بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية ، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه وبين « أبي القاسم بن برهان » في مسألة أفعال العباد؟

قال القاسم : هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي : إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك ، فتلا (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ) (١) ومدّ بها صوته وكرر « هم لها عاملون »و قوله : (لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٢) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال : والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت. (٣)

ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد ، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.

ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع ، وأُصول المذهب ، وقوة مناظرته ، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً. (٤)

٢ ـ ما نقل عنه في كتاب البرهان قال : « إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات »وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة ، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة ، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.

٣ ـ قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط ، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.

ــــــــــــــــــ

١ ـ المؤمنون : ٦٣.

٢ ـ التوبة : ٤٢.

٣ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٦٩و « أكلّه » : أعياه.

٤ ـ نفس المصدر : ١٨/٤٧١.

٣٢١

قال في « الرسالة النظامية » : ( نشرها محمد زاهد الكوثري عام ١٣٦٧ هـ ) اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة ، وامتنع على أهل الحقّ فحواها ، فرأى بعضهم تأويلها ، والتزم ذلك في القرآن ، وما يصحّ من السنن ، وذهب أئمّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراءالظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأياً ، وندين الله به عقداً ، أنّ اتّباع سلف الأُمّة حجّة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ترك التعرض لمعانيها ، ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل ، كان ذلك قاطعاً بأنّه الوجه المتبع ، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزّه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرب ، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (١) و (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (٢) و (تَجْري بِأَعْيُنِنا) (٣) وما صحّ من أخبار الرسول ، كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. (٤)

قصص الخرافة

إنّ من يصفه ابن عساكر (٥) وغيره بأنّه إمام الأئمّة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً ، المقر بفضله السراة والحراة ، وعجماً وعرباً ، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده الخ ، إلى غير ذلك من كلمات

ــــــــــــــــــ

١ ـ ص : ٧٥.

٢ ـ الرحمن : ٢٧.

٣ ـ القمر : ١٤.

٤ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٥ ـ التبيين : ٢٧٨.

٣٢٢

التبجيل وعظائم التكريم لا يصدر عنه ما يذكره الذهبي في ترجمته :

١ ـ قرأت بخط أبي جعفر أيضاً : سمعت أبا المعالي يقول : قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة ، وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام ، كلّ ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق « عليكم بدين العجائز » فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص ، لاإله إلاّ الله ، فالويل لابن الجويني. (١)

٢ ـ قال الحافظ محمد بن طاهر : سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب ـ وكان يختلف إلى درس الأُستاذ أبي المعالي في الكلام ـ فقال : سمعت أبا المعالي اليوم يقول : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت يبلغ بي ما بلغ ، ما اشتغلت به. (٢)

ولو صحّ ذلك ، لما كان ينفعه مجرّد الندم ، بل لكان علي هـ وراء إبراز الندامة ـ أن يأمر بإحراق مسفوراته ، إلاّما كان منها مطابقاً للسنّة ، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول ، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر ، ولعلّ هذه النقول كلّها من موضوعات بعض الحنابلة الذين يروق لهم ترويج مذهبهم بعزوالشخصيات البارزة إلى الانسلاك في سلكهم يوم هلاكهم وموتهم ، يوم لا ينفعهم الندم والانسلاك.

وكما لا يصحّ ذلك ، لا يصحّ ما نقل أيضاً :

١ ـ قال محمد بن طاهر : حضر المحدث أبو جعفر الهمداني مجلس وعظ أبي المعالي ، فقال : كان الله ولا عرش ، وهو الآن على ما كان عليه ، فقال أبو جعفر : أخبرنا يا أُستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها ، ما قال عارف قط يا الله إلاّ وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف

ــــــــــــــــــ

١ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٧١.

٢ ـ نفس المصدر : ١٨/٤٧٤.

٣٢٣

ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا ، أو قال : فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال : يا حبيبي ما ثم إلاّالحَيْرة ، ولطم على رأسه ونزل ، وبقي وقت عجيب. وقال فيمابعد : حيرني الهمداني. (١)

٢ ـ قال أبو جعفر الحافظ ؛ سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله : (الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) فقال : كان الله ولا عرش. وجعل يتخبّط ، فقلت : هل عندك للضرورات من حيلة؟فقال : ما معنى هذه الإشارة؟ قلت : ما قال عارف قط يا رباه إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول يا حبيبي الحيرة والحيرة والدهشة الدهشة. (٣)

يعز على الأشاعرة أن يجهل إمام الحرمين ـ الذي يصفه ابن عساكر بأنّه « لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده » (٤) ـ بجواب هذا السؤال ، حتى يتخذه السائل سنداً لحلوله سبحانه في العرشوكينونته فيه.

وقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عنه وقيل له : ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنّه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزّوجلّ ». (٥)

ـــــــــــــــــــ

١ ـ نفس المصدر : ١٨/٤٧٤ ـ ٤٧٥.

٢ ـ طه : ٥.

٣ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٧٦ ـ ٤٧٧.

٤ ـ التبيين : ٢٧٨.

٥ ـ التوحيد للصدوق : ٢٤٨.

٣٢٤

وفي الختام إنّ أبا المعالي أجاب دعوة ربّه في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ٤٧٨ ودفن في داره ، ثمّ نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب والده ، وغلقت الأسواق ، ورثي بقصائد ، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولاً ، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه ، وكان الطلبة يطوفون بالبلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. (١)

وممّا قيل في وفاته :

قلوب العالمين على المقالي

وأيام الورى شبه الليالي

أيثمر غصن أهل الفضل يوماً

وقد مات الإمام أبو المعالي (٢)

(٤)

حجة الإسلام الإمام الغزالي ( ٤٥٠ ـ ٥٠٥ هـ )

الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي ، تلمذ لإمام الحرمين ثمّ ولاّه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد ، وخرج له أصحاب وصنف التصانيف مع التصوف والذكاء المفرط ، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة بالطابران ، قصبة بلاد طوس ، وله خمس وخمسون سنة.

وقع للغزالي أُمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ، ومجاراة الخصوم ، ومناظرة الفحول ، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلاً عظيماً ، وطار اسمه في الآفاق وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين وأربعمائة فقدمها في تجمر [تجمهر] كبير وتلقّاه الناس ، ونفذت كلمته وعظمت حشمته ، حتى غلبت على حشمة الأُمراء والوزراء ، وضرب به المثل ، وشدت إليه الرحال.

وأقبل على العبادة والسياحة ، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين

ـــــــــــــــــــ

١ ـ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٧٦.

٢ ـ تبيين كذب المفتري : ٢٨٥.

٣٢٥

وأربعمائة ، فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع ، وصنّف فيها كتباً ، ثمّ صار إلى القدس والاسكندرية ، ثمّ عاد إلى وطنه بطوس مقبلاً على التصنيف والعبادة وملازمة التلاوة ونشر العلم وعدم مخالطة الناس ، ثمّ إنّ الوزير فخر الدين نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور ، وألحّ كلّ الإلحاح فأجاب إلى ذلك وأقام عليه مدة ، ثمّ تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه ، وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين.

تصانيفه

يذكر ابن قاضي شهبة تصانيفه ، وإليك بعضها :

١.الوسيط ، وهو كالمختصر للنهاية ، والوسيط ملخص منه.

٢ ـ الوجيز والخلاصة.

٣ ـ كتاب الفتاوى مشتمل على مائة وتسعين مسألة.

٤ ـ كتاب الإحياء وهو من أشهر تآليفه.

٥ ـ المستصفى في أُصول الفقه.

٦ ـ بداية الهداية في التصوف.

٧ ـ إلجام العوام عن علم الكلام.

٨ ـ الرد على الباطنية.

٩ ـ مقاصد الفلاسفة.

١٠ ـ تهافت الفلاسفة.

١١ ـ جواهر القرآن.

١٢ ـ شرح الأسماء الحسنى.

١٣ ـ مشكاة الأنوار.

١٤ ـ المنقذ من الضلال.

٣٢٦

١٥ ـ الخلاصة.

١٦ ـ قواعد العقائد.

إلى غير ذلك من التآليف. (١)

نماذج من آرائه

والغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة في الفلسفة والكلام والتصوف وغير ذلك ، غير أنّه يقتفي أثر إمامه الأشعري ويلتقي معه في كثير من الآراء والمباني ، وإليك قسماً من آرائه في كتاب « قواعد العقائد » :

١ ـ إنكار الحسن والقبح العقليين

يقول في توصيف أفعاله سبحانه :

عادل في أقضيته ، لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ، ولا يتصور الظلم من الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً ، فكلّ ما سواه ، من إنس وجن... اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً.(٢)

ويقول أيضاً : إنّ لله عزّوجلّ إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق... لأنّه متصرف في ملكه ، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو محال على الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً. (٣)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، والتصرف في

ــــــــــــــــــ

١ ـ اقرأ ترجمته في المصادر التالية : طبقات السبكي : ٤/١٠١ ، تبيين كذب المفتري : ٢٩١ ـ ٣٠٦ ، والمنتظم : ٩/١٦٨ ، مهرجان الغزالي في دمشق عام ١٩٦١ ، مؤلّفات الغزالي لعبد الرحمن البدوي ط ١٩٩٠م.

٢ ـ قواعد العقائد : ٦٠و ٢٠٤.

٣ ـ نفس المصدر : ٦٠و ٢٠٤.

٣٢٧

ملك الغير فرع منه ولا ينحصر الظلم فيه.

وثانياً : أنّ حكم العقل بالقبح لا يترتب على لفظ الظلم حتى يفسر بأنّه تصرف في ملك الغير ، والعالم كلّه ملكه سبحانه ، بل العقل يستقل بقبح إيذاء الغير وتعذيبه من دون جرم ولا تعدّ من أي فاعل صدر ، سواءً أكان خالقاً أم غيره ، ولا يجوز التخصيص في الأحكام العقلية.

ثمّ إنّ الغزالي يستدل على صدور القبيح منه بقوله :

« فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال ، إذ لا غرض له ، فلا يتصوّر منه قبيح كما لا يتصوّر منه ظلم ».

فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم : إنّ ذلك عليه محال؟ وهل هذا إلاّ مجرّد تشهّ يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار. (١)

يلاحظ عليه : أنّ تفسير القبيح بما لا يوافق الغرض ساقط جداً ، وهو من التفسيرات الخاطئة التي وردت في كتب المتكلّمين من الأشاعرة ، وقليل من المعتزلة ، بل المراد من القبيح ما يستقل العقل بداهة بقبحه إذا لاحظه من دون أن يلاحظ الغرض ، فقد قلنا إنّه كما يوجد في الحكمة النظرية قضايا بديهية ونظرية فهكذا يوجد في الحكمة العملية قضايا يستقل العقل بحسنها وقبحها بالبداهة ، وقضايا يتوقف فيها العقل في بدء الأمر حتى يرجع إلى القضايا الواضحة في الحكمة العملية ، فلا الحسن يدور على موافقة الغرض ولا القبح على مخالفته ، بل كلاهما يدوران على أحكام عقلية واضحة لدى العقل من دون تخصيصها بزمان دون زمان ، أو مكان دون مكان ، أو فاعل دون فاعل.

٢ ـ معرفة الله واجبة شرعاً لا عقلاً

وقد اقتفى الغزالي في هذه المسألة أثر شيخه أبي الحسن الأشعري وقال :

ــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ٢٠٨ ، ويشير بقوله« من مخاصمة أهل النار » إلى المناظرة التي وقعت بين الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي ، وقدأوعزنا إليها في صدر الكتاب.

٣٢٨

إنّ معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل ، لأنّ العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إمّا أن يوجبها لغير فائدة وهو محال ، فإنّ العقل لا يوجب العبث ، وإمّا أن يوجبها لفائدة وغرض ، وذلك لا يخلو إمّا أن يرجع إلى المعبود ، وذلك محال في حقّه تعالى ، فإنّه يتقدّس عن الأغراض والفوائد ؛ وإمّا أن يرجع ذلك إلى غرض العبد ، وهو أيضاً محال ، لأنّه لا غرض له في الحال ، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه.

وليس في الم آل إلاّالثواب والعقاب ومن أين يعلم أنّ الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما؟ (١)

يلاحظ عليه : أنّا نختار الشق الثاني ، وهو أنّ الغرض عائد إلى العبد ، وهو أنّه يعلم من صميم ذاته بأنّ له منعماً ، وأنّ النعمات التي أحاطت به معطاة من غيره ، وعندئذ يحتمل أن يكون لمنعمه أوامر وزواجر وتكاليف وإلزامات ربما يعاقب على تركها ، فعندئذ يحكم العقل عليه بأنّه يجب التعرف على المنعم دفعاً للضرر المحتمل.

والغرض العائد للعبد في المقام ليس غرضاً دنيوياً حتى يقال : كيف يكون هناك غرض وهو يتعب بالمعرفة وينصرف عن الشهوات ، بل غرض عقلي وهو دفع العقاب المحتمل في الم آل.

وما قال من أنّه من أين علم أنّ الله تعالى يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ولا يعاقب عليهما؟ فهو ناشئ عن إنكار الحسن والقبح العقليين ، أي إنكار أوضح القضايا العقلية وأبدهها ؛ يقول سبحانه دعماً لما تقضي به الفطرة الإنسانية : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَما يَحْكُمُونَ). (٢)

ــــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ٢٠٩ ، ولعلّ قوله : « يثيب على المعصية والطاعة » تصحيف « يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ».

٢ ـ الجاثية : ٢١.

٣٢٩

٣ ـ جواز التكليف بمالا يطاق

وقد بنى على إنكار الحسن والقبح العقليين أنّه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق مالا يطيقونه ، خلافاً للمعتزلة ، ولو لم يجز ذلك ، لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). (١)

ولأنّه تعالى أخبر نبيّه بأنّ أبا جهل لا يصدقه ، ثمّ أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله ، وكان من جملة أقواله أنّه لا يصدقه ، فكيف في أنّه لا يصدقه. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ في كلا الاستدلالين وهناً واضحاً :

أمّا الأوّل : فهو عجيب جداً كيف يستدل بجزء من الآية ويترك صدرها ، يقول سبحانه :

( لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَو أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانْصُرْنا عَلى الْقَومِ الكافِرينَ ). (٣)

فصدر الآية يبين شأنه سبحانه وأنّ حكمته مانعة عن أن يكلف نفساً شيئاً خارجاً عن وسعها ، وإنّما يكلفها ما في وسعها ، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

إنّ التكليف عبارة عن الإرادة الجدية المتعلّقة بطلب شيء من الغير ، ولا تتمشّى تلك الإرادة إلاّ مع العلم بكون الفعل في وسع الغير ، فلو وقف على كونه خارجاً عن وسعه ، لما تعلّقت به الإرادة الجدية ، فكيف يمكن تكليف الغير بشيء خارج عن وسعه ، مآل ذلك إلى التكليف المحال؟

ـــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٨٦.

٢ ـ قواعد العقائد : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٣ ـ البقرة : ٢٨٦.

٣٣٠

وأمّا قوله سبحانه : وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فالمراد هو التكاليف الشاقة التي لا تُتحمل عادة ، وإن كانت تُتحمل عقلاً.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الموصول في ما لا طاقة لنا به هو العذاب النازل أو الرجس ، كالمسخ وغيره ، الذي عمّ الأُمم السابقة.

وأمّا الثاني : فالظاهر أنّ في كلامه تصحيفاً ، وكان الأولى أن يقول أبا لهب مكان أبي جهل.

نعم تصح العبارة لو ورد في الروايات بأنّ النبي أخبر أبا جهل بأنّه لا يؤمن. وعلى كلّ تقدير فالاستدلال في مورد أبي لهب أوضح بأن يقال إنّ الله كلّف أبا لهب الإيمان بالقرآن ، ومن جملة ما أنزل في القرآن أنّه لا يؤمن فقال :

سيصلى ناراً ذات لهب فكأنّه كلّفه الإيمان بأنّه لا يؤمن.

يلاحظ على الاستدلال بأنّ الآية إخبار عن عدم إيمانه ، وأنّه لا يؤمن إلى يوم هلاكه نظير قول نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّارا). (١)

ولم يؤمر أبو لهب أن يؤمن بأنّه لا يؤمن بالله ورسوله وكتابه ، وأمّا ما نزل في حقّه فإنّما هو إخبار عن علم جازم بأنّه لا يؤمن فقط.

وإن شئت قلت : سقط التكليف عنه بعصيانه القطعي المستمر في علم الله إلى يوم وفاته بعد نزول هذه السورة الكاشف عن ذلك العصيان ، وكلّ من اتحد معه في هذا الوصف فهو كذلك.

٤ ـ رأيه في كون فعل العباد مخلوقاً لله

قد رأى الغزالي فعل العباد مخلوقاً لله سبحانه ومكسوباً لهم يقول ـ بعد التفريق بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية ـ : إنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً ، وبقدرة العبد على وجه آخر ، يعبر عنه بالاكتساب ، وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل

ــــــــــــــــــ

١ ـ نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

٣٣١

قد كانت متعلّقة بالعالم ، ولم يكن الاختراع حاصلاً بها ، وهي عند الاختراع متعلّقة به نوعاً آخر من التعلّق ، فبه يظهر أنّ تعلّق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها. (١)

إنّ الغزالي : يريد أن يثبت تعلّق قدرة العبد على الفعل ببيان أنّه ليس معنى تعلق القدرة هو الاختراع ، بل للتعلّق أقسام بشهادة أنّ قدرته سبحانه تعلّقت بالعالم أزلاً ولم يكن الاختراع حاصلاً عنده فتعلّق القدرة أعم من الاختراع ، فعند ذلك فالاختراع أثر قدرته الأخيرة ، والكسب أثر قدرة العبد.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره لا محصل له ، وإنّما هو مجرّد لفظ خال عن معنى ، وذلك أنّه إن أُريد بالقدرة العلة التامة التي يتحقّق بعدها الفعل فتمنع تعلق قدرته سبحانه بكلّ أجزاء العالم أزلاً وأبداً في الأزل وإنّما تعلقت مشيئته على إيجاد كلّ جزء في ظرفه ومكانه ، والقدرة بهذا المعنى خارجة عن إطار البحث ، وإنّما الكلام في القدرة المستدعية للفعل ، فليس لها أثر إلاّ الإيجاد ، وعندئذ فالفعل في وجوده لو استند إليه سبحانه لا يبقى شيء لأن يستند إلى قدرة العبد حتى نقول : الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب ، وقد عرفت أنّ الكسب من المفاهيم التي لم يظهر لأحد واقع المراد منها.

٥ ـ رأيه في استوائه سبحانه على العرش

إنّ الظاهر من كلامه في استوائه سبحانه على العرش هو التفويض ، أي تفويض معناه إلى الله سبحانه ، لكنّه عندما يشرح معنى الاستواء ومفاد الآية يفترق عن شيخه أبي الحسن ويلتحق بالمعتزلة الذين يذهبون إلى التأويل في هذه المواضع ، وإليك عبارته :

وأنّه مستو على الوجه الذي قال ، وبالمعنى الذي أراد ، استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق

ــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ١٩٦.

٣٣٢

العرش والسماء ، فوق كلّ شيء إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً على الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنّه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى ، وهو مع ذلك قريب من كلّ موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كلّ شيء شهيد. (١)

ويقول في موضع آخر :

العلم بأنّه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء ، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء ، وهو الذي أُريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن : (ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٢). وليس ذلك إلاّبطريقالقهر والاستيلاء ، كما قال الشاعر :

قد استوى بِشْرٌ على العراق

من غير سيف ودم مهراق

واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطر أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنما كُنْتُم إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإجابة والعلم. (٣)

٦ ـ رأيه في تكلّمه سبحانه

قد ذهب الغزالي في تفسير تكلّمه سبحانه إلى ما اختاره شيخه فقال : إنّه تعالى متكلّم ، آمر ، ناه ، واعد ، متوعد ، بكلام أزلي ، قديم ، قائم بذاته ، لا يشبه كلام الخلق ، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام ، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان. (٤)

وقال في موضع آخر :

ــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ٥٢.

٢ ـ فصلت : ١٠.

٣ ـ قواعد العقائد : ١٦٥.

٤ ـ قواعد العقائد : ١٦٥.

٣٣٣

إنّه سبحانه وتعالى متكلّم بكلام وهو وصف قائم بذاته ـ إلى أن قال ـ : والكلام بالحقيقة كلام النفس ، وإنّما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات ، وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جُعل اللسان على الفؤاد دليلا (١)

وقد أوضحنا حال الكلام النفسي ، وأنّ نفي التكلم عنه سبحانه لرجوعه إلى العلم.

٧ ـ رأيه في رؤية الله سبحانه

إنّ الغزالي مع أنّه من المصرّين على التنزيه فوق ما يوجد في كلام الأشاعرة ، ولكنّه لم يستطع تأويل ما دلّ على أنّه سبحانه يُرى يوم القيامة فقال : العلم بأنّه تعالى مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار ، مقدساً عن الجهات والأقطار ، مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة.

ثمّ قال : وأمّا وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو غير مؤد إلى المحال ، فإنّ الرؤية نوع كشف وعلم ، إلاّ أنّه أتم وأوضح من العلم ، وإذا جاز تعلّق العلم به وليس في جهة ، جاز تعلّق الرؤية به وليس بجهة. (٢)

يلاحظ عليه : إنّه بأيّ دليل يقول : إذا جاز تعلّق العلم به سبحانه ، جاز تعلّق الرؤية به؟ فهل هذا قضية كلية؟ مع أنّ الإرادة والحسد والبخل وسائر الصفات النفسانية يتعلّق بها العلم ، فهل تتعلّق بها الرؤية؟ وهو يعترف بأنّه سبحانه ليس جسماً ولا جسمانياً ولا صورة ، والمغالطة في كلامه واضحة ، فإنّ العلم بالشيء نوع تصور له ، والتصور لا يستلزم الإشارة إلى الشيء ولا كونه في جهة أو كونه متحيزاً ، بخلاف الرؤية بالأبصار فإنّها لا تنفك عن

__________________

(١) قواعد العقائد : ٥٨ و ١٨٢ ، والشعر للأخطل وقبله :

لا يعجبنك من أمير خطبة

حتى يكون مع الكلام أصيلا

(٢) قواعد العقائد : ١٦٩ ـ ١٧١.

٣٣٤

ذلك ، ومن أنكر فإنّما ينكر بلسانه ، وهو يؤمن بقلبه وجنانه.

ثمّ إنّ له استدلالاً آخر في المقام يقول : وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم ، جاز أن يراه الخلق من غير مقابل وكما جاز أن يُعلم من غير كيفية وصورة ، جاز أن يرى كذلك.

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ الاستدلال لو كانت الرؤية من الجانبين على نسق واحد : فالعباد ينظرون إليه بعيونهم والله سبحانه ينظر إلى عباده ويراهم بعيونه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ رؤيته سبحانه إحاطة وجوده بجميع الأشياء وقيامها به قياماً قيومياً فلا يصحّ القياس ، فرؤيته سبحانه لا تتوقف على المقابلة ، لأنّ الرؤية إنّما تتوقّف على المقابلة إذا لم يكن الرائي محيطاً بالمرئي فيحتاج إلى المقابلة ، دونما لم يكن محتاجاً لها.

وأظن أنّ عقلية الغزالي الشامخة كانت تصده عن تجويز الرؤية وإنّما صدرت منه هذه الهفوة لاتّفاق الأشاعرة وأهل الحديث على الرؤية.

٨ ـ نظره في رعاية الأصلح لعباده

يقول : إنّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنّه لا يجب عليه سبحانه شيء ، بل لا يعقل في حقّه الوجوب ، فإنّه لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وعلّق عليه محقّق الكتاب وقال : فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة ، كان له ذلك ، ولو أورد الكل منهم النار من غير زلة منهم كان له ذلك ، لأنّه تصرف مالك الأعيان في ملكه ، وليس عليه استحقاق ، إن أناب فبفضله يثيب ، وإن عذب فلحق ملكه يعذب. (١)

يلاحظ عليه : أنّ القائل بالأصلح للعباد يريد بذلك إخراج فعله سبحانه عن العبث لأنّه حكيم ولا سبيل للعبث إليه ، قال سبحانه :

ــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ٢٠٥.

٣٣٥

(وَما خَلَقْنا السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ). (١)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَوَالأَرْضََ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ). (٢)

إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله ، وتصرح باقترانها بالحكمة والغرض ، فمن قال بوجوب رعاية الأصلح فإنّما قال بإخراج فعله عن العبث.

وأمّا كون العمل الأصلح واجباً عليه ، لا يراد منه تكليفه من جانب العبد بالقيام بالأصلح وإنّما المراد استكشاف العقل الحكمَ الضروري من صفاته الكمالية ، أعني كونه حكيماً ، وأنّ حكمته تقتضي ـ إيجاباً ـ أنّه لا يفعل العبث والعمل الخالي عن الهدف ، كما أنّك تحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي كذا وكذا حتماً وليس معناه حكمك على الخارج ، بل معناه استكشاف العقل حكماً ضرورياً من ملاحظة نفس المثلث وزواياه.

وأمّا تعذيبه سبحانه البريء فلا شكّ أنّه يقدر على ذلك ، ولكن لا يفعل لأنّه قبيح ، والعقل يدرك قبح ذلك العمل من أي مقام صدر وفي أي موضع وقع ، وليس حكم العقل بإيجابه إلاّ الاستكشاف على ما مرّ.

وأمّا القول بأنّ الحكم بلزوم اقتران فعله بالغرض ، يستلزم استكماله به ، فهو خلط بين كون الغرض للفاعل وكون الغرض للفعل ، فالغاية غاية للفعل لا للفاعل.

وقد حققنا ذلك في الجزء الثالث عند البحث عن عقائد المعتزلة ، فتربص حتى حين.

٩ ـ مناوأة معاوية لعلي عليه‌السلام ـ كانت عن اجتهاد

الغزالي يرى مناوئي علي عليه‌السلام في الجمل وصفين مجتهدين يقول :

ــــــــــــــــــ

١ ـ الدخان : ٣٨.

٢ ـ ص : ٢٧.

٣٣٦

وما جرى بين معاوية وعلي عليه‌السلام كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة ، إذ ظن علي رضي الله عنه أنّ تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها ، فرأى التأخير أصوب ، وظن معاوية أنّ تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمّة ، ويعرض الدماء للسفك ، وقد قال أفاضل العلماء : « كلّ مجتهد مصيب »و قال قائلون : « المصيب واحد » ولم يذهب إلى تخطئة علي ذو تحصيل أصلاً.

يلاحظ عليه : أنّ للاجتهاد مقومات ، وللمجتهد مؤهلات مقررة في محله ، أوضحها هو الوقوف على الكتاب والسنة واستخراج الحكم الشرعي من مداركه ، وأمّا الاجتهاد تجاه النص فهو اجتهاد خاطئ ، بل تشريع في مقابل الحجة.

وعلى ضوء ذلك فهل يمكن لنا توصيف عمل معاوية وزميله عمرو بن العاص ومن لفّ لفهما في الجمل والنهروان بالاجتهاد؟ فما معنى هذا الاجتهاد الذي سفكت الدماء من أجله ، وأُبيحت وغضبت الفروج ، وانتهكت المحارم؟ وما معنى الاجتهاد تجاه قول رسول الله مخاطباً لعمار : « تقتلك الفئة الباغية »؟ فبهذا الاجتهاد عُذِرَابن ملجم المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين على قتل خليفة الحق والإمام المبين في محراب عبادة الله ، حتى قبل إنّ ابن ملجم قيل علياً متأولاً مجتهداً على أنّه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان :

يا ضربة من تقىّ ما أراد بها

إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناً

عجباً لهذا الاجتهاد يبيح سبّ علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويبيح سبّ كلّ صحابي احتذى مثاله ، ويجوّز لعنهم والوقيعة فيهم والنيل منهم في خطب الصلوات والجمعات والجماعات وعلى رؤوس المنابر ، ولا يلحق فاعل هذه الموبقات ذم ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ ، وإن كان المجتهد من بقايا الأحزاب.

هذا عرض خاطف لنظريات « الإمام الغزالي » وقد عرفت موقفها من

٣٣٧

الحقّ ، ولنختم ترجمته بنقل أمرين من كتابه :

١ ـ إنّ صفاته سبحانه تشتمل على عشرة أُصول وهي :

العلم بكونه حياً ، عالماً ، قادراً ، مريداً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً ، منزهاً عن حلول الحوادث ، وأنّه قديم الكلام والعلم والإرادة. (١)

وهذه العبارة تتضمن أحد عشر وصفاً له سبحانه ، ولأجل ذلك قال المعلق : قوله منزهاً عن حلول الحوادث غير معدود في هؤلاء ولم يعلم وجه استثناء خصوصه كما لا يعلم أنّه وصف العلم بالقدمة ، مع أنّ القدرة مثله فليس قدرته حادثة.

٢ ـ ومن لطائف كلامه في رد المجسّمة ما قاله : فأمّا رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنّها قبلة الدعاء ، وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء ، وتنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء ، فإنّه تعالى فوق كلّ موجود بالقهر والاستيلاء. (٢)

وفي خاتمة المطاف : نأتي بكلام لأبي زهرة في حقّ الغزالي ثمّ نعقبه بما يليق به :

إنّ الغزالي نظر في كلام أبي منصور الماتريدي ، وأبي الحسن الأشعري نظرة حرة بصيرة فاحصة ، لا نظرة تابع مقلد ، فوافقهما في أكثر ما وصل إليه وخالفهما في بعض ما ارتآه ديناًواجب الاتّباع. (٣)

ماذا يريد أبو زهرة من قوله« نظر في كلام الشيخين نظرة حرة »؟

فلو كان محور حكمه هو كتاب « قواعد العقائد » الذي نقلنا منه مجموعة من آرائه فهو لم يخالفهما إلاّ في أقل القليل ، كيف وقد أنكر الحسن والقبح العقليين ، كما أثبت الرؤية في الآخرة ، وقال بقدم كلامه ، وبذلك ترك عاراً

ــــــــــــــــــ

١ ـ قواعد العقائد : ١٤٥.

٢ ـ قواعد العقائد : ١٦٥.

٣ ـ ابن تيمية عصره وحياته : ١٩٣.

٣٣٨

على جبين أهل التوحيد ، وإنما خالف الأشعري في الصفات الخبرية حيث ذهب فيها إلى التفويض دون الحمل على معانيها اللغوية ، ونظرية التفويض وإن كانت أقل شناعة من الحمل على معانيها اللغوية ، لكنها نظرية باطلة توجب أن يكون القرآن من المعميات غير نازل للفهم والتدبر.

(٥)

أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني

( ٤٧٩ أو ٤٦٧ ـ ٥٤٨ هـ )

الشهرستاني ، أحد المهتمين بدراسة المذاهب والشرائع ، ويعدّ شخصية ثالثة بين الأشاعرة في معرفة الملل والنحل ، بعد الشيخين : أبي الحسن الأشعري ، وعبد القاهر البغدادي ، وكتابه المعروف بالملل والنحل يعد من المصادر لهذا العلم ، ويمتاز عن غيره من الكتب المتقدمة عليه ك ـ « مقالات الإسلاميين » للأشعري و« الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي بذكر كثير من الآراء الفلسفية المتعلّقة بما وراء الطبيعة ، التي كانت سائدة في عصر المؤلف ، ولأجل ذلك حاز الكتاب إعجاب الناس وتقديرهم ، ومع ذلك كلّه قد خلط بين الحقّ والباطل ، خصوصاً في نقل آراء بعض الطوائف الإسلامية.

ويعرّفه ابن خلكان بقوله : كان مبرزاً فقيهاً متكلماً ، تفقّه على أحمد الخوافي وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما ، وبرع في الفقه وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه ، وصنف كتباً منها : « نهاية الإقدام في علم الكلام » وكتاب « الملل النحل » و« المناهج والبيّنات » وكتاب « المضارعة » و « تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام » وكان كثير المحفوظ (١) ، حسن المحاورة ، يعظالناس ، ودخل بغداد سنة ٥١٠ وأقام بها ثلاث سنين ، وظهر ، قبول كثير عند العوام ، وسمع الحديث من علي بن أحمد المديني ب ـ « نيسابور »وغيره ، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني ، وذكره في كتاب

ــــــــــــــــــ

١ ـ كذا في المصدر والأصحّ : « كثير الحفظ ».

٣٣٩

« الذيل » ، وكانت ولادته سنة ٤٧٩ أو ٤٦٧ ، وتوفّي في أواخر شعبان سنة ٥٤٨ هـ. (١)

ويصفه الذهبي بقوله : شيخ أهل الكلام والحكمة ، وصاحب التصانيف ، ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع ( القرامطة ) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم ، كما ينقل عن صاحب « التحبير » بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم : عالم كيّس متعفف.

ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد ، لكان هو الإمام ، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له ، نعوذ بالله من الخذلان ، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع ، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله وقال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال : سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي ، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال : مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى ، فسألوا الثوم والبصل. ثمّ نقل عن ابن أرسلان أنّه حجّ في سنة ٥١٠ هـ. (٢)

المطبوع من كتبه

١ ـ « الملل والنحل » قد طبع كراراً ، وأخيراً في القاهرة في جزءين بتحقيق محمد سيد كيلاني ، طبع في ١٣٨١ هـ.

٢ ـ « نهاية الإقدام » وهو مطبوع حرره وصححه « الفرد جيوم » المستشرق ولم يذكر عام الطبع. ومجموع الكتاب يحتوي على عشرين قاعدة كلامية. قال في مقدمة الكتاب : وقد أوردت المسائل على تشعث خاطري وتشعب فكري ، ممتثلاً أمره في معرض المباحثات ترتيباً وتمهيداً ، سؤالاً

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٤/٢٧٣ برقم ٦١٠.

٢ ـ سير أعلام النبلاء : ٢٠/٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، ولاحظ الروضات : ٨/٢٦برقم ٦٧٥.

٣٤٠