بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

على السلطان لعن المبتدعة على المنابر ، فصدر الأمر بذلك ، واتخذ عميد الدين ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية ، وصار يقصدهم بالإهانة والأذى والمنع عن الوعظ والتدريس ، وعزلهم عن خطابة الجامع ، واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنّهم يقلدون مذهب أبي حنيفة ، فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموماً ، وبالأشعرية خصوصاً ، وهذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق ، وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق ، وعظم خطبها وبلاؤها ، وقام في سب أهل السّنة ( الأشاعرة ) خطيبها وسفهاؤها ، إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع ، وتوظيف سبهم على المنابر ، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في زمن بعض بني أُمية ، حيث استولت النواصب على المناصب ، واستعلى أُولئك السفهاء في المجامع والمراتب.

وكان في بلدة نيسابور رجلاً جواداً ذا أموال جزيلة وصدقات دارّة وهبات هائلة يسمى أبا سهل الموفق ، فشمّر عن ساعد الجد ، وتردد إلى العسكر في دفع ذلك ، وما أفاد شيء من التدبير ، إذ كان الخصم الحاكم ، والسلطان محجباً إلاّ بواسطة ذلك الوزير ، ثمّ جاء الأمر من قبل السلطان طغرل بك بالقبض على الرئيس الفراتي ، والأُستاذ أبي القاسم القشيري ، وإمام الحرمين ، وأبي سهل بن الموفق ، ونفيهم ومنعهم عن المحافل ، وكان أبو سهل غائباً إلى بعض النواحي ولما قرئ الكتاب بنفيهم ، أُغري بهم الغاغة والأوباش ، فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري ، والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما ، وحبسا بالقهندر.

وأمّا إمام الحرمين ، فإنّه كان أحس بالأمر واختفى ، وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز ، ومن ثمّ جاور وسمّي إمام الحرمين ، وبقي القشيري والفراتي مسجونين أكثر من شهر ، فتهيأ أبو سهل بن الموفق من ناحية باخرز وجمع من أعوانهم رجالاً عارفين بالحرب ، وأتى باب البلد وطلب إخراج الفراتي

ـــــــــــــــــ

يكون معتزلي المبدأ ، ورافضي العقيدة ، وفي الوقت نفسه قائلاً بالتشبيه والتجسيم ، وهل هذا إلاّ كالاعتقاد بالنقيضين؟!

٣٠١

والقشيري فما أُجيب ، بل هدد بالقبض عليه بمقتضى ما تقدّم من مرسوم السلطان ، فلم يلتفت وعزم على دخول البلد ليلاً وإخراجهما مجاهرة ، وكان متولّي البلد قد تهيأ للحرب ، وبعد مفاوضات واشتباكات عنيفة توفق أبو سهل إلى إخراجهما من السجن ، فلمّا تم له الانتصار ، تشاور هو وأصحابه فيما بينهم وعلموا أنّ مخالفة السلطان لها تبعة ، وأنّ الخصوم لا ينامون ، فاتّفقوا على مهاجرة البلد إلى ناحية استواء. (١)ثمّ يذهبون إلى الملك. وبقي بعض الأصحاب بالنواحي مفرقين ، وذهب أبو نصر إلى المعسكر وكان على مدينة الري ، وخرج خصمه من الجانب الآخر فتوافيا بالري ، وانتهى إلى السلطان ما جرى ، وسعى بأصحاب الشافعي وبأبي سهل خصوصاً ، فقبض على أبي سهل وأُخذت أمواله وبيعت ضياعه ، ثمّ فرج عنه وخرج وحج.

وقد غادر كثير من علماء أهل السنة نيسابور ونواحيها ، ومرو وما والاها ، فمنهم أُخرجوا ومنهم من جاء إلى العراق ، ومنهم من جاء الحجاز.

فممّن حجّ : الحافظ أبو بكر البيهقي ، وأبو القاسم القشيري ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وخلائق. يقال : جمعت تلك السنّة أربعمائة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية هجروا بلادهم بسبب هذه الواقعة ، وتشتت فكرهم يوم رجوع الحاج ، فمن عازم على المجاورة ، ومن محيّر في أمره لا يدري أين يذهب؟

٤ ـ كتاب البيهقي إلى يد الملك

كتب البيهقي ـ وهو محدث زمانه وشيخ السنّة في وقت هـ كتاباً إلى عميد الملك يصفه ويطريه فيه ، ويذكر في تلك الرسالة فضائل الشيخ أبي الحسن ومناقبه ، واندفع في آخر الرسالة إلى السؤال عن عميد الملك في إطفاء النائرة وترك السب وتأديب من يفعله. يقول السبكي : وقد ساق الحافظ ( ابن عساكر ) الكتاب بمجموعه ، فإن أردت الوقوف عليه كلّه فعليك بكتاب

ــــــــــــــــــ

١ ـ كورة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة.

٣٠٢

التبيين. (١)

٥ ـ رسالة القشيري إلى البلاد

وكتب الأُستاذ أبو القاسم القشيري رسالة مفتوحة إلى العلماء الأعلام بجميع بلاد الإسلام عام ست وأربعين وأربعمائة ، يشكو فيها عمّا حلّ بأبي الحسن الأشعري والأشاعرة من المحنة. ابتدأ رسالته بقوله :

الحمد لله المجمل في بلائه ، المجزل في عطائه ، العدل في قضائه ، والمكرم لأوليائه ، المنتقم من أعدائ هـ إلى أن قال ـ : هذه قصة سميناها « شكاية أهل السنّة بحكاية ما نالهم من المحنة » تخبر عن بثّة مكروب ونفثة مغلوب... إلى أن قال :

وممّا ظهر ببلاد نيسابور من قضايا التقدير في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة ما دعا أهل الدين إلى شق صدور صبرهم ، وكشف قناع ضيرهم ، بل ظلت الملة الحنيفية تشكو غليلها ، وتبدي عويلها ، وتنصب عزالي رحمه‌الله على من يستمع شكوها ، وتصغي ملائكة السماء حتى تندب شجوها. ذلك ممّا أحدث من لعن إمام الدين ، وسراج ذوي اليقين ، محيي السنّة ، وقامع البدعة ، وناصر الحقّ ، وناصح الخلق ، الزكي الرضي ، أبي الحسن الأشعري ، قدس الله روحه وسقى بالرحمة ضريحه ، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج ، وسلك في قمع المعتزلة ، وسائر أنواع المبتدعة أبين منهج. واستنفد عمره في النضح عن الحق ، فأورث المسلمين وفاته كتبه الشاهدة بالصدق. (٢)

ومن لطيف ما جاء في تلك الرسالة قوله : وما نقموا من الأشعري إلاّ أنّه قال بإثبات القدر لله ، خيره وشره ، ونفعه وضره ، وإثبات صفات الجلال لله ، من قدرته ، وعلمه ، وإرادته ، وحياته ، وبقائه ، وسمعه ، وبصره ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٨٩ ـ ٣٩٩ ـ ولكن الكتاب غير موجود فيما طبع من تبيين كذب المفتري ، وقد تفحصناه وما وجدناه فيه.

٢ ـ طبقات الشافعية : ٣/١ ـ ٤ ، والرسالة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.

٣٠٣

وكلامه ، ووجهه ، ويده ، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنّه تعالى موجود تجوز رؤيته ، وأنّ إرادته نافذة في مراداته ، وما لا يخفى من مسائل الأُصول التي تخالف ( طريقه ) طريق المعتزلة والمجسمة فيها ، وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة ، وقول الأشعري قول زائد ، فإذا بطل قول الأشعري ، فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة؟ وإذا بطل القولان فهل هذا إلاّ تصريح بأنّ الحقّ مع غير أهل القبلة؟ وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج قول الأُمّة عن قوليهما ، فهل هذا إلاّ لعن جميع أهل القبلة؟

معاشر المسلمين الغياث الغياث! سعوا في إبطال الدين ، ورأوا هدم قواعد المسلمين ، وهيهات هيهات! ( يُريدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) (١) وقد وعد الله للحق نصره وظهوره وللباطل محقه وثبوره ، ألا إنّ كتب الأشعري في الآفاق مبثوثة ، ومذاهبه عند أهل السنّة من الفريقين معروفة مشهورة ، فمن وصفه بالبدعة علم أنّه غير محق في دعواه ، وجميع أهل السنّة خصمه فيما افتراه.

وقال في مختتم الرسالة : ولما ظهر ابتداء هذه الفتنة بنيسابور ، وانتشر في الآفاق خبره ، وعظم على قلوب كافة المسلمين ، من أهل السنة والجماعة أثره ، ولم يبعد أن يخامر قلوب بعض أهل السلامة [والوداعة ] توهم في بعض هذه المسائل أنّ لعلّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه‌الله ، قال ببعض المقالات ، في بعض كتبه ، ولقد قيل من يسمع يخل ، أثبتنا هذه الفصول في شرح هذه الحالة ، وأوضحنا صورة الأمر ، بذكر هذه الجملة ، ليضرب كل [من ] أهل السنّة ، إذا وقف عليها ، بسهمه ، في الانتصار لدين الله عزّ وجلّ ، من دعاء يخلصه ، واهتمام يصدقه ، وكل عن قلوبنا بالاستماع إلى [شرح] هذه القصّة يحمله ، بل ثواب من الله سبحانه على التوجع بذلك يستوجبه ، والله غالب على أمره ، وله الحمد على ما يمضيه من أحكامه ، ويبرمه ويقضيه في أفعاله ، فيما يؤخره ويقدمه ، وصلواته على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وسلم تسليماً.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التوبة : ٣٢.

٣٠٤

تمت الشكاية. (١)

٦ ـ استمرار الفتنة إلى زمان وزرارة نظام الملك

يظهر من السبكي أنّ فتيل الفتنة كان هو الوزير الكندري المعروف عميد الملك ، ويظهر فيما ذكر من استفتاءات أُخر بقاء الفتنة حتى بعد وفاة طغرل بك وقيام ولده ارسلان مقامه وقتل عميد الملك وتصدّى نظام الملك للوزارة. (٢)

إنّ وجود استفتاءات أُخر حول أبي الحسن الأشعري يدلّ على دوام المنافرة بين الأشاعرة وغيرهم من الحنابلة والمعتزلة ، وإليك استفتاءين آخرين ، يتعلّق ثانيهما بعصر أبي نصر القشيري ولد أبي القاسم القشيري ، وقد توفّي الوالد عام ٤٦٥ هـ كما توفّي الولد عام ٥١٤ هـ.

استفتاء آخر ببغداد

ما قول السادة الأئمة الأجلّة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم؟ ما الذي يجب عليهم؟!

فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي :

قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز ، وعلى الناظر في الأُمور ـ أعز الله أنصار هـ الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله ، وكتب محمد بن علي الدامغاني.

وبعده كتب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه‌الله : الأشعرية أعيان أهل السنّة ، ونصّار الشريعة. انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم ، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنّة ، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين ، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كلّ أحد. وكتب إبراهيم بن علي الفيروز آبادي.

وقد كتب مثله محمد بن أحمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق.

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٩٩ ـ ٤٢٣.

٢ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٩٣.

٣٠٥

استفتاء ثالث في واقعة أبي نصر القشيري ببغداد

وهذا الاستفتاء أوعز إليه السبكي في طبقات الشافعية ، في ترجمة الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وقال : « سنحكي إن شاء الله هذاالاستفتاء والأجوبة عند انتهائنا إلى ترجمة الأُستاذ أبي نصر ابن الأُستاذ أبي القاسم في الطبقة الخامسة » ، ولكنّه لم يف بوعده.

وحكى في المقام خط الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب الاستفتاء أنّه كتب : وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنّة ، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه ، ومذهبه مذهب أهل الحقّ ، وكتب نظير تلك الجملة عدّة من أعلام العصر من حنابلة وأحناف لا حاجة لذكر أسمائهم ، ويظهر من السبكي أنّ هذا الاستفتاء بقي زماناً بين يدي العلماء كلّما جاءت أُمّة منهم كتبت بالموافقة. (١)

٧ ـ شكوى تاريخية للأشاعرة ضدّ الحنابلة

لقد بلغت المنافرة بين الأشاعرة والحنابلة إلى القمة في عصر الشيخ أبي نصر عبد الرحيم ابن الشيخ أبي القاسم القشيري ، وبلغ السيل الزبي فقام أعاظم الأشاعرة لمساندة شيخهم أبي نصر برفع الشكوى إلى الوزير نظام الملك ، وتمت الشكوائية بتوقيع كثير من علمائهم ، وكان ذلك سنة ٤٦٩ هـ. وقد نقلنا تلك الشكوائية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة فراجع. (٢)

الأشاعرة وعقيدة أبي جعفر الطحاوي

إنّ الرسالة المعروفة بعقيدة الطحاوي يتبنّاها أهل السنّة حتى الحنابلة في هذه الأيام ، وهي من الكتب الدراسية في جامعة المدينة المنورة يومنا هذا ، والمؤلف ينسب كلّ ما جاء فيه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ، وقد ادّعى تاج الدين السبكي أنّ الأشاعرة لا يخالفون عمّا ذكر في

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٧٥ ـ ٣٧٦.

٢ ـ لاحظ بحوث في الملل والنحل : ١.

٣٠٦

هذه الرسالة إلاّ في ثلاث عشرة مسألة ، والاختلاف في بعضها معنوي ، وبعضها الآخر لفظي ، ثمّ قال : ولي قصيدة نونية جمعتُ فيها هذه المسائل ، وضممت إليها مسائل اختلفت الأشاعرة فيها مع ما جاء في كتاب العقيدة للطحاوي ، وإليك مستهلها :

الورد خطك ، صيغ من إنسان

أم في الخدود شقائق النعمان؟!

والسيف لحظك سُلَّ من أجفانه

فسطا كمثل مهند وسنان!

إلى أن قال :

كذب ابن فاعلة يقول لجهله

الله جسم ليس كالجسمان

لو كان جسماً كان كالأجسام يا

مجنونُ فاصْغ وعد عن البهتان

واتْبَع صراط المصطفى في كل ما

يأتي وخلّ وساوس الشيطان (١)

والقصيدة طويلة والغرض إيراد نماذج منها.

وأمّا الفرق بين الأشاعرة والماتريدية فهو يتوقف على تبيين عقيدة الشيخ الماتريدي مؤسس المنهج ، وسيوافيك [الحديث عن] حياته ومنهجه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة بإذن الله سبحانه. (إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٧٩.

٢ ـ الحجرات : ١٠.

٣٠٧
٣٠٨

حياة

أبطال الأشاعرة وعباقرتهم

إنّ ما أتى به الشيخ الأشعري من المنهج الكلامي وأفرغه في قالب التأليف والتصنيف ، أو طرحه على بساط البحث عن طريق التدريس والتعليم ، لم يكن منهجاً فكرياً متكاملاً في جميع موضوعاته ، فإنّ بعض أفكاره لم يكن مقترناً بالبراهين والأدلّة الناضجة ، كما أنّه لم يكن مستوعباً لجميع الأبواب ، ولكن ساعده الحظ بأن اقتفى أثره على مدى الأعصار عدة من المفكرين الذين نسبوا أنفسهم إليه ، فأضفوا على هذا المنهج ثوباًجديداً حتى جعلوه متكاملاً ، ناضجاً قابلاً للبقاء ، وبعيداً عن النقاش ، وأساس عملهم يرجع إلى شيئين :

الأوّل : تحليل الفكرة الأشعرية ببراهين جديدة أوحتها إليهم أنفسهم.

الثاني : الذب عن الإشكالات التي أوردها خصماء الأشعري على منهجه.

ولأجل إكمال البحث عن ذلك المنهج نأتي بترجمة بعض أئمّة الأشاعرة في العصور المختلفة ، الذين كان لهم ذلك الدور في إكمال المنهج وتجديده ، وهم المشايخ ، التالية أسماؤهم :

١ ـ أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى ٤٠٣ هـ. ق ).

٢ ـ أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفى ٤٢٩ هـ. ق ).

٣ ـ إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ( ٤١٩ ـ ٤٧٨ هـ. ق ).

٣٠٩

٤ ـحجة الإسلام الإمام الغزالي ( ٤٥٠ ـ ٥٠٥ هـ. ق ).

٥ ـ أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني ( ٤٧٩ ـ ٥٤٨ هـ.ق ).

٦ ـ أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي ( ٥٤٤ ـ ٦٠٦ هـ. ق ).

٧ ـ أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم المعروف بسيف الدين الآمدي ( ٥٥١ ـ ٦٣١ هـ. ق ).

٨ ـ عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين الإيجي مؤلف « المواقف » ( ٧٠٨ ـ ٧٥٦ هـ. ق ).

٩ ـ مسعود بن عمر بن عبد الله المعروف بسعد الدين التفتازاني ( ٧١٢ ـ ٧٩١ هـ. ق ).

١٠ ـ السيد علي بن محمد بن علي الحسيني المعروف بالسيد الشريف شارح « المواقف » ( المتوفى عام ٨١٦ هـ.ق ).

١١ ـ علاء الدين علي بن محمد السمرقندي المعروف بالقوشجي شارح « التجريد » ( المتوفى بالآستانة عام ٨٧٩ هـ.ق ).

هؤلاء أبرز أئمّة الأشاعرة الذين بهم نضج وتكامل المذهب ، وتمخّضت الفكرة الأشعرية ، ولولا هؤلاء لأفل نجمها بعد طلوعها بسرعة ، وهلّم معي أيّها القارئ لدراسة أحوالهم ، وعرض بعض أفكارهم ، والتعرف على تراثهم من الرسائل والكتب.

نعم عقد ابن عساكر في كتابه : « تبيين كذب المفتري » باباً أسماه« باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه إذاكان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدي به »و قد قسّم المقتفين أثره على خمس طبقات يقرب عدد من جاء فيها من ثمانين شخصاً. غير أنّ من يعبأ به في تكييف المنهج أقل منهم بكثير.

٣١٠

(١)

القاضي أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى ٤٠٣ هـ )

هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني ، وليد البصرة وساكن بغداد ، يعرّفه الخطيب البغدادي بقوله : محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني المتكلّم على مذهب الأشعري ، من أهل البصرة ، سكن بغداد ، وسمع بها الحديث وكان ثقة. فأمّا الكلام فكان أعرف الناس به ، وأحسنهم خاطراً ، وأجودهم لساناً ، وأوضحهم بياناً ، وأصحّهم عبارة ، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم. (١)

وقال ابن خلكان : كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ومؤيداً اعتقاده وناصراً طريقته ، وسكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره ، وكان في علمه أوحد زمانه ، وانتهت إليه الرئاسة في مذهبه ، وكان موصوفاً بجودة الاستنباط وسرعة الجواب. وسمع الحديث وكان كثير التطويل في المناظرة ، مشهوراً بذلك عند الجماعة ، وتوفّي آخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد رحمه‌الله تعالى ، وصلّى عليه ابنه الحسن ، ودفن في داره بدرب المجوس ، ثمّ نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.

والباقلاني نسبه إلى الباقلاء وبيعه!! (٢)

ويظهر من فهرس تآليفه أنّه كان غزير الإنتاج وكثير التأليف ، فقد ذكر له ٥٢ كتاباً ، غير أنّه لم يصل إلينا من هذه إلاّ ما طبع ، وهي ثلاثة :

١ ـ « إعجاز القرآن » طبع في القاهرة كراراً ، وقد حقّقه أخيراً السيد أحمد صقر ، طبع بمطابع دار المعارف بمصر عام ١٩٧٢ م.

ــــــــــــــــــ

١ ـ تاريخ بغداد : ٥/٣٧٩ ـ ٣٨٣.

٢ ـ وفيات الأعيان : ٤/٢٦٩ برقم ٦٠٨.

٣١١

٢ ـ« التمهيد في الرد على الملاحدة » وهو كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلامية في مختلف الأبواب.

٣ ـ « الإنصاف في أسباب الخلاف » وقد نشره محمد زاهد الكوثري في القاهرة عن مخطوطة دار الكتب المصرية عام ١٣٦٩ هـ.

عثرة لا تقال

ذكر الخطيب في ترجمة الباقلاني كلاماً وقال : « وحدث أنّ ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها ( يريد الشيخ المفيد ) حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له ، إذ أقبل القاضي ، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وقال لهم : قد جاءكم الشيطان ، فسمع القاضي كلامه ـ وكان بعيداً من القوم ـ فلمّا جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم : قال الله تعالى : ( إِنّا أَرْسَلْنا الشَّياطينَ عَلى الكافِرينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ) (١) أي إن كنتُ شيطاناً فأنتم كفّار ، وقد أرسلت عليكم. (٢)

أقول : وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ أنّه لو وقف الخطيب على مكانة ابن المعلم وشيخ الأُمّة الشيخ المفيد ، لتوقف في نقل هذه الأُسطورة ، وهذا اليافعي يعرّفه في تاريخه ويقول : « كان عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة بالدولة البويهية ».

وقال ابن أبي طي : « كان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ». (٣)

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٤١٣ : « شيخ الإمامية الروافض ، والمصنف لهم ، والمحامي عن حوزتهم. كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذاك الزمان إلى التشيع ، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من

ــــــــــــــــــ

١ ـ مريم : ٨٣.

٢ ـ تاريخ بغداد : ٥/٣٧٩ ، ونقله ابن عساكر في تبيينه : ٢١٧.

٣ ـ مرآة الجنان : ٣/٢٨.

٣١٢

العلماء من سائر الطوائف ، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضى ». (١)

وعلى ذلك فالرجل الذي يصف اليافعي في تاريخه بأنّه يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة ، أو يصفه ابن كثير بأنّه يحضر مجلسه كثير من العلماء من سائر الطوائف ، أجلّ من أن يتوسل في إفحام خصمه وإخضاعه للحق ، بالإهانة والتكلّم بما هو خارج عن أدب المناظرة.

نعم ، نقل بعض المترجمين للشيخ المفيد أنّه جرت مناظرة بينه وبين أبي بكر الباقلاني ، فلمّا ظهر تفوّق المفيد على مناظره ، قال له أبو بكر : أيّها الشيخ إنّ لك من كلّ قدر معرفة ، فأجابه الشيخ ممازحاً : نعم ما تمثلت به أيّها القاضي من أدوات ( مهنة ) أبيك. (٢)

إنّ الخطيب لم يخف حقده على شيخ الأُمّة في غير هذا المقام أيضاً ، فقد قال في ترجمته : « وكان أحد أئمّة الضلال ، هلك به خلق من الناس ، إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ». (٣)

أهكذا أدب العلم وأدب الدين؟!!

إنّ هذه شنشنة أعرفها من كلّ من يضمر الحقد على أمثال الشيخ. لاحظ الكامل لابن الأثير الجزء السابع ص ٣١٣ ترَ أنّ ما ذكره الخطيب أخف وطأً ممّا ذكره المعلق على « الكامل » من السباب المقذع الخارج عن أدب الدين والتقى.

فكلّ من أراد أن يقف على أدب الشيخ المفيد في المناظرة واحتجاجه على الخصم ، فليلاحظ مناظراته في الكلام والتفسير التي جمعها تلميذه الشريف المرتضى في كتاب « الفصول المختارة » اختارها من كتابين لشيخه المفيد ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ البداية والنهاية : ١٢/١٥.

٢ ـ روضات الجنات : ٦/١٥٩مستمداً من تلقبه بالباقلاني ، المنسوب إلى بائع الباقلاء.

٣ ـ تاريخ بغداد : ٣/٢٣١ برقم ١٢٩٩.

٣١٣

أحدهما : « المجالس المحفوظة في فنون الكلام » والثاني « العيون والمحاسن ». ولأجل إعطاء نموذج من مناظرات الشيخ المفيد وقوة عارضته ، نأتي بإحداها التي وقعت مع علي بن عيسى الرماني ( المتوفّى عام ٣٨٥ هـ ). فقد دخل الشيخ عليه والمجلس غاص بأهله ، فقعد حيث انتهى به المجلس ، فلمّا خف الناس قرب من الرماني ، فدخل عليه داخل وقال : إنّ بالباب إنساناً يؤثر الحضور ، وهو من أهل البصرة ، فأذن له فدخل فأكرمه ، وطال الحديث بينهما. فقال الرجل لعلي بن عيسى : ما تقول في يوم الغدير والغار؟ فقال : أمّا خبر الغار فدراية ، وأمّا خبر الغدير فرواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، وانصرف البصري ولم يحر جواباً. فقال الشيخ للرماني : أيّها الشيخ مسألة؟ فقال : هات مسألتك؟ فقال : ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل؟ فقال : كافر ، ثمّ استدرك فقال : فاسق ، وعندئذ قال المفيد : ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؟ قال : إمام.

فقال : ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير؟ فقال : تابا. فقال المفيد : أمّا خبر الجمل فدراية ، وأمّا خبر التوبة ، فرواية. فقال الرماني : هل كنت حاضراً وقد سألني البصري؟ فقال : نعم ، رواية برواية ودراية بدراية. (١)

فمن كان هذه مقدرته العلمية وقوة إفحامه للخصم ، فلا يتوسل بما يتوسل به العاجز عن المناظرة ، فما ذكره الخطيب أشبه بالمهزلة منه بالجد. كما أنّ ما نقله ابن عساكر من المنامات بعد موت القاضي أبي بكر أُمور لا يلتجىء إليها إلاّ من يفتقد الحقيقة في عالم الحس فيتطّلبها بالمنامات.

(٢)

أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفّى ٤٢٩ هـ )

أبومنصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي ، أحد العلماء البارزين في معرفة الملل والنحل ، وكتابه « الفرق بين الفرق » من الكتب المعروفة في هذا المجال ، ويعد سنداً وثيقاً لمعرفة المذاهب الإسلامية بعد كتاب

ــــــــــــــــــ

١ ـ مجموعة ورام : ٦١١.

٣١٤

« مقالات الإسلاميين » للشيخ أبي الحسن الأشعري وكأنّه حذا حذوه في النقل والتقرير ، ويمتاز بحسن الضبط واستيعاب البحث ، وإتقان التبويب ، ودقة العرض.

يعرّفه ابن خلكان بقوله : كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب ، فإنّه كان متقناً له ، وكان له فيه تآليف نافعة منها كتاب « التكملة ». وكان عارفاً بالفرائض والنحو ، وله أشعار. ونقل عن الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في « سياق تاريخ نيسابور » أنّه ورد مع أبيه نيسابور وكان ذا مال وثروة ، تفقّه على أهل العلم والحديث ، ولم يكتسب بعلمه مالاً ، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ، ودرس في سبعة عشر فناً ، وكان قد تفقّه على أبي إسحاق الإسفرائيني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين ، واختلف إليه الأئمّة فقرأوا عليه... وتوفّي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة « اسفرائن » ودفن إلى جانب شيخه أبي إسحاق. (١)

وترجمه الزركلي في الأعلام وقال : عالم متقن من أئمّة الأُصول ، ولد ونشأ في بغداد ، ورحل إلى خراسان فاستقر بنيسابور ، وفارقها على أثر فتنة التركمان ، ومات في اسفرائين. ثمّ ذكر تصانيفه المطبوعة والمخطوطة. (٢)

وترجمه« عبد الرحمن بدوي » فذكر له تسعة عشر كتاباً ، غير أنّ الواصل إلينا ما هو المطبوع وهو اثنان :

١ ـ « الفرق بين الفرق » نشر لأوّل مرّة في دار المعارف عام ١٩١٠م ، مليئاً بالأخطاء ، ثمّ نشر بتحقيق وإشراف الشيخ محمد زاهد الكوثري ، وأخيراً بتحقيق محمد محيي الدين.

٢ ـ « أُصول الدين » وقد طبع لأوّل مرّة في استانبول عام ١٣٤٦و طبع بالأُفست أخيراً في بيروت عام ١٤٠١ هـ. والكتاب يشتمل على خمسة عشر أصلاً من أُصول الدين ، وشرح كلّ أصل بخمس عشرة مسألة ، وعليه يكون

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٣/٢٠٣برقم : ٣٩٢ ؛ تبيين كذب المفتري : ٢٥٤.

٢ ـ الأعلام للزركلي : ٤/١٧٣.

٣١٥

الكتاب مشتملاً على مائتين وخمس وعشرين مسألة.

وإليك فهرس الأُصول الخمسة عشر التي جعلها أساساً للدين.

ذكر الأُصول الخمسة عشر

الأصل الأوّل : في بيان الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم.

الأصل الثاني : في حدوث العالم على أقسامه من أعراضه وأجسامه.

الأصل الثالث : في معرفة صانع العالم ونعوته في ذاته.

الأصل الرابع : في معرفة صفاته القائمة بذاته.

الأصل الخامس : في معرفة أسمائه وأوصافه.

الأصل السادس : في معرفة عدله وحكمه.

الأصل السابع : في معرفة رسله وأنبيائه.

الأصل الثامن : في معرفة معجزات أنبيائه وكرامات أوليائه.

الأصل التاسع : في معرفة أركان شريعة الإسلام.

الأصل العاشر : في معرفة أحكام التكليف في الأمر والنهي والخبر.

الأصل الحادي عشر : في معرفة أحكام العباد في المعاد.

الأصل الثاني عشر : في بيان أُصول الإيمان.

الأصل الثالث عشر : في بيان أحكام الإمامة وشروط الزعامة.

الأصل الرابع عشر : في معرفة أحكام العلماء والأئمّة.

الأصل الخامس عشر : في بيان أحكام الكفر وأهل الأهواء الفجرة.

وقد ذكر ما هو الوجه لأخذ الرقم (١٥) ، أساساً للتقسيم فقال :

وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد ، وأجمعت الأُمّة على بعضها واختلفوا في بعضها ، فمنها على اختلاف سن البلوغ

٣١٦

لأنّها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسني العرب دون سني الروم والعجم. ومنها مدة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوماً بلياليها. ومنها أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة خمسة عشر يوماً ، وهذا كلّه على أصل الشافعي وموافقيه. فأمّا على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة. ومقدار مدة الإقامة التي توجب عنده إتمام الصلاة خمسة عشر يوماً ، وعند الشافعي أربعة أيام. (١)

إلى غير ذلك من الأحكام الفقهية التي أكثرها محل خلاف بين فقهاء السنّة ، فضلاً عن الشيعة ، كأقل الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة ، خمسة عشر يوماً ؛ أو أنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة إلى غير ذلك... ، وعلى فرض صحة الأحكام الفرعية التي ذكرها لا صلة بين صحتها وكون أُصول الدين الأساسية خمسة عشر أصلاً ، وكلّ أصل مشتملاً على خمس عشرة مسألة ، فإنّ ذلك كلّه أُمور ذوقية استحسنها طبعه ، وإلاّففي وسع القارئ أن يجعل الأُصول أكثر أو أقل ، والمسائل كذلك.

ثمّ إنّ هذه الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة ـ حسب زعم هـ جاءت في كتابه « الفرق بين الفرق » مع اختلاف يسير في التعبير والكلمات. (٢)

الفرق بين الكتابين في العرض

إنّ السابر في كتاب « الفرق بين الفرق » يجد أنّ في قلمه حدة خاصة في عرض المذاهب ، فلا يعرض المذاهب الإسلامية ـ عدا مذهب أهل السنّة ـ بصورة موضوعية هادئة ، بل يعرضها بعنف وهجوم ، وهذا بخلاف سيرته في كتاب « أُصول الدين ».

ويكفي في هذا ما يقوله : ولم يكن بحمد الله ومنّه في الخوارج ولا في الروافض ، ولا في الجهمية ، ولا في القدرية ، ولا في المجسمة ولا في سائر أهل الأهواء الضالّة إمام في الفقه ، ولا إمام في رواية الحديث ، ولا إمام في

ــــــــــــــــــ

١ ـ أُصول الدين : ١ ـ ٢.

٢ ـ لاحظ الفصل الثالث من فصول الباب الخامس : ص ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

٣١٧

اللغة والنحو ، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ، ولا إمام في الوعظ والتذكير ، ولا إمام في التأويل والتفسير ، وإنّما كان أئمّة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة ، وأهل الأهواء الضالة إذا ردّوا الروايات الواردة عن الصحابة في أحكامهم وسيرهم ، لم يصحّ اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية أهل الرواية عنهم. (١)

أقول : ما ذكره في حقّ الروافض ـ إن أراد منه الشيعة ما عدا الغلاة ـ فقد ظلم العلم وجفا أهله ، ولو قاله عن جد فقد قاله عن قصور باعه ، ( وإن كان مؤلفاً في الملل والنحل ) في التعرف على جهودهم المتواصلة وآثارهم القيمة في العلوم الإسلامية ، فقد شاركوا الطوائف الإسلامية في تدوين المعقول والمنقول ، وجمع شذرات الحديث ، وتأليف شوارد السير ، ونظم جواهر الأدب ، ونضد قواعد الفقه ، وترصيف مباحث الكلام ، وتنسيق طبقات الرجال ، وضم حلقات التفسير ، وترتيب دروس الأخلاق ، كما فيهم الفلاسفة والعلماء والساسة والحكام والكتاب والمؤلّفون ، تشهد بذلك آثارهم وحياتهم.

وعلى أيّ تقدير ، فمن لطيف شعره ما نقله ابن عساكر عنه :

يا من عدا ، ثمّ اعتدى ثم اقترف

ثمّ انتهى ثمّ ارعوى ثم اعترف

أبشر بقول الله في آياته

« إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » (٢)

(٣)

إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله

الجويني ( ٤١٩ ـ ٤٧٨ هـ )

هو عبدالملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب الجويني.

أثنى عليه كلّ من ذكره ، يقول ابن خلّكان : أعلم المتأخّرين من

ــــــــــــــــــ

١ ـ الفرق بين الفرق : ٢٣٢.

٢ ـ تبين كذب المفتري : ٢٥٤.

٣١٨

أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق ، المجمع على إمامته ، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب ، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره ، وكان يذكر دروساً يقع كلّ واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها ، وقد أقام بمكة أربع سنين ، وبالمدينة يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب ، ولقب بإمام الحرمين. (١)

وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٤٥٦ الحوافز التي ألجأت أبا المعالي إلى مغادرة موطنه والخروج إلى الحجاز ، وما هي إلاّ محنة الأشاعرة في عصر الوزير العميد الكندري وزير طغرل بك السلجوقي قال : كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي بلغ من تعصبه أنّه خاطب السلطان ، في لعن الرافضة على منابر خراسان ، فأذن ذلك ، فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية ، فأنف من ذلك أئمّة خراسان ، منهم الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما ، ففارقوا خراسان ، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته ، يدرّس ويفتي ، فلهذا لقب إمام الحرمين ، فلما جاءت الدولة النظامية ( نظام الملك ) أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم. (٢)

أساتذته

تخرّج على والده الشيخ عبد الله بن يوسف وكان عالماً فقيهاً شافعياً غزير الإنتاج توفي سنة ٤٣٨ وله من الآثار « الفروق » و « السلسلة » و« التبصرة » و « التذكرة » وغيرها ، توفي والابن في سن التاسعة عشرة ، فأتم دراسته بالاختلاف إلى مدرسة البيهقي ، فتخرج على الشيخ أبي القاسم الإسفرائيني وغيره من الأساتذة الذين أخذ عنهم علمه.(٣)

آثاره

ترك من الآثار العلمية ما يربو على عشرين كتاباً بين مطبوع منتشر ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٣/١٦٧ ـ ١٦٨برقم ٣٧٨.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ١٠/٣١ ـ ٣٣ ـ وقد مرّ بيان الحادثة في الأمر الأوّل من الخاتمة.

٣ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : ١/٢٨١ ـ ٢٨٢.

٣١٩

ومخطوط موجود في خزائن الكتب في مصر وباريس وبرلين ، وإليك أسماء المطبوعة منها :

١ ـ « الإرشاد في أُصول الدين » وقد طبع في باريس وبرلين والقاهرة.

٢ ـ « الرسالة النظامية في الأحكام الإسلامية » وقد طبعت في القاهرة باسم « العقيدة النظامية » سنة ١٣٦٧ وقد ترجمت إلى الألمانية عام ١٩٥٨م.

٣ ـ « الشامل في أُصول الدين » وقد طبع الكتاب الأوّل ( العلل ) من الجزء الأوّل منه في القاهرة ١٩٦١م.

٤ ـ « غياث الأُمم في الإمامة » ويعدّه الباحثون أحسن منهجاً من كتاب « الأحكام السلطانية » للماوردي ، نشرته دار الدعوة بالاسكندرية.

٥ ـ « مغيث الخلق في اختيار الأحق » وللشيخ محمد زاهد الكوثري رسالة أسماها « إحقاق الحقّ بإبطال الباطل » في « مغيث الخلق » نشرت في القاهرة ١٩٤١م.

٦ ـ « الورقات في أُصول الفقه والأدلّة ». (١)

ويظهر ممّا نشر في كتبه الكلامية أنّه يستمد في آرائه عن المشايخ الثلاثة :

١ ـ أبو الحسن الأشعري المتوفّى عام ٣٢٤ ويعبر عنه ب ـ « شيخنا ».

٢ ـ أبو بكر الباقلاني المتوفّى سنة ٤٠٣ويعبّر عنه ب ـ « القاضي ».

٣ ـ أبو إسحاق الاسفرائيني المتوفّى عام ٤١٣ ويعبر عنه ب ـ الأُستاذ ».

آراؤه ونظرياته

يبدو أنّ أبا المعالي كان حراً في إبداء النظر ورفض الأفكار وقبولها ، وإليك بعض آرائه :

١ ـ أنكر مسألة خلق الأفعال ، وأنّ الإنسان مسلوب الاختيار ، وقد

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأعلام للزركلي : ٤/١٦٠ ؛ سير أعلام النبلاء : ١٨/٤٧٥ ـ ٤٧٦.

٣٢٠