بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

وجواباً ، وسمّيت الكتاب « نهاية الإقدام ( بالكسر ) في علم الكلام » (١) وإليك فهرس القواعد :

١ ـ القاعدة الأُولى : في حدوث العالم وبيان استحالة حوادث لا أوّل لها ، واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكاناً.

٢ ـ القاعدة الثانية : في حدوث الكائنات بأمرها بإحداث الله سبحانه.

٣ ـ القاعدة الثالثة : في التوحيد.

٤ ـ القاعدة الرابعة : في إبطال التشبيه.

٥ ـ القاعدة الخامسة : في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل.

٦ ـ القاعدة السادسة : في الأحوال.

٧ ـ القاعدة السابعة : في المعدوم هل هو شيء أم لا ، وفي الهيولي وفي الرد على من أثبت الهيولي بغير صورة الوجود.

٨ ـ القاعدة الثامنة : في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى.

٩ ـ القاعدة التاسعة : في إثبات العلم بالصفات الأزلية.

١٠ ـ القاعدة العاشرة : في العلم الأزلي خاصة ، وأنّه أزلي واحد.

١١ ـ القاعدة الحادية عشرة : في الإرادة.

١٢ ـ القاعدة الثانية عشرة : في كون البارئ متكلّماً بكلام أزلي.

١٣ ـ القاعدة الثالثة عشرة : في أنّ كلام البارئ واحد.

١٤ ـ القاعدة الرابعة عشرة : في حقيقة الكلام الإنساني والنطق النفساني.

١٥ ـ القاعدة الخامسة عشرة : في العلم بكون البارئ تعالى سميعاً بصيراً.

ــــــــــــــــــ

١ ـ نهاية الإقدام : ٤.

٣٤١

١٦ ـ القاعدة السادسة عشرة : في جواز رؤية البارئ تعالى عقلاً ووجوبها سمعاً.

١٧ ـ القاعدة السابعة عشرة : في التحسين والتقبيح ، وبيان أنّه لا يجب على الله تعالى شيء من قبل العقل ، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود الشرع.

١٨ ـ القاعدة الثامنة عشرة : في إبطال الغرض والعلة في أفعال الله تعالى ، وإبطال القول بالصلاح والأصلح واللطف ، ومعنى التوفيق والخذلان والشرح والختم والطبع ، ومعنى النعمة والشكر ، ومعنى الأجل والرزق.

١٩ ـ القاعدة التاسعة عشرة : في إثبات النبوات.

٢٠. القاعدة العشرون : في إثبات نبوة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد نسب إليه غير واحد هذين البيتين وجاءا في أوّل كتاب « نهاية الإقدام » وهما :

لقد طفت في تلك المعاهد كلّها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أُر إّلا واضعاً كف حائر

على ذقن أو قارعاً سن نادم

نكات

١ ـ إنّ القول بميل الرجل إلى القرامطة ، لا يصدقه كلامه في الملل والنحل ، فإنّه قد طرح في هذا الكتاب عقائد الإسماعيلية واستوفى الكلام فيها وختم كلامه بقوله :

وكم ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم ـ إلى أن قال ـ : وقد سددتم ( الطائفة الإسماعيلية ) باب العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد ، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة ، وأن يسلك طريقاً من غير بينة. (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/١٩٧ ـ ١٩٨ ، ط دار المعرفة بيروت.

٣٤٢

٢ ـ يروي الشهرستاني أنّ عقيدة السلف في إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه هو التفويض بقوله :

بالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات ، واقتصر بعضهم على صفات دلّت الأفعال عليها وما ورد به الخبر ، فافترقوا فرقتين :

فمنهم من أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.

ومنهم من توقّف في التأويل وقالوا : لسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها. (١)

٣ ـ إنّ الرجل يتخبط حقاً في عرض عقائد الشيعة ، وكأنّه لم يرجع إلى مصدر شيعي معتبر ، يقول في حقّ هذه الطائفة : إنّ الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أمّا الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس ، وأمّا التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق ، ولما ظهرت المعتزلة والمتكلّمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ». (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الشيعة هم الذين يمثلون أصحاب الإمام علي والسبطين وعلي والسجادوالباقرين والكاظمين... عليهم‌السلام وهؤلاء عن بكرة أبيهم مبرأون عن هذه التهم الساقطة. كيف وهم مقتفون أثر عترة النبي الذين جعلهم الرسول الأعظم قرناء الكتاب في العصمة والهداية ، وقد تواترت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية الثقلين ، وأنّه قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ». (٣)

ــــــــــــــــــ

١و٢ ـ الملل والنحل : ١/٩٣ ، وقد عرفت ما في التفويض من الإشكال.

٣ ـ راجع في الوقوف على مصادره ونصوصه ، كنز العمال : ١/١٧٢ باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

وقد نشرت جماعة دار التقريب بالقاهرة رسالة مستقلة في هذا المجال أنهى فيها صور الحديث وأسناده.

٣٤٣

أفهل يتصور أن يعتقد مقتفو آثارهم تألية الأئمة ، أو تشبيه إله العالم بواحد من الخلق؟!

٤ ـ يقول أيضاً في حقّ الإمامية : صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأُصول وبالمشبهة في الصفات ، متحيرين تائهين. (١)

تمسك الإمامية بالعدل معروف لا شكّ فيه ، وكفى ذلك الكتاب والعقل والسنّة المروية عن طريق أهل البيت ، وأمّا كونهم مشبهين في الصفات ففرية لا يجد الرجل دليلاً عليها في كتبهم ، فهم من أشدّ المنزّهين لله سبحانه عن الصفات الخبرية مثل اليدين والوجه بالمعاني الحقيقية ، وكفى في ذلك خطب علي عليه‌السلام في النهج ، فقد نزّه الباري سبحانه لا عن الصفات الخبرية وحدها ، بل نزّهه عن كونه متصفاً بصفات ذاتية زائدة على ذاته ، بل صفاته سبحانه عندهم نفس ذاته ، لا بمعنى النيابة ، بل بلوغ الذات في الكمال إلى حدّ صارت نفس العلم والقدرة ، قال عليه‌السلام : « لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه ». (٢)

ففي الكتاب نقول ضعيفة ، وساقطة عن هذه الطائفة تحتاج إلى نظارة التنقيب جداً ، فلنكتف بهذا المقدار.

(٦)

الفخر الرازي ( ٥٤٣ ـ ٦٠٦ هـ )

محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أصله من طبرستان ، ومولده في الري وإليها نسبه ، ولد فيها عام ثلاث وأربعين وخمسمائة

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/١٧٢.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

٣٤٤

أو سنة أربع وأربعين ، وتوفّي في « هراة » عام ست وستمائة. (١)

قال ابن خلّكان : فريد عصره ، ونسيج وحده ، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل ، وله التصانيف المفيدة في حقول عديدة ، منها تفسير القرآن الكريم ، جمع فيه كلّ غريب وغريبة ، وهو كبير لكنّه لم يكمله ، ثمّ ذكر تصانيفه وقال : وكل كتبه ممتعة ، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة ، فإنّ الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدّمين ـ إلى أن قال ـ : وكان له في الوعظ اليد البيضاء ، ويعظ باللسانين : العربي والعجمي ، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء ، وكان يحضر مجلسه بمدينة « هراة » أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه ، وهو يجيب كلّ سائل بأحسن إجابة ، وكان رجع بسببه خلق كثيرمن الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنّة ، وكان يلقب بهراة « شيخ الإسلام ».

وقد تخرج في المذهب على والده ضياء الدين عمر ، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري ، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي ، وهو على الأُستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي ، وهو على شيخ السنّة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.

يقول أبو عبد الله الحسين الواسطي : « سمعت فخر الدين ينشد بهراة على المنبر عقيب كلام عاتب فيه أهل البلد :

المرء مادام حياً يستهان به

ويعظم الرزء فيه حين يفتقد (٢)

لا شكّ أنّ الرازي من أئمّة الأشاعرة في عصره ، وقد نصر المنهج الأشعري في تآليفه الكلامية وفي تفسيره خاصة ، يقف عليه كلّ من لاحظ الآيات التي تختلف في تفسيرها المعتزلة والأشاعرة ، وستقف على كلامه في تفسير قوله سبحانه : (الرَّحمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣) ولما كان يناظر الكرامية

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكامل لابن الأثير : ١٢/٢٨٨ ؛ والوفيات : ٤/٢٥٢.

٢ ـ وفيات الأعيان : ٤/٢٤٨ ـ ٢٥٢برقم ٦٠٠.

٣ ـ طه : ٥.

٣٤٥

من أهل التجسيم والتشبيه ويكبتهم في القول بهما صريحاً صار ذلك سبباً للطعن عليه ممن لا يروقه التخطي عن ظواهر النصوص.

يقول الذهبي : وقد بدت في تآليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنّة ، والله يعفو عنه ، فإنّه توفّي على طريقة حميدة ، والله يتولّى السرائر. (١)

وأظن أنّ نسبة الانحراف عن السنّة إليه هو ما نقله صاحب « تاريخ روض المناظر » من ابن الأثير : أنّ السلطان غياث الدين قد أبلغ في إكرام الإمام فخر الدين ، وبنى له المدرسة بهراة ، فعظم ذلك على أهلها الكرامية من الحنفية والشافعية ، فحضروا عند الأمير غياث الدين للمناظرة ، وحضر فخر الدين الرازي والقاضي عبد المجيد بن القدوة وهو أكبر الكرامية وأعلمهم وأزهدهم ، فتكلم الرازي فأعرض عنه ابن القدوة ، وطال الكلام ، وقام غياث الدين فاستطال الرازي على ابن القدوة وشتمه ، فأغضب ذلك الملك ضياءالدين ابن عم غياث الدين ، وذم فخر الدين الرازي ونسبه إلى الزندقة والفلسفة عند غياث الدين ، فلم يصنع إليه شيئاً ، فلما كان الغد وعط ابن القدوة الناس من الغدوة بالجامع ، فحمد الله وصلّى على النبي وقال : رَبّنا آمَنّا بِما أَنْزلتَ وَاتَّبَعنا الرَّسُول فَاكْتُبْنا مع الشّاهدين ، أيّها الناس لا نقول إلاّما صحّ عندنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها ، فلأي ( جهة ) تسنم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيّه ، فبكى وبكت الكرامية ، واستعانوا وثار الناس من كلّ جانب ، وامتلأ الناس فتنة ، وبلغ ذلك السلطان غياث الدين ، فسكن الفتنة وأوعد الناس بإخراج فخر الدين.

ثمّ أمره بالعود إلى هراة ، فعاد إليها ، ثمّ عاد إلى خراسان وحظي عند السلطان خوارزم شاه ابن محمد بن تكش. (٢)

ـــــــــــــــــ

١ ـ سير أعلام النبلاء : ٢١/٥٠١ برقم ٢٦١.

٢ ـ روضات الجنات : ٨/٤٤برقم ٦٨٢.

٣٤٦

ولأجل وجود هذا الجو المشحون بالعداء على أهل التنزيه لا يمكن أن يصدق ما نسبه إليه من الشعر الذي ينتقد فيه المنهج الفكري في العقائد ، أعني :

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أنّ جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال فزالوا والجبال جبال (١)

آثاره في العقائد والكلام

إنّ الرازي كان كثير الإنتاج ، وقد طبع قسم من آثاره نذكر منها ما له صلة بالموضوع :

١ ـ « أسماء الله الحسنى » وهو المسمى « لوامع البينات » طبع بمصر عام ١٣٩٦ وهو كتاب قليلالزلة ويفسر الأسماء بين التشبيه والتعطيل.

٢ ـ « مفاتيح الغيب » في ثمان مجلدات كبار في تفسير القرآن الكريم ، وهو مشحون بالأبحاث الكلامية في مختلف الأبواب ، ويناضل فيه المعتزلة ، وينصر الأشاعرة ، ويرد فيه على سائر الطوائف ، وله من الشيعة الإمامية في الكتاب مواقف تحكي عن عناده ولجاجه ، وأنّه بصدد الرد سواء أصحّ أم لم يصحّ ، وستوافيك وصيته عند الموت.

٣ ـ « محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين » وقد لخصّه المحقّق الطوسي وأسماه« تلخيص المحصل » ونقد منهجه في كثيرمن الموارد ، وقد طبع أيضاً.

٤ ـ « المباحث المشرقية » في جزءين جمع فيه آراء الحكماء والسالفين ونتائج أقوالهم وأجاب عنهم ، طبع في حيدرآباد دكن ، وأُعيد طبعه ب ـ « الأُوفست ».

٥ ـ « شرح الإشارات » لابن سينا على نمط النقد والرد على الشيخ

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٤/٢٥٠برقم ٦٠٠.

٣٤٧

الرئيس ، يقول المحقّق الطوسي في شرحه للإشارات : وقد شرحه فيمن شرحه الفاضل العلاّمة فخر الدين ملك المناظرين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي ـ جزاه الله خيراً ـ فجهد في تفسير ما خفي منه بأوضح تفسير ، واجتهد في تعبير ما التبس فيه بأحسن تعبير ، وسلك في تتبع ما قصد نحوه طريقة الاقتفاء ، وبلغ في التفتيش عمّاا أودع فيه أقصى مدارج الاستقصاء ، إلاّ أنّه قد بالغ في الرد على صاحبه أثناء المقال ، وجاوز في نقض قواعده حدّ الاعتدال ، فهو بتلك المساعي لم يزده إلاّ قدحاً ، ولذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحاً ، ومن شرط الشارحين أن يبذلوا النصرة لما قد التزموا شرحه بقدر الاستطاعة ، وأن يذبّوا عمّا قد تكفلوا إيضاحه ، بما يذب به صاحب تلك الصناعة ، ليكونوا شارحين غير ناقضين ، ومفسرين غير معترضين.

اللّهمّ إلاّ إذا عثروا على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح ، فحينئذ ينبغي أن ينبهوا عليه بتعريض أو تصريح ، متمسكين بذيل العدل والإنصاف ، متجنبين عن البغي والاعتساف ، فإنّ إلى الله الرجعى ، وهو أحقّ بأن يخشى. (١)

إلى غير ذلك من الآثار الفكرية العقيدية.

تصلّبه في المنهج الأشعري

إنّ الرازي في تفسيره وأكثر كتبه متصلّب في المنهج الأشعري ، ويكفي في ذلك ما ذكره في تفسير قوله سبحانه : الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى عند الإجابة على كلام صاحب الكشاف. ينقل عن صاحب الكشاف قوله : « لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلاّ مع الملك ، جعلوه كناية عن الملك ، فقالوا استوى فلان على البلد يريدون « ملك » وان لم يقعد على السرير البتة ، وإنّما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنّه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك.

ونحوه قولك : « يد فلان مبسوطة » و « يد فلان مغلولة » بمعنى أنّه جواد

ـــــــــــــــــــ

١ ـ الإشارات والتنبيهات : ١/٢.

٣٤٨

وبخيل ، لا فرق بين العبارتين إلاّفيما قلت حتى إنّ من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً ، قيل فيه يده مبسوطة ، لأنّه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد. ومنه قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُود يَدُ الله مَغْلُولَة غُلَّت أَيْدِيهِمْ ـ أي هو بخيل ـ بلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان )أي هو جواد من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط. والتفسير بالنعمة والتمحّل للتسمية من ضيق العطن ».

ويقول الرازي : وأقول : إنّا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية ، فإنّهم يقولون : المراد من قوله : فَاخْلَعْ نَعْلَيْك : الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل ، وقوله : (يا نار كُوني بَرداً وسَلاماً على إِبراهيم)المراد منه : تخليص إبراهيم عليه‌السلام من يد ذلك الظالم ، من غير أن يكون هناك نار وخطاب ألبتة.

وكذا القول في كلّ ما ورد في كتاب الله تعالى ، بل القانون أنّه يجب حمل كلّ لفظ ورد في القرآن على حقيقته ، إلاّ إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه ، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه. (١)

أظن أنّ الرازي يقول في لسانه ما ليس في قلبه ، فإنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه واضح لا يخفى على مثل الرازي. فإنّ القرائن الحافّة بالكلام في مسألة الاستواء على العرش ، قاضية بأنّ المراد هو الاستيلاء على القدرة لا جلوسه عليه ، وقد ذكرنا القرائن الموجودة في نفس الآيات الدالّة على ذلك المعنى عند البحث عن الصفات الخبرية (٢) ، وهذا بخلاف الآيات التيتؤوّلها الباطنية فإنّها تأويلات بلا دليل.

نظرة في تفسير الرازي

إنّ تفسير تفسير الرازي مع كونه تفسيراً على الكتاب العزيز كموسوعة كلامية في مختلف الأبواب. فينقل آراء الطوائف الإسلامية في مجالات مختلفة ، فيدافع

ــــــــــــــــــــ

١ ـ مفاتيح الغيب : ٦/٦ ، طبع مصر.

٢ ـ لاحظ بحث الصفات الخبرية من هذا الكتاب مضافاً إلى دلالة العقل على امتناع اتصافه سبحانه بأحكام المحدّثات والممكنات.

٣٤٩

عن الأشاعرة ويهاجم المعتزلة بحماس بالغ ، فمن أراد الوقوف على آرائه فعليه بفهارس الأجزاء التي جاءت الإشارة فيها إلى استدلال الأشاعرة أو المعتزلة أو الإمامية على ما يتبنونه من المذاهب ، ونحن نترك ذلك المجال للقارئ الكريم.

ولكن نركز هنا على نكتة ، وهي أنّ الرازي يخالف الإمامية في غالب المجالات ، خصوصاً فيما يرجع إلى مباحث الإمامة والآيات الواردة في حقّ الإمام علي عليه‌السلام ، فيورد التشكيك تلو الآخر في كثير من القضايا التاريخية والأحاديث المستفيضة ، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة في موارد نأتي بها أداءً لحقّه في المقام :

١ ـ من اقتدى بعلىّ فقد اهتدى

اختلف الفقهاء في الجهر بالبسملة في الصلاة ، واستدلّ الرازي على استحباب الجهر بها : بأنّ علياً كان يجهر بها ، وقد ثبت ذلك بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار ». (١)

٢ ـ الكوثر أولاد الرسول

يفسر الرازي الكوثر بأولاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول في عداد الأقوال : « القول الرابع » الكوثر : أولاده ، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به. ثمّ انظر ، كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام والنفس الزكية وأمثالهم. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ مفاتيح الغيب : ١/١١١ ، الحجة الخامسة.

٢ ـ مفاتيح الغيب : ٨/٤٩٨.

٣٥٠

٣ ـ المسح على الرجلين

استرسل الرازي في الكلام على وجوب المسح على الأرجل على وجه ، كأنّ المسح هو خيرته ، وإليك كلامه : « اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أنّ الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل. وقال ابن داود الإصفهاني : يجب الجمع بينهما ، وهو قول الناصر للحق من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلّف مخيّر بين المسح والغسل ».

حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله : وأَرجلكم فقرأ ابن كثير وحمزة وابو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب.

فنقول : أمّا القراءة بالجر ، فهي تقضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله : « جحر ضب خرب » وقوله : « كبير أناس في بجاد مزمل »؟ قلنا : هذا باطل من وجوه :

الأوّل : إنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه.

وثانيها : إنّ الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جحر ضب خرب » فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

وثالثها : إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

وأمّا القراءة بالنصب فقالوا إنّها أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله وامسحوا برؤوسكم فرؤوسكم في محل النصب ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس ، جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس

٣٥١

والجر عطفاً على الظاهر. وهذا مذهب مشهور للنحاة.

إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى : وأرجلكمهو قوله : وامسحوا ويجوز أن يكون هو قوله : واغسلوالكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فجب أن يكون عامل النصب في قوله : وَأرجلكم هو قوله وامسحوا ، فثبت أنّ قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً ، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ، ثمّ قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنّها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. (١)

وصية الرازي عند الموت

لمّا مرض الرازي وأيقن أنّه ملاق ربّه ، أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الإصفهاني وصية في الحادي والعشرين من محرم سنة ٦٠٦ ـوممّا جاء في تلك الوصية : يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه ، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة....

فاعلموا أنّي كنت رجلاً محباً للعلم ، فكنت أكتب في كلّ شيء شيئاً لا أقف على كميته وكيفيته ، سواء أكان حقّاً أم باطلاً أم غثّاً أم سميناً...

وأمّا الكتب العلمية التي صنفتها أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدّمين فيها ، فمن نظر في شيء منها ، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضيل والإنعام ، وإلاّ فليحذف القول السيّء فإنّي ما أردت إلاّ تكثير البحث ، وتشحيذ الخاطر والاعتماد في الكلّ على الله تعالى. (٢)

وغير خفي على من سبر كتب الرازي في الكلام والفلسفة والتفسير وغيرها ، أنّه يشكك في كثير من المسائل المسلّمة ، وربما يبالغ بأنّه لو اجتمع الثقلان على الإجابة عن هذا الإشكال لما قدروا. (٣) ولعل هذه الندامة الظاهرة

ــــــــــــــــــ

١ ـ مفاتيح الغيب : ٣/٣٨٠ ـ ٣٨١ ، طبع مصر.

٢ ـ دائرة المعارف ، القرن الرابع عشر ، فريد وجدي : ٤/١٤٨ ـ ١٤٩.

٣ ـ شرح المواقف : ٨/١٥٥.

٣٥٢

منه حين الموت تكون كفّارة لبعض هذه التشكيكات ، والله العالم.

(٧)

سيف الدين الآمدي ( ٥٥٦ ـ ٦٢١ هـ )

أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي ، الفقيه الأُصولي الملقب ب ـ « سيف الدين الآمدي » كان حنبلي المذهب ، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي ، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي ، ولما بلغ الدرجة الممتازة انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول ، وحفظ منه الكثير وتمهر فيه ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم ، ثمّ انتقل إلى الديار المصرية ، ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة ، وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء ، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم ، وهذه شنشنة يعرفها التاريخ من الذين أعدموا العقل وصلبوه وشوهوا صورة الشريعة ، واعتمدوا في كلّ شيء حتى فيما يجب ثبوته قبل ثبوت الشرع ، على الحديث ، ورأوا الاشتغال بالعلوم العقلية كفراً وزندقة فابتلي الآمدي (١) بهؤلاء المتزمّتين ، وقبله الشهرستاني كما عرفت ذلك في ترجمته.

ينقل ابن خلّكان أنّ رجلاً منهم لمّا رأى التحامل وإفراط التعصب على الآمدي كتب في المحضر الذي أعدّوه للسعاية عليه :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

والله أعلم وكتب : فلان بن فلان.

ولعل الحسد ـ في جميع العصور التي قام فيها هؤلاء بقمع أهل الفكر والعقل وطردهم عن الساحة الإسلامية ـ كان أحد العوامل الباعثة على التكفير والتفسيق ، والقتل والصلب ، وكان هناك عامل آخر أشد تأثيراً في هذه المجالات ، وهو سوء الوعي وقلّة العمق في المخالفين ، إذ لم يعرفوا أنّ الإسلام

ـــــــــــــــــــ

١ ـ الآمدي : منسوب إلى آمد وهي مدينة في ديار بكر.

٣٥٣

يحارب الجمود والتقليد ، ويتآخى فيه العقل والشرع ، وتتحد فيه نتيجة البرهنة والتعبد.

ومن جراء هذه القلاقل لم يجد الآمدي بدّاً من مغادرة مصر إلى دمشق ، وعُيّنَ مدرساً بالمدرسة العزيزية ، ثمّ عزل عنها لبعض التهم الفكرية ، وأقام بطّالاً في بيته. وتوفي على تلك الحال سنة ٥٨١ ودفن بسفح جبل قاسيون. (١)

ويشهد لما ذكرنا من السبب ما نقله الذهبي عن سبط ابن الجوزي في حقّه : لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام ، وكان أولاد « العادل » كلّهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق ، وكان يدخل على « المعظم » فلا يتحرك له ، فقلت : قم له عوضاً عني. فقال : ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاّه تدريس العزيزية. فلمّا مات « العادل » أخرج « الأشرف » سيف الدين ونادى في المدارس : من ذكر غير التفسير والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته. فأقام السيف خاملاً في بيته إلى أن مات ودفن بقاسيون.

ولم يكن عمل « العادل » ولا « الشريف » نسيج وحدهما ـ بل لم يزل أهل التعقّل والتفكّر الذين كانوا صفاً كالبنيان المرصوص مقابل الملاحدة والزنادقة ـ مضطهدين مقهورين بيد الحنابلة والمتسمين بأهل الحديث ، وقد بلغ السيل الزبى في العصور السابقة على عصر الآمدي عندما تدخل الخليفة « القادر بالله » العباسي في اختلاف المعتزلة مع الحنابلة وأهل الحديث ، وأصدر كتاباً ضد المعتزلة يأمرهم بترك الكلام والتدريس والمناظرة ، وأنذرهم ـ إن خالفوا أمر هـ بحلول النكاية والعقوبة عليهم. وقد سلك السلطان « محمود » في غزنة مسلك الخليفة في بغداد ، فصلب المخالفين ونفاهم وأمر بلعنهم ، وقد اتخذ ذلك سنّة في الإسلام. (٢)

ففي الحقيقة ما صلبوا المعتزلة ، بل صلبوا العقل وأعدموه ، وأبعدوا الدين المبنية أُصوله على الأسس العقلية عن أساسه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٣/٢٩٣ ـ ٢٩٤برقم ٤٣٢.

٢ ـ البداية والنهاية : ١٢/٦ ـ ٧.

٣٥٤

ولم يقتصروا في النكاية على المعتزلة ، بل عمّ التعذيب المفكّرين من الأشاعرة ، الذين كان منهجهم منزلة بين المنزلتين بين الحنابلة والمعتزلة.

والعجب من الذهبي أنّه كيف يصور شخصية علمية مثل السيف بأنّه كان تارك الصلاة.

قال : كان القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة يحكي عن شيخه ابن أبي عمر قال : كنا نتردّد إلى السيف. فشككنا هل يصلي أم لا؟ فنام فعلّمنا على رجله بالحبر. فبقيت العلامة يومين مكانها ، فعلمنا أنّه ما توضّأ ، نسأل الله السلامة في الدين.

أفي ميزان النصفة والعدل ، القضاء بهذه الظنون واستباحة النفوس والأموال بها ، بعد إمكان أنّه تيمّم مكان الوضوء ، وصلى لعذر شرعي بالطهارة الترابية مكان الطهارة المائية وبقي الحبر في محله.

هلم معي إلى سفسطة أُخرى ينقلها الذهبي من شيخه ابن تيمية : يغلب على الآمدي الحيرة والوقف ، حتى أنّه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل ، وزعم أنّه لا يعرف عنه جواباً ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ، ولا وحدانية الله ، ولا النبوات ، ولا شيئاً من الأُصول الكبار.

وما ذكره فرية محضة على السيف ، ونحن نعرض فهرس الموضوعات التي أشبع السيف البحث عنها في كتابه « غاية المرام في علم الكلام » حتى نعرف مدى صدق قوله ، فقد جاء فيها :

القانون الأوّل : في إثبات الواجب بذاته.

القانون الثالث : في وحدانية الباري تعالى.

( ج ) القاعدة الثالثة : في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات.

١ ـ الطرف الثاني : في إثبات الحدوث بعد العدم.

القانون السابع في النبوات ، والأفعال الخارقة للعادات.

٣٥٥

١ ـ الطرف الأوّل : في بيان جوازها بالعقل. (١)

إنّ تعطيل العقول من المعارف العقلية ليس بأقل خطراً من تعطيل ذاته سبحانه وتعالى عن الاتّصاف بالصفات الخبرية ، الذي صار حجّة لدى الحنابلة على تكفير أو تفسيق المعطّلين كيف ، وهو سبحانه يقول : (وَيَتفَكّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٢) ، ويقول تعالى : (وَفي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) ، وقوله تعالى : (إِنَّ في ذلكَ لآيات لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ). (٤)

إلى غير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكّر في الصنع والكون والنفس ، ولم تكن الغاية من تأسيس علم الكلام إلاّ إقامة الحجة على العقائد الإيمانية ، بالأدلّة العقلية والرد على المبتدعة.

إنّ احتكاك الثقافة الإسلامية مع ثقافات سائر الأُمم أوجد موجة من الاضطراب الفكري والصراع العقيدي بين المسلمين ، وكانت الوسيلة المنحصرة لحماية العقيدة الإسلامية ومحاربة الفرق والمذاهب الإلحادية ، تأسيس علم كامل لإثبات ما يعتنقه المسلمون بالأدلّة العقلية ، وكان تأسيسه وليد الحاجة والضرورة ، فلا عتب على قائل يصفه بصخرة النجاة وسلم السلام والأمان.

مؤلّفاته

إنّ ما وصل إلينا من تآليفه كلّها يتسم بالطابع العقلي ، إمّا عقلية صرفة ، أو مزيجاً من العقل والنقل ، فمن مؤلّفاته في أُصول الفقه :

١ ـ « الإحكام في أُصول الأحكام » ، طبع كراراً وأخيراً بتحقيق السيد الجميلي في أربعة أجزاء في مجلدين ، نشر دار الكتاب العربي ١٤٠٤ هـ ، وهو أبسط

ــــــــــــــــــ

١ ـ لاحظ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦ من غاية المرام.

٢ ـ آل عمران : ١٩١.

٣ ـ الذاريات : ٢١.

٤ ـ الرعد : ٣.

٣٥٦

كتاب في أُصول الفقه ، نظير الذريعة للسيد المرتضى بين الشيعة في القرن الخامس.

٢ ـ « منتهى السؤول في علم الأُصول » ، طبع بمصر ، وكان مقرراً للدراسة في الأزهر في الثلاثينات من هذا القرن.

٣ ـ « غاية المرام في علم الكلام » ضمن فيه كتابه الآخر المسمّى بأبكار الأفكار. (١)

نعم يؤخذ عليه أنّه يصف المعتزلة في المقدمة بالإلحاد ، ويقول واصفاً لكتابه : « كاشفاً لظلمات تهويلات الملحدين كالمعتزلة وغيرهم من طوائف الإلهيين » (٢). كما يؤخذ عليه قصوره في عرض عقائد الشيعة ، وكأنّه لم يقف على كتاب لهم ، ونقل ما نقل عنهم عن كتب خصومهم.

ومن عجيب الكلام استدلاله على عدم اشتراط العصمة في الإمام بالاتّفاق على عقد الإمامة للخلفاء الراشدين ، واعترافهم بأنّهم ليسوا بمعصومين. (٣).

فلا أُعلّق عليه بكلمة إلاّ قولنا« يا للعجب ما أتقنه من برهنة »!!

وفي آخر الكتاب « كان الفراغ من نسخة في الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وستمائة وذلك بثغر الاسكندرية بالمدرسة العادلية ». (٤)

وقد طبع الكتاب بتحقيق حسن محمود عبد اللطيف ، وقام بتحقيقه باعتباره جزءاً من رسالته للحصول على درجة « الماجستير » في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ غاية المرام : ٥ من المطبوع.

٢ ـ غاية المرام : ٥ من المقدمة.

٣ ـ غاية المرام : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

٤ ـ غاية المرام : ٣٩٢.

٣٥٧

(٨)

عبدالرحمن عضد الدين الإيجي ( ٧٠٠ ـ ٧٥٦ هـ ) (١)

كان إماماً في المعقول ، عالماً بالأُصول والمعاني والعربية ، مشاركاً في الفنون ، كريم النفس ، كثير المال جداً ، كثير الإنعام على الطلبة ، ولد بعد السبعمائة وأخذ من مشايخ عصره ، وأنجب تلامذة عظاماً اشتهروا في الآفاق ، منهم الشيخ شمس الدين الكرماني ، والتفتازاني والضياء القرمي. (٢)

١ ـ آثاره المعروفة

١ ـ « المواقف في علم الكلام » ، وهو المتن الكامل على المنهج الأشعري وشرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني ، والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني تلميذ المصنف ، ولعلّه من شرحه. وطبع المتن والشرح للشريف في ثمانية أجزاء مع حواشي لعبد الحكيم السيالكوتي اللاهوري.

وهو المرجع الوثيق لكثير من المتأخرين. وألّفه الإيجي (٣) باسم الأمير الشيخ أبي إسحاق ، الذي صار صاحب الخطبة والسكة في شيراز سنة ٧٤٤ هـ.

٢ ـ شرحه على مختصر الأُصول للحاجبي في أُصول الفقه ، وقد أكبّ عليه طلبة الأعصار ، وقد شاركه في تأليفه عدّة من الأفذاذ. واشتهر بشرح العضدي على مختصر الأُصول ، وطبع كراراً. (٤)

٣ ـ « العقائد العضدية ».

٤ ـ « الرسالة العضدية ».

ـــــــــــــــــــ

١ ـ في ميلاده وعام وفاته اختلاف ، وما ذكرناه هو أحد الأقوال.

٢ ـ الدرر الكامنة لابن حجر : ٢/٢٢٩.

٣ ـ « الإيج » يقع في جنوب إصطهبانات من نواحي شيراز.

٤ ـ روضات الجنات : ٥/٥١ ـ ٥٢.

٣٥٨

ويظهر من خير الدين الزركلي في « الأعلام » أنّهما طبعتا. وله وراء ذلك آثار لم تر نور الوجود. (١)

إلى أن قضى حياته في كرمان مسجوناً ( عام ٧٥٦ أو ٧٥٧ هـ ) ويظهر من غير واحد ممن ترجمه أنّه كان يبغض الشيعة ويعاندهم إلى حدّ يضرب به المثل ومن لطائف شعره قوله :

خذ العفو وأمر بعرف كما أمر

توأعرض عن الجاهلين

ولن في الكلام لكل الأنام

فمستحسن من ذوي الجاه لين

٢ ـ حريته الفكرية في اتخاذ الموقف

إنّ الإيجي ، أشعري المنهج ، يركز على آراء الأشاعرة ويحتج ، ولكن ربما يرد عليهم ولإيقاف القارئ على نماذج نشير إلى موردين :

الأوّل : قد نقل أدلّة أصحابه على زيادة صفاته سبحانه على ذاته فقال : « لوكان مفهوم كونه عالماً حياً قادراًنفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا : الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه واللازم باطل ».

وغير خفي على القارئ أنّ المستدلّ لم يفرق بين العينية المفهومية والعينية المصداقية. فزعم أنّ المدّعى هو الأُولى مع أنّه هو الثانية ، ووقف العضدي على فساد الاستدلال فقال : « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ». (٢)

وما ذكره يبطل جميع ما أقامه الأشاعرة من البرهان على الزيادة.

الثاني : طرح مسألة التكليف بمالا يطاق. وقال : إنّه جائز عند الأشاعرة ، فلمّا رأى أنّ القول به يخالف الفطرة ، أخذ يقسم مالا يطاق إلى مراتب ، فمنع عن التكليف بالمرتبة القصوى منه ، لا الوسطى ثمّ قال : « وبه

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأعلام للزركلي : ٣/٢٩٥.

٢ ـ المواقف : ٢٨٠.

٣٥٩

يعلم أنّ كثيراً من أدلّة أصحابنا نصب للدليل في غير محل النزاع ». (١)

نعم ، ربما يأخذه التعصب ، فيستدل على مذهبه بشيء مستلزم للدور في مقابل الخصم المنكر. مثلاً يقول : « إنّ الإمامية تثبت ببيعة أهل الحل والعقد ، خلافاً للشيعة ، لثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة ». (٢)

كما يستدل على عدم وجوب العصمة في الإمام بقوله : « إنّ أبا بكر لا تجب عصمته اتّفاقاً ». (٣)

والمترقب من مثل الإيجي العارف بالمناظرة ، الاجتناب عن مثل هذه الاستدلالات التي لا تصح إلاّ أن يصحّ الدور.

نرى أنّه ينكر القضايا التاريخية المسلمة عند الجميع ويقول في ردّ حديث الغدير : « إنّ علياً لم يكن يوم الغدير ». (٤)

ونرى أنّه لا يطرح فرق الشيعة وينهيها إلى اثنتين وعشرين فرقة ، ويأتي بأسماء فرق لم تسمع أذن الدهر بها إلاّفي ثنايا هذه الكتب. ويقول : « من فرق الشيعة البدائية الذين جوزوا البداء على الله ». (٥)

ولكنّه غفل عن أنّ الاعتقاد بالبداء بالمعنى الصحيح وهو تغيّر المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، عقيدة مشتركة بين الشيعة جمعاء وليست مختصة بفرقة دون أُخرى. وتفسير البداء بما يستلزم الظهور بعد الخفاء على الله أو غير ذلك فرية على الشيعة. إلى غير ذلك من الهفوات الموجودة في الكتاب ، غفر الله لنا ولعباده الصالحين.

(٩)

مسعود بن عمر التفتازاني ( ٧١٢ ـ ٧٩١ هـ ) (٦)

هو من أئمّة العربية ومن المتضلّعين في المنطق والكلام ، ولد بتفتازان من

ــــــــــــــــــ

١ ـ المواقف : ٣٣١.

٢ ـ المواقف : ٣٩٩.

٣ ـ المواقف : ٣٩٩.

٤ ـ المواقف : ٤٠٥.

٥ ـ المواقف : ٤٢١.

٦ ـ قيل أيضاً إنّه تولد عام ٧٢٢ وتوفّ ـ ي عام ٧٨٧ ، ٧٩٣ هـ.

٣٦٠