيّة محصلة. فكلّ واحد إذن هو القيّوم الواجب بالذّات ، فلينظر في بساطته.

والثّالث ، تضامّ الحقائق المختلفة المنفصل كلّ واحد منها عن سائر ما عداها بتمام الماهيّة ، وهو غير محصّل للحقيقة ، ولا بمجد للتأحّد في المقولات المتباينة ،

١٢٣

مع اتفاقها في طباع الجواز ، فما ظنّك بالمختلفة بالجواز والوجوب ، أفكيف يلحم الجائز الباطل بالواجب الحقّ ، ويعقل أن يلتئم ويتأحّد الحقّ المحض من ازدواج الحقّ والباطل ، وهل الحقّ المحض إلّا من وراء الباطل؟ فإذن هو القيّوم الواجب بالذّات ، والباطل الجائز خارج عنه وفاقر إليه.

تقديس

(١١ ـ البسيط في العقول والبسيط في الوجود)

إنّ هذا الاسلوب وإن عمّ الأجزاء بقبائلها ، إلّا أنّه ليس يعوزنا نفى الأجزاء المعنويّة الوجوديّة ، غبّ أن نفينا الأجزاء المحمولة العقليّة ، أليس كلّ ما يتقدّس عن الأجزاء بحسب تحليل العقل ، فانه يتقدّس ، لا محالة ، عن الأجزاء بحسب الوجود وإن لم يلزم العكس مستغرقا. فكلّ بسيط في العقل فهو بسيط في الوجود ، نعم ربّما يكون الشّيء بسيطا في الوجود ، وهو من المركّبات العقليّة.

تقديس

(١٢ ـ الأجزاء الوجوديّة للماديات)

إنّما يصحّ المادّة والصّورة ، أعني الأجزاء الوجوديّة ، لقطّان عالم الظّلمات من المادّيّات الغاسقة ، دون ما ليس في كورة المادّة من المفارقات النّوريّة ، بتّة. فما ظنّك بربّ الأنوار العقليّة ومبدعها.

تقديس

(١٣ ـ المتقرّر بنفس ذاته لا يكون ملتئم الذّات من طبائع ومن أجزاء متباينة)

وهناك تبيان آخر مستوعب ، أليس المتقرّر بنفسه الموجود بذاته ليس يعقل أن يكون مسبوق الماهيّة والوجود بشيء ، فلا يسوغ أن يتقدّمه شيء ما تقدّما بالماهيّة أو تقدّما بالطبع ، بالضّرورة الفطريّة. وكيف يستحيل العقل أن يكون ما ليس متقررا موجودا في حيّز نفسه قبل المتقرّر الموجود بنفس ذاته ، أو يكون أحد مفروضى التقرّر والوجود بنفس ذاته قبل الآخر بالوجود أو بالتقرّر.

فإذن [٦٤ ظ] بطل أن يكون المتقرّر الموجود بنفس ذاته ملتئم الذّات من طبائع

١٢٤

متّحدة أو من أجزاء متباينة ، وإلّا لكان مسبوقا بالماهيّة أو بالطبع.

استقصاء

(١٤ ـ تقدّس الواجب عن الذّاتيّات المحمولة والأجزاء المعنويّة)

أجزاء الشّيء : إمّا ما يتركّب منها الشّيء ، وهي الأجزاء الحديّة بحسب جوهر الماهيّة ، والأجزاء المعنويّة الوجوديّة المتباينة بحسب المعنى وبحسب الوجود ؛ وإمّا ما ينحلّ إليها الشّيء ، وهي الأجزاء المقداريّة بحسب الكميّة والاتصال. والأوليان من حيّز الحقيقة المرسلة ، والأخيرة من حيّز شخصيّة الطبيعة الامتداديّة.

فأحد الدّاخلين في قوام الحقيقة إن لوحظت طبيعته مرسلة بما هي هي ، لا بشرط خلط الذّات بالآخر خلطا اتّحاديّا وافترازها عنه افترازا امتيازيّا ، كان : إمّا الجنس الطبيعيّ المرسل ، وله بجوهره الوحدة المبهمة بالنسبة إلى الفصول المضمّنة فيه والأنواع المندرجة تحته على أنّه بعينه عينها ، وإمّا الفصل المرسل ؛ وهما اعتباران جوهريّان لحقيقة واحدة هي النّوع ، ومتّحدان بالوجود وبالحقيقة في اللحاظات كلّها إلّا لحاظ التّعيّن والإبهام ، حيث يلحظ العقل أمرا واحدا في نفسه محصّلا وغير محصّل. فيعتبر الجنس المرسل بوحدته المبهمة ، ويضمّ إليه الفصل المرسل ؛ لا على أنّه يضيفه إليه على أن قد لحقه شيء من خارج ، فتحصّل منها ثالث هو النّوع ، بل على أنّه يتحرّى أحدا من المضمّنات فيه بالتعيّن ويخصّصه باللحاظة ، فيأخذه معه من حيث هو يعيّن إبهامه ويحصّله في نفس معناه ، لا من حيث هو شيء آخر يقارنه.

فالنوع يحدّه العقل منحازا عن الجنس والفصل ومخلوطا أيضا بهما في ذلك اللحاظ وبحسبه لحظين ، وكذلك حال الجنس أو الفصل بالقياس إلى الآخرين [٦٤ ب] هناك. فبما هما ينحازان عن النّوع يستبين أنّهما جوهريّان للنوع ومتقدّمان عليه تقدّما بالماهيّة ، وربّما يدعى بالطبع أيضا ، والنّوع خاصّة ، لهما. وبما الجنس ينحاز عن الفصل يستبين أنّه عرض عامّ له ، وهو علة لتقويم حصة النّوع منه ، والحصّة مطلقا هي الطبيعة المضافة إلى قيد ما ، على أن يخرج القيد ويدخل التقييد على التقييديّة لا على القيديّة.

فإذن لفظ الجزء إنّما يقع على الجوهريات المحمولة على سبيل التّوسّع والتّسامح ، لانسحاب حكم الجزئيّة عليها بحسب ذلك اللحاظ باعتبار ، ولاعتبارها

١٢٥

بالقياس إلى الحدّ دون المحدود ، وإن كان الحدّ هو المحدود بعينه. فلذلك يقال : إنّ الطّبيعة المرسلة تتقدّم على الشّيء الطبيعيّ تقدّم البسيط على المركب.

وإن لوحظت طبيعته وحدها باشتراط أن تكون منحازة الذّات ومنفصلتها عمّا عداها مطلقا ، غير صحيحة الحمل على شيء ما ينضمّ إليها أصلا ، ولا على الملتئم منها ومن ذلك المنضمّ ، ولكن على أن تكون صالحة للاقتران أو مقترنة بالفعل البتّة بواحد بعينه من الامور الّتي هي غيرها ، أعني الّذي يضاهيها في الدخول في قوام الحقيقة بحسب الوجود اقترانا انضماميّا ، كان إمّا المادّة وإمّا الصّورة. فإن كانت البشرطلائيّة على هذه الجهة في الوجود العينى مع عزل النظر عن لحاظ العقل ، كانت المادّة والصّورة الخارجيّتين ، وإن كانت في لحاظ العقل كانت المادّة والصّورة التعقليتين. والجنس المرسل يحمل على المادّة مطلقا والفصل المرسل على الصّورة كذلك ، كما هما يحملان على النّوع ، لكنّ البسائط الخارجيّة من الماهيّات الجائزة ليس إلّا الجنس والفصل ، والمادّة والصّورة العقليّتان [٦٥ ظ] والأمر هناك أوضح.

وإن لوحظت طبيعته بشرط خلط الذّات بالآخر خلطا اتحاديّا ، كان هو النّوع بعينه ، وربّما يكون تقوّم النّوع ممّا يجري مجرى المادّة فقط من غير صورة ، كالعدد من الوحدات. ثمّ إنّ الاعتبارات الثلاثة ، أى : الارسال والبشرطلائية والبشرطشيئيّة ، سائغة اللحاظ في الطبائع المحمولة ، دون الأجزاء المعنويّة ، مع أنّ الطبائع محمولة على الأجزاء أيضا ، فتكون ، لا محالة ، عينها. فهذا ما استشكلته أقوام ، ولعلّ له سرّا قد اعتاص عليهم.

والّذي أنصّ عليه في ذلك هو أنّ الطّبيعة المحمولة لما كانت مرسلة لا بشرط شيء لم تكن تأبى ذاتها أن يدخل هناك شرط أو شروط ، أو لم يدخل ، فكانت ، لا محالة ، متحققة بتحقق ما بشرط شيء وما بشرط لا شيء ، فساغ فيها لحاظ الاعتبارات بأسرها ، وإن كانت هي معروضة أحدها بعينه ، بخلاف الجزء ، فإنّه طبيعة الجوهريّ بشرط لا شيء ؛ فليس يسوغ بالنّظر إلى ذاته أن يكون هناك شرط.

فإذن هذه اعتبارات متغايرة في أنفسها متباينة بحسب المفهومات منها ، إلّا أنّ اعتبار اللابشرطيّة ليس يصادم أن يحمل معروضة بما هو معروضه على معروضي شقيقيه حمل التواطؤ ، بل إنّه يسوّغه. وأمّا شقيقاه فعلى خلاف تلك الشّاكلة.

١٢٦

وبالجملة ، الّا بشرطيّة ، والبشرطلائيّة ، والبشرطشيئيّة على هذا الاصطلاح إنّما يصحّ اعتبارها في الطبيعة الإبهاميّة بالقياس إلى كلّ من الأشياء المتباينة الّتي هي بوحدتها عينها ومبهمة بالنسبة إليها. والأولى مناط تصحّح الحمل الشّائع. والثّانية منشأ امتناع الحمل مطلقا. والثّالثة [٦٥ ب] مبدأ استحقاق الحمل الأولىّ الذّاتىّ.

فإن كانت الطبيعة مبهمة بالقياس إلى تلك الأشياء في حدّ أنفسها وفي مرتبة ماهيّاتها ، وذلك إذا كانت من جوهريّاتها ، كالحيوان بالقياس إلى الإنسان ، والفرس ، كان الحمل المتصحّح حملا بالذّات. وإن كانت مبهمة بالقياس إليها في مرتبة أخيرة بعد مرتبة الذّات ، وذلك إذا كانت من عرضيّاتها ، كمفهوم الأبيض ، أى : ذات ما ينتسب إليها البياض ، على أن يؤخذ ذلك على طباع التقييد ، لا على سبيل القيد بالقياس إلى الذّوات المعروضة ، كان هو ، لا محالة ، حملا بالعرض. وأمّا الماهيّة المحصّلة بالقياس إلى شيء ، كالإنسان بالقياس إلى الفرس ، والفلك بالقياس إلى الأرض ، والبياض بالقياس إلى الجسم ، فليس يعقل أن تجرى فيها تلك بتّة. فإذن قد استتبّ القول في ما تلتئم منها ماهيّة الشّيء.

فأمّا الأجزاء المقداريّة الّتي ينحلّ إليها الموجود الشخصىّ المتصل ، فهى المتوافقة والموافقة للكلّ في تمام الماهيّة والمتشاركة في الاسم والحدّ ، وليست هي أجزاء الكلّ على الحقيقة ، بل إنّما على المسامحة والتشبيه. أليس من المستبين في «صحفنا» بالفحص والبرهان : أنّ الصّورة الاتصالية الشّخصيّة داثرة عند الانحلال والانفصال بتّة؟ وإذ من الفطريّات : أنّ الموجود بالفعل ، كما ليس يتألّف من المعدومات الصرفة ، فكذلك ليس ينحلّ إلى المعدومات الصرفة ، والوحدة الاتصاليّة تأبى تكثّر الوجود بالفعل ، فلا محالة ، تلك الأجزاء موجودة حين الاتصال نحوا ما من الوجود ، هو بعينه وجود الكلّ المتصل الواحد ، لا بوجودات متمايزة متفارزة [٦٦ ظ]. فإذن لها بهويّاتها وجود متوسط بين صرافة القوّة ومحوظة الفعل ، وهي بالوجود الوحدانيّ صالحة للتمايز في الوضع والإشارة الحسيّة.

تقديس

(١٥ ـ تقدّس القيّوم الواجب عن الأجزاء الانحلاليّة أيضا)

١٢٧

أما بان لك : تقدّس القيّوم الواجب بالذّات عن الذّاتيّات المحمولة وعن الأجزاء المعنويّة ، فاعلمن أنّه ليس يتصور هناك الأجزاء الانحلاليّة أيضا. أليس إذا صحّت ، فإمّا هي بأسرها جائزات ، أو بأسرها واجبات ، أو متشابكة. فعلى الأوّل يبطل تشابه الكلّ والجزء فى الحقيقة ، وعلى الثّاني تكون الواجبات بالذّات غير موجودة بالفعل المحض ، بل بالقوّة المتوسّطة ، وعلى الثّالث يعود المحالان جميعا مع ارتفاع تشابه الأجزاء أيضا بعضها لبعض في الحقيقة. ثمّ إنّ التقدّس عن الجهة والوضع وبالجملة عن المادّة وغواشيها يضمن إحالة ذلك.

تقديس

(١٦ ـ القيّوم الواجب لا يصير جزءا لحقيقة)

كأنّك من حيث التمعت لك البساطة الحقّة ، تعرّفت أنّ القيّوم الواجب بالذّات يمتنع أن يصير جزءا لحقيقة ما متأحّدة أصلا. أليس لا يتأحّد حقيقة وحدانيّة من الواجب بالذّات ومن ذات جائزة بتّة.

تقديس

(١٧ ـ الجناب الرّبوبى مسبّب الأسباب لا سبب له)

وبالجملة ، جلّ الجناب الوجوبيّ الرّبوبيّ عن أن يعقل له سبب به أو سبب منه ، أو سبب عنه ، أو سبب فيه ، أو سبب له ، بل لا سبب له أصلا ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق من غير سبب.

تقديس

(١٨ ـ الواجب بالذّات إنّيّته نفس ماهيّته)

تحقّقن أنّ القيّوم الواجب بالذّات ، إنيّته هي نفس ماهيّته. والدليل على استحالة كون وجوده وراء ماهيّته ، استحالة وقوع الكثرة فيه بوجه ، فإنّ [٦٦ ب] كلّ كثرة مفتاقة إلى مباد ، فمبدأ المبادى ليس تكون فيه كثرة بوجه من الوجوه بتّة. أليس ماله البساطة الحقّة لا يمكن تحليله إلى حيثيّتين أصلا ، ولا انتزاع الكثرة منه بوجه ما أبدا ، وأنّ مبدأ المبادى هو البسيط الحقّ ، فلا تكون حيثيّة الوجود فيه وراء حيثيّة الماهيّة ، بل

١٢٨

إنّ حيثيّة الماهيّة هناك هي بعينها حيثيّة الإنيّة.

تقديس

(١٩ ـ الماهيّة مطابق الوجود العينىّ)

ومن سبيل آخر ، أما دريت أنّ مطابق الوجود في ظرف ما هو نفس حيثيّة الذّات المتقرّرة في ذلك الظرف. فإذا كانت الماهيّة بنفسها متقرّرة في الأعيان ، لا بحيثيّة ما وراء نفسها مطلقا ، كانت ، لا محالة ، هي بنفسها مطابق الوجود العينىّ ، فلم تكن نسبة الوجود إليها نسبة العوارض واللواحق. أيسوغ أن تكون حيثيّة الماهيّة بما هي هي مطابق شيء ما من العوارض واللواحق ، وقد كان بزغ لك أنّه ليس يصحّ هناك ذاتيّ للماهيّة داخل فيها. فإذن الوجود هناك هو بعينه نفس الماهيّة ، ومفاده هو تحقّق نفسه ، لا تحقّق شيء. وأيضا إنّ وجوب التّقرّر والوجود بالذّات ، هو تصحّح الحقيقة وتأكّدها ، وهو ينبوع كلّ حقيقة ومبدأ كلّ وجود ، فكيف لا يكون هو بنفسه حقيقة غير لاحقة بماهيّته ، ولا متعلقة بحقيقة أخرى.

تقديس

(٢٠ ـ ما سوى الأحد الحقّ روح تركيبىّ)

وإلى سبيل البيان طريق آخر مستفيض ، هو أنّ وجود الشّيء لا يكون من لوازمه المقتضاة لماهيّته ، وإلّا كانت الماهيّة مخلوطة به في مرتبة الاقتضاء المتقدّمة عليه ، إذ الوجود المصدريّ أوّل العوارض المنتزعة من الماهيّة المتقرّرة ، وإن كانت علّة اللوازم بالذّات هي نفس الماهيّة ، ولا حظّ للوجود المنتزع العارض من العليّة إلّا بالعرض. فإذن ، الموجود بالذّات إنّما الوجود نفس حقيقته ، لا من لوازم ماهيّته. فإذن ليس يصحّ تحليله إلى ماهيّة [٦٧ ظ] ووجود ، كما كان ليس يصحّ إلى جزء وجزء. فهو الأحد الحقّ ، وما سواه زوج تركيبىّ. وستزداد فى ذلك استبصارا. إن شاء الله.

تقديس

(٢١ ـ إضافة الوجود إلى القيّوم بيانيّة)

لعلّ إضافة الوجود إلى القيّوم الواجب بالذّات إذا قيل : «وجود القيّوم الواجب

١٢٩

بالذّات» إضافة بيانيّة على الاصطلاح الّذي لعلماء علوم اللسان ، وذلك معنى قولنا : ماهيّته هي بعينها إنيّته ، على اصطلاح علماء الحقائق.

تقديس

(٢٢ ـ المفهوم من : ماهيّة الأوّل تعالى إنيّته)

نحن ، معاشر الحكماء المتألهين ، إنّما نعنى بقولنا : «ماهيّة الأوّل ، تعالى ، هي بعينها إنيّته» أنّ نسبة مفهوم الوجود المطلق الانتزاعيّ الفطريّ ومفهوم الموجود المشتقّ منه ، وكذلك مفهوم وجوب التّقرّر والوجود بالذّات ، ومفهوم واجب التّقرّر والوجود بالذّات المأخوذ منه إلى نفس ذاته الحقّة ، عزّ مجده ، كنسبة مفهومي الإنسانيّة والإنسان إلى نفس ذات الإنسان ، لا كنسبة مفهومي الزّوجيّة والزّوج ، ومفهومي ذى الزّوايائيّة وذى الزّوايا إلى ماهيّة الأربعة وماهيّة المثلّث.

ولسنا نعنى أنّ هذه الحمولات العقليّة والطبائع المعقولة المنتزعة الّتي ليست هي وراء المعانى المصدريّة الانتزاعيّة هي عين ذاته المتقرّرة الحقيقيّة. وحقيقته الحقّة المتأكدة ذات الذّوات وحقيقة الحقائق وينبوع الماهيّات والإنيّات. وكيف يسوّغ ذلك من له طباع الغريزة الإنسانيّة؟ فكيف من يضمن نضج العلم ويتولّى طبخ الفلسفة ويحمل عرش تسوية الحكمة؟

تقديس

(٢٣ ـ الأوّل الحقّ مصداق حمل الوجود)

فمفهوم الوجود المصدريّ زائد على جملة الحقائق والماهيّات ، لكنّ الأوّل الحقّ الواجب بالذّات بذاته مبدأ الانتزاع ومصداق الحمل. وأمّا الماهيّات الثّواني ، أعني جملة الجائزات ، فمن حيث هي من تلقاء الجاعل ، لا من حيث الذّات بما هي هي ، وكون المعنى المصدريّ الانتزاعيّ بعد مرتبة الذّات ليس يصادم صدق الحمل وتحقّق الحكم [٦٧ ب] بمفهوم المحمول بحسب تلك المرتبة. أليست الإنسانيّة والحيوانيّة المصدريّتان متأخّرتين عن نفس ذات الإنسان والحيوان؟ ومفهوم المحمول ، أعني الإنسان والحيوان ، منحفظ في مرتبة الماهيّة من حيث هي هي ، إذ

١٣٠

العقل يقضي أنّ الإنسانيّة أو الحيوانيّة المنتزعة أخيرا ليس مطابقها وما تنتزع هي منه بالذّات إلّا نفس الماهيّة من حيث هي.

وبالجملة ، مهما كان مطابق انتزاع المعنى المصدريّ أخيرا نفس جوهر الموضوع بذاته ، كان مفهوم الحال المأخوذ منه منحفظا ، لا محالة ، مع الموضوع في مرتبة ذاته بذاته ، وإن لم يكن المعنى المصدريّ في تلك المرتبة ، بل كان منتزعا أخيرا ولكن من نفس الذّات بما هي هي. فإذن الوجود المصدرىّ بعد مرتبة ذات الأوّل الحقّ ، وهو ، تعالى شأنه ، موجود في مرتبة ذاته ، بنفس ذاته ، لا باقتضاء من تلقاء ذاته.

تقديس

(٢٤ ـ الأوّل الحقّ موجود بالضّرورة وكذا صفاته تعالى)

لعلّ بين نسبة الانسانيّة إلى ذات الانسان ونسبة الموجوديّة إلى الموجود الحقّ ، مع ما دريت من الاتفاق بوجه ، اختلافا مستبينا من وجوه أخر وفرقانا مبينا. أليس ذات الإنسان يكتنهها العقل ويجدها مرتسمة في النفس ، فينتزع منها الإنسانيّة. والموجود الحقّ يمتنع أن يجده ذهن أو يناله عقل ، ولو من القادسات العاليات ، بل إنّما العقل يدرك مفهوم الوجود.

ثمّ الفحص والبرهان يشهدان على شدّة الوله والدهش : أنّ له مبدءا ومطابقا لا يتمثّل في القوى العاقلة بمعايير الأنظار ، ولا تتعرّفه العقول القائسة بمقاييس الأفكار ؛ فهناك يعقل المعنى الانتزاعىّ ، فيعرف أنّ له منتزعا منه بالذّات ؛ وفي الإنسان يعقل المنتزع منه ، ثمّ ينتزع المعنى. وأيضا ليس يصدق «الإنسان [٦٨ ظ] إنسان بالضّرورة المطلقة» بل على التقييد ب «مع الوجود» و «مع المجعوليّة» ، وإن صدق لا بالوجود ولا بالمجعوليّة ، ويصدق : «الأول الحقّ موجود بالضّرورة» لا بتقييد أصلا ، بل على الإطلاق الذّاتيّ الأزليّ السّرمديّ ؛ وكذلك سنّة الصفات قاطبتها في ذلك الجناب.

تقديس

(٢٥ ـ تخصّص الوجود وخصوصيّات الماهيّات)

عسى أن يعتاص عليك : أنّ الوجود مفهوم واحد منتزع من جملة الماهيّات

١٣١

المتخالفة ، فكيف لا يكون إلّا معنى مصدريا مأخوذا من نفس جوهر الماهيّة ، لا من حيثيّة تقييديّة غيرها ، كالإنسانيّة من الإنسان ، والفرسيّة من الفرس.

فاحدس ممّا تلى وكرّر عليك ، من افتراق النّسبتين بالحيثيّة التعليليّة إثباتا ونفيا ، فمبدأ انتزاع الإنسانيّة والفرسيّة ، مثلا ، هو نفس الإنسان والفرس بما هما إنسان وفرس ، ومبدأ انتزاع الوجود هو نفس الإنسان مثلا ، لكن لا بنفسه وبما هو هو ، بل من تلقاء الجاعل ومن حيث هو صادر عنه أنّ حيثيّة الإنسانيّة ، مثلا ، لا حظّ لها بخصوصها من مناطيّة انتزاع الوجود ، بل الإنسان إنّما ينتزع منه الوجود بما هو منتسب إلى الموجود الحقّ ، انتساب المجعوليّة والصّدور.

فإذن ، خصوصيّة الإنسان ملغاة في مناطيّة الانتزاع ، حتّى لو كان مكانه العقل أو الفلك أو أيّة ماهيّة فرضت في المجعوليّة والصّدور عن الموجود الحقّ الواجب بالذّات ، كانت صحيحة لانتزاع الوجود ، منحفظة على شأنها.

فإذن قد بان فرق ما بين المنتزع منه وبين مناط الانتزاع ومطابقه ، فخصوصيّات الماهيّات المتقرّرة موصوفة بصحّة انتزاع الوجود منها ، ولكنّها ملغاة في مبدئيّة الانتزاع ومناطيّته ؛ بل إنّما مناط مبدئيّة الانتزاع هو القدر المشترك بين كلّ الجائزات المتقرّرة ، أعني حيثيّة صدورها عن [٦٨ ب] الجاعل القيّوم الواجب بالذّات واستنادها إليه ، جلّ جنابه ؛ والمعنىّ بالوجود ومفاده هو كون نفس الماهيّة تحقيقية في ظرف ما ، لا فرضيّة تقديريّة ، وإنّما ذلك بجعل الجاعل إيّاها جعلا بسيطا.

فإذن ، قد صار الأمر إلى أن مبدأ انتزاع طبيعة الوجود وما ينتزع منه معنى الموجوديّة المصدريّة مطلقا على أن هو المطابق بالحقيقة إنّما هو القدّوس الحقّ القيّوم الواجب بالذّات ، فلذلك أىّ شيء استند إليه ، أيّة ماهيّة كانت له ، صحّ انتزاع طبيعة الوجود منه.

فإذن ، خصوصيّات الماهيّات إنّما لها المدخلية في تخصّص طبيعة الوجود وتخصّصها بالإضافة إليها ، وليس لشيء منها بحسب الخصوصيّة قسط مدخليّة ما البتّة في منشئيّة الانتزاع ومناطيّته البتّة. فأيّة ماهيّة لوحظت ، فإنّما منشأ انتزاع الوجود منها هو القيّوم الواجب بالذّات ، ومناط الانتزاع استنادها إليه ، والوجود المنتزع يتخصّص ويتحصّص بالإضافة إليها. فهذا شأن الوجود.

١٣٢

وأمّا الانسانيّة والحيوانيّة ، مثلا ، أعني المعانى المصدريّة للذاتيّات ، فليست على تلك الشّاكلة. وكذلك الزّوجيّة والفرديّة ، مثلا ، أعني لوازم الماهيّات ؛ فمنشأ الانتزاع هناك خصوصيّات الماهيّات بما هي تلك ، الخصوصيّات ، فالمنتزع منه ومطابق الانتزاع فيها واحد ، هو خصوصيّة الماهيّة ؛ ولكن في الذّاتيّات نفس الخصوصيّة وبما هي هي ، وفي اللوازم نفسها ، لا بما هي هي ، بل لها العليّة والاقتضاء لها.

تقديس

(٢٦ ـ الموجود الحقّ هو الواحد القيّوم الواجب بالذّات)

فإذن ، قد عاد الأمر كلّه إلى إقليم الله ، ورجع الوجود كلّه إلى صقع الله. فاشهد : أنّ الموجود الحقّ هو الواحد الحقّ الشخصىّ القيّوم الواجب بالذّات. أليس لا يعنى بالموجود إلّا ما هو منشأ انتزاع الوجود ومصداقه [٦٩ ظ] ومطابقة بالذّات وإن انتزع مفهوم الوجود عمّا سواه بالاستناد إليه على أن هي حين ما هي متقرّرة موجود بالفعل من جهة ذلك الاستناد ، باطلة الماهيّات ، هالكة الإنّيّات ، باللّيس السّاذج والسلب البسيط في حدّ أنفسها بحسب لحاظ ذواتها بما هي هي.

فإذن ، قد استبان أنّ القيّوم الواجب بالذّات هو الحقيقة والذّات والهويّة على الحقيقة ، وما سواه مجازات في التّقرّر وذوات مجازية في الوجود ، بحسب لغة الحكمة الحقّة الخالصة ، الّتي واضعها الحدس والفحص والبرهان ، وإن شاع إطلاق الحقيقة والموجود عليها حقيقة بحسب وضع اللغة اللسانيّة.

ولعلّ هذه المعرفة هي كنه الكفر بالطاغوت وحقيقة الإيمان بالله في التنزيل الكريم ، إذ قال ، عزّ من قائل : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (البقرة ، ٢٥٦). فلعلّ الطاغوت كلّ عالم الإمكان بنظامه الجمليّ الّذي هو صنم الهلاك بطباع الجواز الّذي هو طلسم البطلان ، والعروة الوثقى نور اليقين الحقّ الخالص الّذي لا يعتريه فواصم الشكوك في ظلمات الأوهام من حوله ، و (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (فصّلت ، ٤٢). والله ، تعالى ، أعلم برموز خطابه وأسرار وحيه.

وكأنّ قوم الذوق وفريق الشّهود من العرفاء المتصوفين ، إذ يدينون بوحدة

١٣٣

الوجود وتوحيد الموجود ، وفئة التّحدّس وحزب التألّه من الفلاسفة المحصّلين ، حيث يقولون: «الوجود جزئيّ حقيقى قائم [٦٩ ب] بذاته ، وإنّما لفظ «الموجود» الواقع على غيره من باب «المشمس» و «الحدّاد» الواقعين على الذّوات بمعنى الانتساب ، لا بمعنى الانتزاع ؛ لو كانوا يشعرون بسرّ العلم ويسبرون دخلة الأمر ، فينطقون بالحقّ ، ويرفضون تشبيه الحقّ المحض والباطلات من حيث الذّوات بالبحر والأمواج ، وتعطيل العقل عن انتزاع الموجوديّة المطلقة الفطريّة من الجائزات المتقرّرة بالفعل بالجاعل ، لكانوا من الحكماء العظماء اليمانيّين الإلهيّين ، أبناء الحقيقة ، ورصّاد المواقيت ، وأولياء خلع الأجساد ، وأقوام رفض النّواسيت ؛ ولكان ما به يدينون مكيال الحقّ والتّحصيل ، وما عليه يعوّلون ميزان الصدق والتحويل.

تقديس

(٢٧ ـ يجب أن يكون للوجود وجود بالذّات)

وليكن من المحقّق عندك أنّه ، كما النّظر في تقرّر ما ووجود ما ، بل في طبيعة التّقرّر والوجود ، يسوق العقل إلى إثبات تقرّر بالذّات ووجود بالذّات ، أعني المتقرّر بنفسه الّذي ماهيّة هي بعينها تقرّره ووجوده ، فكذلك كلّ طبيعة هي كمال مطلق للتقرّر بما هو تقرّر وحلية مطلقة للوجود بما هو وجود ، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة والاختيار. أليس ، كما أنّ مبدع الماهيّة ومفيض الوجود يجب أن يكون ، لا محالة ، في نفسه حقيقة حقيقيّة موجودة ، فكذلك واهب الكمال المطلق للموجود بما هو موجود ومفيضه ، ولا سيّما إذا كان واهبا ومفيضا بذاته ، يجب ، لا محالة ، أن يكون في نفسه متحلّيا بذلك الكمال غير عرو منه. فلذلك يمتنع أن يكون شيء يهب كمالا ما لذاته ويفيضه [٧٠ ظ] على نفسه.

فكما الوجود ليس يسوغ أن يكون من لوازم الماهيّة على الاصطلاح الشّائع ، بل يجب أن يكون إمّا عينها البتّة ، أو مفاضا عليها من تلقاء الغير. فكذلك الكمالات الحقيقيّة المطلقة للوجود بما هو وجود. وكيف يكون الشّيء مفيض الوجود على نفسه وهو مسلوب الوجود في حدّ نفسه ؛ أو واهب الكمال لذاته ، وهو ممنوّ بالنّقص في مرتبة ذاته. وبالجملة المفيض ، لا محالة ، أكرم وأمجد من المفاض عليه ، فكيف يكون الشّيء مفيضا

١٣٤

على نفسه. فإذن يجب أن يكون في الوجود وجود بالذّات حتّى يتصوّر وجود ما ، وفي العلم علم بالذّات حتّى يتصوّر علم ما ، وفي القدرة قدرة بالذّات حتّى تتصوّر قدرة ما ، وفي الحياة حياة بالذّات حتّى تتصوّر حياة ما ، وفي الإرادة والاختيار إرادة بالذّات واختيار بالذّات حتّى تتصوّر إرادة واختيار ما ، وكذلك فى السّمع والبصر وفي كلّ ما هو كمال على الإطلاق ، وبهذا ينطق القرآن الكريم : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف ، ٧٦).

فإذن يجب أن يكون القيّوم الواجب بالذّات في مرتبة ذاته موجودا بالذّات ، وواجبا بالذّات ، وعالما بالذّات وقادرا بالذّات ، وحيّا بالذّات ، ومريدا مختارا بالذّات ، وسميعا بالذّات ، وبصيرا بالذّات ، حتّى تصحّ هذه الأشياء ، لا بالذّات ، في غيره ، من تلقاء فيضه وجوده. فهو ، جلّ ذكره ، بنفس ذاته يستحقّ هذه الأسماء لا بحيثيّة ما وراء أحديّة ذاته الحقّة أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليقيّة ، فهو [٧٠ ب] يجب بما يوجد ويوجد بما يجب ، ويعلم بما يقدر ، ويقدر بما يعلم ، ويريد ويختار بما يقدر ويعلم ، ويقدر ويعلم بما يريد ويختار ، ويسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع.

فكلّ حيثيّة كماليّة هي زينة الذّات وحلية الحقيقة ، فإنّها مضمّنة في حيثيّة الوجوب بالذات ، بل هي بعينها نفس قاطبة الحيثيّات الجميلة الكماليّة. فإذن هو ، بنفس ذاته الأحد البسيط الحقّ ؛ وجود كلّه ، وجود كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ، إرادة كلّه، اختيار كلّه ، سمع كلّه ، بصر كلّه ، وسنستأنف نمطا من بسيط القول في ذلك من ذى قبل، إن شاء الله تعالى.

تقديس

(٢٨ ـ الحقيقة الحقّة هي الوجود القائم بذاته)

فإذن الحقيقة الحقّة هي الوجود القائم بذاته ، ثمّ الحقائق والوجودات كلّها أظلال الوجود الحقّ ، والوجوب الحقّ هو القائم بذاته ثمّ الوجوبات كلّها أظلال الوجوب ، والعلم الحقّ هو القائم بذاته ، ثمّ العلوم كلّها أظلال العلم ، وكذلك سنّة القدرة ، والحياة ، والإرادة ، والاختيار ، والسّمع والبصر ، والأحديّة والوحدة.

استضاءة

١٣٥

(٢٩ ـ المتمايز في التقرّر وفي لحاظ العقل والافتراق بالماهيّة أو بعضها)

هل قرع سمعك في طبقات الصّناعة : أنّ المشّائية تذهب إلى أنّ كلّ متمايزين في التّقرّر وفي لحاظ العقل : إمّا أنّهما مفترقان بتمام الماهيّة ـ ليس بينهما اشتراك هي الطبيعة الجنسيّة طبيعة ما جوهريّة أصلا ـ أو بعضة من سنخ الماهيّة ، فهناك طبيعة ما مشتركة جوهريّة هي الطبيعة الجنسيّة ومضمّنات إليها هي فصول ومقوّمات والمتحصّل عند التّضامّ أفراد نوعيّة لتلك الطبيعة ، والتّضامّ اتّحاديّ على سبيل التّعيين وعلى الجهة الّتي أومأنا إليها من قبل أو هما متشاركان في الحقيقة النّوعيّة ، والماهيّة بتمامها [٧١ ظ] مشتركة بينهما ، وإنّما الافتراق من بعد الماهيّة بمنضمّات عرضيّة لاحقة ، مصنّفات أو مشخّصات. والمتحصّل بالتّضامّ أفراد صنفيّة لجوهر الماهيّة أو أفراد شخصيّة ، والتّضامّ تضامّ اقترانىّ يتخصّص به التّعيّن ويتصحّح به الإشارة. وليس يصحّ قسم رابع ، بل القسمة مستوفاة ضابطة حاصرة.

والرّواقيّة ، ولا سيّما الإشراقيّة ، تفسخ الضّبط وتدفع الحصر ، ذاهبة إلى أنّ الافتراق ربّما يكون لا بسنخ الماهيّة ، لا برمّتها ولا بعضة منها ولا بمنضمّات زائدة فصول ومقوّمات أو عوارض ولواحق ، بل إنّما بكمال نفس الماهيّة ونقصها ، على أن تكون لسنخ الماهيّة بما هي هي مراتب في الكمال والنقص وعرض بالقياس إلى مراتب نفسها وراء ما لها من العرض بالقياس إلى أفرادها المتضمّنة لنفس الماهيّة وأمر ما آخر زائد عليها في الوجود أو في بعض لحاظات العقل. فالعرض هناك بالقياس إلى الانضمامات ، والمتحصّل من التّضامّات أفراد متخالفة بالمنضمّات المعتبرة في ذوات الأفراد ، وما نحن بسبيله هو العرض في نفس الماهيّة بالشدّة والضّعف ، وإنّما المتحصّل في كلّ مرتبة بعينها هو نفس طبيعة الماهيّة على الشدّة والازدياد أو على الضّعف والنقصان. فهذا تحديد حريم النزاع على حدة ، ويجب تقديس الواجب بالذّات عن تلك الأقسام جميعا ليتلأّب الأمر في التّوحيد.

حكومة

(٣٠ ـ الوحدات في الماهيّات وكيفياتها)

إنّى أفتى بما قالته المشّائيّة ، ولست أضمن تصحيح احتجاجاتهم عليه. فما تداولته

١٣٦

الأتباع : «أنّه إن لم يكن في الأكمل شيء ليس في الأنقص فلا افتراق ، وإن كان فإمّا معتبر في سنخ الماهيّة فلا اشتراك ، وإمّا زائد عليها ، فيكون ، لا محالة ، إمّا فصلا مقوّما [٧١ ب] وإمّا عرضيا لاحقا» ليس في مستقرّ الانحصار ولا على حدّ الحريم المحدود. أليسوا يضعون التفارق بكماليّة نفس الماهيّة ، كالسواد والحرارة ، ونقصيّتها ، لا بشيء يزيد عليها ، وهما غير معتبرتين في سنخ الماهيّة ؛ بل لها وحدة مبهمة عريضة بحسب مراتب نفسها في الكماليّة والنقصيّة.

وأمّا متمسّك شركائنا السّلاف ، كالشيخ في «الشفاء» (ص ١٠٤) وغيره من أترابه : «وهو أنّ ذات كلّ شيء واحدة ، فيجب أن يكون ذات الشّيء لا تزداد ولا تنقص، فإنّه إن كان ماهيّة الشّيء وذاته هو الأنقص من حدود الزيادة والنقصان ، والأزيد غير الأنقص ، فالأزيد غير ذاته ، وكذلك إن كان الأزيد ، وكذلك إن كان الأوسط. وأمّا المعنى المشترك للثلاثة الّذي ليس واحدا بالعدد ، بل بالعموم ، فليس هو ذات الشّيء الواحد بالعدد. فليس لك أن تقول : إنّ الزائد والناقص والوسط تشترك في معنى واحد هو ذات الشّيء». فإنّه وإن كان في حدّ الحريم ، لكنّه ليس على مستقرّ الإجداء والاستقامة ، فإنّ ما لا يحتمل الاشتراك والتعميم إنّما هي الوحدة العدديّة الشّخصيّة المعيّنة ، وأمّا الوحدة بالعموم ، وهى الوحدة المبهمة الّتي هي للطبائع المرسلات ، والوحدة العدديّة الشّخصيّة المبهمة الّتي هي لهيولى عالم الاسطقسّات ، فليستا تأبيان انحفاظ الذّات الواحدة المبهمة بعينها في المراتب المتكثّرة المتباينة.

فكما أنّ ، في الطبيعة المرسلة عرضا بحسب أنواعها المتباينة بالفصول ، وأشخاصها المتكثّرة بالعدد بالمشخّصات ، فقد يكون فيها عرض بحسب مراتب [٧٢ ظ] نفسها الكماليّة والنقصيّة. فالوحدة المبهمة بالعموم ، كما يكون إبهامها بالقياس إلى الأفراد النّوعيّة والأفراد الشّخصيّة ، فكذلك يكون بالقياس إلى المراتب التماميّة والنقصيّة المرسلة الواحدة في حدّ نفسها بالوحدة المبهمة العموميّة تعمّ المراتب بأسرها في جميع الصّور. وكذلك سبيل الوحدة الشّخصيّة المبهمة والذّات المبهمة الواحدة بالشخص تلك الوحدة بالقياس إلى مراتب التّنوّعات والتشخّصات الّتي لها بالعرض.

تشريق

١٣٧

(٣١ ـ ذات الشّيء ومقوّم الشّيء لا يحتمل الزيادة والنقصان)

ألم يستبن لك في تضاعيف الصّناعة : أنّ تكثّر الطبيعة المرسلة بالذّات هو بعينه تكثّر الأشياء الطّبيعيّة بالذّات ، وتكثّر الأشياء الطبيعية بالذّات هو تكثّر الطبيعة المرسلة بالعرض. وإنّما ذلك لأنّ الطبيعة المرسلة داخلة في قوام الشّيء الطبيعيّ ، وهو الفرد ، ومن جوهريّات ذاته بما هو فردها ، والشّيء الطبيعيّ بما هو فرد الطبيعة المرسلة خارج عن قوام جوهرها ومن خواصها وعوارضها الّتي بعد الذّات وفي مرتبة أخيرة ، وإن هذا إلّا لتضمّن الفرد ما هو من عرضيّات الطبيعة في لحاظ التّعيّن والإبهام بتّة. فالكثرة بالعدد للأفراد بالذّات كثرة بالعدد للطبيعة بالعرض.

ثمّ ليس يصحّ أن توصف الطبيعة بالكثرة بالعدد بالعرض إلّا من حيث الكثرة بالعدد الّتي هي للأفراد بالذّات. أليس مفاد الوحدة أو الكثرة بالعدد توحّد الوجود أو تعدّده ، وليست الطبيعة توجد إلّا بعين وجودات الأفراد. فإذن ، تكثّر المراتب الكماليّة والنقصيّة إمّا هو تكثّر سنخ الطبيعة المرسلة [٧٢ ب] بالذّات ، فتكون هناك طبيعتان مختلفتان في سنخيهما ، لا طبيعة واحدة مختلفة بالكماليّة والنّقصيّة ، وإمّا هو تكثّرها بالعرض ، فيكون الكماليّة ، لا محالة ، بشيء يزيد على جوهر الطبيعة ويعرضها بعد الذّات في مرتبة أخيرة ، لا بنفس الطبيعة ، فتكون المرتبة الكماليّة فردا ما من الأفراد متحصّلا من فصل مقوّم أو عرض مصنّف أو مشخّص بتّة. فهذا سبيل تقويم البرهان.

فإذن ، ذات الشّيء لا يحتمل الزيادة والنقصان ، وكذلك ما هو مقوّم الذّات لا يحتملهما ، فإنّه إن كان إذا زاد قوّمها بزيادته ، فالذات المتقوّمة ليست هي إلّا الأزيد فيه ، أو بنقصانه فلست هي إلّا الأنقص فيه ، أو بما هو هو لا من حيث هو يزيد أو ينقص ، فيكون المقوّم هو المعنى العامّ المرسل.

حكومة

(٣٢ ـ إختلاف الوجود القيّوميّ والوجودات الإمكانيّة الهالكة)

فأمّا متشبّثات أولئك الأقوام ، من : «أنّ المقدار التامّ والنّاقص ما زاد أحدهما على الآخر بعرضىّ ولا فصل مقسّم للمقدار ، فإنّه عرضىّ أيضا لما يقسّمه ، فالتفاوت في المقادير بنفس المقدار ، وليس الزائد خارجا عن المقدار ، بل ما زاد به هو كما ساوى

١٣٨

به في الحقيقة ، فليس الافتراق بين الخطين المتفاوتين بالطول والقصر إلّا بكماليّة الخط ونقصه. وكذا بين السواد التامّ والنّاقص ، فإنّهما اشتراكا في السّواديّة وما افترقا في أمر خارج عن السّواديّة ـ فصلا كان أو غيرها ـ فإنّ التفاوت في نفس السّواديّة ، فالجامع بين هذه الأشياء كلّها التّماميّة والنّقص في نفس الماهيّة» (المطارحات ، ص ٣٠٠).

و «أنّ حدّ الحيوان هو أنّه جسم ذو نفس حسّاس متحرك بالإرادة. ثمّ الّذي نفسه أقوى على التحريك وحواسه أكثر ، لا يشكّ أنّ الحسّاسيّة المتحركة فيه [٧٣ ظ] أتمّ ، فيكون حيوانيّة الإنسان ، مثلا ، أتمّ من حيوانيّة البعوضة ، مثلا ، وإن لم يستعمل في ذلك أدوات التّفضيل والمبالغة بحسب اللغة اللسانيّة. فالحقائق لا تقتنص من الاستعمالات اللغويّة والإطلاقات العرفيّة الجمهوريّة ، وأنّ الوجود القيّومىّ الوجوبىّ أتمّ ، لا محالة ، من وجودات الجائزات الفاقرة الهالكة» (حكمة الإشراق ، ص ٨٨).

فواهنة الأساس ، موهونة التبيان ، فإنّ المقدارين الزائد والناقص ماهيّة المقدار فيهما على شاكلة واجدة ، وليست طبيعة المقداريّة في أحدهما أزيد ، بل إنّهما في حدّ التّعيّن الفرديّ اختلفا في التمادى على أبعاد محدودة إلى حدود معيّنة ، وذلك أمر خارج عن طبيعة المقداريّة بما هي مقداريّة عارض لها من جهة اختلاف استعدادات المادّة المنفعلة ، وهو يستتبع كون الفردين في حدّ هويّتيهما الفرديتين ، بحيث إذا اعتبرا مقيسا أحدهما إلى الآخر كانت هناك زيادة بحسب الهويّة الفرديّة العارضة للطبيعة أخيرا بعد مرتبة الماهيّة المرسلة ، لا بحسب نفس جوهر الطبيعة ، فالخطّ الطّويل والخطّ القصير إن لوحظا من حيث طبيعته الخطيّة ، أى : البعد الواحد ، كان كلّ منهما طولا حقيقيّا يضاهي الآخر في أنّه بعد واحد ، ولا يعقل بينهما في هذا الطّباع تفاوت أصلا ؛ وإن لوحظ أحدهما بقياسه إلى الآخر كان الأزيد منهما طولا إضافيّا يفضل على الآخر بحسب خصوص الهويّة الفرديّة. فالطّول الحقّ ليس يقبل الأزيد والأنقص ، بل إنّما الطّول المضاف. وكذلك الكثرة بلا إضافة هي العدد ، والكثرة بالإضافة عرض [٧٣ ب] في العدد ، والكثير الحقّ ليس يقبل الأكثر والأقلّ ، بل إنّما الكثير المضاف.

وطبيعة السواديّة أيضا في السّوادات المختلفة بالشدّة والضّعف على سبيل واحد ، وإنّما ذلك الاختلاف بحسب خصوصيّات أفراد الطبيعة ومن حيث الإضافة

١٣٩

العارضة ، لا في جوهر الماهيّة وسنخ الحقيقة. فالسواد الحقّ لا يقبل أشدّ وأضعف ، بل الشيء الّذي هو سواد بالقياس عند شيء هو البياض بالقياس إلى آخر. وكلّ ما يفرض من السواد فهو لا يقبل الأشدّ والأضعف في حقّ نفسه ؛ بل إنّما عند ما يؤخذ بالقياس ؛ فلذلك كان تقابل الطرفين ، وهما السّواد الصرف والبياض الصّرف بعينه ، يعمّ الأوساط. ولا تزداد بذلك أنواع التقابل ولا ينصدم اشتراط التّضادّ الحقيقيّ بغاية الخلاف ، على ما في الفلسفة الأولى الإلهيّة والحكمة الّتي هي فوق الطّبيعة. ثمّ ليس فصل الحيوان هو الإحساس والتّحرّك بالفعل ، بل هما من الأفعال والخواصّ العارضة. وإنّما الفصل مبدأ القوّة على ذلك ، حسب ما استيسر له ، من الآلات والمهيّئات. وربّما تلك تختلف بحسب الأنواع المختلفة الّتي تحته. وكذلك ليس إذا كان بعض الناس أفهم وبعضهم أبلد ، فقد قبلت القوّة النطقيّة زيادة ونقصانا ، بل ولو لا لو كان واحد من الناس لا يفقه شيئا البتّة [كالطفل. ففصله : هو أنّ له في جوهره القوّة التي إذا لم] يصدّها صادّ ، فعلت الأفاعيل النّطقية ، وهي واحدة ، ولكنّها يعرض لها تارة عوز الآلات القلبيّة والدماغيّة ، مثلا ، وتارة معاسرتها وعصيانها ، فتختلف بحسب ذلك أفعالها ، وطباعها ثابت على شاكلته ، كالنار ، تختلف أفعالها بحسب اختلاف المنفعلات والمادّة الّتي تفعل بها فيها.

وربّما تكون النفس الشّخصيّة [٧٤ ظ] ناقصة في جوهرها الشّخصىّ ، لنقصان استعداد المادّة الّتي تستحقّها. فليس الذهن ولا الحدس ولا شيء من مضاهيات ذلك ، فصلا يقوّم الإنسان المرسل بما هو إنسان ؛ بل هي عوارض وخواصّ لسنخ الماهيّة المرسلة. والكمال والنقص فيها من جهة الاستعداد المتولّد من استعدادين : استعداد الفاعل واستعداد المنفعل. فأمّا الّذي للفاعل نفسه فغير مختلف.

فأمّا كمال القيّوم الواجب بالذّات وتماميّته فبحسب حقيقته الوتريّة الأحديّة القدّوسيّة ، لا بحسب ماهيّة مشتركة. وقد دريت أنّ الحقيقة الحقّة هي بالحقيقة مبدأ انتزاع الوجود ، وإنّما ينتزع من الجائزات الباطلة من تلقاء استنادها إلى الحقيقة الحقّة. فلذلك يختلف الوجود القيّومىّ الواجبىّ والوجودات الجائزيّة الهالكية ، بالأوليّة والأقدميّة ، والكمال والنقص ، من جهة تماميّة الحقيقة الغير المشتركة و

١٤٠