بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

حدوثها ممّن ليس بقادر حي ، لم ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى ، فلماّ استحال ذلك ، دلّت الصنائع على أنّ الله حي. (١)

كان الأليق التفكيك بين الحياة والقدرة ، وتقديم البحث في القدرة على البحث في الحياة ، لأنّه إذا ثبت كونه قادراً ـ وقد أثبت فعله كونه عالماً ـ ثبت كونه حياً بلا حاجة إلى الاستدلال الجديد ، لأنّ الحيّ عبارة عن العالم القادر ، أو الدرّاك الفعال. فمن كان عالماً قادراً فهو حيّ قطعاً.

ج. الله سبحانه سميع بصير

قال الأشعري : إنّ الحي إذا لم يكن موصوفاً بآفة تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت ، فهو سميع بصير ، والله تعالى منزّه عن الآفة من الصمم والعمى ، إذ كانت الآفة تدّل على حدوث من جارت عليه. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الأبصار تتعلّق بالأضواء والألوان. والسمع يتعلّق بالأصوات والكلمات ، فلو كان إبصاره سبحانه للمبصرات ، وسماعه للمسموعات بالإدراك الحسي المادي ، نظير الإنسان والحيوان ، لاحتاج في تحقّقهما إلى الآلة. وعند ذاك يأتي ما ورد في كلام الشيخ من مسألة الصحّة والتنزّه عن الآفة ، نظير الصمم والعمى ، وأنّ الآفة آية الحدوث.

وأمّا لو كان توصيفه بهذين الوصفين بالمعنى اللائق بساحته ، فحقيقة كونه سميعاً بصيراً ترجع إلى حضور المسموعات والمبصرات لديه ، وعدم غيابهماعنه سبحانه ولا يختص الحضور بهما ، بل الموجودات على الإطلاق بهوياتها الخارجية حاضرة لديه ، لأنّها قائمة به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهي حاضرة لديه ، غير غائبة عنه ، من غير فرق بين المبصر والمسموع وغيرهما ، وتخصيصهما بالذكر لكون الحس المتعلّق بهما في الإنسان

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٢٥.

٢ ـ اللمع : ٢٥.

٨١

أشرف من غيره ، فاقتصر عليهما ، وإلاّ فالله سبحانه أجل من أن يسمع ويرى بالآلة ، ويباشر بذاته الأضواء والأصوات.

وباختصار : إنّ واقع الإبصار والسماع ليس إلاّ حضور المبصرات والمسموعات لدى البصير والسميع.

وأمّا الآلة وأعمالها والتأثر من الخارج فمقدّمات إعدادية.

فلو تحقّق في مورده الحضور ، بلا حاجة إلى تلك المقدمات لكان أحقّ بكونه سميعاً وبصيراً.

ونضيف في الختام أنّه لم يعلم كنه قوله : « الآفة تدلّ على حدوث من جارت عليه » فإنّ كون المدرك ( بالكسر ) مادياً آية الحدوث لكونه ممكناً ، والممكن حاجته إلى الواجب أزلية ، وأمّا الصحّة والآفة ، فالكلّ بالنسبة إلى القدم والحدوث سواسية فلا الصحة آية القدم ، ولا الآفة آية الحدوث.

بل كون الشيء ( الإدراك ) مادياً آية الحدوث للتلازم بين المادية والحدوث.

٨٢

(٧)

صفاته قديمة لا حادثة

إنّ الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضدّالعلم ، أي الجهل. ولو كان موصوفاً به لاستحال أن يعلم ، لأنّ ضدّ العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل ، وإذا استحال أن يبطل لم يجز أن يصنع المصانع الحكيمة ، فلما صنعها دلّت على أنّه عالم ، وصحّ أنّه لم يزل عالماً. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الحدوث والقدم من أوصاف الأُمور الوجودية ، وضد العلم ليس إلاّ أمراً عدمياً ومثله لا يوصف لا بالحدوث ولا بالقدم ، فلا يصحّ قوله : « لأنّ ضد العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل ».

وثانياً : أنّ كلّ موجود إمكاني مسبوق بعدم قديم ، فلو كان قدم العدم مانعاً عن الانقلاب إلى الوجود ، تلزم استحالة أن يبطل كلّ عدم وينقلب إلى الوجود.

وكان له الاستدلال بشكل آخر : إنّ اتصافه بالعلم بعد ما كان جاهلاً ، أو بالقدرة بعد ما كان عاجزاً ، يستلزم كون ذاته محلاً للحوادث ، وهو يلازم التغيير والانفعال في ذاته ، وهو آية الحدوث ، والواجب منزّه عن ذلك كلّه.

كما كان له الاستدلال بشكل ثان وهو : لو كان الذات الإلهية فاقدة

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٢٥ ـ ٢٦.

٨٣

لهذه الصفات منذ الأزل ، لاستلزم ذلك كون صفاته « ممكنة » و « حادثة » وحيث إنّ كلّ ممكن مرتبط بعلّة ، ومحتاج إلى محدث ، لزم أن نقف على محدثها ، فهل وردت من قبل نفسها ، أو من قبل الله سبحانه ، أو من جانب علة أُخرى؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل : فلا يحتاج إلى مزيد بيان ، إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه.

وأمّا الثاني : فكسابقه ، فإنّ فاقد الكمال « العلم والقدرة » لا يعطيه.

أضف إلي هـ أنّه يلزم الخلف أي قدم الصفات. لأنّ المفروض أنّ العلة هي الذات وهي قديمة فيلزم قدم معلولها. وأمّا الثالث فكسابقيه أيضاً إذ ليس هنا عامل خارجي يكون مؤثراً في عروض صفاته على ذاته سبحانه ـ مضافاً إلى أنّه يستلزم افتقار الواجب إليه.

إلى غير ذلك من البراهين المشرقة التي جاءت في الكتب الكلامية والفلسفية ؛ وكأنّ الشيخ أبا الحسن ـ إبّان الانفصال عن المعتزلة وخلع الاعتزال عن نفسه كخلع القميص ـ شقّ عليه الأخذ من علومهم وأفكارهم ، وأراد الاعتماد على ما توحيه إليه نفسه ، فجاء بالبرهان الذي ترى وزنه وقيمته.

٨٤

(٨)

صفاته زائدة على ذاته

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته ، أوجد هوة سحيقة بين كلامي المعتزلة والأشاعرة ، فمشايخ الاعتزال ـ لأجل حفظ التوحيد ، ورفض تعدّد القديم ، والتنزّه عن التشبي هـ ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات ، وليست هنا أيّة واقعية للصفات سوى ذاته.

وقد استعرض القاضي عبد الجبار المعتزلي آراء مشايخه في شرح الأُصول الخمسة (١) وقال :

قال شيخنا أبو علي : إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات الأربع : ( القدرة ، العلم ، الحياة ، الوجود ) لذاته.

وقال شيخنا أبو هاشم : يستحقّ هذه الصفات لما هو عليه في ذاته.

ومفاد كلام الشيخين : أنّ الله سبحانه عالم ، قادر حي ، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.

وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات ، لحفظ التوحيد ورفض تعدّد القدماء ، وهم يعنون بقولهم : ( لذاته ) أنّ ذاته سبحانه ـ ببساطتها ووحدتها ـ نائبة عن الصفات ، وتعبير أبي هاشم في إفادة ما يرومانه أدق من عبارة أبي علي ، وقد اشتهر هذا القول عند المتأخرين من المتكلّمين بالقول بالنيابة ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح الأُصول الخمسة : ١٨٢.

٨٥

ونسبه أبو الحسن الأشعري في « مقالات الإسلاميين » إلى كثير من المعتزلة والخوارج ، وكثير من المرجئة وبعض الزيدية وقال : هؤلاء يقولون : إنّ الله عالم ، قادر ، حي ، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة. (١)

وعندئذ تكون الذات نائبة عن الصفات والآثار المترقبة من الصفات ، مترتبة على الذات ، وإن لم تكن الصفات موجودة فيها مثلاً : خاصية العلم اتقان الفعل ، وهي تترتب على نفس ذاته ، بلا وجود وصف العلم فيه ، وقد اشتهر عندهم « خذ بالغايات واترك المبادئ » وانّما ذهبوا إلى هذا القول لأجل أمرين تاليين :

من جانب اتفقت الشرائع السماوية على أنّه سبحانه عالم حي قادر ، ويدلّ على ذلك إتقان أفعاله. ومن جانب آخر : واقعية الوصف لا تنفك عن القيام بالغير ، فلو لم تكن قائمة به لم تصدق عليه الصفة. فعند ذلك يدور الأمر بين أحد الأُمور الأربعة :

١ ـ نفي العلم مثلاً عن ساحته سبحانه على الإطلاق. وهذا تكذّبه آثار فعله سبحانه ، مضافاً إلى اتّفاق الشرائع السماوية على عدّه من صفاته الذاتية.

٢ ـ القول بأنّ علمه زائد ، ومثله سائر صفاته ، وهذا يستلزم تعدّد القدماء.

٣ ـ كون صفاته عين ذاته وهي متحدة معها ، وهذا لا يجتمع مع واقعية الوصف ، لأنّ واقعيته هو القيام بالغير ، ولولاه لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يتبيّن القول التالي :

٤ ـ نيابة الذات مناب الصفات وإن لم تكن الذات موصوفة بنفس الصفات.

وهذا القول هو المشهور بين المعتزلة ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته :

ــــــــــــــــــ

١ ـ مقالات الإسلاميين : ١/٢٢٤.

٨٦

والأشعرية بازدياد قائلة

وقال بالنيابة المعتزلة

وممّن اختار هذا القول من المعتزلة وذبَّ عنه بصراحة ، هو عبّاد بن سليمان المعتزلي (١)قال :

هو عالم ، قادر ، حي ، ولا أثبت له علماً ولا قدرة ، ولا حياة ، ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول : هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة وحي لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائرما يسمّى به من الأسماء التي يسمّى بها. (٢)

رأي أبي الهذيل العلاّف المعتزلي (٣)

يعترف أبو الهذيل ـ على خلاف ما يروى عن أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ـ بأنّ لله سبحانه علماً وقدرة وحياة حقيقة ، ولكنّها نفس ذاته ؛ وإليك نصّ عبارته : هو عالم بعلم هوهو ، هو قادر بقدرة هي هو ، هوحي بحياة هي هو ـ إلى أن قال ـ : إذا قلت : إن الله عالم أثبتَّ له علماً هو الله ، ونفيت عن الله جهلاً ، ودللت على معلوم ، كان أو يكون ، وإذا قلت : قادر ، نفيت عن الله عجزاً ، وأثبتّ له قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور. وإذا قلت : الله حي ، أثبتّ له حياة وهي الله ، ونفيت عن الله موتاً. (٤)

والفرق بين الرأيين جوهري جداً ، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم ، قادر حي ، بنفسه ، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة. وعلى حد تعبير أبي هاشم أنّ الله يستحقها لما هو عليه في ذاته.

ــــــــــــــــــ

١ ـ من أئمة الاعتزال في القرن الثالث ، ودارت بينه وبين أبي كلاب ( المتوفّى بعد عام ٣٤٠ هـ ) مناظرات ، لاحظ الانتصار لأبي الحسين الخياط : ٦١.

٢ ـ مقالات الإسلاميين : ١/٢٢٥.

٣ ـ. محمد بن هذيل المعروف بالعلاّف ، كان شيخ البصريين في الاعتزال ، ولد عام ١٣٠ هـ وتوفّي في سامراء٢٣٥ هـ. لاحظ وفيات الأعيان : ٤/٢٦٥ برقم ٦٠٦.

٤ ـ شرح الأُصول الخمسة : ١٨٣ ؛ مقالات الإسلاميين : ٢٢٥.

٨٧

فهؤلاء يستحقون أن يسموا بنفاة الصفات ونيابة الذات عنها ، وهذا بخلاف رأي أبي الهذيل فهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وعالماً بعلم وقادراً بقدرة ، ولكنّها تتحد مع الذات في مقام الوجود والعينية.

ولأجل التفاوت البارز بين الرأيين أراد القاضي عبد الجبار المعتزلي إرجاع مقالة العلاف إلى ما يفهم من عبارة أبي علي وابنه أبي هاشم وقال : قال أبو هذيل : إنّه تعالى عالم بعلم هوهو ، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي ، إلاّ أنّه لم تتلخص له العبارة ، ألا ترى أنّ من يقول : إنّ الله عالم بعلم ، لا يقول إنّ ذلك العلم هو ذاته تعالى.

ولكن الحقّ في باب الصفات هو ما ذهب إليه أبو الهذيل ، وعليه مشايخنا الإمامية ، أخذاً بالبراهين المشرقة في هذا المجال ، واقتداءً بما ورد عن أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين ، وسيوافيك عند استعراض عقائد المعتزلة أنّ أُصولهم مأخوذة من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو إمام علم التوحيد ، تُعرف آراؤه العالية من خطبه وكلماته في نهج البلاغة ، ونأتي منها بما يمس المقام :

١ ـ « وكمال توحيده الإخلاص له... » الخطبة الأُولى ، ص ٨ ، ط مصر ، أي تخليصه من كلّ جزء وتركيب.

٢ ـ وقال عليه‌السلام : « لا تناله التجزئة والتبعيض » الخطبة ٨١ ، ط مصر ، ج١ ، ص ١٤٦.

٣ ـ وقال عليه‌السلام : « ولا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه » الخطبة ١٨١ط مصر ج٢ ص ١٤٤.

٤ ـ وقال عليه‌السلام : « ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والإبعاض » الخطبة ١٨١ ـ إلى غير ذلك من الكلمات التي لا مناص معها عن القول باتحاد الصفات مع الذات.

يرى الغزالي والشهرستاني أنّ المعتزلة تبعوا الفلسفة اليونانية في وحدة

٨٨

صفاته مع ذاته فقالوا : إنّ الله عالم بذاته ، قادر بذاته ، حي بذاته ، لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به ، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المعتزلة تبعوا في ذلك إمام علم الكلام ومؤسسه عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام ، فهو رائد الموحدين وسيدهم ، فقد استدلّ في خطبته على وحدة صفاته مع الذات بشكل رائع. (٢)

وهن نظرية النيابة

إنّ الشيخين ( أبا علي وأبا هاشم الجبائيين ) لو تأمّلا في واقعية الصفات الكمالية وأنّها من شؤون الوجود لما أكّدا ولا أصرّا على أنّ واقعية الصفة مطلقاً هي القيام بالغير ، لأنّه لا يمكن أن تكون الصفة عين الذات ، وذلك لأنّ كلّ الكمالات من شؤون الوجود وترجع حقائقها إليه ، والوجود أمر مقول بالتشكيك ، فله العرض العريض ، فكما أنّ من الوجود ممكناً وواجباً وجوهراً وعرضاً ، فهكذا إنّ مرتبة من العلم كيف نفساني قائم بالغير ، ومرتبة أُخرى منه واجب قائم بنفسه ، ومثله القدرة والحياة ، والتفصيل يطلب من محلّه.

تحليل نظرية الزيادة

قد تعرّفت على نظرية الشيخين من أئمّة الاعتزال ، كما تعرّفت على نظرية أبي الهذيل ، وقد حان الآن وقت دراسة نظرية شيخ الأشاعرة ، وهو يخالف كلتا النظريتين ـ النيابة والوحدة ـ ويقول بوجود صفات كمالية زائدة على ذاته مفهوماً ومصداقاً ، فلا تعدو صفاته صفات المخلوق إلاّ في القدم والحدوث. ولأجل ذلك يهاجم النظريتين في « الإبانة » و « اللمع » فيقول في رد النظرية الأُولى ( النيابة ) :

إنّ الزنادقة قالوا : إنّ الله ليس بعالم ، ولا قادر ، ولا حي ، ولا

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل للشهرستاني : ١/٥١.

٢ ـ لاحظ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى ، وقد عرفت بعض كلامه في المقام.

٨٩

سميع ، ولا بصير. وقول من قال من المعتزلة : إنّ لا علم لله ولا قدرة له ، معناه : إنّه ليس بعالم ولا قادر. والتفاوت في الصراحة والكناية ، فنفي المبادئ حقيقة ، يلازم نفي صفاته الثبوتية التي أجمع المسلمون على توصيفه سبحانه بها.

وأمّا الثانية ، فردّ عليها بقوله : كيف يمكن أن يقال : إنّ علم الله هو الله. وإلاّ يلزم أن يصحّ أن نقول : يا علم الله اغفر لي وارحمني. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ القول بزيادة الصفات ليس من مبتكرات الأشعري ، بل تبع هو في ذلك« الكلابية » والتفاوت بينهما بالكناية والتصريح ، قال القاضي عبد الجبار:

عند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلي : القديم ، إلاّ أنّه لما رأى المسلمين متفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى ، لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك. ثمّ نبغ الأشعري ، وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة. (٢)

ثانياً : ما ناقش به النظرية الأُولى غير كاف فيما ادّعا هـ أعني : رجوع قولهم إلى نفي كونه سبحانه عالماً ـ لأنّ نفي المبادئ ـ أعني : العلم والقدرة ـ إنّما يستلزم نفي كونه عالماً وقادراً إذا لم تقم الذات مقام الصفات في الأثر والغاية. فلقائل أن يقول : إنّ ما يطلب من العلم والقدرة من إتقان الفعل والقدرة عليه ، فالذات بنفسها كافية في تأمين الغاية المطلوبة منها. فإنّ ذاته سبحانه من الكمال على حد ، تقوم بنفسها لتأمين كلّ ما يطلب من الصفات ، فلا حاجة إليها.

وأضعف منه ما ناقش به النظرية الثانية من أنّ القول بتوحيد صفاته مع ذاته يستلزم جواز أن نقول : يا علم الله اغفر لي ، وذلك لأنّ القائل بالوحدة

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة : ١٠٨.

٢ ـ الأُصول الخمسة : ١٨٣.

٩٠

إنّما يقول بها وجوداً لا مفهوماً ، إذ لا شكّ أنّ المفهوم من « الله » غير المفهوم من « العلم » و « القدرة » ومشتقاتهما.

وعلى ذلك فبما أنّ العلم غيره سبحانه مفهوماً ، ولكن عينه مصداقاً ، لا يصحّ التعبير عن مقام العينية ب ـ « يا علم الله » بل يجب أن يقول : يا الله ، فالتعبير بصورة الإضافة « إضافة العلم إلى الله » دليل على أنّ الداعي يسير في عالم المفاهيم ، لا في عالم العين والخارج ، وإلاّ كان عليه أن يقول : يا الله.

استدلاله على المغايرة

وممّا يدلّ على أنّ الله عالم بعلم ، أنّه سبحانه لا يخلو عن أحد صورتين : ١ ـ أن يكون عالماً بنفسه ، ٢ ـ أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

١ ـ فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً ، ويستحيل أن يكون العلم عالماً أو العالم علماً ، ومن المعلوم أنّ الله عالم ؛ ومن قال : إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن يقول : إنّه عالم ؛ فإذا بطل هذا الشقّ تعين الشقّ الثاني ، وهو أنّه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه. (١)

لبّ البرهان هو : أنّ واقعية الصفة هي البينونة فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ، ينتزع من اتّصاف الأُولى بالثاني عنوان العالم والقادر ، فالعالم : من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذاته نفسهما ، فيجب أن يفترض ذات غير الوصف.

يلاحظ عليه : أنّ القائل بالوحدة لا يقول بالوحدة المفهومية ، أي أنّ ما يفهم من لفظ « الجلالة » فهو نفس ما يفهم من لفظ « العالم » فإنّ ذلك باطل بالبداهة ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته ، وأنّوجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين ، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج مغايراً لمصداق العلم ، وأنّ ساحة الحقّ منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات ، بل لوجود البحث البسيط نعوت وأوصاف ، كلّها موجودة

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٣٠.

٩١

بوجود واحد ، فتلكالصفات الإلهية متكثّرة بالمعنى والمفهوم ، واحدة بالهوية والوجود.

ولا يعني أصحاب نظرية الوحدة تعطيل الذات عن الصفات وخلوّها عن واقعيتها ، كما عليه القائل بالنيابة ، بل يعنون أنّ وجوداً اوحداً بوحدته وبساطته ، من دون تكثّر فيه ، هو نفس العلم والقدرة وسائر الكمالات ، وربّ وجود يكون من الكمال على حدّ يكون نفس الكشف والعلم ، ونفس القدرة والاستطاعة ، وهو في الكمال آكد من الوجود الذي يكون العلم والقدرة زائدين عليه.

أضف إلى ذلك : أنّ الشيخ الأشعري لم يتأمّل في مقالة القائل بالوحدة ، ولأجله رمى القائل بها بأنّه لا يصحّ له إجراء الصفات على الله ، وليس له أن يقول : إنّه عالم. فإنّ الفرق بين القول بالعينية والزيادة ، كالفرق بين قولنا : زيد عدل وزيد عادل ، فالأُولى من القضيتين آكد في إثبات المبدأ من الآخر ، والقول بالعينية آكد من القول بالزيادة ، فلو استحقّ الإنسان الواقف على ذاته وماوراءها بعلم زائد ، أن يوصف بكونه عالماً ، كان الموجود الواقف على الذات والأشياء بعلم هو نفسه وذاته ، أولى بالاستحقاق بالتوصيف.

وقد اغترّ الشيخ بظاهر لفظ « عالم » و« قادر » حيث إنّ المتبادر منه هو كون الذات شيئاً والوصف شيئاً آخر. فحكم بإجرائه عليه سبحانه بهذا النمط بلا تغيير ولا تحوير. ومعنى هذا هو أنّ المعارف العليا تقتنص من ظواهر الألفاظ وإن كانت الأدلّة العقلية الواضحة تخالفها وتردّها ، فإنّ الألفاظ العامة عاجزة عن تفسير ما هناك من المعارف والمعاني.

مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينية الصفات مع الذات نوع مخالفة لظاهر صيغة الفاعل ـ أعني : العالم والقادر ـ الظاهرة في الزيادة ، كان في القول بالزيادة مضاعفات كبيرة لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :

١ ـ تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. وربما يتمحّل في رفعه بأنّ

٩٢

المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غير ذاته ، ولكنّه كلام صوري ينتهي عند الدقة إلى ارتفاع النقيضين.

والعجب أنّ الأشعري في موضع من كتابه « اللمع » ينفي غيرية الصفات للذات حتى لا يلزمه القول بتعدّد القدماء. لكنّه يفسر الغيرية بالصفات المفارقة ، ويقول : إنّ معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه ، فلمّا دلّت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه وقدرته ، استحال أن يكونا غيرين.

وغير خفي على القارئ النبيه أنّ الزيادة المستلزمة لتعدّد القدماء كما تتحقّق في مفارقة الصفات كذلك تتحقّق في ملازمتها ، فالقول بعدم الوحدة يستلزم تعدّد القدماء ، وإن كانت الصفات لازمة.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات قديمة مثله ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحد متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري. قال القاضي عبد الجبار :

وعند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلي : القديم ؛ إلاّ أنّه لماّ رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين. (١)

٢ ـ إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى الغير. وهذا بخلاف القول بالزيادة ، إذ عليه : يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته. وكون هذه الصفات أزلية لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته ، مع أنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء.

وأمّا الاستدلال على الزيادة بظواهر بعض الآيات ، كقوله سبحانه :

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأُصول الخمسة : ١٨٣ ـ وقد تقدّم ملخّصاً فلاحظ.

٩٣

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (١) ، وقوله سبحانه : (وَماتَحْمِلُ منْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ ) (٢)فضعيف جدّاً ، إذ لا دلالة لهما على الزيادة ولا على العينية ، وإنّما تدلّ على أنّ له سبحانه علماً.

وأمّا الكيفية فتطلب من مجال آخر.

وفي الختام نقول : إنّ « الصفاتية » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالأوصاف الزائدة. كما أنّ المعطّلة هم نفاتها ، حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت الحقّ ، وليس في القول بالوحدة ( لا القول بالنيابة ) أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

وعلى أيّ تقدير ، فقد صارت زيادة الصفات مذهباً لأهل السنّة قاطبة ، وصدر في بغداد كتاب سمي « الاعتقاد القادري »و ذلك في ١٧ محرم سنة ٤٠٩ هـ وقرئ في الدواوين وكتب الفقهاء فيه : « إنّ هذا اعتقاد المسلمين ، ومن خالفهم فقد فسق وكفر » جاء في الكتاب : « وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، متكلم بكلام ، لا يوصف إلاّ بما وصفه به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ صفة وصف بها نفسه ، أووصفه بها رسول فهي صفة حقيقية لا مجازية ، وإنّ كلام الله غير مخلوق ، تكلّم به تكليماً فهو غير مخلوق بكلّ حال متلوّاً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً ، ومن قال : إنّه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر ، حلال الدم بعد الاستتابة منه ». (٣)

وربما تطلق« الصفاتية » على من يصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية ( مع التشبيه أو مع التنزيه ) في مقابل التفويض أو التأويل ، وهذا هو الذي نبحث عنه في البحث التالي.

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٦٦.

٢ ـ فاطر : ١٠.

٣ ـ المنتظم : ١٩٥ ـ ١٩٦ ؛ البداية والنهاية : ١٢/٦ ـ ٧ هامش تاريخ ابن الأثير : ٧/٢٩٩ ـ ٣٠٢.

٩٤

(٩)

رأيه في الصفات الخبرية

قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتية وصفات خبرية.

فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ، وكلّ ما يطلق عليه الصفات الكمالية « صفات ذاتية » ، وما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث ، كالعلو والوجه واليدين والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين « صفات خبرية » وقد اختلفت كلمات المتكلّمين في توصيفه سبحانه بالأخير على أقوال هي :

أ ـ إثبات مع التشبيه والتكليف

وهو إجراؤها على الله سبحانه بنفس المعاني المرتكزة في أذهان الناس من دون أي تصرّف فيها ، وهو قول المشبهة ، فقد زعموا أنّ لله سبحانه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان.

قال الشهرستاني : أمّا مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض.

وحكى الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا ، وأنّهم يزورونه ويزورهم.

وحكى عن داود الجواربي أنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. وقال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح

٩٥

وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأُذنين ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء ، وحكى عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك ، وأنّ له فروة سوداء ، وله شعر قطط!!

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء ، والوجه واليدين والجنب ، والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : « خلق آدم على صورة الرحمن » وقوله : « حتى يضع الجبار قدمه في النار » وقوله : « قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن » وقوله : « خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً » وقوله : « وضع يده أوكفّه على كتفي » ، وقوله : « حتى وجدت برد أنامله على كتفي » إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنّ التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه ( الله ) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته كأطيط الرحل الحديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبّهة عن النبي عليه الصلاة والسلام « لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ». (١)

هذه عقيدة المشبّهة والمجسّمة في الصفات الخبرية ، وإليك دراسة سائر المذاهب.

ب : الإثبات بلا تشبيه ولا تكليف

إنّ الشيخ الأشعري يجريها على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن مع التنزيه عن التشبيه والتجنّب عن التكييف ، قال في الإبانة :

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/١٠٥ ـ ١٠٦.

٩٦

وانّ الله استوى على عرشه » كما قال : (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتوى)(١) ، وأنّ له وجهاً بلا كيف كما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ) (٢) ، وأنّ له يدين بلا كيف كما قال : (خَلَقْتُ بِيَدَي) (٣) ، وكما قال : (بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)(٤) ، وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال : (تَجري بِأَعْيُنِنا ) (٥)(٦).

وقال في الباب السابع من هذا الكتاب : إن قال : ما تقولون في الاستواء؟ قيل له : نقول : إنّ الله عزّوجلّ يستوي على عرشه كما قال : يليق به من غير طول الاستقرار كما قال : (الرّحمن على العَرْشِ اسْتَوى).

ثمّ قال بعد عرض عدّة من الآيات : كلّ ذلك يدلّ على أنّه ليس في خلقه ، ولا خلقه فيه ، وأنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استواء. (٧)

وقال في الباب الثامن : قال الله تبارك وتعالى : (كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ) (٨) وقال عزّوجلّ : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ) (٩) ، فأخبر أنّ له وجهاً لا يفنى ولا يلحقه الهلاك ، وقال عزّوجلّ : تَجري بِأَعْيُنِنا. وقال : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) ، فأخبر عزّ وجلّ أنّ له وجهاً وعيناً ولا يكيف ولا يحد. (١٠)

وعلى ذلك فالأشعري من أهل الإثبات كالمشبّهة والمجسّمة ، لا من أهل التفويض ولا من أهل التأويل ، وسيوافيك بيانهما. والفرق بين المشبّهة وما

ــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٥.

٢ ـ الرحمن : ٢٧.

٣ ـ ص : ٧٥.

٤ ـ المائدة : ٦٤.

٥ ـ القمر : ١٤.

٦ ـ الإبانة : ١٨.

٧ ـ الإبانة : ٩٢.

٨ ـ القصص : ٨٨.

٩ ـ الرحمن : ٢٧.

١٠ ـ الإبانة : ٩٥.

٩٧

ذهب إليه الأشعري ، هو أنّ الطائفة الأُولى تجريها على الله سبحانه بحرفيّتها من دون أي تصرف فيها ، ولكن الأشعري ومن لفّ لفّه يثبتونهاعلى الله بنفس معانيها لكن متقيدة باللاّ كيفية واللاّ تشبيه ، حتى يخرجوا من التجسيم والتشبيه وينسلكوا في أهل التنزيه. وليس هذا المعنى مختصاً به ، بل هناك من يوافقه من المتقدمين والمتأخرين ، يطلق عليهم أهل الإثبات أو المثبتة ، في مقابل المفوِّضة والمؤوِّلة والنفاة بتاتاً ، وإليك نقل ما أُثر عن غيره في هذا المجال ممّا يوافقه :

قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.

وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فإنّه يعذر بالجهل ؛ ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه ، فقال ب ـ ليس كمثله شيء.

وقال ابن كثير : وأمّا قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ، وإنّما نسلك مذهب السلف الصالح : مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله ، فإنّ الله لا يشبهه شيء من خلقه ، وليس كمثله شيء (١).

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد

يجب على كلّ مؤمن الإيمان بما وصف الله به نفسه ، وليس أحد أعرف به منه ( أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله ) كما أنّه ليس لأحد أن يصرف كلامه سبحانه ، عمّا

ــــــــــــــــــ

١ ـ راجع فيما نقلناه عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير« علاقة الإثبات والتفويض » : ٤٦ ـ ٤٩.

٩٨

هو المتبادر من ظاهره ، إذ التأويل بلا اعتماد على نصّ قطعي يفقد النصوص هيبتها ، وإنّ المؤوّلة الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب والسنّة ـ بحجّة أنّ ظواهرهما لا توافق العقل ـ مردودون في منطق الشرع ، إذ لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة ما ظاهره خلاف العقل ، وإنّما يتصورّونه ظاهراً ثمّ يحملونه على خلافه ، ليس مفاد الآية والمتبادر منها عند التدبّر.

هذا كلّه ممّا لا خلاف بين جمهور المسلمين فيه ، ولكن الذي يجب إلفات النظر إليه ، هو أنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة تتّسم بالدقة والرصانة والسلامة من التعقيد والألغاز ، وهي تبدو جليَّة مطابقة للفطرة والعقل السليم للجماهير على كافة المستويات ، وتتصف بالصفاء والنقاء. فهذه سمة العقيدة الإسلامية ، وعلى ذلك فإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثورين من اليهودية والنصرانية ، أو بصورة التعقيد والألغاز ، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي ، فلا محيص لمن يعرض العقائد الإسلامية عن رعاية أمرين :

١ ـ التحرّز عن سمة التشبيه والتجسيم.

٢ ـ الاجتناب عن الجمود على اللفظ وجعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء ، أو معاني معقّدة لا يفهم منها شيء ، بحجّة أنّ البحث عن الكيف ممنوع.

إنّ إثبات الصفات له سبحانه لو انتهى إلى التكييف والتشبيه فهو كفر وزندقة ، لقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ )ولا ينفع الفرار عنه بكلمة مبهمة ، أعني « الإمرار بلا كيف » كما هو المشاهد في كلمات أغلب المثبتين للصفات ، إذ هو أشبه بالإنكار بعد الإقرار ، ولا إنكار بعده.

فالإصرار على الإثبات تبعاً للنصوص ، والتهجّم على النفاة ، والذهاب في هذا السبيل إلى حدّ التجسيم ، غواية وضلالة ؛ والاعتماد في ذلك على كلمات السلف اعتمادعلى قول من ليس بمعصوم ولا حجّة ، والعقائد تعرض على القرآن والسنّة الصحيحة والعقل السليم الذي به عرف الله وثبت وجوده ، لا على قول السلف الذين لم يخلوا من طالح ، فحشد عبارات بعض السلف في مجال العقائد لا ينفع شيئاً.

٩٩

كما أنّ إثبات صفاته سبحانه ، على نحو ينتهي إلى اللغز والتعقيد ويتّسم بعدم المفهومية ، مردود بنص القرآن الكريم حيث ندب إلى التدبّر فيما أنزل إلى نبيّه ، قال عزّ من قائل :( أَفَلا يَتَدَّبرون القُرآن )(١). وقال سبحانه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ )(٢).

ولكن مع الأسف إنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه بين الأشاعرة وغيرهم لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض إذا احترزوا عن البحث والتفصيل ، والكلّ مردود ، مرفوض.

وهانحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل « نفاة الصفات » أفضى بالقوم إمّا إلى حدّ التشبيه ، أو إلى حدّ التعقيد. فمن كلمات الطائفة الأُولى :

١ ـ قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (٣)

٢ ـ وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بماوردت به السنّة من صفاته. (٤)

٣ ـ وقال الدارمي في مقدّمة كتابه« الرد على الجهمية » : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (٥)

٤ ـ وقال المقدسي في كتابه« أقاويل الثقات في الصفات » : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٢.

٢ ـ ص : ٢٩.

(٣و٤و٥ ) ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : ٤٨ ، ٤١ ، ٦٨.

١٠٠