مصنّفات ميرداماد - ج ١

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد - ج ١

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-7874-07-3
الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

فإن غولط : بأنّ المعقوليّة بما هي معقوليّة ليست تأبى أنّ تفارق العاقليّة ، وكذلك العاقليّة من حيث هي عاقليّة ؛ والمعقوليّة بما هي معقوليّة تستدعي وجود موصوفها لشيء ، لا وجود شيء لموصوفها ، والعاقليّة بما هي عاقليّة على العكس ، فهما حيثيّتان مختلفتان مفهوما واقتضاء.

حوول كشف غطاء التّدليس على مضاهاة ما ذكر.

ثمّ أليس الفحص يقضى أنّ الماهيّات علل للوازمها ، إذ لو لم يكن الاقتضاء لازم نفس ذات الملزوم وماهيّته ، بل كان حصول اللّازم له باقتضاء علّة من خارج ، لصحّ تقرّر الملزوم عريا عن ذلك اللّازم عند فرض انتقاء تلك العلّة ؛ أى ما لم يلحظ الاستناد ، فلم يكن هو لازما ، وهي أيضا متّصلة بها ، أو هى حاصلة فيها ، لا فى شيء آخر منفصل عنها. فالزّوجيّة من ماهيّة الأربعة وفيها ، ومساواة الزّوايات للقائمتين من ماهيّة المثلّث فيها ، واستعداد الكتابة من ماهيّة الإنسان وفيها.

وإن اوهم : أنّ هذه الماهيّات مركبّة : إمّا في التّصوّر واللّحاظ التّحليلىّ فقط ، وإمّا في الوجود أيضا.

ازيح : بأنّ في كلّ مركّب بسيطا ، ولكلّ من البسائط شيء من اللّوازم لوحدته وهويّته أيضا ، لأنّ للحقيقة المركّبة لا محالة وحدة تخصّها ، واللّازم إنّما يلزم عند الاجتماع ، وليس علّة لزومه أحد أجزاء المجتمع ، وإلّا لكان حاصلا قبل الاجتماع ؛ ولا القابل له جزءا ما ، إذ إنّما الموصوف به نفس الحقيقة المجتمعة. فالقابل والفاعل إنّما هو المجموع بما هو المجموع. فإذن الشيء الأحديّ الذّات ، والشيء الواحد بالاعتبار الذي هو به واحد قابل وفاعل.

ومن المستغرب ، أنّ هذا الشّيخ المراوغ مساعد الشّركاء ، أساء في بعض كتبه على استناد لازم الماهيّة إلى نفس ذاتها من غير مدخليّة مرتبة الوجود ولا جاعليّة الجاعل في العليّة إلّا بالعرض ؛ ومنفرد بتشريك اللّوازم والجوهريّات في إحدى خاصيّاتها ، وهي امتناع رفعها عن الماهيّة في التوهّم.

فإن كنت ، بعد ، يزعجك : «أنّه إذا اقتضت ماهيّة بسيطة أو حقيقة ما واحدة لازما ما من اللّوازم العرضيّة ، كانت نسبته إليها بحسب مرتبة نفسها من حيث هي هي ، نسبة

١٠١

جوازيّة ، أو ليست العرضيّات في مرتبة جوهر الذّات بما هي هي ، وبحسب مرتبة الاقتضاء نسبة وجوبيّة ، فيلزم أن يختلف نسبة الأمر الواحد إلى الشّيء البسط أو إلى الحقيقة الواحدة بما هي واحدة بالجواز والوجوب ، وإن هي إلّا القابليّة والفاعليّة الممتنعان الاجتماع في موضوع واحد» ؛

فافقهن : أنّه إنّما تكون النّسبة إلى الذّات جوازيّة إذا أمكن الانساخ والافتراق بالنّظر إلى الذّات بحسب نفس الأمر ، ووجوبيّة إذا امتنع ذلك بالقياس إلى الذّات بحسب نفس الأمر ، لا ما إذا كان ذلك بحسب مرتبة ما بخصوصها من مراتب الذّات ، وفي لحاظ ما بخصوصه من لحاظات العقل.

فمن المستبين : أنّ نسبة المجعول إلى جاعله الموجب التّامّ بالوجوب ، مع أنّ كلّ معلول فإنّه ليس في مرتبة العلّة ، بل متأخّر الذّات والوجود عن مرتبة ذات العلّة بتّة. والضّرورات السّبع قد استوفينا البحث عنها في كتابنا «الأفق المبين».

تشريق ضابط بضوابط

(٤ ـ المعيار فى أقسام القابليّة والفاعليّة)

فإذن كأنّك قد استشعرت أنّ القابليّة والفاعليّة على ضروب ثلاثة :

أحدها : من القبول بمعنى القوّة الاستعداديّة ، والمعتبر فيها عدم المستعدّ له بالفعل ، ومن الفعل بمعنى حصول الوجود والخروج من القوّة الاستعداديّة إلى التلبّس المستعدّ له بالفعل ، إلى كون معنى ما من المعاني للشيء تارة بالقوّة وتارة بالفعل ؛ أو من القبول بمعنى القوّة الجوازيّة التي هي الإمكان الذّاتيّ ، ومن الفعل بمعنى تقرّر الذّات وموجوديّتها بالفعل ، أي كون نفس ذات الشّيء بحيث يحمل عليها ما بالقوّة بحسب مرتبة جوهر الذّات ، وما بالفعل بحسب نفس الأمر معا.

فالقابل ما له هذا القبول ، والفاعل ما منه هذا الفعل ، ويستحيل أن يتّفق افتراقهما فى موضوع واحد غير متكثّر الذّات بالفعل ، إذ الشّيء لا يكون مخرج ذاته من القوّة إلى الفعل ، وإلّا لم يكن ذاته بالقوّة أصلا ، ولا مبدءا ما لتغيّر ما في نفسه ، إذ لو كان مبدءا لثبوت صفة له كانت تدوم له تلك الصّفة ما دامت ذاته ، فيمتنع أن يكون هو متغيّرا فيها.

فالقابل والفاعل على هذا الضّرب مطلقا ذاتان متمايزتان فى الوجود ، لكنّ القبول

١٠٢

الّذي هو الاستعداد والفعل الّذي بإزائه ، أي كون أمر ما للشّيء بالقوّة تارة وبالفعل أخرى، فلا يتصحّح الّا يكون الشّيء متركّب الذّات متكثّر الجهة بالفعل في الوجود والقبول الّذي هو الجواز الذّاتيّ ، والفعل بمعنى حصول التّقرّر بالفعل ممّا يكثر الحيثيّات في لحاظ العقل لا في الأعيان.

وثانيها ، من القبول ، بمعنى الانفعال والتّأثّر من فاعل ، ومن الفعل بمعنى التّأثير في منفعل. فالقابل ما يقبل التأثير من فاعل فوقه ، والفاعل ما يؤثّر في منفعل دونه ؛ وليسا يستدعيان تكثّر الموضوع البتّة في الوجود ، بل ربما كانا يتّفقان للشّيء البسيط الذّات في الوجود ، ولكنّه إذا كانت ذاته متكثّرة الجهات والحيثيّات في لحاظ العقل ، كما الأنوار المفارقة العقليّة متأثّرة من جناب نور الأنوار ، تقدّست أسماؤه ، ومؤثّرة في النّفوس النّاطقة الإنسانيّة ، وكذلك النّفس الإنسانيّة بالقياس إلى الجنبة العالية أعني عالم الأنوار العقليّة ، والجنبة السّافلة أعني العالم الجسد انيّ.

وثالثها ، من القبول ، بمعنى الموصوفيّة بمفهوم ما بالذّات ، ومن الفعل ، بمعنى اقتضاء نفس الذّات تلك الموصوفيّة ؛ وليسا يستوجبان الكثرة أصلا ، ولا بالحيثيّات ، بل ربما كانا كالبسيط الحقّ الأحديّ الذّات من كلّ جهة ، وإنّما الاختلاف بالأسماء ، لا غير.

فإذن الضّابط المعيارىّ في الحيثيّات المختلفة للشّيء أنّها مهما كانت في التّعبير والحكاية فقط ، لا في المعبّر عنه أيضا ، أوجبت تكثّر أنحاء مختلفة وعنوانات متغايرة للذّات الأحديّة البسيطة من كلّ جهة ، لا غير.

وإذا كانت في الذّات المحكيّ عنها : فإن كانت متعاندة غير مضمّنة إحداهما في الأخرى متفارقة الحصول ليس انتفاء إحداهما بعينه مضمّنا فيه انتفاء الأخرى البتّة ، كانت هي لا محالة حيثيّات تركيبيّة مستوجبة أجزاء وجوديّة للشّيء في الأعيان ، وتكثّر فيه بحسب الخارج إزاء لتكثّر الحيثيّات في لحاظ العقل.

وإن كانت متخالطة مضمّنة عضة منها في عضة ليس يتصوّر انتفاء إحداهما إلّا ويتضمّن فيه بعينه انتفاء الأخرى ، كانت هي لم تكن إلّا حيثيّات تحليليّة ، إنّما تستوجب للشّيء تركّبا وتكثّرا في التّصوّر التّحليليّ الّذي هو لحاظ التّعيّن والإبهام وظرف الخلط والتّعرية ، وهي جهات واعتبارات متكثّرة تصوّريّة لذات عينيّة بسيطة في الوجود.

١٠٣

ثمّ مطلق الحيثيّات المتكثّرة طباعيّ لها على الإطلاق ـ أي سواء كانت متقابلة أو متخالفة غير متصادقة ـ أنّها إذا تحيّنت بها ذات المعروض تحيّنا تقيّديّا أو اختلافا وتكثّرا في الذّات لاحقا بحسبها وإنّما يلحق الذّات بحسب إحداهما ، ليس يصحّ يلحقها بحسب حيثيّة أخرى أصلا ، وإنّها لا يتصحّح حصولها إلّا بالاستناد إلى اختلاف حيثيّات سابقة تعليليّة ، وليس من حقّها البتّة أنّها لا تعرض ذاتا واحدة إلّا من بعد حيثيّات تقييديّة سابقة.

وأمّا الحيثيّات المتقابلة بخصوصها فمن حقّ طباعها ، بما هي حيثيّات متقابلة مع ذلك كلّه ، أنّها لا تصحّح في ذات واحدة إلّا من بعد حيثيّات تقييديّه سابقة مكثّرة أوّلا الذّات المعروضة.

فإذن شيء من الحيثيّات الذّاتيّة والعرضيّة لا يكون لشيء من حيثيّة أخرى ؛ فلا النّاطقيّة مثلا تكون من حيث الحيوانيّة ولا المتحرّكيّة من حيث المتشكّليّة. وإنّما الشّيء ونقيضه من سبيل الحمل الهو هويّ ، كمفهومي الكتابة واللّاكتابة ، لا يصطدمان اقترانا في موضوع واحد بعينه بالحمل الذّوهويّ بحسب نفس الأمر.

فأمّا بحسب حيثيّة ما تقييديّة بخصوصها فليس يصوغ ذلك بتّة إلّا باختلاف الحيثيّة التّعليليّة. والأخير أنّ يحشد النّقيضان من سبيل كلّ من الحملين بذلك الحمل بعينه. أليس إذا كانت حيثيّة ما ، لكنّه نفسها وبما هي هي بعينها ، بحيث ترتّبت عليها اللّاحركة في موضع بعينه من حيثيّة تقييديّة بعينها. فإذا ترتّبت عليها اللّاحركة في ذلك الموضوع بعينه بما هو على تلك الحيثيّة من حيث يترتّب عليها اللّاحركة كانت اللّاحركة بالضّرورة الفطريّة حركة ، فيقترن النّقيضان من سبيل الحمل المواطاتي مواطاة. أليس انبعاث اللّاحركة ليس هو بعينه انبعاث الحركة. فبالجبلّة العقليّة ليس من حيث لا تنبعث اللّاحركة تنبعث الحركة.

فإذا كانت اللّاحركة والحركة بحسب جهة واحدة ومن تلقاء حيثيّة بعينها كان لا محالة تنبعث عنها الحركة ولا تنبعث. وكذلك اللّاحركة والحركة ؛ فتحته النّقيضان بحسب الحمل الاشتقاقيّ اتّفاقا.

فإذن ، فما الفرق بين الاقتران في الموضوع بحسب نفس الأمر وبحسب حيثيّة ما

١٠٤

بخصوصها من الحيثيّات النّفس الأمريّة ، وكذلك بين اختلاف الموضوع بالحيثيّة التّقييديّة والاختلاف بالحيثيّة التعليليّة؟

فهذه ضوابط فحصيّة ، إن حقّقتها باللّحظ ربما استنقذك ، من جهالات وهيجة وإعضالات وشيجة في تشكيكات مبيدة في مقامات.

تشريق

(٥ ـ المخرج من القوّة إلى الفعل)

فقد بان ممّا استبان أنّ النفس العاقلة لا تستطيع أن تخرج ذاتها من القوّة الهيولانيّة الّتي هي درجة العقل المنفعل إلى فعل العقليّة الّتي هي درجة العقل بالفعل ، ثمّ الّتي هي درجة العقل المستفاد ؛ إذ لا شيء من الأشياء مخرج نفسه من القوّة الى الفعل ؛ كيف ولو كانت نفس الذّات مستوجبة الخروج لما كانت بالقوّة أصلا.

وأيضا كلّ ما ذاته تخرج من القوّة إلى الفعل فمن حيث الفعل أشرف وأكمل من حيث القبول ، فيلزم أنّ تكون ذاته أشرف وأكمل من ذاته لتستكمل وتقبل الكمال من نفس ذاته. وبالجملة ، إنّ الشّيء لا يستكمل عن نفسه ، إذ واهب الكمال المطلق لا يكون عريّا عنه ، وإن كان ما ليس كمالا مطلقا للموجود بما هو موجود ، كالحرارة والسّواد ، ربما يكون معطيه عروا عنه.

فإذن ، مخرج النّفوس البشريّة إلى مراتبها الفعليّة نور قدسي هو عقل فعّال بإذن ربّه ، بريء في جوهره عن القوّة الانفعاليّة الهيولانيّة ؛ قياس إشراقه إلى كوّة القوّة النّظريّة وحدقة البصريّة العقلانيّة هو قياس إضاءة الشّمس إلى كوّات البيوت المدريّة وأحداق الأبصار الجسمانيّة.

وهو أيضا خزانة معقولات النّفس ، كما القوّة الخياليّة خزانة لمحسوساتها. فبمقدار ما يتمّ استعداد النّفس وتأهّبها للاتّصال تستفيض وتقبل الفيض عنه على الرّشح أو على الإشراق ، وما دامت مستديمة ذلك الاتّصال تتمكّن من استعراض الصّور المعقولة.

وإذا أعرضت عنه إلى ما يلي العالم الجسمانيّ أو إلى صور أخرى غيرها انمحت عنها المتمثّلات الّتي كانت فيها ، كأنّ المرآة الّتي كانت يحاذى بها جانب القدس قد اعرض بها عنه إلى جانب الحسّ أو إلى لحاظ صورة قدسيّة أخرى.

١٠٥

فمهما بقيت على ملكة الاتّصال الّتي اكتسبتها كانت تلك المنمحيات مذهولات عنها مقويّات على إعادتها ؛ وهي ما دامت على تلك الهيئة قويّة على الاستعادة من دون مؤن اكتساب جديد وهيئة طريّة. وإذا زالت عنها ملكتها المكتسبة وهيأتها المستحصلة صارت تلك منسيّاتها الغير المقويّ على استرجاعها إلّا بتجشّم كسب مستأنف.

ثمّ إن دقّقت التّأمّل وأسبغت التّدبّر ، بزع لك أنّ المخرج الحقّ إلى الفعل بما هو مخرج الشّيء من القوّة إلى الفعل لا يجدر أن يشينه في حدّ نفسه ملابسة ما بالقوّة.

فإذن طريق التّحليل بذر الطّباع الجوازيّ صفر الكفّ من فضيلة الإخراج من كتم اللّيس بالإيجاب والإفاضة ، وإنّما بدع العقول القدسيّة الفعّالة بالسّير مسير الإعداد والرابطيّة ، ويرجع الأمر كلّه إلى القيّوم الحقّ كلّه وحده ، وهو المخرج الحقّ من الظّلمات إلى النّور. (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (يس ، ٨٣).

تشريق

(٦ ـ لكلّ متحرك محرّك لا يتحرك)

وكذلك كلّ متحرك فإنّ له محرّكا وراء ذاته ، إذ لو تحرّك شيء بنفس ذاته لكان قابلا وفاعلا على الضّرب المستحيل ، ولكان كاملا من حيث هو مستكمل. وأيضا ليس أمر المتحرك ، كالهيولى ، مدمجة في فعلها القوّة ، وقد أوضحنا ذلك في «الأفق المبين».

فالمتحرك بما هو متحرّك ومتلبّس بالحركة بالفعل فوق ما هو في القوّة بحسب بلوغ الغاية ، له شيء من نفس تلك الحركة بالقوّة ، فكيف يكون هو بنفسه مفيد فعليّة تلك الحركة ، فكيف تستأهل ذاته من تلك الجهة كفلين من الفعل ، وإنّ له بذلك الاعتبار ضعفين من القوّة الّتي هي اللّاحصول بالفعل ، وكذلك نسبة القول في الهيولى. وكثيرا ما يكون التّلبّس بالحركة أيضا بالقوّة ثمّ يصير بالفعل أخيرا.

وإذ لكلّ متحرّك محرّك ، وليس يستسوغ العقل متحرّكات تتمادى إلى لا نهاية ، وإلّا لكانت بالأسر أوساطا بلا طرف ، وما دام حكمها حكم الواسطة لا تكون حركة بالفعل ؛ فإذن يجب الانتهاء إلى محرّك لا يتحرّك. وكذلك مخرج الأمور من القوّة إلى الفعل والموجد إيّاها أمر هو بالفعل بذاته ، وموجود بذاته.

والمتحرّك : إمّا متحرّك بالإرادة ، ومبدأها النّفس ، وإمّا متحرّك بالطّبيعة ، وهي قوّة

١٠٦

جوهريّة منبثّة في الجسم. وكذلك القوى الجسمانيّة الّتي هي مبادى الأفاعيل الطّبيعيّة.

والمحرّك الّذي لا يتحرّك ، ليس يصحّ أن يكون قوّة جسمانيّة. وتحريكه إمّا بإعطاء المبدأ القريب الّذي به التّحرّك ، وإمّا بأن يكون المؤتمّ به والمعشوق للجوهر المتحرّك والموجب له أشواقا متتالية وتخيّلات متتابعة.

فمن المستبين : أنّ الحركة إنّما وجودها على سبيل التّقضّي والتّجدّد. فإذا كانت علّتها التّامّة ثابتة التّقرّر قارّة الوجود لم يكن ينعدم شيء من أجزاء الحركة ، فلم تكن الحركة حركة ، بل تكون ثابتة.

وهناك تفصيلات مستعسرة الاندفاع ، لا رادّة للفصية عنها في ما نحن الآن بسبيله ، ولها حيّز طبيعىّ يترقب في ما نستأنفه من ذي قبل ، إن شاء الله ، سبحانه وتعالى.

تنبيه

(٧ ـ النّفس المجرّدة ومعالجة الجسد والنفس)

النفس المجرّدة إذا عالجت جسدها كان فاعل العلاج مباين الذّات والوجود لقابله ، وإذا عالجت نفسها كان تغاير المعالج والمستعلج بالجهات والحيثيّات التّقييديّة والمتكثّرة الذّات المتحيّثة ، كالاستضاءة بأنوار عالم القدس والاتّساخ بأوساخ الطّبيعة في ظلمات السّجن الجسدانيّ.

سياقة استشراقيّة

(٨ ـ الاستناد إلى المبدأ القيّوم الحقّ ، جلّ مجده)

رأيت كيف بلغ القول في الهيولى الأولى ، في الحركة ، وفي النّفس ذروة سنامه في الانسياق إلى إثبات المبدأ القيّوم الحقّ بذاته ، وتبرهن وجوب الاستناد إلى جناب الواجب بالذّات ، جلّ مجده ، من السّبيل اللّميّ الّذي هو الطّريق الوثيق في البرهان ، إذ قد بان ولوج ما بالقوّة بحسب نفس الأمر في ما بالفعل هنالك ، أعني جواهر هويّاتها.

ومن البتّيّ المستبين ، إذا ما اتّقدت القريحة الحدسيّة والجبلّة القدسيّة ، أنّه ما لم يكن فعل بذاته لم يكد يتصوّر خروج شيء إلى الفعل أصلا ؛ كيف ولو انحصر الفعل في فعليّات هي بالقوّة في حدّ ذاتها ، هالكة بحسب أنفسها ، فحيثما الغريزة العقليّة المتقدّمة حاضرتها باللّحاظة الإجماليّة ، متناهيّة كانت أو متمادية إلى لا نهاية ؛

١٠٧

حكمت أنّ الفعل قد انبعث عن القوّة اللّيس والتّقرّر عن الهلاك والبطلان ، إذ ليس إلّا ذوات باطلة ، وقد حقّت الفعليّة. فإذن يلزم انبعاث الشّيء عمّا هو في قوّة نقيضه.

وهذا أسلوب بحسب هذا الموضع بإزاء الأسلوب الّذي في حيّزه الطّبيعيّ ، وهو أنّ الشّيء ما لم يجب تقرّره لم يتقرّر ، وما لم يجب وجوده لم يوجد.

فإذا انحصر التّقرّر في الذّوات الجائزة ، ولم يكن في الوجود حيثيّة الوجوب بالذّات ، يستبين باللّحاظة الإجماليّة انبعاث ضرورة أحد الطّرفين عن لا ضرورة الطّرفين ، وذلك كانبعاثها عن ضرورة ذلك الطّرف بخصوصه ، بل أفحش منه من وجه. فإذن يجب الانتهاء إلى واجب التقرّر والوجود بالذّات ، وهو مبدأ المبادى.

ثمّ بالبيان المتقدّم يستشعر : أنّ الحقيقة الجوازيّة ، إذ هي بما هي على طباع الإمكان ، على أفق القوّة الصّرفة وعلى شفا جرف هار من اللّيس المطلق ، ليس يسع وسع منّتها أن يكون مبدأ الإيجاب والإيجاد ، بل إنّما الهويّات الإمكانيّة تجري مجرى الرّوابط والشّرائط.

وهناك بيانات أخرى على ذمّة حيّزها الطّبيعىّ ، كبرهان الوسط والطّرف النّافذ الحكم في السّلسلة الدّوريّة وفي سلسلة تسلسليّة ، وبرهان امتناع العدم الواثق الرّصانة في اثبات المفيض الحقّ وفي سلب وسع الإفاضة رأسا عن طباع الإمكان ، وغيرها من البراهين الوثيقة الرّصينة.

سياقة تشريقية

(٩ ـ العقل الفعّال والجوهر العاقل البشريّ واستكماله)

ثمّ الفحص هناك يساق إلى إثبات الجوهر القدسيّ المعبّر عنه بالعقل وبالعقل الفعّال. أليس تراكم القوّة على قصيا المراتب يحجز الحقيقة المتراكمة القوّة عن الاقتراب في سلسلة الوجود من الفعل المحض اللّامتناهي الفعليّة والكمال الّذي هو التّامّ الحقّ بذاته من كلّ ماهيّة كماليّة وفوق التّمام ، ويعوقها عن الاستناد إليه من بدء الأمر لا بوسط يناسب الطّرف الأعلى والطّرف الأسفل كلّا من جهة.

أما عندك من الحدسيّات ، بل من الفطريّات : أنّه ما لم يكن بين ذاتي العلّة والمعلول خصوصيّة ارتباطيّة ليست هي بين سائر الذّوات ، لم يتعيّن هي من بين

١٠٨

الأشياء بالعليّة له ولا هو بالمعلوليّة لها. وكيف يترتّب على نفس الذات التّامّ في الغاية بذاته ناقص في الغاية بذاته.

فإذن ، لا مجاز من توسيط جوهر ذي وجهين لا يعتريه في فعليّته معنى ما بالقوّة. وذلك وجهه الّذي به يلي جناب المتقدّس إلّا عن الفعليّة الحقّة بنفس الذّات من كلّ ماهيّة كماليّة ، ولا يتخلّص عن ملابسة معنى ما بالقوّة بحسب جوهر الذّات حين ما هو بالفعل من تلقاء الجاعل ، لا من حيث ما هو بالفعل ، وذلك وجهه الّذي به يلي ما يلج ما بالقوّة فيه من حيث ما هو بالفعل ، كما يغشاه ما بالقوّة بحسب جوهر الذّات حين ما هو بالفعل ، أعني الهيولى والحركة والنّفس. وإن هو إلّا «الجوهر العقليّ». وفي النفس والحركة وجه آخر محوج إلى العقل للمعشوقيّة والائتمام به : ثمّ قاعدة الإمكان الأشرف أيضا سابقة إليه ، وهي مستمرّة الاطّراد في كلّ ما اتّفق فوق عالم الطّبيعة.

وبالجملة ، ليس يستصحّ العقل الصّريح إلّا أن يكون الأقرب من الجاعل الحقّ أفضل المجعولات المترتّبة في سلسلة المجعوليّة ، وأن يكون ما يكفيه في أن يبتدعه الجاعل ويفعله جوازه الذّاتيّ أوّل ما يجعل.

فإذن ، إنّ أوّل ما يبدعه الباري الفاطر من زمر مجعولاته ومفطوراته ، فيبوّئه مبوّء الفعليّة ويقرّه مقرّ التّقرّر في عالم الوجود ماهيّة «العقل الأوّل» وإنيّته ، وآخر مبدعاته في سلسلة البداية «الهيولى».

والجوهر العاقل البشريّ ما لم يستعمل زيت الحدس في مصباح قريحته العقليّة ولم يتّقد بوقود الانجذاب إلى عالم القدس لم يكن من حزب الحقيقة ولا من ورثة الحكمة ، ولم يستأهل أن يطمح بصر سرّه إلى العالم الرّبوبيّ ، ولم يتأهّب لأن يتّمض الوميضات الإلهيّة.

إيماض

(١٠ ـ ......)

١٠٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والاستيقان من العليم الحكيم

سبحانك اللهمّ أتحرّى سمت مجدك وأروم سبل هداك ولا أرى إلّا نور وجهك ولا أبتغى إلّا مستقرّ رضاك. نوّر صوامع روعى بذكراك وطهّر شراشر سرّى عمّن سواك ، واخلفنى من أسر شرك الهيولى بجذباتك وارقبنى من درك كيد الطّبيعة بلحظاتك ، وأرنى حريم بابك ، وأرشدنى إلى مرصاد جنابك بأعظم الهداة إلى حماك والدّعاة إلى علاك. سيّدنا ونبيّنا وهادينا محمّد وعترته الأنجبين ، أمناء سرّك وسفراء وحيك وأدلّاء صراطك.

السّقاية الخامسة

من كتاب الإيماضات والتشريفات ، الملقّب بالصّحيفة الملكوتيّة

فيها التّدريج إلى الأخذ في الصّقع الرّبوبىّ وسوق النّظر إلى القول الأحرى بالجناب الوجوبىّ.

إيماض

(١ ـ متقرر الحقيقة وغير متقرر الحقيقة)

ما في عالم التّقرّر إن كان متقرّر الحقيقة بنفس ذاته ، ويتبع ذلك ان هو بذاته مبدأ انتزاع الوجود عنه ومصداق حمل الموجود عليه بالضّرورة ، على أنّ مطابق مفهوم المحمول ليس إلّا نفس حيثيّة الموضوع ، فهو القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، وإن كان غير متقرّر الذّات بذاته ، بل مجهول الماهيّة عن غيره ، فلا محالة ليس هو فى غير ذاته مبدأ انتزاع الوجود ومصداق حمل الموجود ومطابقة ، بل إنّما من تلقاء إفاضة الجاعل جوهر ماهيّته ونفس ذاته جعلا بسيطا ومن جهة الاستناد إليه ، فهو الجائز الفاقر المفتاق ماهيّة ووجودا. والماهيّة الجائزة جنبتان : حقيقة منعوتيّة وطبيعة ناعتيّة.

فعنوان الأولى : أنّ ذاتها ووجودها لنفسها ، أى لا فى غيرها ، وإلّا فالذّات المجعولة إن هى إلّا فالذّات المجعولة إن هى إلّا لجناب الجاعل ، أعنى ماهيّة ففيها ومنها اذا تقرّرت فى الأعيان كانت لا فى موضوع وإن كانت بحسب شخصيّتها وبوجودها الشّخصيّ فى محلّ ، فهذا مفهوم جنس مقولة الجوهر وتحتها الجوهر

١١٠

المفارق مطلقا في الأنوار العقليّة الّتي هي بالسماء فى الفطرة الأولى على الإطلاق والمفارق فى ذاته فقط ، كالنفوس المفارقة التي لها فى سيرتها الأولى كمالات بالقوّة تتجمل بها بالفعل فى الفطرة الثانية والهيولى الأولى التي فعليّة جوهر ذاتها منضمة فيها القوّة المطلقة والصّورة القابلة بالوجود والتّشخّص فى المادّة بضربيها الجرمانيّة والمنوّعة والمتقوّم من المادّة والصّورة أى البرازخ الجسمانيّة بأنواعها وعنوان الثّانية. أنّ تقرّرها ووجودها فى نفسها هو بعينه تقرّرها ووجودها فى غيرها. أعنى ماهيّة ، حقّها إذا تقرّرت فى الأعيان أن تكون البتة فى موضوع بحسب شخصيّتها وبحسب طبيعتها المرسلة جميعا. وهذا طباع مشترك بين مقولات الأعراض التّسع المشهورة.

فأمّا مفهوم الموجود بالفعل فى الموضوع فمن العوارض اللّاحقة للتّسع بحسب الأعيان وبحسب الوجود فى الذّهن جنسا ولمقولة الجوهر أيضا ولكنّه من حيث خصوص حصولها فى الذّهن وبحسب شخصيّتها الذّهنيّة فقط وكذلك الموجود بالفعل فى الأعيان لا فى موضوع ليس هو المعنى الّذي جنسناه لمقولة الجوهر ، بل هو من عرضيّاتها اللّاحقة.

إيماض

(٢ ـ الماهيّات المتأصّلة والمقولات)

إنّما استيعاب المقولات العشر بجنسها للمتقرّرات بالذّات من الماهيّات المتأصّلة المتأحّدة تأحّدا جنسيّا ، فليس يستضرّ حصرها فى عددها إذا لم يقع تحتها الموجودات بالعرض ، كمفهومات العرضيّات وما ليس لها تحصّل نوعى ولا تأحّد جنسيّ ، كفصول الأنواع والأجناس وأشخاص لا تأحّد لها نوعيّا وأنواع لا تأحّد لها جنسيّا إن تمّ إثباتها. فليس اعتبار أىّ شيء إلى شيء كمقولة إلى مقولة ، أو لحاظ أىّ اعتبار لمعنى ما ، كالتّقييد بالبياض مثلا لمفهوم مطلق الذّات المرسلة ممّا يفرد لذلك الشّيء أو ذلك المعنى ذاتا أحديّة محصّلة وتأحّدا جنسيّا يستحقّ بذلك أن يجعل نوعا ويوضع نوعا ويوضع تحت جنس أو يعدّ جنسا من الأجناس. وذلك كما إذا قيل : المدن منحصرة فى بلاد عشرة ، سنّة التمدّن فيها على شاكلتين. ثمّ وجد قوم ... فلا يتمدّنون ، فإنّه ليس ضارّا فيه.

إيماض

(انتهى الموجود من الإيماضات)

١١١
١١٢

مصنّفات ميرداماد

(٢)

التقديسات

(تقريظ صدر الدّين محمّد بن إبراهيم الشّيرازيّ)

هو الحكيم العليم

هذه رسالة شريفة إلهيّة ، ومقالة جليلة ربانيّة ، مسمّاة ب «عرش التقديس» ، فارق بين الحقّ والتّدليس ، طلعت عن مطلع العرفان والتّحقيق ، ولمعت عن منبع الإيقان والتّدقيق. لعمري لو لا أنّ الجاهل عنود والإنصاف في الخلق مفقود ، لحريّ بها أن تكتب نقوشها في صفحات الأبصار ظاهرا ، وتثبت معانيها في ألواح البصائر باطنا. ولكنّ الجاحدين الغافلين المغترّين بلا مع السّراب لمحرومون من رحيق هذا الشراب ، فإنّهم لا يبصرون ولا يسمعون ، لأنّهم عن السّمع لمعزولون ، وعن آيات ربّهم لمحجوبون ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (الرّوم ، ٧).

ولو كان يتيسّر لكلّ عاجز السّياحة في فضاء عالم الملكوت والسّير ، لما كان سليمان ، صلوات الله على نبيّنا وعليه ، مختصّا بفهم منطق الطير ، فهؤلاء هم محقّون معذورون في أمرهم هذا ، لو لم يسمّوا جبنهم حزما وفتورهم نفورا. ونعم ما قيل :

يرى الجبناء أنّ الجبن حزم

وتلك خديعة الطّبع اللّئيم

ولكنّ الكلّ ميسّر لما خلق له. وكتب هذه الأحرف خادم القوى العالية الرّوحانيّة ، محمّد بن إبراهيم ، الشهير بالصّدر الشّيرازيّ ، أحسن الله أحواله ، حامدا لله ، مصلّيا على نبيّه وخلفائه ، مستغفر لذنبه وخطاياه. [پس از آن در حاشيه به خطّ ديگرى چنين نوشته شده

١١٣

است :] اللهمّ أيّد وأبّد منشي هذه الفقرات ، بحقك ، أنت ؛ يا قدّوس. وأنا مخلصه القديم على جادّة الإخلاص المستقيم القويم ، روح شاه الهمدانيّ.

اللهمّ اجعل رضاك عنّى في ما تشغلني به ولا تشغلني عن ذكراك بما تشوّقني إليه

بسم الله الرحمن الرحيم

والاستيفاق من العليم الحكيم

يا هو ، يا من هو ، يا من لا هو إلّا هو ، يا فوق الفوق ، ويا وراء الوراء ، ويا عاليا عن سمك الوصف ، ويا رفيعا (متقدسا) عن افق الثناء ، لا هو إلّا أنت ، ولا أنت إلّا أنت ، هويّتك إنيّة إحاطيّة ظهوريّة ، إنيّتك هويّة قيّوميّة نوريّة ، لا أحقّ إلّا حقّيتك ، ولا خير إلّا إنيّتك. يا جاعل الماهيّات المتجوهرة ، ومذوّت الذّوات المتقرّرة ، ومؤيّس الإنّيات المتأيّسة ، لا أثق بغيرك ، ولا أؤمّل من سواك ، ولا أرى إلّا نور وجهك ، ولا أبتغى إلّا مستقرّ رضاك.

إنّ هذه النفس لهى الهابطة النائية الجائرة الحائرة ، فبحقّ رحمتك على غضبك وبعزّة بسطك عند قبضك ، ألحقها بالحافّات القادسات الواصلات والصّافات العاقلات القارعات، إنّك وفيّ السّابقات العاليات ووليّ الباقيات الصّالحات.

وقدّس أشرف الوسائل إليك ، وأكرم الدلائل عليك ، سيّد الداعين إلى طريقك ، وخير الهادين لسبيلك ، محمّدا وحامّته الأقربين وخاصّته الأنجبين ، بشرائف تحيّاتك ؛ وخصّصهم بكرائم صلواتك وتسليماتك.

وبعد ، فأحوج المربوبين إلى الربّ الغنيّ ، محمّد [٥٧ ب] بن محمّد ، يلقّب باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى. يملى على معاشر الأولاد المعنويّة ، وزمر ذوي القربى الرّوعيّة : إنّ من آيات الله الكبرى لديّ وأنعمه العظمى علي ، حسبما شرح صدرى للإيمان وغبّ ما جعل قسطى اصطياد الحقّ بالبرهان ، أن فضّلني على شركاء الصّناعة ورؤسائها في السّابقين واللّاحقين ، بإنضاج نيّ الحكمة ، ولمّ شعث العلم ، وتقويم الحكمة الإيمانيّة اليمانيّة البهيجة ، وتسوية الفلسفة الدينيّة اليقينيّة النّضيجة ، وإبطال جاهليّة الأذهان في الفلسفة الأولى ، وإكمال سنّة القوّة النظريّة ، باستحداث فطرة أخرى تتولّى تقنين قوانين حكميّة قدسيّة ، وترصين ضوابط عقليّة

١١٤

فحصيّة ، في إلهامات غيبيّة ملكوتيّة ، على أساليب نوريّة لاهوتيّة.

فما أكثر ما نظرت في علوم الأوّلين وسبرت أنظارهم ، وعثرت على فنون الآخرين ، واختبرت أفكارهم ، ففككت وسبكت ونقدت ونخلت ، ثمّ قطعت باب الإعضال بهم وقمعت دار الإشكال فى ما أشكل عليهم. وللسان روعى في ذلك أسوة حسنة بلسان سيّدي ومولاي ، سيّد المسلمين ومولى المؤمنين ، عليه أزكى صلوات المصلّين ، إذ يقول : «ولكن بقوّة ربانيّة ، لا بفطرة إنسانيّة» («بحار الأنوار» ، ج ٥٨ ، ص ٤٧). ومن قوارع تلك القوانين تتميم براهين التقديس والتّوحيد ، وإراءة السّبيل إلى سويّ القول المقشوّ فيه على أمم التنزيه والتمجيد.

فألحّت علي [٥٨ ظ] عصبة من العصابة الرّوحانيّة ، ولمّة من أولي القرابة العقلانيّة، أن افرد ، ممّا ضمّنت لتبيان ذلك صحفي البسيطة الحكميّة ، صحيفة حصيفة تومض بالفحص الناصع ، وتلمع بالتحقيق النافع. فها أنا آت بمأمولهم على طباق مسئولهم ، مستعينا بأيد الله العزيز العليم ، إنّه ذو الفضل العظيم والطّول القديم.

إخاذة

(١ ـ وجوب الوجود بالذّات من براهين التّوحيد)

إنّ هناك تعويصا معضلا وتعضيلا عويصا : هو أنّ من جملة براهين التّوحيد تدور رحاها على تسليم لزوم طباع ذاتيّ مشترك بين قيّومين واجبين بالذّات ، هو حقيقة وجوب التّقرّر والوجود بالذّات ، تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن الشريك والشبيه والنّدّ والضّدّ علوّا كبيرا. ومن المسوّغ ، في بادى اللحظ وعلى فرض التعدّد ، شيئان بسيطان مجهولا الكنه ، مفترقان بتمام الماهيّة البسيطة ، كلّ منهما متقرّر بنفسه ، ومبدأ انتزاع وجوب التّقرّر والوجود عن ذاته بذاته ، ومصداق حمل المفهوم المشتقّ من ذلك المعنى المصدريّ على ذاته بذاته ، على أنّ ذلك من العرضيّات ، وليس بين الحقيقتين المختلفتين المعروضتين بالذّات قدر مشترك ذاتيّ أصلا.

وهذا الإعضال معزيّ على ألسن هؤلاء المحدثة إلى رجل من المتفلسفين المحدثين ، يعرف ب «ابن كمونة». لكنّه ليس أوّل من اعتراه هذا التّشكيك. كيف والأقدمون كالعاقبين قد وكدوا الفصية عنه وبذلوا مجهودهم في سبيل ذلك قرونا و

١١٥

دهورا [٥٨ ب].

تشريق

(٢ ـ استناد معلول واحد إلى علتين مستقلتين مستحيل)

أما قرع سمعك ، من الرؤساء والأتباع المحصّلين ، أنّه يستحيل أن يستند معلول ما واحد ، وحدة بالشّخص أو بالنّوع ، إلى علّتين مستقلّتين ، ولو على البدليّة ، وسواء في الاستحالة : أكان ذلك على التّعاقب التعقّبيّ ، أو على التبادل الابتدائيّ من بدو الأمر. وإن كانت المتعاقبات عللا تامّات أو شروطا ومعدّات للعلّة على سبيل التّبادل ، فذلك أيضا يفضي إلى اختلاف العلّة التامّة بالمعنى أو بالعدد. وبالجملة ، يمتنع استناد طبيعة واحدة بعينها إلى طبيعتين مختلفتين بالمعنى أو بالعدد أصلا. أليس إمّا أن يكون لخصوصيّة إحدى الطبيعتين مدخل في حصول المعلول فيمتنع أن يتحقق بالأخرى بتّة ، أو لا؟ فتعود العليّة إلى الطباع المشترك ، وهو أمر واحد بحسب نفسه. ومهما اختلفت العلّة في ظاهر الأمر ، كانت العلّة بالحقيقة هي القدر المشترك ، والخصوصيّات ملغاة في العلّية.

فكما وحدة العلّة مستلزمة وحدة المعلول ، فكذلك وحدة المعلول مستدعية وحدة العلّة ، فانحفاظ أصل الوحدة بالطّبيعة وبالعدد متكرر اللزوم على التعاكس من الجنبتين في مطلق العلّة. وأمّا نحو الوحدة الشّخصيّة أو النّوعيّة بخصوصها فغير لازمة الانحفاظ من الجنبتين ، بالنّظر إلى طباع المعلول بما هو معلول ، إلّا بالقياس إلى خصوص العلّة الجاعلة. فهذا ما أنا أذهب إليه وأرى اتّجاه الفحص نحوه.

وإنّ شريكنا السّالف ، رئيس مشائيّة الإسلام ، يذهب إلى إيجاب الانعكاس من الجنبتين مطلقا في مطلق العلّة ، ويحكم أنّ الواحد بالنّوع يجب أن [٥٩ ظ] يكون لعلته أيضا الوحدة النّوعيّة. [«شرح الإشارات» ، ج ٣ ، ص ٦١]. لكنّى لست أجد مساق البرهان إليه ، اللهمّ إلّا في العلّة الجاعلة.

تشريق

(٣ ـ المعلول الواحد له علّة واحدة بعينها)

فإذن ليس يصحّ أن يكون لمعلول واحد بعينه إلّا علة تامّة واحدة بعينها ، والجاعل

١١٦

للشىء الشخصىّ يمتنع أن يكون إلّا شخصيا. وربّما يعتبر انضمام طبيعة ما مرسلة إليه ، لتتمّ العلّة التامّة الواحدة بالشّخص ، وليس يوجب ذلك خروجها عن الوحدة الشّخصيّة. وكذلك ليس يصحّ أن يكون لعدمه علّة إلّا عدم علّته التامّة الواحدة بعينها. فأمّا عدم إحدى العلل بعينها أو لا بعينها ، وعدم إحدى الأجزاء بعينه أو لا بعينه ، إن كان المعلول مركّب الذّا ، فليس ممّا له العليّة بالذّات ، بل إنّما يقارن ما هو العلّة بالذّات ويلزمها.

تشريق

(٤ ـ المتّحد بالنّوع يستند إلى المتّحد بالنّوع)

فعلى ما ذهب إليه الشيخ الرئيس ، من : «أنّ المتحد بالنّوع لا يستند إلّا إلى المتحد بالنّوع» يكون اتحاد اللوازم في الحقيقة النّوعيّة دليل اتحاد الملزومات أيضا بالحقيقة النّوعيّة.

وأمّا على ما ذهبنا إليه حسبما ساقنا إليه البرهان ، من «أنّ أصل الوحدة واجب الانحفاظ من الجنبتين بالاستلزام على التعاكس ، لا خصوص نحو الوحدة ، أعني : أنّ وحدة العلّة بالنّوع مستلزم وحدة المعلول أيضا كذلك ، إذ ليس في طباع الكثرة أن تصدر عن الواحد بما هو واحد في مرتبة واحدة. وأمّا وحدة المعلول بالنّوع فإنّما يقضي البرهان أنّها مستدعية وحدة العلّة بالطّبيعة ، لا كونها البتة طبيعة نوعيّة ، فالممتنع استناد طبيعة واحدة إلى طبيعتين ، كان ذلك على التّعاقب التبادلىّ أو التبادل الابتدائيّ ، لا استناد الطبيعة الوحدانيّة النّوعيّة [٥٩ ب] إلى الطبيعة الوحدانيّة الجنسيّة ، إلّا إذا روعى انقباض العقل من كون المعلول أقوى في مرتبة التّحصّل من العلّة ، عسى أن يكون ذلك من الفطريّات أو الحدسيّات أو المقتنصات البرهانيّة في العلّة الّتي هي جاعلة الماهيّة وفاعلة الذّات والوجود ، لا على الإرسال المطلق.

فتأحّد اللّازم بالحقيقة النّوعيّة يستلزم كون الملزوم بالذّات طبيعة وحدانيّة ، نوعيّة كانت أو جنسيّة ، والممتنع هو لزوم الواحد بالنّوع لكلّ من الحقائق المتخالفة لزوما بالذّات ، بل إنّما الملزوم بالذّات هناك القدر المشترك ، لا اختلاف نحو الوحدة نوعيّة وجنسيّة في طبيعتى حاشيتى اللزوم.

وأمّا تشكيك المشكّكين ـ باستناد الإمكان الذّاتيّ ، وهو مفهوم واحد ، إلى ذوات الممكنات المتخالفة بالماهيّة ، ولزوم الزّوجيّة وهو مفهوم وحدانىّ للأربعة والستّة ،

١١٧

مثلا ، وهما نوعان مختلفان ـ فمحسوم بأنّ الإمكان ليس إلّا سلب ضرورة التّقرّر واللاتقرّر ، بالنّظر إلى نفس الذّات المتقرّرة من تلقاء العلّة ، سلبا بسيطا تحصيليا صادقا ، لا من حيث اقتضاء وعليّة من الذّات له ، بل من حيث عدم اقتضائها الضرورة المسلوبة ، وزوجيّة الأربعة مخالفة بالحقيقة لزوجيّة السّتّة ، لانقسامها إلى متساويين مخالفين بالماهيّة النّوعيّة للمتساويين المنقسم إليهما السّتّة. ومطلق الزّوجيّة المرسلة يستند إلى القدر المشترك ، وليس يصادم ذلك كون العدد متنوّعا بنفس الوحدات من غير جزء صوريّ. وفي «المباحث المشرقيّة» عقد مختلفة من التشكيكات ، فككناها بفضل الله ، تعالى ، فى صحفنا وتعاليقنا.

تشريق

(٥ ـ مبدأ الانتزاع هو الطباع المشترك [٦٠ ظ])

ليس هذا الضابط يتخصّص بالمعلول والعلّة ، بل إنّ أيّ مفهوم يحمل على خصوصيّات عدّة ، كان من جوهريّاتها أو من عرضيّاتها اللاحقة ، وأىّ معنى يلحق بها أو ينتزع منها فإنّ مطابق الحمل ومستحقّ الالحاق ومبدأ الانتزاع إنّما هو الطّباع المشترك ، ولا حظّ لشيء من الخصوصيّات من أن يكون لها بخصوصها مدخل في مصحّحيّة ذلك أصلا. وإن دخلت الخصوصيّة في الموضوع والملحوق به والمنتزع عنه بالعرض على أن يسوغ اعتبار اللحوق والانتزاع بالنسبة إلى الطبيعة المرسلة المخلوطة بتلك الخصوصيّة. ثمّ عند التحليل يقضي الفحص أنّ الملحوق به والمنتزع منه بالذّات ليس إلّا الطّبيعة المرسلة المشتركة بتّة. وكذلك مهما حمل مفهوم ما على طبيعتين مترتّبتين بالأعميّة والأخصيّة كان عند اللحاظ التحليلىّ إنّما موضوع الحمل بالذّات وبالقصد الأوّل الطبيعة العامّة ، ثمّ بتوسّطها الطبيعة الخاصّة الملغاة خصوصيّتها في استحقاق ذلك الحمل وتصحيحه.

تشريق

(٦ ـ الوجود المطلق مطابق لنفس الذّات المتقرّرة)

أما لديك من المستبين الملتحق بالفطريّات : أنّ المفهوم من تحقّق الشّيء في ذاته

١١٨

وراء المفهوم من تحقّق معنى ما خارج عن قوام ذاته لذاته. أليس الثّاني إمّا فرع الأوّل أو مستلزمه ، بتّة ، فكيف يكون عينه؟ فإذن ، فاحكم أنّ الوجود المطلق العامّ الفطريّ ـ وليس معناه إلّا التحقّق والكون المصدريّ ـ إنّما مطابقة نفس الذّات المتقرّرة ، لا قيام وصف ما بالذّات قياما انضماميّا أو انتزاعيّا يقوم بالذّات أو ينتزع منها ، فيصحّح انتزاع ذلك المعنى المصدريّ عنها وحمل الموجود المشتقّ منه عليها. ومفاد قولنا : «الإنسان موجود» مثلا ، أعني المحكىّ عنه [٦٠ ب] بذلك العقد الهلىّ البسيط المشهوريّ ، هو وقوع نفس ذات الإنسان في ظرف ما ، وإن افتيق إلى لحاظ مفهوم المحمول في الحكاية ، لضرورة طباع العقد وطباع الإدراك التصديقيّ ، لا انضمام صفة ما إلى ذاته في ظرف الأعيان مثلا ، كما في قولنا «زيد أبيض» أو انتزاع معنى ما عن الذّات بحسب ذلك الظرف غير نفس المعنى المصدريّ ، كما في قولنا «السّماء فوق الأرض».

ثم الأمر في العقد الهليّ البسيط الحقيقيّ ، كما في قولنا «الإنسان متقرّر» ، أعلى درجة من ذلك أيضا ، إذ المحكىّ عنه هناك هو نفس تجوهر الماهيّة ، كالإنسان ، أى : إنه من الماهيّات المتجوهرة التحقيقيّة وفى مرتبة الوقوع في مطلب «ما الحقيقة» لا من الماهيّات المفروضة التقديريّة المستحقّة لمطلب ما الشّارحة للاسم فقط ، ولا يلتفت لفت مفهوم التّقرّر والتّجوهر والوقوع المصدريّ بوجه أصلا. وإن كان التفتيش يخرّج أنّ ذلك هو صيّور الأمر أخيرا على الإطلاق.

فإذن قد استبان أنّ نسبة الوجود إلى الماهيّة المتقرّرة على شاكلة نسبة المعانى المصدريّة المأخوذة من الماهيّات أنفسها ، إليها كالإنسانيّة والحيوانيّة والجسميّة المنتزعة من الإنسان والحيوان والجسم ، في أنّ مبدأ انتزاع المعنى المصدريّ ومطابق حمل المفهوم المحمول نفس الماهيّة من دون حيثيّة تقييديّة غير جوهرها ، وإن باينها في الماهيّات الجائزة بالافتياق إلى الحيثيّة التعليليّة في الوجود دون الذّاتيّات.

فالماهيّة الجوازيّة إذ ليست هي متجوهرة متقرّرة بنفسها ، بل إنّما من تلقاء إبداع الجاعل وإفاضته نفسها ، فلا جرم ليست هي بنفسها مبدأ انتزاع الوجود ومصداق حمل الموجود ، بل بنفس جعل [٦١ ظ] الجاعل نفسها جهلا بسيطا لا بجعل مستأنف بسيط أو مؤلّف ، لكنّها بنفسها مصداق حمل جوهريّاتها عليها ، لا

١١٩

بالمجعوليّة ولا بالوجود ، بل ما دامت المجعوليّة ، وما دام الوجود وباقتضائها لوازمها الّتي هي معان وراءها ، قائمة بها قياما انتزاعيّا ، مصداق حمل اللوازم حين المجعوليّة والوجود معهما ، لا بهما. فبين الاعتبارين بون بائن.

فأمّا الحقيقة الحقة القيّوميّة الوجوبيّة ، فإذ هي بنفسها متقرّرة ، فلا محالة بنفسها مبدأ لانتزاع الوجود ووجوب التّقرّر والوجود المصدريّين ، ومصداق لحمل الموجود ، وواجب التقرّر والوجود بالضّرورة المطلقة الأزليّة السّرمديّة ، لا بحيثيّة تقييديّة ، ولا بحيثيّة تعليليّة ، ولا بتقييد حكم العقد بما دام الوجود ، والتّقرّر والوجود هناك واحد ، وكذلك الوجود ووجوب الوجود واحد. فوجوب الوجود شرح اسم الحقيقة الحقّة ، ومعناه المفهوم وأخصّ لوازم الحقيقة عند العقل.

تقديس

(٧ ـ الوجوب الذاتيّ فعليّة الحقيقة والإمكان هلاك الذّات)

الوجوب الذّاتىّ : حقيّة الذّات وتأكّد الوجود وفعليّة الحقيقة في حدّ مرتبتها بنفسها من كلّ حيثيّة كماليّة. والجواز : هلاك الذّات وبطلان الماهيّة وليسيّة الحقيقة ليسا بسيطا صرفا في حيّز نفسها وبحسب مرتبة جوهرها بما هي هي ، مع كونها متقرّرة بالفعل من تلقاء جود الجاعل ، وسائر ضروب القوّة قوّة معان هي وراء جوهر الذّات وحين ما ليست هي لها بالفعل. فالماهيّة من حيث نفسها وبحسب طباع الجواز ليست إلّا تقديريّة تخمينيّة [٦١ ب] بحسب الفرض ، وإنّما تستحقّ بذلك مطلب «ما الشّارحة» للاسم ، ومن جهة الاستناد إلى الجاعل تحقيقية بالفعل مستحقة الوقوع في مطلب «ما الحقيقيّة». والجواب الحقّ بالذّاتيّات في الأوّل بحسب التقدير وفي الثّاني بحسب التحقيق ، فلذلك ينقلب ذاك بعينه إلى ذا ، مهما استوقن التّقرّر.

وأمّا الحقيقة الحقّة القيّوميّة الوجوبيّة ، فإنّ مرتبة «ما الشّارحة» لها هي بعينها مرتبة «ما الحقيقيّة» ، فالمطلبان بالقياس إلى ذلك الجناب واحد. والمسئول يضطرّه الأمر إلى أن يجيب باللوازم والعرضيّات على سبيل التوسّع ، كما وقع ل «كليم الله» على نبيّنا وعليه الصّلوات والتّسليمات ، تنبيها على تقدّس مجد المسئول عنه عن

١٢٠