بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

١

٢

٣

٤

التعارف والتآخي

في ظل البحث الموضوعي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على نبيّه ، والخيرة من أهل بيته ، وصحبه الطيّبين.

أمّا بعد ، فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا« بحوث في الملل والنحل » نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، راجين منهم غض الطرف عمّا فيه من خلل أو زلل ، وإيقاف المؤلّف على ملاحظاتهم القيّمة.

ويختص هذا الجزء ببيان حياة الإمام الأشعري ، وحياة أنصار مذهبه ، واستعراض الأُصول المهمة في منهجه ، وقد اعتمدنا في بيانها على المصادر المعتبرة الموثوق بها عند الأشاعرة.

وطبيعة البحث كانت تقتضي تقديم التحقيق عن المعتزلة ، وتبيين أُصولها ، وترجمة شخصياتها اللامعة ، على الأشاعرة ؛ ذلك أنّ منهج الاعتزال أقدم منهج فكري ظهر على الصعيد الإسلامي حين لم يكن عن الإمام الأشعري ومنهجه وأنصاره أثر ولا خبر.

ولكن لمّا كان مذهب الأشعري مشتقاً من مذهب أهل الحديث وفرعاً منه ، وقد خصصنا الجزء الأوّل لبيان عقائد أهل الحديث والسلفيّين ، صار ذلك سبباً لتقديم ما حقّه التأخير ، وسنقوم ببيان أُصول المعتزلة وترجمة رجالها البارزين بعد تبيين عقائد « الماتريدية » ( التي هي والمذهب الأشعري صنوان

٥

نابتان من أصل واحد ). في الجزء الثالث ؛ كلّ ذلك بفضله وكرمه.

وأمّا المناهج الرجعية التي نبتت في العصور الأُولى ، كالجهمية والكرامية والظاهرية ، والتي أكل عليها الدهر وشرب ، وذهبت أدراج الرياح ، فترى الإيعاز إليها في ذاك الجزء أيضاً بإذنه سبحانه.

إنّ البحث عن الملل والنحل ـ إذا كان قائماً على أساس علمي رصين ـ يكون وسيلة للتآخي والتآلف ، فإنّ الباحث يقف على أنّ كثيراًمن الأُصول في المذاهب مشتركة وموحدة ، وإنّما فرّقت بينها عوامل أُخرى لا تمتّ إلى المذهب بصلة ، وبذلك يصبح البحث عن « الملل والنحل » وسيلة للتآخي والتآلف.

نعم لو اعتمد الباحث على مالا يصحّ الاعتمادعليه فربما شوّه سمعة المذهب ، وصوّره على غير ما هو عليه ، فيكون أداة للتباغض والتنافر.

ونحن نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لدراسة المذاهب ، كلّ على ما هو عليه من دون بخس لحق ، كما نرجو أن يوفقنا في سعينا لإصابة الحقيقة ، وبيان الواقع ، إنّه قريب مجيب الدعاء.

قم المشرّفة ـ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

٢٠ جمادى الآخرة ، ١٤٠٨ هـ

٦

حياة الإمام الأشعري

ومنهجه في العقائ

افترق المسلمون ( أهل البحث والجدل منهم ) في النصف الأوّل من القرن الثاني إلى فرقتين :

فرقة أهل الحديث : وهم الذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها ، أو دقة في أسنادها ، وكانوا يشكّلون الأكثرية الساحقة بين المسلمين ، وكثرت فيهم المشبّهة والمجسّمة ، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً ، كاليد والرجل والوجه ، إلى غير ذلك من البدع التي ظهرت بين المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان المتسترين بالإسلام.

وفرقة الاعتزال : وهم الذين كانوا يتمسكون بالعقل أكثر من النقل ، ويؤوّلون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليتهم ، وبقي التشاجر قائماً على قدم وساق بين الفرقتين طوال قرون.

فتارة يتغلّب أهل الحديث على أهل الاعتزال ويزوونهم ، وأُخرى ينغلّب جناح التفكر والاعتزال على أهل الظواهر والحديث ، وكانت غلبة كلّ فرقة على الأُخرى في كثير من الأحيان تنشأ من ميول الحكومات آنذاك لأحد الجناحين المتصارعين ، فنرى عصر الأمويين وأوائل عصر العباسيين ، عصر ازدهار منهج أهل الحديث والمتمسكين بظواهر النصوص ؛ كما نرى الأمر على العكس في زمن المأمون وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل ، فكان الازدهار لمنهج الاعتزال حتى صار مذهباً رسمياً للحكومات السائدة ، واعتقل بعض

٧

مشايخ أهل الحديث مثل أحمد بن حنبل ، حتّى جُلِدَ ثلاثين سوطاً لأجل اعتقاده بقدم القرآن الذي يُعدّ من مبادئ أهل الحديث ، وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تسلّم المتوكل مقاليد الحكم ؛ فأمر بنشر منهج أهل الحديث بقوة وحماس ، وتبعه غيره من العباسيين في دعم مقالتهم ، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال ، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٢٤ هـ ) الذي كان معتزلياً ثمّ صار ـ بحسب الظاهر ـ من زمرة أهل الحديث ، فكانت السلطة تسايرهم وتوافقهم. وسيوافيك القول في علل رجوعه عن مذهب الاعتزال إلى تيار أهل الحديث وفي مقدمتهم مذهب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل.

وقد كوّن الأشعري برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلامياً ، له أثره الخاص إلى يومنا هذا بين أهل السنّة ، فمذهبه الكلامي هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار. ولأجل ذلك يجب علينا أن نتعرّف عليه وعلى آرائه ، فنقول :

نسب الإمام الأشعري

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.

يقول ابن عساكر في ترجمته : إنّ أباه إسماعيل بن إسحاق كان سنّياً جماعياً حديثياً ، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي ، وهو إمام في الفقه والحديث ، وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة ، وقد يكنّى أبوه بـ « أبي بشر » وربما يقال إنّها كنية جدّه. (١)

وهذا يعرب عن أنّ البيت الذي تربّى فيه أبو الحسن كان بيت الحديث والرواية ، مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة ، ومن شأن الأبناء أن يرثوا

ــــــــــــــــــ

١ ـ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري » تأليف ابن عساكر الدمشقي ( المتوفّى عام ٥٧١ هـ ) وهو كتاب أفرد للبحث في حياته وسائر ما يتعلّق به ، ونعبر عنه بالتبيين اختصاراً.

٨

ما للآباء من الأفكار ؛ وعلى ذلك فعود الشيخ إلى منهج أهل الحديث ، والإبانة عن الاعتزال كان رجوعاً موافقاً للأصل لا مخالفاً له ؛ فهو رجع إلى الفكرة التي ورثها في خزانة ذهنه من بيته.

جدّه الأعلى : أبو موسى الأشعري

اشتهر أبو الحسن بالأشعري ، نسبة إلى جدّه الأعلى المشتهر بهذا العنوان أيضاً ، وقد ورث جدّه أيضاً هذا اللقب عن أجداده الأعلين ، وترجم في كتب الرجال.

قال ابن سعد في طبقاته : قد أسلم بمكة قديماً ثمّ رجع إلى بلاد قومه ، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين : جعفر أصحابه من أرض الحبشة ، فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر ، فقالوا : قدم أبو موسى مع أهل السفينتين؛ وكان الأمر على ما ذكرنا أنّه وافق قدومه قدومهم. (١)

وقال ابن الأثير : كان عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على زبيد وعدن ، واستعمله عمر على البصرة ، وشهد وفاة أبي عبيدة الجراح بالشام ، وكان أبو موسى على البصرة لمّا قتل عمر ، فأقرّه عثمان عليها ثمّ عزله ، واستعمل بعده ابن عامر ، فسار من البصرة إلى الكوفة ، فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص ، وطلبوا من عثمان ، أن يستعمله عليهم ، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان ، فعزله عليّ عليه‌السلام عنها. (٢)

لم يكن عزل عليّ إيّاه عنها اعتباطاً ، بل لأجل أنّه كان يخذِّل الناس عن الإمام عند اشتباكه عليه‌السلام مع الناكثين في أطراف البصرة ، فقد ذكر

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات ابن سعد : ٤/١٠٥.

٢ ـ أُسد الغابة : ٣/٢٤٦.

٩

الطبري أنّ الإمام عليّاً كتب إلى أبي موسى :

« إنّي وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إلي ، فأشخص الناس ، فإنّي لم أولِّك الذي أنت به إلاّ لتكون من أعواني على الحقّ ».

فدعا أبو موسى ، السائب بن مالك الأشعري ، فقال له : ما ترى؟ قال : أرى أن تتبع ما كتب به إليك ، قال : لكنّي لا أرى ذلك ، فكتب هاشم إلى عليّ عليه‌السلام أنّه قد قدمت على رجل غال مشاق ظاهر الغل والشن آن.

وبعث بالكتاب مع المحل بن خليفة الطائي ، وعند ذاك بعث عليّ عليه‌السلام الحسن بن عليّوعمار بن ياسر وهما يستنفران له الناس ، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً على الكوفة ، وكتب معه إلى أبي موسى :

« أمّا بعد : فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله عزّوجلّ لك منه نصيباً ، سيمنعك من ردّ أمري ؛ وقد بعثت الحسن بن عليّوعمار بن ياسر يستنفران الناس ، وبعثت قرظة بن كعب والياً على المصر ، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً ». (١)

هذا هو حال الجد الأعلى في أوائل خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام ، حيث خذَّل الناس عن نصرة علي عليه‌السلام عندما قرب الاشتباك بينه وبين الناكثين ، وأمّا أمره في أواسط خلافته فحدّث عنه ولا حرج. فقد عُيّن من جانب علي عليه‌السلام وشيعته بالعراق ممثلاً قاضياً وحاكماً ، كما عيّن عمرو بن العاص من جانب معاوية حاكماً ، ليقضيا في أمر الفرقتين بما وجدا في كتاب الله ، وإن لم يجدا في كتاب الله فليرجعا إلى السنّة. (٢)

فكانت نتيجة ذلك ـ ويا للأسف ـ أنّه خلع عليّاً عن الخلافة ، وأثبت عمرو بن العاص معاوية في الخلافة ، وكأنّه وجد دليلاً في الكتاب والسنّة على عدم صلاحية الإمام للخلافة ، وذاك وجد دليلاً حاسماً على صلاحية معاوية

ــــــــــــــــــ

١ ـ تاريخ الطبري : ٣/٥١٢.

٢ ـ وقعة صفين : ٥٠٥.

١٠

لها!!. وماعشت أراك الدهر عجباً!!. فقد عزل الإمام الذي اتّفق المهاجرون والأنصار على إمامته اتفاقاً لم يُرَ مثله لا قبله ولا بعده. ونصب الآخر معاوية ابن آكلة الأكباد إماماً للناس وحافظاً لدينهم ودنياهم ، وماأحسن قول شاعر المعرة :

فيا موت زر ، إنّ الحياة ذميمة ويا نفس جودي إنّ دهرك هازل

هذه سيرة الرجل على وجه الإجمال ، ولم ير بعد مسألة التحكيم للرجل نشاط ، وقد مات بمكة عام ٤٢ هـ ، وقيل ٤٤ هـ وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وقيل غير ذلك. (١)

أبو موسى ونزول الآية في قومه

إنّ أصحاب الحديث رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله سبحانه :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ أَعِزَّة عَلى الكافِرينَ يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَليمٌ )(٢) رووا نزولها في حقّ أبي موسى وقومه.

روى السيوطي عن ابن جرير الطبري في الدر المنثور : لما أنزل الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ) قال عمر : أنا وقومي هم يا رسول الله؟ قال : بل هذا وقومه ، يعني أبا موسى الأشعري. (٣)

ولكن حياة الرجل ، وخصوصاً ما ارتكبه في أُخريات عمره بعزل الإمام الطاهر ـ الذي بايع له المهاجرون والأنصار ـ عن الخلافة ، لا ينطبق مع متن الرواية ، أعني قوله : « هذا وقومه » ، ولذلك نرى أنّ السيوطي ينقل الحديث

ــــــــــــــــــ

١ ـ أُسد الغابة : ٣/٢٤٦.

٢ ـ المائدة : ٥٤.

٣ ـ الدر المنثور : ٢/٢٩٢ وطبقات ابن سعد : ٤/١٠٧.

١١

بصورة ثانية ويقول : قوم هذا (١) من دون أن يعد أبا موسى من تلك الزمرة ، ومع ذلك فتصديق نزولها حتى في قوم« أبي موسى » لا يخلو من غموض.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الروايات تضافرت على نزولها في حقّ عليّ عليه‌السلام وأصحابه ، حيث حاربوا الناكثين والقاسطين والمارقين. ورواه من أعلام السنّة : الثعلبي في تفسيره ، ونقلهاعنه ابن بطريق في عمدته (٢) ، والإمام الرازي في مفاتيح الغيب (٣) ، والعلاّمة النيسابوري في تفسيره (٤) ، وأبوحيان الأندلسي في البحر المحيط. (٥)

وأمّا ثانيا : فلأنّ النقل تضافر أيضاً على أنّ المراد هم الفرس ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان وقال : « هذا وذووه » ، ثمّ قال : « لو كان الدين معلّقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ». (٦)

وأمّا ثالثاً : فلأنّه روي في نزول الآية وجه آخر ، وهو الجهاد مع أهل الردّة ، بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٧) ، ولم يكن الجهاد معهم مختصاً بقوم أبي موسى ، بل اشترك اليمنيون وغيرهم من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك أيضاً.

كلّ ذلك يعطي أنّ الآية تحمل مفهوماً كلياً ينطبق على الشخصيات البارزة في العصور المختلفة ، الذين بذلوا أنفسهم ونفيسهم في سبيل الله.

فعلي أمير المؤمنين ـ بمواقفه الحاسمة ـ من أوضح مصاديق الآية ، خصوصاً إذا لاحظنا الصفة المذكورة في الآية ، فإنّها تنطبق على علي

ــــــــــــــــــ

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ العمدة : ٢٨٨ ، الطبعة الحديثة.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ٣/٤٢٧ ، ط مصر ـ ١٣٠٨ هـ.

٤ ـ تفسير النيسابوري بهامش الطبري : ٦/١٦٥.

٥ ـ البحر المحيط : ٣/٥١٠.

٦ ـ تفسير الرازي : ٣/٤٢٧ ، وتفسير النيسابوري بهامش الطبري : ٦/١٦٥.

٧ ـ المصدر نفسه.

١٢

عليه‌السلام حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه يوم خيبر عندما دفع الراية إليه : « لأدفعنّ الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » وقد جاء في الآية قوله سبحانه : ( يحبّهم ويحبّونه ).

نعم ، الظاهر من الجهاد في الآية هو الجهاد بالنفس والنفيس ، وبالسيف والسنان ، ومن العجيب أنّ ابن عساكر يريد تطبيق الآية على نفس أبي الحسن الأشعري حفيد أبي موسى ويقول : إنّ الله عزّوجلّ أخرج من نسل أبي موسى إماماً قام بنصرة دين الله ، وجاهد بلسانه وبيانه من صد عن سبيل الله. الخ. (١)

هذا كلّه حول حياة الجد ، وإليك الكلام عن حياة الحفيد.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ١٠٤.

١٣
١٤

حياة الإمام أبي الحسن الأشعري

ميلاده ووفاته

اختلف المترجمون له في عام ميلاده ووفاته ، فقيل : وُلِد سنة سبعين ومائتين ، وقيل : ستين ومائتين بالبصرة ؛ وتوفّي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، وقيل : سنة ثلاثين (١) ، والظاهر من ابن عساكر في تبيينه عدم الخلاف في مولده ، وأنّ مولده هو عام ستين بعد المائتين قال : ولد ابن أبي بشر سنة ستين ومائتين ، ومات سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ، لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفاً ، ولكن أراه في تاريخ وفاته رحمه‌الله مجازفاً ، ولعلّه أراد سنة نيف وعشرين ، فإنّ ذلك في وفاته على قول الأكثرين. (٢)

ولكن اتّفقت كلمتهم على أنّه تخرج في كلام المعتزلة على أبي علي الجبائي ، وهو محمد بن عبد الوهاب بن سلام من معتزلة البصرة ، ويعرف بأنّه الذي ذلل الكلام وسهله ، ويسر ما صعب منه ، وإليه انتهت رئاسة البصريين في زمانه لا يدافع في ذلك ، وقد ولد عام ٢٣٥ ، وتوفي سنة ٣٠٣ (٣) وقام مقامه ابنه أبو هاشم في التدريس والتقرير.

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٣/٢٨٤ نقلاً عن ابن الهمداني في ذيل تاريخ الطبري.

٢ ـ التبيين : ١٤٦.

٣ ـ فهرست ابن النديم : ٢٥٦.

١٥

مناظرات الأشعري مع الجبّائي قبل رجوعه عنه

إنّ الأشعري هو خريج منهج المعتزلة وتلميذ شيخها أبي علي الجبّائي ، ومع ذلك ينقل ابن عساكر عن أحمد بن الحسين المتكلم أنّه قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا لحسن رحمه‌الله لما تبحّر في كلام الاعتزال وبلغ غايته ، كان يورد الأسئلة على أُستاذه في الدرس ولا يجد جواباً شافياً ، فيتحيّر في ذلك (١) ، وقد حفظ التاريخ بعض مناظراته مع أُستاذه أبي علي الجبائي ، فنكتفي ببعضها :

المناظرة الأُولى

ـ الأشعري : أتوجب على الله رعاية الصلاح أو الأصلح في عباده؟

ـ أبو علي : نعم.

ـ الأشعري : ماتقول في ثلاثة إخوة : أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً ، والثاني كان كافراً فاسقاً ، والثالث كان صغيراً فماتوا ؛ كيف حالهم؟

ـ الجبائي : أمّا الزاهد ففي الدرجات ، وأمّا الكافر ففي الدركات ، وأمّا الصغير ففي أهل السلامة.

ـ الأشعري : إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟

ـ الجبائي : لا ، لأنّه يقال له : إنّ أخاك إنّما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة ، وليس لك تلك الطاعات.

ـ الأشعري : فإن قال ذلك الصغير : التقصير ليس منّي ، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.

ـ الجبائي : يقول الباري جلّوعلا : كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت ، وصرت مستحقاً للعذاب الأليم ، فراعيت مصلحتك.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ٣٨.

١٦

ـ الأشعري : لو قال الأخ الكافر : يا إله العالمين ، كما علمت حاله فقد علمت حالي ، فلم راعيت مصلحته دوني؟

ـ الجبائي : إنّك مجنون.

ـ الأشعري : لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة!!

ثمّ إنّ ابن خلّكان لمّا كان أشعرياً في الكلام ، استغل هذه المناظرة لمذهبه وقال : هذه المناظرة دالة على أنّ الله تعالى خصّ من شاء برحمته ، وخصّ آخر بعذابه ، وأنّ أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض. (١)

أقول : إنّ تنزيه أفعاله سبحانه عن اللغو والعبث ممّا دلّ عليه العقل والنقل. ولو اعتزل الأشعري عن إدراك ما يحكم به العقل السليم فليس له مناص عن سماع كلام ربّ العزّة ، قال سبحانه : الّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ وَبَدَأ خَلْقَالإِنْسانِ مِنْ طين (٢). وقال عزّ من قائل : أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلْقْناكُمْ عَبثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات النافية للعبث واللغو عن ساحته.

ومعنى القاعدة : أنّ أفعال هـ على الإطلاق ـ غير منفكة عن الأغراض والمصالح التي ترجع إلى نفس العباد دون خالقهم. ثمّ إنّ قسماً كبيراً من الحكم والمصالح المرعيّة ظاهر غير خفي ، يقف عليه الإنسان بالتأمّل والتروّي ، وقسماً منها خفيّ غير بارز لا يكاد يقف عليه الإنسان لقلة علمه وضالّة دركه ، قال سبحانه : ( وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَليلاً )(٤) ، وقال عزّ من

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٤/٢٦٧ ـ ٢٦٨رقم الترجمة ٦٠٧ ، ونقله السبكي في طبقات الشافعية : ٢/٢٥٠ ـ ٢٥١ مع اختلاف يسير ، كما نقله في الروضات : ٥/٢٠٩ عن صلاح الدين الصفدي في كتابه : الوافي بالوفيات.

٢ ـ السجدة : ٧.

٣ ـ المؤمنون : ١١٥.

٤ ـ الإسراء : ٨٥.

١٧

قائل : ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَة هُمْ غافِلُونَ )(١) ، ومع ذلك نعلم أنّه تعالى لا يفعل إلاّ الخير ، ولا يعجز عن الإيجاد على الوجه الأصلح ، ومن الخطأ أن يطلب الإنسان تحليل ما في الكون من دقائق الأُمور وجلائلها ، بعقله الصغير ودركه البسيط ، ويحكم بأنّه كانت المصلحة في إبقاء هذا وإفناء ذاك ، وكأنّ هذا هو المزلقة الكبرى للمعتزلة ، حيث أرادوا إخضاع كلّ ما في الكون من الحوادث والأفعال لعقولهم.

المناظرة الثانية

دخل رجل على الجبائي فقال : هل تجوز تسمية الله عاقلاً؟

فقال الجبائي : لا ، لأنّ العقل مشتق من العقال ، وهو المانع ، والمنع في حقّه سبحانه محال ، فامتنع الإطلاق.

فقال له الشيخ أبو الحسن : على قياسك لا تجوز تسميته حكيماً ، لأنّ هذاالاسم مشتق من « حكمة اللجام » وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت :

فنحكم بالقوافي من هجانا

ونضرب حين تختلط الدماء

وقول الآخر :

أبَني حنيفة حكِّموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أي نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم ؛ فإذا كان اللفظ مشتقاًمن المنع ، والمنع على الله محال ، لزمك أن تمنع إطلاق « حكيم » عليه سبحانه.

فقال الجبائي : فلم منعت هذاوأجزت ذاك؟

فقال الأشعري : إنّ طريقي في مأخذ أسماء الله ، الإذن الشرعي دون القياس اللغوي ، فأطلقت « حكيماً » لأنّ الشرع أطلقه ومنعت « عاقلاً » لأنّ الشرع منعه ، ولو أطلقه الشرع لأطلقته. (٢)

ويلاحظ على هذه الرواية :

ــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٧.

٢ ـ طبقات الشافعية : ٢/٢٥١ ـ ٢٥٢ بتلخيص منّا.

١٨

أوّلاً : أنّ الروايات السابقة دلت على أنّ صلة الأشعري بالجبائي قد انقطعت بعد انسلاكه في مسلك المحدّثين ، والظاهر من هذه الرواية خلافها ، وأنّ الأشعري كان يناظر أُستاذه حتى بعد الإنابة عن الاعتزال ، بشهادة قول الأُستاذ : فلم منعت هذا وأجزت ذاك... ».

وثانياً : أنّه من البعيد أن لا يقف الجبائي على عقيدة أهل الحديث ، بل عقيدة المسلمين جميعاً في أسمائه سبحانه ، وأنّها توقيفية ، وأنّه لا تصح تسميته إلاّبما سمّى به سبحانه نفسه. وذلك لصيانة ساحة الرب عمّا لا يليق بها ، إذ لو لم تكن التسمية توقيفية ، ربما يعرف سبحانه بأسماء وصفات غير لائقة بساحته ، فإنّ السواد الأعظم من الناس غير واقفين على الحد الذي يجب تنزيهه سبحانه عنه.

وثالثاً : لقائل أن ينصر الأُستاذ ( الجبائي ) ويقول : إنّ « الحكم »مشترك بين معنيين ، أحدهما المنع ، والآخر معنى يلازم العلم والفقه والقضاء والإتقان ؛ قال سبحانه : ( وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبياً ) (١) وإرجاع المعنى الثاني إلى الأول تكلّف. وإطلاق الحكيم على الله بالملاك الثاني دون الأوّل. (٢)

المغالاة في الفضائل

الغلو هو : تجاوز الحدّ والخروج عن الوسط ، مائلاً إلى جانب الإفراط ، قال سبحانه : ( يا أَهْلَ الكِتاب لا تغلو في دينِكُم ) (٣) كما أنّ البخس بالحقوق وإنكار الفضائل الثابتة بالدلائل الصحيحة ، تفريط وتقصير ؛ فكلا العملين مذمومان ، ودين الله كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو ما بين المقصر والغالي : « فعليكم بالنمرقة فيها يلحق المقصر ويرجع إليها الغالي ». (٤)

ــــــــــــــــــ

١ ـ مريم : ١٢.

٢ ـ لسان العرب : ١٢/١٤٠ ، ط بيروت ، مادة حكم.

٣ ـ النساء : ١٧١.

٤ ـ ربيع الأبرار للزمخشري ؛ وفي نهج البلاغة قسم الحكم ، الرقم ١٠٩ ، ما يماثله : « نحن

١٩

عليك بأوساط الأُمور فإنّها

نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً

وقد نقل المترجمون في حقّ الأشعري أُموراً تعد من المغالاة في الفضائل واتّخذوها تاريخاً صحيحاً من دون أي غمز وإنكار في السند ، ونأتي بنموذجين من ذلك :

١ ـ روى ابن عساكر عن أبي الحسين السروي ، الفاضل في الكلام يقول : كان الشيخ أبو الحسن ، يعني الأشعري ، قريباً من عشرين سنة يصلي صلاة الصبح بوضوء العتمة ، وكان لا يحكي عن اجتهاده شيئاً إلى أحد!! (١)

ونحن لا نعلّق على هذا الفضيلة المزعومة بشيء غير أنّها تعد من خوارق العادات ، إذ قلّما يتفق لإنسان أن لا يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة عشرين سنة ، حتى يصلي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة ، أضف إلى ذلك أن سهر الليالي في هذه المدة الطويلة لا يوافق عليه العقل ، ولا يندب إليه الشرع ، وما كان النبي ولا الخلفاء على هذا السلوك ، وقد قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَالنَّهار مُبْصِراً ) (٢)ولازم القيام في الليل على النحو الذي جاء في تلك الرواية ، هو كون النهار سكناً والليل مبصراً. ولأجل عدم انطباق ظاهر الرواية على مقتضى العرف والشرع ، عمد بعض المترجمين إلى تحريف الرواية وقال : ويحكي أبو الحسين السروي (٣) عن عبادته في الليل واشتغاله ما يدل على حرصه وقوته في العبادة. (٤)

٢ ـ روى ابن عساكر عن أبي عبد الله بن دانيال يقول : سمعت بندار بن الحسين ، وكان خادم أبي الحسن علي بن إسماعيل بالبصرة ، قال : كان أبو الحسن يأكل من غلة ضيعة ، وقفها جده بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري

ــــــــــــــــــ

النمرقة الوسطى ( بضم النون وسكون الميم وضم الراء ) بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي ».

١ ـ التبيين : ١٤١ ؛ تاريخ بغداد : ١١/٣٤٧.

٢ ـ يونس : ٦٧.

٣ ـ في المصدر : « الشروي » وهو لحن.

٤ ـ مقدمة الإبانة : ١٦ ، بقلم أبي الحسن الندوي.

٢٠