بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

رسمياً للسنّة في جميع الأقطار ، وقلّ من يتخلّف عنه ، وهو مستمر إلى العصر الحاضر.

يقول تقي الدين أبو العباس المقريزي ( المتوفى عام ٨٤٥ هـ ) بعد سرد عقائده إجمالاً : فهذه جملة في أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أُريق دمه. (١)

ولأجل هذه الشهرة نرى أصحاب المذاهب يتجاذبونه إلى مذاهبهم. فالشافعية تقول : إنّه كان شافعياً ، والمالكية تقول : إنّه كان مالكياً. وبما أنّه نشأ في العراق فالظاهر أنّه نشأ على مذهب أبي حنيفة ، وإنّما هو رجع عن الاعتزال الذي هو مذهب كلامي ، ولم يرجع عن مذهب فقهي. ولكن الظاهر من مقدمة كتاب هـ الإبانة ـ أنّه كان على مذهب إمام الحنابلة. وقال الكوثري : إنّ الغاية من هذه المظاهرة هو النفوذ في الحشوية ليتدرج بهم إلى معتقد أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير فلم يعلم مذهبه الفقهي على وجه التحقيق.

هذا والخدمة التي قام بها الأشعري في مقابلة المجسّمة والمشبّهة وأصحاب البدع واليهودية والمسيحيّة خدمة نسبية لا تنكر ، غير أنّ الذي يؤسف المسلم الغيور هو : أن نرى متزمتة الوهابية وبعض رجال الإصلاح في هذا العصر داعين إلى مذهب الحشوية باسم السلفية مقلّدين في كلّ ما يذكره شيخهم ابن تيمية الذي يقول عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم (٢) وتلميذه المعروف بابن القيم الذي يفسر المقام المحمود في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُودا) (٣) بإقعاد الرسول على العرش. (٤)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الخطط المقريزية : ٢/٣٦٠ ، ط مصر.

٢ ـ لاحظ تعليقة التبيين : ٣٩٣.

٣ ـ الإسراء : ٧٩.

٤ ـ بدائع الفوائد : ٤/٣٩.

٤١

٤ ـ مؤلّفاته

وقد فهرس الشيخ نفسه كتبه في كتاب سمّاه « العمدة » كما فهرس غيره. فقد أخرج ابن عساكر أسماء كتبه التي صنّفها إلى سنّة ( ٣٢٠ هـ ) ، وبلغت أسماء كتبه إلى ثمانية وتسعين كتاباً ، غير أنّ أكثر هذه الكتب عصفت بها عواصف الدهر فأهلكتها ، فلم يصل إلينا منها إلاّ القليل. ولعلّ في مكتبات العالم المعمورة بالمخطوطات الشرقية ، بعضاً منها. وإليك دراسة الكتب الموجودة المطبوعة :

١ ـ « الإبانة عن أُصول الديانة » : طبع كراراً ، والطبعة الأخيرة طبعة مكتبة دار البيان بدمشق عام ١٤٠١ هـ ، وعبر عنه ابن النديم في فهرسته ب ـ « التبيين عن أُصول الدين ». (١)

يقول ابن عساكر : إنّ الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره في كتاب « الإبانة » وهجروه ، ويضيف أيضاً : إنّ الشيخ إسماعيل الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلاّ وبِيَده كتاب الإبانة. (٢)

وقد نقل ابن عساكر الفصلين الأوّلين من الكتاب في « التبيين ». وما جاء في مقدّمتها فقد أورده في « مقالات الإسلاميين » عند البحث عن عقائد أهل الحديث باختلاف يسير ، وما جاء به الأشعري في ذينك الكتابين يوافق ما ذكره إمام الحنابلة في عقائد أهل الحديث في كتابه « السنّة » غير أنّ تعبيرات الأشعري إلى التنزيه أقرب من كتاب « السنّة » ، وكلمات « الإمام » إلى التجسيم أميل.

مثلاً : يقول إمام الحنابلة : والله تعالى سميع لا يشك ، بصير لا يرتاب ، عليم لا يجهل ، يقظان لا يسهو ، قريب لا يغفل ، يتكلّم ويسمع وينظر ويبصر ، ويضحك ويفرح ، ويحب ويكره ويبغض ، ويرضى ويغضب ، ويسخط ويرحم ، ويعطي ويمنع ، وينزل تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء ( لَيْسَ كمثله شيء وهو السميع البصير ) وقلوب العباد بين أصبعين

ــــــــــــــــــ

١ ـ هرست ابن النديم : ٢٧١.

٢ ـ التبيين : ٥٨٩.

٤٢

من أصابع الرب عزّوجلّ ، يقلّبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق الله عزّ وجلّ آدم بيده ، السماوات والأرض يوم القيامة في كفه ، ويخرج قوماً من النار بيده ، وينظر أهل الجنّة إلى وجهه ، ويرونه فيكرمهم ، ويتجلّى لهم فيعطيهم ، ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين ، ويتولّى حسابهم بنفسه لا يولي ذلك غيره عزّ وجلّ.

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق ، فهو جهمي كافر ؛ ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل ؛ ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (١)

٢ ـ « مقالات الإسلاميين » ، والكتاب يتناول البحث عن الفرق الإسلامية ، وطبع في جزءين في مجلد واحد عام ١٣٦٩ هـ بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

٣ ـ« اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع » طبع غير مرة ، وهذا خاصة أنضج كتبه ، تجد مستواه فوق كتاب « الإبانة » ، وهو خير مصور لعرض آرائه ونظرياته الكلامية ، ولأجل ذلك نعرض آراءه ونظرياته على ضوء هذا الكتاب.

المقارنة بين الكتابين : «الإبانة» و «اللمع»

إنّ الناظر في أحوال الشيخ أبي الحسن الأشعري يظن بادئ ذي بدء ، أنّه ألّف كلاًّ من الكتابين لنصرة السنّة ، والدفاع عن عقيدة أهل الحديث التي كانت تتمثل يوم ذاك ـ يوم أعلن انفصاله عن المعتزلة وانخراطه في سلك أهل السنّة والحديث ـ في الآراء والعقائد الموروثة عن إمام الحنابلة ، ولكنّه إذا قام بعمل المقايسة والمقارنة بين الكتابين سرعان ما يعدل عن تلك العقيدة ، ويخرج

ــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب السنة لإمام الحنابلة : ٤٩.

٤٣

من البحث بنتيجة تتباعد عنها بكثير ، ويقضي بأنّ « الإبانة » أُلِّفت لنصرة عقيدة أهل الحديث وكسر صولة المعتزلة دون « اللمع » ، لأنّه في الثاني أعمق تفكيراً ، وأشد عناية بالأدلّة العقلية ، ولا يظهر منه أية عناية بابن حنبل ومنهجه العقائدي ، بل يظهر له جلياً أنّ الشيخ في الكتاب الأخير بصدد طرح أُصول يعتقد بها هو ، سواء أكانت موافقة لعقائد الحنابلة أم لا ، وسواء أكان لهم فيها نفي أم لا ، وسواء أوصلت إليها فكرتهم أم لا.

وهذه النتيجة تنعكس على ذهنية القارئ عن طريق طرح الأُصول الموجودة في الكتابين وإليك بيانها إجمالاً :

١ ـ إنّ الشيخ في « الإبانة » : بعد ما طرح في الباب الأوّل عقيدة أهل الزيغ ـ وهم حسب عقيدته عبارة عن المعتزلة والقدرية والجهمية والمرجئة والحرورية والرافضة ـ طرح في الباب الثاني قول أهل الحقّ والسنّة بادئاً كلامه بقوله :

قولنا الذي نقول به ، وديانتنا التي ندين بها : التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ ، وبسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضّر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبت هـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون. لأنّه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، فقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظّم ، وكبير مفخّم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين.

ترى أنّه يجعل عقيدة إمام الحنابلة عدلاً لما روي عن الصحابة والتابعين ، ويعرفه كإمام متمسّك بالحق ومعتصم به ، على وجه يبلغ به مقام العصمة في القول والرأي ، ولكنّه في « اللمع » لا يتحدث عنه أبداً ، ولا يذكر عنه شيئاً ، بل يتفرد بطرح المسائل على ما يتبّناه هو ، وإقامة الدلائل العقلية عليها.

٢ ـ إنّ الأشعري لا يتحدّث في كتاب « الإبانة » عن تنزيه الحقّ جلّ

٤٤

وعلا عن الجسم والجسمانية بحماس وأسلوب صريح ، بل يحاول إثبات الصفات الخبرية ، كالوجه واليدين له سبحانه ، كما يحاول إثبات استوائه على عرشه تعالى ويقول : « وإنّ الله استوى على عرشه » كما قال : (الرَّحْمنُ على الْعَرْشِ اسْتَوى ) (١) ، وإنّ له وجهاً بلا كيفكما قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّك ذُو الجَلالِ والإِكْرامِ ) (٢) ، وانّ له يدين بلا كيف كما قال : (خَلَقْتُ بِيَدي ) (٣) ، وكما قال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) (٤) وإنّ له عيناً بلا كيف كما قال : (تَجري بِأَعْيُننا )(٥) (٦).

ترى أنّه اكتفى في التنزيه بلفظ مجمل وهو قوله : « بلا كيف » مع أنّ اللفظ المجمل لا يفيد الناظر شيئاً ولا يصونه من أن يقع في ورطة التشبيه والتجسيم. ولكنّه في « اللمع » لم يتعرض للوجه واليدين والاستواء على العرش ، بل أهمل ذلك إهمالاً تاماً ، وزاد على ذلك التصريح القاطع بتنزيه الله عن الجسمية ، وعلوِّه أن يكون مشابهاً للحوادث.

٣ ـ ترى بوادر التجسيم في « الإبانة » بوضوح ، ونأتي بنماذج من ذلك :

أ. ما ذكره تأييداً لقوله : إنّ الله عزّوجلّ مستو على عرشه ، أنّه روى نافع بن جبير عن أبيه : ينزل الله عزّوجلّ كلّ ليلة إلى سماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له ، حتى يطلع الفجر. (٧)

ب. إنّه يصر على البينونة التامة بين الخالق والمخلوق ، ويقول : إنّه ليس في خلقه ، ولا خلقُهُ فيه ، وإنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استقرار. (٨)

ــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٥.

٢ ـ الرحمن : ٢٧.

٣ ـ ص : ٧٥.

٤ ـ المائدة : ٦٤.

٥ ـ القمر : ١٤.

٦ ـ الإبانة : ١٨ الأُصول برقم ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩.

٧ ـ الإبانة : ٨٨ ؛ أخرجه أحمد في المسند : ٤/٨١ من حديث جبير.

٨ ـ الإبانة : ٩٢٢.

٤٥

ومع ذلك لم يتفطن لظاهر قوله سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١) وقوله : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إِلاّهُوَ رابِعُهُمْ (٢) والآيتان تنافيان البينونة الكاملة التي يدّعيها الأشعري.

ج. ويستدلّ على أنّ الله في السماء بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأل جارية فقال لها : أين الله؟ قالت : في السماء. فقال : فمن أنا؟ قالت : أنت رسول الله. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرجل الذي كان بصدد عتقها : أعتقها فإنّها مؤمنة. (٣)

د. ويقول : إنّه سبحانه يضع السماوات على اصبع ، والأرضين على إصبع ، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير تكييف (٤) ويكتفي في نفي التجسيم بكلمة مجملة ، أعني قوله : « من غير تكييف ».

٤ ـ إنّ الشيخ في « الإبانة » يصرّح بأنّه لا خالق إلاّ الله ، وأنّ أعمال العبيد مخلوقة لله مقدورة ، كما قال : (وَاللّهُ خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٥) ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون. (٦)

ومن المعلوم أنّ القول بأنّ فعل العبد مخلوق لله لا ينفك عن الجبر وسلب الاختيار عن الفاعل ، لأنّ الفعل إذا كان مخلوقاً له سبحانه ، وكان هو الموجد والمحقّق ، فما معنى كون العبد مسؤولاً عن فعله ـ خيره وشره ـ ؟

ولمّا كان أهل الحديث معتقدين بهذا ( مع كونه نفس الجبر ) أبقاه بحاله ، ولم يشر في كتاب « الإبانة » إلى شيء يعالج تلك المسألة العويصة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الحديد : ٤.

٢ ـ المجادلة : ٧.

٣ ـ الإبانة : ٩٣ والحديث أخرجه مسلم باب تحريم الكلام في الصلاة : ٢/٧١ ، ط مصر.

٤ ـ الإبانة : ٢٢ أخرجه البخاري : ٩/١٢٣ في تفسير قوله : لماخلقت بيدي.

٥ ـ الصافات : ٩٦.

٦ ـ الإبانة : ٢٠ الأصل ١٧.

٤٦

وهذا بخلاف ما في « اللمع » فإنّه أضاف فيه إلى خالقيّة الرب ، كاسبيّة العبد وقال : « إن الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب » وبذلك عالج مشكلة الجبر وخرج من مغبته ، وصحّح مسؤولية العبد لأجل الكسب.

هذه مميزات كتاب « الإبانة » وخصوصياته ، وماجاء فيه من الأُصول ، وجميعها يؤيد أنّه قد أُلّف لغاية نصرة مذهب أحمد بن حنبل ، والذي كان يمثل نظرية أهل الحديث والمحدّثين جميعاً.

وأمّا « اللمع » فقد طرح فيه مسائل ، أهملها في « الإبانة » نشير إلى بعضها :

١ ـ مسألة التعديل والتجويز

إنّ لتلك المسألة دوراً عظيماً في تمييز المنهج الأشعري عن المعتزلي ، ولبّ المسألة يرجع إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين وإنكارهما ، فالمعتزلة على الأوّل والأشعري وأشياعه على الثاني ، و ـ لأجل ذلك ـ أنكروا توصيفه سبحانه بالعدل بالمفهوم المحدد عند العقل ، بل قالوا إنّ كلّ ما يفعله فهو عدل سواء أكان عند العقل عدلاً أم جوراً ، وقد ركّز على ذلك الأشعري في « اللمع » حتى قال : يصحّ لله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة. وهو عادل إن فعله. وكذلك كلّ ما يفعله حتى تعذيب المؤمنين وإدخال الكافرين الجنان ، وإنّما نقول لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (١)

ولكنّه لم يُعلَم إلى الآن أنّ الشيخ من أين علم أنّه لا يجوز عليه تعالى الكذب؟ فإن علم ذلك من إخباره سبحانه بأنّه لا يكذب ، فننقل الكلام إلى إخباره هذا ، فمن أين نعلم أنّه سبحانه لا يكذب في إخباره هذا ( إنّه لا يكذب ) فإنّه كما يحتمل الكذب في سائر إخباره ، يحتمل حتى في نفس هذا الإخبار ؛ وإن علم من حكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والقبيح لا يجوز

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ١١٦.

٤٧

عليه ، فهو عين الاعتراف بالتقبيح العقلي ، ولو في مورد واحد.

ولأجل ذلك قلنا في الأبحاث الكلامية إنّ إثبات الحسن والتقبيح الشرعيّين يتوقف على قبول حكم العقل بقبح الكذب على الشارع ، حتى يثبت بقبوله سائر إخباره بالحسن والقبح. وقبوله في مورد ، يوجب انهدام القاعدة وبطلانها ، أعني كون التحسين والتقبيح شرعيين لا عقليين.

٢ ـ مسألة الاستطاعة والقدرة

لقد فصَّل الإمام الأشعري الكلام في الاستطاعة والقدرة وركَّز على أنّها غير متقدمة على الفعل بل معه دائماً ـ ومع ذلك ـ اعترف بأنّ قدرة الله قديمة متقدمة على فعله ، ولم يعلم وجه التفريق بينهما.

هذا مع أنّ كون إحدى القدرتين واجبة والأُخرى ممكنة ، لا يكون فارقاً في وجوب تقدّم إحداهما على الفعل ، وتقارن الأُخرى معه. ومع أنّ رأيه هذا يخالف الفطرة الإنسانية ، فإنّ كلّ إنسان يرى بالوجدان قدرته على القيام حال القعود ، وعلى المشي حال القيام.

٣ ـ ما هو حدّ الإيمان؟

بحث عن حدّ الإيمان فقال : الإيمان بمعنى التصديق ، وإنّ مرتكب الكبيرة من أهل القبلة مؤمن بإيمانه ، فاسق بفسقه وكبيرته ، لا كافر كما عليه الخوارج ، ولا هو برزخ بين الإيمان والكفر ، كما عليه المعتزلة.

٤ ـ الآيات الواردة حول الوعد والوعيد

طرح الآيات الواردة حول الوعد والوعيد ، وعالج التعارض المتوهَّم بينهما ، حيث إنّ ظاهر بعض آيات الوعيد ، هو تعذيب كلّ فاجر وإن كان موحداً مسلماً ، مثل قوله : (وَإِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحيم ) (١) ، وظاهر بعض الآيات أنّ المسلم الجائي بالحسنة في الجنة ، مثل قوله : (مَنَْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الانفطار : ١٤.

٤٨

خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ) (١) ، فعالج ذلك التعارض الابتدائي بوجه خاص.

والسير في الكتابين والمقارنة بين فصولهما والأُصول المطروحة فيهما ، وكيفية البرهنة عليها ، يعرب للباحث أنّ هناك هوة سحيقة بين مذهب الأشعري في « الإبانة » ، ومذهبه في « اللمع » ، وأنّ تلامذة مدرسته استثمروا ماجاء به الشيخ في « اللمع » ، دون ما في « الإبانة » ، وجعلوه هو الأصل ، وأشادوا بنيانه ، وأكبّوا على دراسته ، ولأجل ذلك أصرُّوا على التنزيه ، وركّزوا على الكسب ، وأسّسوا منهجاً كلامياً ، بين مذهب الحشوية من أهل الحديث والمعتزلة من المتكلّمين.

ما هو الداعي إلى التصويرين المختلفين؟

إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه : إذا كان ما يعتقده الأشعري من الأُصول هو ما جاء به في « الإبانة » ، فما هو الداعي للتصويرين المختلفين في مذهب الحقّ؟

والإجابة عن هذا السؤال مشكلة جداً ، وعلى ضوء ما ذكرناه حول الدوافع التي دعت الشيخ الأشعري إلى الانخراط في سلك أهل الحديث ، يمكن أن يقال : إنّ الهدف الأسمى للشيخ كان هو تعديل عقائد الحشوية ، من أهل الحديث الذين كانوا يتعبّدون بكلّ حديث من دون معالجة أسناده ، أو مضمونه ، وتقييمه في سوق الاعتبار ، وكان تحقّق ذلك الهدف رهن الانخراط في سلكهم ، والرجوع عن أعدائهم ومخالفيهم ، ولذلك أعلن الشيخ التوبة عن الاعتزال ونصرة مذهب إمام الحديث ومقدامه.

ولكن لمّا لم يكن ذلك كافياً في الأخذ بمجامع قلوبهم ، وصرف نفوسهم وأهوائهم إلى نفسه ، عمل كتاب « الإبانة » حتى يرضي قلوبهم ويملأ عيونهم مع إقحام بعض الكلمات التي تناسب التنزيه وتخالف التجسيم فيها.

ولمّا تربّع على سدَّة الحكم وآمنت أصناف من الحشوية به ، أخذ بالتعديل

ــــــــــــــــــ

١ ـ النمل : ٨٩.

٤٩

والإصلاح ، وبيّن ما يعتقد به من المذهب الحقّ ، الذي هو منهج وسط ين العقيدة الحنبلية والمعتزلة ؛ فألّف كتاب « اللمع » ، وبذلك يمكن أن يقال إنّ « الإبانة » أسبق تأليفاًمن « اللمع ».

إنّ ما بين الباحثين عن منهج الإمام الأشعري من يوافقنا في النتيجة ، وقد وصل إليها من طريق غير ما سلكناه ، وإليك نصّه : « إنّ الصورة العقلية التي يصوّرها في « الإبانة » قد صوّرت أوّلاً ، والصورة العقلية التي يصوّرها في « اللمع » قد صوّرت أخيراً ، وإنّها كانت تجديداً لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه ، ويعتقد صحته ، ويدافع عنه ، ويرضاه لأتباعه ، وأسباب هذا الترجيح ـ كون اللمع أُلِّف بعد الإبانة ـ كثيرة ، فمنها ما هو نفسي ، ومنها ما هو علمي.

وممّا يعود إلى الأسباب النفسية أنّنا نرى الأشعري في كتاب « الإبانة » أشرق أسلوباً ، وأكثر تحمّساً ، وأعظم تحاملاً على المعتزلة ، وأكثر بعداً عن آرائهم ، وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبّان تركه أو بُعَيْدَ التنازل عنه ، أمّا من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع باباً مشتركاً في الكتابين ليرى أنّ كتاب « اللمع » في ذلك الباب أحاط بمسائل ، وأجاد في عرض أدلّتها ، وأفاض في بيان اعتراضات خصومه ، وأحسن في الرد عليها ، وذاك ممّا يدلّ على أنّ كتاب « اللمع » لم يكتب إلاّ في الوقت الذي نضج فيه المذهب في نفس صاحبه ، وأنّه لم يصوّره في هذا الكتاب إلاّ بعد أن أصبح واضحاً عنده. (١)

والفرق بين التحليلين واضح ، فعلى ما ذكرناه نحن لم يكن للإمام الأشعري بعد الرجوع عن الاعتزال إلاّ مذهب واحد وفكرة خاصة ، وقد عرضها بعد ما اصطنع الصورة الأُولى ليكسب بها رضى الحنابلة أو يتجنب شرهم.

وعلى ما ذكره ذلك الباحث تكون الصورتان لمرحلتين مختلفتين في تطوّره

ــــــــــــــــــ

١ ـ مقدّمة اللمع للدكتور « حمودة غرابة » : ٧ نقله عن الباحث الغربي « فنسنك » وغيره.

٥٠

الفكري بعد تحوله عن مذهب المعتزلة ، فالصورة الأُولى صورة غير ناضجة ، وربما أعان عليها حنقه على الاعتزال وخصومته معهم ، والصورة الثانية صورة ناضجة أبدتها فاكرته بعد ملاءمة الظروف ورجوع الهدوء إلى ذهنه وفكره.

ثمّ إنّ بين الباحثين الغربيين من يرجّح العكس ، وأنّ الصورة العقلية عنده بعد الرجوع عن الاعتزال ، يعطيها كتاب « اللمع » ، لكنّه لما رحل من البصرة إلى بغداد في أُخريات حياته ووقع تحت نفوذ الحنابلة ألّف كتاب « الإبانة » ، وأثبت الوجه واليدين لله سبحانه. والله أعلم.

٥ ـ رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام

قد أثبت في ذلك الكتاب استحسان الخوض في المسائل الكلامية واستدلّ بالآيات ، وبذلك قضى على فكرة أهل الحديث الذين يحرّمون الخوض في المباحث العقلية ، ويستندون في عقائدهم بظواهر الكتاب والسنّة ، وقد طبع للمرة الثالثة في حيدر آباد الدكن ـ الهند ـ ، عام ١٤٠٠ هـ ـ ١٩٧٩م ، وطبع أيضاً في ذيل كتاب « اللمع » الآنف ذكره ، وهو بكتابه هذا خالف السنّة المتبعة بين أهل الحديث ، كما أثارهم على نفسه ، وبما أنّ تلك الرسالة ـ على اختصارها ـ لا تخلو من نكات وتعرب عن مبلغ وروده بالكتاب وكيفية استنباطه منه ، نأتي بنصّ الرسالة هنا تماماً. قال بعد التسمية والحمد والتسليم :

أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، ومالوا إلى التخفيف والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن أُصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أنّ الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عزّوجلّ بدعة وضلالة ، وقالوا : لو كان هدى ورشاداً لتكلّم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه وأصحابه! قالوا : ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت حتى تكلم في كلّ ما يحتاج إليه من أُمور الدين ، وبيّنه بياناً شافياً ، ولم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه حاجة من أُمور دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزّوجلّ ويباعدهم عن سخطه ؛ فلمّا لم يرووا عنه

٥١

الكلام في شيء ممّا ذكرناه ، علمنا أنّ الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة ، لأنّه لو كان خيراً لما فات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولتكلَّموا فيه ، قالوا : ولأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين : إمّا أن يكونوا علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل جهلوه ؛ فإن كانوا علموه ولم يتكلّموا فيه وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه ، كما وسعهم السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه ، ولأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله ، لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة ؛ فهذه جملة ما احتجّوا به في ترك النظر في الأُصول.

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

أحدها قلب السؤال عليهم بأن يقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل أيضاً إنّه من بحث عن ذلك وتكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً ، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضُلاّلاً إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضلّلتم من لم يضلّله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الجواب الثاني أن يقال لهم : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجهل شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض ، والحركة والسكون ، والجزء والطفرة ، وإن لم يتكلم في كلّ واحد من ذلك معيناً ، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة ، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة ، أُصولها موجودة في القرآن والسنة جملة غير منفصلة.

فأمّا الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن ، وهما يدلاّن على التوحيد ، وكذلك الاجتماع والافتراق ، قال الله تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات عليه وسلامه في قصة أُفول الكوكب الشمس والقمر (١) وتحريكها من مكان إلى مكان ، ما دلّ على أنّ ربّه عزّوجلّ لا يجوز

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٧٥ ـ ٧٩.

٥٢

عليه شيء من ذلك ، وأنّ من جاز عليه الأُفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.

وأمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ أيضاً من الكتاب ، قال الله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا ) (١) ، وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنّه واحد لا شريك له ، وكلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية ، وقوله عزّوجلّ : (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعَضُهُمْ عَلى بَعْض ) (٢) إلى قوله عزّوجلّ : (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ ) (٣).

وكلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد الله إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها ، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنّما هو مأخوذ من القرآن ، فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب ومن قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا : (أَ إِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعيدٌ ) (٤) وقولهم : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) (٥) ، وقولهم : (مَنْ يُحيي العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ ) (٦) وقوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٧) ، وفي نحو هذاالكلام منهم إنّما وردبالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول ، وعلم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقّنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين : منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل وأنكرت الثاني ، وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتج على المقِر منها بالخلق

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ المؤمنون : ٩١.

٣ ـ الرعد : ١٦.

٤ ـ ق : ٣.

٥ ـ المؤمنون : ٣٦.

٦ ـ يس : ٧٨.

٧ ـ المؤمنون : ٣٥.

٥٣

الأوّل بقوله : (قُلْ يُحييها الّذى أَنشَأَها أَوّلَ مَرّة) (١) ، وبقوله : (وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليهِ) (٢) وبقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٣) ، فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً ، فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم ، وأمّا الباري جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه فليس خلقُ شيء بأهون عليه من الآخر ، وقد قيل : إنّ الهاء في « عليه » إنّما هي كناية للخلق بقدرته ، إنّ البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه ، لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون بالولادة والتريبة وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان ، وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة ، وإعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء ، فهي أهون عليه من ابتدائه ، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرّة بالخلق.

وأمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل والثاني ، وقالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا : وجدنا الحياة رطبة حارة ، والموت بارداً يابساً ، وهو من طبع التراب ، فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقاً سوياً ، والضدان لا يجتمعان ، فأنكروا البعث من هذه الجهة.

ولعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ واحد ، ولا في جهة واحدة ، ولا في الموجود في المحل ، ولكنّه يصحّ وجودهما في محلين على سبيل المجاورة ، فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : (الّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٤) ، فردّهم الله عزّ وجلّ في ذلك إلى ما يعرفونه ويشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على برده ورطوبته ، فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة ، لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة ، فجعلها خلقاً سوياً وقال : (كَما

ــــــــــــــــــ

١ ـ يس : ٧٩.

٢ ـ الروم : ٢٧.

٣ ـ الأعراف : ٢٩.

٤ ـ يس : ٨٠.

٥٤

بَدَأْنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ) (١).

وأمّا ما يتكلّم به المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً (٢) وردّهم على الدهرية أنّه لا حركة إلاّوقبلها حركة ، ولا يوم إلاّ وقبلها يوم ، والكلام على من قال : ما من جزء إلاّ وله نصف لا إلى غاية ، فقد وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال : « لا عدوى ولا طيرة » فقال أعرابي : فما بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن أعدى الأوّل؟ » فسكت الأعرابي لمّا أفحمه بالحجة المعقولة.

وكذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة إلاّوقبلها حركة : لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة ، لأنّ ما لا نهاية له لا حدث له ، وكذلك لما قال الرجل : يا نبي الله! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود وعرض بنفيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل لك من إبل؟ فقال : نعم! قال : فما ألوانها ، قال : حمر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هل فيها من أورق؟ »قال : نعم! إنّ فيها أورق ، قال : « فأنّى ذلك؟ » قال : لعلّ عرقاً نزعه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ولعل ولدك نزعه عرق ». فهذا ما علم الله نبيه من ردّ الشيء إلى شكله ونظيره ، وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير.

وبذلك نحتج على من قال : إنّ الله تعالى وتقدّس يشبه المخلوقات ، وهو جسم ، بأن نقول له : لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته ، أو يشبهه من بعض جهاته ؛ فإن كان يشبهه من كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته ، وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه ، لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها له ، ويستحيل أن يكون المحدث قديماً والقديم محدثاً ، وقد

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١٠٤.

٢ ـ بياض في الأصل.

٥٥

قال تعالى وتقّدس : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ) (١) وقال تعالى وتقدّس : (ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواًأَحَدٌ) (٢).

وأمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية وأنّ الجزء لا ينقسم فقوله عزّوجلّ اسمه : (وَكُلُّ شَيء أَحْصَيْناهُ في إِمام مُبينٌ ) (٣) ومحال إحصاء ما لا نهاية له ، ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم (٤) ، لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين ، وقد أخبر أنّ العدد وقع عليهما.

وأمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره وتنتفي عنه كراهيته ، فقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥) ، فلميستطيعوا أن يقولوا بحجة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد ، فلا يكون مع كراهيته له ، فنبّههم أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.

وأمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك تعليم الله عزّوجلّ إيّاه حين لقي الحبر السمين ، فقال له : نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك ، فقال : « ما أنزل الله على بشر من شيء » ، فقال الله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً ) (٦). فناقضه عن قرب ، لأنّ التوراة شيء ، وموسى بشر ، وقد كان الحبر مقرّاً بأنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى.

وكذلك ناقض الذين زعموا أنّ الله تعالى عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار ، فقال تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ) (٧) فناقضهم بذلك وحاجهم.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الشورى : ١٠.

٢ ـ الإخلاص : ٤.

٣ ـ يس : ١٢.

٤ ـ بياض في الأصل.

٥ ـ الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩.

٦ ـ الأنعام : ٩١.

٧ ـ آل عمران : ١٨٣.

٥٦

وأمّا أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى (إِنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ لا يَسْمَعُونَ) (١) فإنّها لمّا نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعرى ـ وكان جدلاً خصماً ـ فقال : خصمت محمداً وربّ الكعبة ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا محمد! ألست تزعم أنّ عيسى وعزيراً والملائكة عبدوا؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سكوت عي ولا منقطع ، تعجباً من جهله ، لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها ، لأنّه قال : َما تَعبدونولم يقل وكلّ ما تعبدون من دون الله ، وإنّما أراد ابن الزبعري مغالطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليوهم قومه أنّه قد حاجّه ، فأنزل الله عزّوجلّ : (إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسنى) يعنى من المعبودين (أُولئِكَ عَنْهَا مُبعدُونَ ) (٢) ، فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، فضجّوا عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم وغلطهم ، فقالوا : (ءَآلهتنا خيرٌ أمْ هُو) يعنون عيسى ، فأنزل الله تعالى : (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذاً قومك منه يصدّون) إلى قوله (خصمون) (٣) ، وكلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل ، وحجة لنا في الكلام فيما نذكره من تفصيل ، وإن لم تكن مسألة معينة في الكتاب والسنّة ، لأنّ ما حدث تعيينها من المسائل العقليات في أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.

والجواب الثالث : إنّ هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجهل منها شيئاً مفصلاً ، غير أنّها لم تحدث في أيام معينة فيتكلم فيها ، أو لا يتكلّم فيها ، وإن كانت أُصولها موجودة في القرآن والسنّة ، وما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلّموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجّوا ، كمسائل العول والجدات من مسائل الفرائض ، وغير ذلك من الأحكام ، وكالحرام والبائن والبتة وحبلك

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ٩٨ ـ ١٠٠.

٢ ـ الأنبياء : ١٠١.

٣ ـ الزخرف : ٥٧ ـ ٥٨.

٥٧

على غاربك. وكالمسائل في الحدود والطلاق ممّا يكثر ذكرها ، ممّا قد حدثت في أيامهم ، ولم يجئ في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها ، وما بقي الخلاف إلى الآن.

وهذه المسائل ـ وان لم يكن في كلّ واحدة منها نصّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّهم ردّوها وقاسوها على ما فيه نصّ من كتاب الله تعالى والسنّة واجتهادهم ، فهذه أحكام حوادث الفروع ، ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تستدرك أحكامها إلاّ من جهة السمع والرسل ، فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك ، لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع ، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه ، ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات ، فلو حدث في أيّام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه الألفاظ لتكلّم فيه وبيّنه ، كما بيّن سائر ما حدث في أيامه من تعيين المسائل ، وتكلّم فيها.

ثمّ يقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصح عنه حديث في أنّ القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق ، فلم قلتم : إنّه غير مخلوق؟

فإن قالوا : قد قاله بعض الصحابة وبعض التابعين.

قيل لهم : يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قال قائل : فأنا أتوقّف في ذلك فلا أقول : مخلوق ولا غير مخلوق.

قيل له : فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع ضال ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل : إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئاً ، ولا قال : ضلّلوا وكفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.

وخبرونا ، لو قال قائل : إن علم الله مخلوق ، أكنتم تتوقّفون فيه أم لا؟

٥٨

فإن قالوا : لا ، قيل لهم : لم يقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أصحابه في ذلك شيئاً ؛ وكذلك لو قال قائل : هذا ربّكم شبعان أو ريان ، أو مكتس أو عريان ، أو مقرور أو صفراوي أو مرطوب ، أو جسم أو عرض ، أو يشم الريح أو لا يشمّها ، أو هل له أنف وقلب وكبد وطحال ، وهل يحج في كلّ سنة ، وهل يركب الخيل أو لا يركبها ، وهل يغتمّ أم لا؟ونحو ذلك من المسائل ، لكان ينبغي أن تسكت عنه ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم في شيء من ذلك ولا أصحابه ، أو كنت لا تسكت ، فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاًمن ذلك لا يجوز على الله عزّوجلّ ، وتقدس كذا وكذا بحجّة كذا وكذا.

فإن قال قائل : أسكت عنه ولا أُجيبه بشيء ، أو أهجره ، أو أقوم عنه ، أو لا أسلم عليه ، أو لا أعوده إذا مرض ، أو لا أشهد جنازته إذا مات.

قيل له : فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل : من سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه ، ولا قال : لا تسلّموا عليه ، ولا : قوموا عنه ، ولا قال شيئاً من ذلك ، فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك ، ولم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن ، ولمَ كفرتموه ، ولم يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث صحيح في نفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.

فإن قالوا : إنّ أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، قال بنفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلّم فيه؟

فإن قالوا : لأنّ العباس العنبري ووكيعاً وعبد الرحمن بن مهدي وفلاناً وفلاناً قالوا إنّه غير مخلوق ، ومن قال بأنّه مخلوق فهو كافر.

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أُولئك عمّا سكت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فإن قالوا : لأنّ عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة وجعفر بن محمد رضي الله عنهم وفلاناً وفلاناً قالوا : ليس بخالق ولا مخلوق.

٥٩

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أولئك عن هذه المقالة ، ولم يقلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة. فإنّه يقال لهم : فلم لم يسكتوا عن ذلك ، ولم يتكلّم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا قال : كفروا قائله.

وإن قالوا : لابدّللعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها.

قيل لهم : هذا الذي أردناه منكم ، فلم منعتم الكلام ، فأنتم إن شئتم تكلّمتم ، حتى إذا انقطعتم قلتم : نهينا عن الكلام ؛ وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجة ولا بيان ، وهذه شهوة وتحكّم.

ثمّ يقال لهم : فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم في النذور والوصايا ، ولا في العتق ، ولا في حساب المناسخات ، ولا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة ، فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلاّلاً إذ فعلوا ما لم يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا ما لم يقله نصاً بعينه ، وصّنفوا ما لم يصنّفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن ولم يقله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.

أنجز والحمد لله ، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وجه تسمية علم الكلام ، بالكلام

قال في المواقف : إنّما سمّي كلاماً إمّا لأنّه بازاء المنطق للفلاسفة ، أو لأنّ أبوابه عنونت أوّلاً بالكلام في كذا ، أو لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه ، أو لأنّه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم. (١)

قد ذكر التفتازاني في « شرح العقائد النسفية » في وجه تسمية علم العقائد بعلم الكلام وجوهاً ستة ، وكلّها مرجوحة ، وإليك نصّه :

ــــــــــــــــــ

١ ـ المواقف : ٨ ـ ٩.

٦٠