بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

١ ـ إنّ عنوان مباحث ذلك العلم كان قولهم : الكلام في كذا.

٢ ـ لأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم ، كالمنطق للفلسفة.

٣ ـ لأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تُتعلّم بالكلام.

٤ ـ لأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين.

٥ ـ لأنّه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً ، فيشتد افتقاره إلى الكلام.

٦ ـ لأنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه. (١)

إنّ واحداً من هذه الوجوه لا يقبله الذوق ، لأنّ جميعها أو أكثرها مشترك بين علم العقائد وغيره من العلوم ، فلماذا اختص ذاك العلم به ولم يطلق على سائر العلوم؟

والظاهر أنّ تسميته به لأحد وجهين تاليين :

١ ـ إنّ أوّل خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عزّوجلّ ، وأنّه أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فتكلم الناس فيه ، فسمّي هذا النوع من العلم كلاماً واختص به. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ حدوث القرآن وقدمه لم يكن أوّل خلاف وقع في الدين ، بل سبقته عدة خلافات.

منها : كون صيغة الخلافة هي التنصيص أو اختيار الأُمّة ، وبعبارة أُخرى : هل الخليفة بعد رسولالله أبو بكر أو عليّ؟

ومنها : أنّ مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن فاسق ، أو لا مؤمن ولا كافر بل منزلة بين المنزلتين ، أو كافر؟ فقد أثار أمر التحكيم في ( صفّين ) هذه المسألة.

طرحت هذه المسألة في الأوساط الإسلامية قبل أن يطرح قدم القرآن أو حدوثه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح العقائد النسفية : ١٥ ، طبع بغداد سنة ١٣٢٦ هـ.

٢ ـ الوفيات : ١/٦٧٧.

٦١

ومنها : أنّ الإيمان إذعان وقول وعمل ، أو إذعان فقط ، أو إذعان بشرط الإظهار ، إلى غير ذلك من الوجوه.

ومنها : مسألة الجبر والاختيار ، وسيادة القدر على حرية الإنسان بل على قدرة الرب فلا يغير ولا يبدل المقدر ، أو غير ذلك.

فهذه المسائل متقدمة على البحث عن قدم القرآن وحدوثه.

وإنّما طرحت هذه المسألة في أوائل الخلافة العباسية بين الأوساط.

نعم ، ينسب القول بالحدوث إلى آخر الخلفاء من المروانيّين ، وأنّه أخذ حدوث القرآن عن الجعد بن درهم ، ولم يوجد القول بالقدم والحدوث في أواخر المروانيّين دوياً بين الناس.

٢ ـ إنّ تسمية علم العقائد بالكلام لأجل أنّ ذاك العلم بالصورة العقلية كان مهنة للمعتزلة وحرفة لهم ، وبما أنّ هؤلاء كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا يدافعون عن عقيدتهم بأفصح العبارات وأبلغها وأوكدها ، فلذلك اشتهروا بأصحاب الكلام ، وسمِّي من لصق بذلك وتمهّر فيه متكلماً ، والله العالم.

٦٢

الإمام الأشعري

آراؤه ونظرياته

استعرض الشيخ الأشعري آراءه ونظرياته حول المبدأ والمعاد ، وأسمائه سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، وما يمت إلى ذلك بصلة في كتاب « اللمع » واستمد في إثباتها من الأدلّة العقلية بوفرة ، وعززها بالأدلّة النقلية ، ونحن ندرس أُصول ما استعرضه واحداً بعد واحد ، ونعتمد على كتبه الثلاثة ، وعلى « اللمع » بالأخص ، لمّا عرفت من تميزه على الآخرين ، وإليك عناوين بحوثه :

١ ـ استدلاله على وجوده سبحانه.

٢ ـ البارئ لا يشبه المخلوقات.

٣ ـ استدلاله على وحدانية الصانع.

٤ ـ إعادة الخلق المعدوم جائز.

٥ ـ الله سبحانه ليس بجسم.

٦ ـ صفاته الذاتية.

٧ ـ صفاته قديمة لا حادثة.

٨ ـ صفاته زائدة على ذاته.

٩ ـ رأيه في الصفات الخبرية.

١٠ ـ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.

١١ ـ الاستطاعة مع الفعل لا قبله.

٦٣

١٢ ـ رؤية الله بالأبصار في الآخرة.

١٣ ـ كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي.

١٤ ـ كلامه سبحانه غير مخلوق أو قديم.

١٥ ـ عمومية إرادته لكلّ شيء.

١٦ ـ إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن ( التعديل والتجوير ).

٦٤

(١)

استدلاله على وجود الصانع سبحانه

قال : الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ، ثمّ علقة ، ثم مضغة ، ثم لحماً ، ودماً ، وعظماً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال ، لأنّا نرا هـ في حال كمال قوته وتمام عقل هـ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة ، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك ، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال ، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.

ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل ، إلى الفتل ، إلى الثوب ، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان ، فلو دلّ ذلك على وجوده ، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة ، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال ، وقد قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) (١). وقال سبحانه : (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع

ــــــــــــــــــ

١ ـ الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩.

٢ ـ الذاريات : ٢١.

٦٥

صنعهم ومدبر دبرهم. (١)

يلاحظ على هذا الدليل :

أوّلاً : أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت ، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة ، أو حاجة الحادث إلى السبب.

وبعبارة أُخرى : معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل ، والاستدلال به ما أمكن.

ثانياً : أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة ، فهو في حال العجز أولى.

وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه ، في جمل في غاية الفصاحة فقال : « أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشغف الأستار ، نطفة دهاقاً ، وعلقة محاقاً ، وجنيناً وراضعاً ، ووليداً ويافعاً ، ثمّ منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً ». (٢)

ثالثاً : أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة ، من أجل إقناع عامة البشر ، مؤمناً كان أم كافراً ، ولا يكتفي بالتعبّد ، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً ، وللتعبّد مكاناً آخر ، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان ، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته ، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه ، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.

ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء بأمر غير تام ، فاستدلّ على أنّ

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ١٨.

٢ ـ نهج البلاغة : ١/١٤٠ ، الخطبة ٨٠ ، ط مصر.

٦٦

هناك ناقلاً ومدبراً غير الإنسان بقوله : « إن الإنسان لوجهد أن يزيل عن نفسه الكبر لم يمكنه ذلك » وجعل هذا دليلاً على أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر ، ولكن الملازمة غير ثابتة ، إذ لمشكّك أن يقول : إنّه قادر على نقل نفسه من الشباب إلى الهرم ، ولكنّه غير قادر على العكس ، ولا ملازمة بين القدرة على القضية الأُولى والقدرة على القضية الثانية ، فالإنسان الضعيف قادر على قذف الجسم الثقيل من السطح إلى الأرض ، وليس بقادر على رفعه منها إليه ، وقس على ذلك الأمثلة الأُخرى.

٦٧

(٢)

البارئ لا يشبه المخلوقات

استدلّ على تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات بأنّه لو أشبهها لكان حكمه في الحدوث حكمها ، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها في جميع الجهات أو في بعضها ؛ فلو أشبهها في جميع الجهات ، كان محدثاً مثلها من جميع الجهات ، وإن أشبهها في بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها ، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديماً وقد قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء ) (١).

وقال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفواً أَحَد ) (٢) (٣).

ويلاحظ على هذا الدليل : أنّ صلب البرهان عبارة عن كون المشابهة من جميع الجهات أو بعضها يلازم كونه محدثاً ، وهذه الملازمة في مجال المشابهة في جميع الجهات أمر صحيح لا غبار عليه.

ولكن المشابهة في بعض الجهات مع التحفّظ على قدمه سبحانه لا تستلزم حدوثه.

فلو قالت المشبهة : بأنّ الله قديم ولكن له يد وجارحة مثل يد الإنسان وجوارحه ، فالمشابهة من بعض الجهات مع حفظ القدم لا ينتج كونه محدثاً.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الشورى : ١٠.

٢ ـ الأخلاص : ٤.

٣ ـ اللمع : ٢٠.

٦٨

والحاصل أنّ المشابهة من بعض الجهات ـ مع القول بكونه قديماً ـ لا يستلزم الحدوث.

نعم لو اعتمد الشيخ على أنّ المشابهة للمخلوق في أيّة جهة من الجهات ، لا تنفك عن الحاجة ، والحاجة آية الإمكان صحّ الاستدلال ، لأنّ الممكن لا يكون واجب الوجود ، وما ليس بواجب فهو حادث ذاتاً أو زماناً ، والكلّ محتاج إلى علة واجبة.

وفي مورد المثال : لو كان لذاته مكان كسائر الأجسام لكان لها حيز ، فتكون محتاجة إلى الحيز ، الحاجة لا تجتمع مع وجوب الوجود وتتناسب مع الإمكان ، والموصوف به إمّا حادث ذاتي أو حادث زماني ، فالأشياء الممكنة المجردة ، لها الحدوث الذاتي ، والأشياء الممكنة الواقعة في إطار الزمان ، لها الحدوث الزماني.

وباختصار : إنّ الاكتفاء بكون المشابهة مستلزمة للحدوث ، لا يوجب كون البرهان منتجاً ، وإنّما ينتج البرهان إذا كانت المشابهة منجرة إلى الحاجة المضادة لوجوب الوجود حتى ينتهي الأمر إلى إمكانه وحدوثه.

٦٩

(٣)

استدلاله على وحدانية الصانع

استدلّ الشيخ الأشعري على وحدانية الصانع ببرهان التمانع ، وقال : إنّ الصانعَيْن المفترضين لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتّسق على أحكام ، ولابدّ أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما ، لأنّ أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً ، وأراد الآخر أن يميته ، لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً ، أو لا يتم مرادهما ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً ، لأنّه يستحيل أن يكون الجسم حياً وميتاً في حال واحدة.

وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً.

وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما ، والعاجز لا يكون إلهاً وقديماً ، فدلّ ما قلناه على أنّ صانع الأشياء واحد ، وقد قال الله تعالى : ( لَوْكانَ فِيهِما آلِهةٌ إِلاّالله لَفَسدَتا ) (١) (٢).

يلاحظ على ما أفاده :

أوّلا : أنّ ما ذكره هو برهان التمانع الوارد في الكتب الكلامية ، ولكنّه لم يستقص جميع شقوقه ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الإلهين بما أنّهما عالمان ـ بما لا

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ اللمع : ٢٠ ـ ٢١.

٧٠

نهاية لعلمهما ـ واقفان على المصالح والمفاسد ، وما يصحّ فعله ممّا لا يصحّ ، فيتّفقان على ما فيه المصلحة والحكمة.

ومن المعلوم أنّه ليس إلاّ أمراً واحداً ، فحينئذ تتحد إرادتهما على إيجاد ما اتّفقا عليه ، فإنّ الاختلاف في الإرادة إمّا ناشئ من حبّ الذات ، فيقدّم ما فيه المنفعة الشخصية على غيره ، أو ناشئ من الجهل بالمصالح والمفاسد ، وكلا العاملين منفيان عن ساحة الإلهين المفروضين.

ولأجل استيعاب جميع الشقوق تجب الإجابة عن هذا الشق أيضاً.

وموجز الإجابة ( والتفصيل يطلب من الأسفار الكلامية ) أنّ تعدد الصانع في الخارج يدلّ على وجود تباين واختلاف بينهما في أمر من الأُمور ، فهما إمّا متباينان في جميع الذات ، ( كما هو الحال في الأجناس العالية ، فإنّ الجوهر يباين العرض بتمام الذات ) أو في بعضها كتباين نوع من نوع آخر ( مثل الإنسان بالنسبة إلى الفرس ) أو في الشخصيات والتعينات.

وعلى كلّ تقدير يجب أن يكون هناك نوع من التباين والاختلاف ولو من جهة واحدة ، وفي مرحلة من مراحل الوجود ؛ وإلاّ فلو تساويا من جميع الجهات ، لارتفع التعدد وصار المفروضان إلهاً واحداً وهو خلف.

وعلى فرض وجود اختلاف بين الإلهين ، يجب أن يختلف شعورهما وإدراكهما ولو في مورد أو موردين ، إذ لا معنى لأن يتحد تشخيصهما وإدراكهما وعلمهما مع الاختلاف في الذات أو التعيّنات.

وعندئذ ، لا يمكن أن نقول إنّهما يتفقان في جميع الموارد على شيء واحد وهو مقتضى الحكمة والمصلحة ، لأنّ المفروض أنّ كلّواحد يرى فعله موافقاً للحكمة والمصلحة ، ولا دليل على انحصار المصلحة والحكمة في جهة واحدة ، بل من الممكن أن يكون كلا الفعلين مقرونين بالصلاح ولكلّ منهما فلاح.

هذا هو التقرير الصحيح للبرهان.

وثانياً : أنّ قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله) ليس ناظراً إلى

٧١

وحدة الصانع والخالق ، بل الآية تركّز على وحدة التدبير في العالم ، وأنّ مدبّر العالم إله واحد لا غير. والبرهان القرآني على وحدة التدبير جاء ضمن آيتين تتكفّل كلّ واحدة منهما ببيان بعض شقوق البرهان. وإليك الآيتان مع توضيح البرهان :

١ ـ ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ الله رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ ). (١)

٢ ـ(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ )(٢)

توضيح البرهان بجميع شقوقه

إنّ تصوير تعدّد المدبّر للعالم يفترض على صور :

١ ـ أن يتفرد كلّ واحد من الآلهة المفترضة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّواحد ما يريده في الكون دون منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير لأنّ المدبّر متعدد ومختلف في الذات ، ونتيجة تعدّد التدبير طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( لَو كانَ فِيهِما آلهة إِلاّ الله لَفَسدتا ... ).

٢ ـ أن يدبر كلّ واحد قسماً من الكون الذي خلقه ، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به ؛ وهذا الفرض يستلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون ، والحال أنّا نرى في الكون نوعاً واحداً من النظام شاملاً لكلّ جوانب الكون من الذرة إلى المجرة ، وإلى هذا القسم من البرهان يشير قوله سبحانه في الآية الأُخرى ( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ ).

٣ ـ أن يتفوّق أحد الآلهة المفترضة على البقية فيوحّد جهودهم وأعمالهم ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ الأنبياء : ٩١.

٧٢

ويصبغها بصبغة الانسجام والاتحاد ، وعندئذيكون ذلك الإله المتفوّق ، هو الإله الحقيقي دون البقية ، وإلى هذا الشق يشير قوله سبحانه : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض).

وباختصار ، أنّ ما ذكره الأشعري من البرهان على وحدانية الصانع ، غير مستوعب لجميع الشقوق ، وإنّ الآية التي استشهد بها ليست راجعة إلى وحدانية الصانع ، بل راجعة إلى وحدانية المدبّر.

والفرق بين التوحيد في الخالقية والتوحيد في المدبّرية غير خفي على العارف بالمسائل الكلامية.

٧٣

(٤)

إعادة الخلق المعدوم جائز

استدلّ الشيخ الأشعري على جواز إعادة الخلق المعدوم بالبيان التالي :

إنّ الله سبحانه خلقه أوّلاً ، لا على مثال سبقه ، فإذا خلقه أوّلاً لم يعيه أن يخلقه خلقاً آخر.

ثمّ استشهد بالآيات الواردة حول إمكان المعاد ، التي منها قوله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثلاً وَنَسيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيي العِظام وَهَي رَميمٌ* قُلْ يُحييها الّذي أَنْشَأها أوّل مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليمٌ )(١).

يلاحظ على ما ذكره : أنّ هنا مسألتين يجب فصل كلّ منهما عن الأُخرى :

الأُولى : إعادة الخلق الأوّل بعد فنائه بتلاشيه وتفرّق أجزائه ، وهذا ما أخبرت عنه الشرائع السماوية ، واستدلّ القرآن على إمكانه بطرق متعددة نشير إليها عن قريب ، ومثل هذا ليس إعادة للخلق الأوّل بعد انعدامه من جميع الجهات ، بل هو إحياء للمواد المبعثرة من الإنسان بإعادة الروح إليها. والحاكم بأنّ الإنسان المعاد هو الإنسان المبتدأ ، هو وحدة الروح المجردة المتعلّقة في كلّ زمن ببدن خاص ، والروح لا تفنى بفناء المادة ، ولا تنفك أجزاؤها.

ــــــــــــــــــ

١ ـ يس : ٧٨ ـ ٧٩.

٧٤

وقد استدلّ القرآن على إمكان هذا النوع من الإعادة بطرق مختلفة نأتي بأُصولها :

١ ـ الاستدلال بعموم القدرة ، مثل قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِر عَلى أَنْ يُحْييَ الْمَوتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ ) (١).

٢ ـ قياس الإعادة على الابتداء ، كما في قوله سبحانه : (كَما بَدَأنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ )(٢).

٣ ـ الاستدلال على إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض بالمطر والنبات ، كما في قوله سبحانه : (وَيُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ )(٣).

٤ ـ الاستدلال بالوقوع على الإمكان ، فإنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل ( البقرة : ٦٧ ـ ٧٣ ) وحديث عزير ( البقرة : ٢٥٩ ).

٥ ـ الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنة وزيدت عليها تسع ، فإنّ النوم أخو الموت ، ولا سيّما الطويل منه. والقيام من هذا النوم يشبه تجدّد الحياة وتطوّرها.

٦ ـ قياس قدرة الإعادة على قدرة إخراج النار من الشجر الأخضر ، كما في قوله سبحانه : (قُلْ يُحْيِيها الَّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليم*الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِالأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون )(٤).

هذه هي البراهين المشرقة التي اعتمد عليها القرآن فيما يتبنّاه من إمكان المعاد ووقوعه ، وهذه المسألة لا تمتّ إلى المسألة التالية بصلة.

الثانية : إعادة المعدوم من جميع الجهات ، بعينه لا بمثله ، وهذا هو الذي

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأحقاف : ٣٣.

٢ ـ الأنبياء : ١٠٤.

٣ ـ الروم : ١٩.

٤ ـ يس : ٧٩ ـ ٨٠.

٧٥

ادّعى الشيخ الرئيس ابن سينا الضرورة على امتناعه ، وأقام البراهين عليه ، ونذكر منها ما يناسب وضع كتابنا.

إنّ إعادة الشيء المعدوم من جميع الجهات نوع إيجاد له ، والمفروض أنّ هذا الإيجاد يغاير الإبداع الذي تعلّق بإيجاده قبل أن يكون معدوماً. ومع تعدّد الإيجاد وتعدّد أعمال القدرة كيف يكون المعاد نفس المبتدأ من جميع الجهات. نعم ، يكون المعاد مثل المبتدأ لا عينه ، ولأجل الإيضاح نأتي بمثال :

إذا قام الإنسان بخلق صورة الفرس بالشمعة اللينة ، ثمّ محا الصورة التي أوجدها وأعادها ثانياً ، فلا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ الصورة الثانية عين الأُولى ، لأنّ الأُولى تعلّقت بها قدرة وأوجدت بإيجاد خاص ، والثانية تعلّقت بها قدرة أُخرى في زمان آخر ، وأُوجدت بإيجاد ثان ، والقدرتان مختلفتان ، والإيجادان متعدّدان ، فكيف يكون الموجدان واحداً بل لا مناص على القول باختلافهما. فإذا لم يصحّ إعادة المعدوم في المثال المذكور ( الذي كانت المادة فيه محفوظة والصورة فقط منعدمة ) فكيف يصحّ فيما كانت الصورة والمادة معدومتين غر باقيتين؟

هذا هو الفرق البارز بين المسألتين ، ولم يشر الشيخ الأشعري إلى الفرق بينهما.

٧٦

(٥)

الله سبحانه ليس بجسم

لقد أكّد الشيخ الأشعري على تنزيه الله سبحانه عن الجسم والجسمانيات في كتاب « اللمع » بشكل واضح ، وبذلك امتاز منهجه عن منهج كثير من أهل الحديث الذين لا يتورّعون عن إسناد أُمور إليه سبحانه تلازم تجسيمه وكونه ذا جهة. وقد أوضحنا حال هذه الطائفة عند البحث عن عقائد أهل الحديث والحنابلة في الجزء الأوّل.

وأمّا البرهان الذي اعتمد عليه الشيخ فيرسمه في العبارة التالية :

فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً؟

قيل له : أنكرنا ذلك لأنّه لا يخلو أن يكون القائل بذلك أراد أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً ، أو يكون أراد تسميته جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً عميقاً ، فإن أراد الأوّل فهذا لا يجوز ، لأنّ المجتمع لا يكون شيئاً واحداً ، لأنّ أقلّ قليل الاجتماع لا يكون إلاّمن شيئين ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً. وقد بيّنا آنفاً أنّ الله عزّوجلّ شيء واحد ، فبطل أن يكون مجتمعاً. وإن أردتم الثاني فالأسماء ليست إلينا ، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى باسم لم يسمِّ به نفسه ، ولا سمّاه به رسوله ، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ توحيده سبحانه على مراتب نذكر منها ماله صلة بالمقام :

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٢٤.

٧٧

١.توحيده سبحانه بمعنى أنّه واحد لا نظير له ولا مثيل. وهذا ما يعنى من قوله سبحانه : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ) (١) ، وقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) (٢) ، وهذا القسم منالتوحيد يهدف إلى أنّ واجب الوجوب بالذات واحد لا يتثنى ولا يتكرر ، ليس له نظير ولا مثيل.

٢ ـ توحيده سبحانه بمعنى بساطة ذاته وتنزهه عن أنواع التركيب والكثرة في مقام الذات. ولعل « الأحدية » التي يخبر عنها القرآن في الآيات الكريمة ، عبارة عن هذا النوع من التوحيد ، وهو بساطة الذات والتنزّه عن التركيب والكثرة. قال سبحانه : (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ )(٣).

وفي ضوء هذين التوحيدين نخرج بالنتيجتين التاليتين :

أ. الله سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل.

ب. الله سبحانه أحد ، بسيط ، لا جزء لذاته ولا تركيب.

وهناك قسم ثالث من التوحيد ، وهو التوحيد في الخالقية ، وأنّه ليس في صفحة الوجود خالق إلاّ هو ، وخالقية الفواعل الأُخر بالاعتماد عليه والاستمداد من خالقيته سبحانه.

إذا عرفت ذلك ، تعرف الخلط في كلام الشيخ الأشعري بوضوح ، لأنّ ما تقدّم منه في البحث السابق هو وحدة صانع العالم ، ولكن ما هو مقدمة برهانه هنا بساطة ذاته وعدم تركبه من شيء ، ولم يسبق ذلك في البحث السابق حتى يعتمد عليه في إثبات ما يتبنّاه من : « أنّه سبحانه ليس جسماً ، لأنّ الجسمانية تستلزم كون الشيء عريضاً طويلاً مجتمعاً عميقاً. وهو يلازم الكثرة ، والكثرة لا تجتمع مع الوحدة ».

وعلى ذلك فلا يتم برهان الشيخ إلاّإذا برهن على بساطة الذات ووحدتها

ــــــــــــــــــ

١ ـ الاخلاص : ٤.

٢ ـ الشورى : ١٠.

٣ ـ الاخلاص : ١.

٧٨

وعدم تكثّرها عقلاً ولا خارجاً ، وإلاّ لا يكون برهانه موضوعياً معتمداً على شيء أثبته من قبل.

نعم ، في وسع الشيخ أن يبرهن على البساطة بأنّ الكثرة الخارجية أو الذهنية تستلزم احتياج الواجب إلى أجزائه ، والمحتاج لا يكون واجباً ، بل ممكناً.

٧٩

(٦)

صفاته الذاتية

اتّفق الإلهيون على أنّه سبحانه : عالم ، قادر ، حي ، سميع ، بصير ، وهذه هي الصفات الذاتية حسب مصطلح المتكلّمين ، والصفات الثبوتية الكمالية حسب مصطلح متكلّمي الإمامية. وهي في مقابل صفات الفعل ، أعني : ما ينتزع لا من مقام الذات بل من مقام الفعل ككونه رازقاً ، محيياً ، مميتاً وغيرها. وإليك نصوص استدلاله في تلك المجالات :

أ. الله سبحانه عالم

استدلّ الأشعري على كونه سبحانه عالماً : بأنّ الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة إلاّ من عالم. وذلك أنّه لا يجوز أن يحوك الديباج بالتصاوير ويصنع دقائق الصنعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه. (١)

ما ذكره من البرهان قد ذكره قبله غيره ببيان رائق وتعبير بديع ، فإنّ إتقان الفعل واستحكامه آية علم الفاعل بشؤون الفعل وما يقوّمه وما يفنيه.

ب. الله سبحانه حيّ قادر

استدلّ على هذا بأنّه لا تجوز الصنائع إلاّمن حيّ قادر ، لأنّه لو جاز

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٢٤.

٨٠