بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

والضابط في ذلك أنّ مالا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، وذلك مثل الأوّليات ، وهكذا.

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

وباختصار : إنّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ، ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب ودرجات ، وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته.

٣ ـ لو كان الحسن والقبح عقليّين لما تغيّرا

إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليين لمّا اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن. والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح. وذلك فيما إذا تضمّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك ، والصدق إهلاكه.

وباختصار : لو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما توقفت عليه عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « وارتكاب أقلّ القبيحين مع إمكان التخلّص ». (١)

توضيحه : أنّ الكذب في الصورة الأُولى على قبحه ، وكذاالصدق على حسنه ، إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح منه ، فيحكم العقل بارتكاب أقل القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض ( أي التورية ).

وباختصار : إنّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق ، فيكون تركه أقبح من الكذب ، فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.

ـــــــــــــــــ

١ ـ كشف المراد : ١٨٧.

٢٨١

أضف إلى ذلك : أنّ الاستدلال مبني على كون قبح الكذب وحسن الصدق ، كقبح الظلم وحسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران ، لا على القول بأنّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على أقسام. منها ما يكون الفعل علّة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حسنه ولا قبحه بعروض العوارض لحسن الإحسان وقبح الإساءة ، ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، وهكذا في جانب القبح. وحسن الصدق وقبح الكذب من هذا القبيل. ومنها ما لا يكون علّة ولا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، جزاءً أو إيذاءً.

ثمّ إنّ لنفاة الحسن والقبح العقليين دلائل واهية لا تليق أن تطرح على بساط البحث ، فلنضرب صفحاً عنها.

إلى هنا تم استعراض أدلّة المنكرين للحسن والقبح العقليين ، فيناسب ـ تكميلاً للبحث ـ استعراض أدلّة المثبتين وهو يتوقف على تبيين ما هو الملاك عند العقل للحكم بأنّ الفعل الكذائي حسن أو قبيح ، ولنقدم البحث في ذلك ، ثمّ نتبعه بذكر براهين المثبتين.

ما هو الملاك لدرك العقل في هذا المجال؟

إنّ الملاك لقضاء العقل هو أنّه يجد بعض الأفعال موافقاً للجانب الأعلى من الإنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، كما يجد بعضها الآخر غير موافق معه ، وإن شئت قلت : إنّه يدرك أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي المختار ، وبعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحسن الأوّل ولزوم الاتصاف به ، وقبح الثاني ولزوم تركه.

توضيح ذلك : أنّ الحكماء قسّموا العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، فقد قال المعلم الثاني : « إنّ النظرية هي التي بها يجوز الإنسان علم ما ليس من شأنه يعمله إنسان والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته ».

قال الحكيم السبزواري في توضيحه : إنّ العقل النظري والعقل

٢٨٢

العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري ، شأنه العلوم الصرفة غير المتعلّقة بالعمل ، مثل : « الله موجود واحد » ، و« أنّ صفاته عين ذاته » ونحو ذلك ، والعملي شأنه العلوم المتعلّقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و« الرضى والتسليم والصبر محمودة ». وهذا العقل هو المستعمل في علم الأخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أوكضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد وهو الناطقة. (١)

ثمّ ، كما أنّ في الحكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، ولولا ذلك لعقمت القياسات وصارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضرورية ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية ، فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظرية من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.

مثلاً : إنّ كلّ القضايا النظرية يجب أن تنتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشيء من القضايا ، ولذا تسمى ب ـ « أُمّ القضايا » ؛ مثلاً : لا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين ، قائمتين ، إلاّ إذاحصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما ، وإلاّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النظرية إنّما تتم إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضاياالتي قد عرفت ، وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أنّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوّلية تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّلية وواضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صحّ التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا ، مثل قولنا : « العدل حسن » و « الظلم

ــــــــــــــــــ

١ ـ تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة : ٣١٠.

٢٨٣

قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن وبالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العملية ، والعقل يدركها من ملاحظة القضية بنفسها ، وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانية ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضية التحسين والتقبيح في قسم من الأفعال ، قضية كلية لا تختص بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختص ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان ، بل تعم الموجود الحي المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضية عامة شاملة لكلّ من يمكن أن يتصف بهذه الأفعال ، كالعدل والظلم فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عن الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للإنسان خصوصية في ذلك القضاء.

وبذلك يصبح المدعي للتحسين والتقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدعي لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما كذلك.

والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، وإلاّ عقمت الأقيسة ولزم التسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ، ولم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية وبديهية ، أو نظرية وضرورية ، كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.

فالمسائل المطروحة في الأخلاق ، التي يجب الاتصاف بها والتنزّه عنها ، أو المطروحة في القضايا البيتية والعائلية التي يعبر عنهاب تدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة وتدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.

فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العملية إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية

٢٨٤

واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية ، حتى يحصل الجزم بها ، ويرتفع الإبهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين في غنى عن التوسع في طرح أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح ، ولا نذكر إلاّ النزر اليسير ، وإليك بعض أدلّتهم :

أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليَّين

الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً » (١) مفاده : إنّه لو قلنا بأنّ الحسن والقبح يثبتان شرعاً يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

توضيحه : انّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب ، فلا إشكال في أنّ ما أمر به الشارع يكون حسناً ، وما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والشارع لا يرتكب القبيح ، ولا يتصور في حقّه ارتكابه.

وأمّا لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه ، حتى نعتقد بمضمونه ، لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره ، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأنّه لا يكذب ، لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار ، فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلاً ولا شرعاً.

وإن شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر ، كالصدق والكذب ، فلا يستقل بقبح صدور الكذب من الله سبحانه. فإذا أخبرنا عن طريق أنبيائه بأنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

ثمّ إنّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله :

ــــــــــــــــــ

١ ـ كشف المراد : ١٨٦.

٢٨٥

إنّا لا نجعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكر ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كونه متعلّق النهي والذم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ البحث تارة يقع في التسمية والمصطلح ، فيصحّ أن يقال : إنّ ما وقع متعلّق الأمر والمدح حسن ، وما وقع متعلّق النهي والذم قبيح. والعلم بذلك لا يتوقّف إلاّ على سماعهما من الشرع. وأُخرى يقع في الوقوف على الحسن أو القبح الواقعيين عند الشرع ، فهذا ممّا لا يمكن استكشافه من مجرّد سماع تعلّق الأمر والنهي بشيء ، إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره ونهيه.

ولو قال إنّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي احتمال العابثية عن فعله وكلامه ، لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه ، فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه وقبحه على شيء ، وأن يكون العقل مستقلاً في دركه ، وهو حسن الصدق وقبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك ، على أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله ، فيثبت عندئذ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً ، وما تعلّق به النهي قبيح شرعاً. وهذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن ولا قبح بتاتاً.

الثاني : ما أشار إليه المحقّق الطوسي أيضاً بقوله : « ولجاز التعاكس في الحسن والقبح ». (٢)

توضيحه : أنّ الشارع على القول بشرعية الحسن والقبح يجوز له أن يحسّن ما قبّحه العقل أو يقبّح ما حسّنه.

وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة. فإنّ وجدان كلّ إنسان يقضي بأنّه لا يصحّ أن يذم المحسن أو يمدح

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٤٤٢.

٢ ـ كشف المراد : ١٨٦.

٢٨٦

المسيء. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء » (١). والإمام يهدف بكلمته هذه إلى إيقاظ وجدان عامله ، ولا يطرحه بما أنّه كلام جديد غفل عنه عامله.

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، ولكن يحكمون بذلك مستندين إلى العقل. وهؤلاء الماديون والملحدون في الشرق والغرب يرفضون الشرائع والدين من أساسه ، ومع ذلك يعترفون بحسن أفعال وقبح بعضها الآخر.

ولأجل ذلك يغرون شعوب العالم بطرح مفاهيم خداعة ، بدعاياتهم الخبيثة ، من قبيل دعم الصلح والسلام العالمي ، وحفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى والسجناء ونبذ التمييز العنصري ، إلى غير ذلك ممّا يستحسنه الذوق الإنساني والعقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون ذلك ليصلوا من خلال هذه الدعايات الفارغة إلى أهدافهم ومصالحهم الشخصية. ولولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية والإلحاد في العالم.

والحاصل : انّ هناك أفعالاً لا يشك أحد في حسنها سواء أورد حسنها من الشرع أم لم يرد ، كما أنّ هناك أفعالاً قبيحة عند الكلّ ، سواء أورد قبحها من الشرع أم لا. ولأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ، ولا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي خالي الذهن من العقائد كلّها ، بين أن يصدق ويعطى ديناراً ، أو يكذب ويعطى ديناراً ، ولا ضرر عليه فيهما فإنّه يرجح الصدق على الكذب ، ولولا قضاء الفطرة بحسن الصدق وقبح الكذب لما فرق بينهما ، ولما اختار الصدق دائماً.

وهذا يعرب عن أنّ العقل له القدرة على الحكم والقضاء في أُمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم ، وقبح مخالفته ، وأنّ المحسن والمسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.

الرابع : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى

ــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة قسم الرسائل برقم : ٥٣.

٢٨٧

شيء ولو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين ، وتجويز ذلك سدّ لباب معرفة الأنبياء ، فإنّ أي نبي أتى بالمعجزات عقيب الإدّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

وباختصار : لو جاز منه سبحانه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب ـ الذي يسمّيه العقل قبيحاً أو إخلالاً بالواجب ـ لارتفع الوثوق بنبوة مدّعيها وإن أظهر الإعجاز ، لتسويغ إظهار الإعجاز على يد الكاذب على الله سبحانه ، ولارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، لإمكان تطرّق الكذب عليه ، وذلك يفضي إلى الشكّ في صدق الأنبياء ، والاستدلال بالإعجاز على صدق مدّعي النبوة.

وهذه النتيجة الباطلة من أهمّ وأبرز مايترتب على إنكار القاعدة وبذلك سدّوا باب معرفة النبوة.

والعجب أنّ الفضل بن روزبهان حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله : عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلاً ، بل لعدم جريان عادة الله ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك ، فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء ، لأنّ العلم العادي حكم باستحالة هذا الإظهار. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه من أين وقف على تلك العادة ، وأنّ الله لا يجري الإعجاز على يد الكاذب؟

وثانياً : أنّه لو كان التصديق متوقفاً على إحراز تلك العادة ، لزم أن يكون المكذّبون لنبوة نوح أو من قبله ومن بعده ، معذورين في إنكارهم لنبوة الأنبياء ، إذ لم يثبت عندهم تلك العادة ، لأنّ العلم بتلك العادة يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

وباختصار : انّ تحصيل جريان عادة الله على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب يجب أن يستند إلى مصدر ، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة ، وإن كان هو السمع فالمفروض أنّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الادّعاء.

ــــــــــــــــــ

١ ـ دلائل الصدق : ١/٣٦٩.

٢٨٨

وبعبارة أُخرى : لا سمع قبل ثبوت نبوة النبي.

وحصيلة البحث : إنّ منكر الحسن والقبح ، منكر لما هو من البديهيات ، ولا يصحّ الكلام معه ، لأنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء ينازعون في نفس المقدّمات الضرورية ، وليت شعري ، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله سبحانه العبد عن الفعل ويخلق فيه اضطراراً ويعاقبه عليه ، فقل : لو لم يدركه العقل فأي شيء يدركه؟

قيل : اجتمع النظّام والنجار للمناظرة ، فقال النجار : لم تدفع أن يكلّف الله عبادَهُ ما لا يطيقون؟ فسكت النظام ، فقيل له : لم سكت؟ قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح ، فبم ألزمه؟

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز

إنّ التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّّه يسلم وجود التحسين والتقبيح العقليين خارج إطار الوحي ، ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح :

١ ـ قال سبحانه : (انَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (١)

٢ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ). (٢)

٣ ـ (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

٤ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء). (٤)

ــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ٩٠.

٢ ـ الأعراف : ٣٣.

٣ ـ الأعراف : ١٥٧.

٤ ـ الأعراف : ٢٨.

٢٨٩

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف ، قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاًمن صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات من الماء والتراب ، وليس عرفان الإنسان لها موقوفاً على تعلّق حكم الشرع ، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يتخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته.

يقول سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسدينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعلُ المُتَّقينَ كَالفُجّار). (١)

٦ ـ يقول سبحانه : (أََفَنَجْعَلُ المُسْلِيمنَ كَالْمُجْرِمينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (٢)

٧ ـ يقول سبحانه : (هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلاّ الإِحسانُ). (٣)

فالتدبّر في هذه الآيات لا يدع مجالاً لتشكيك المشكّكين في كون التحسين والتقبيح من الأُمور العقلية التي يدركها الإنسان بالحجة الباطنية ، من دون حاجة إلى حجّة ظاهرية.

دور التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ مسألة التحسين والتقبيح العقليين تحتل مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية إذ بها ينحل كثير من المشاكل في الكلام وغيره ، وإليك بيان بعضها :

ــــــــــــــــــ

١ ـ ص : ٢٨.

٢ ـ القلم : ٣٥ ، ٣٦.

٣ ـ الرحمن : ٦٠.

٢٩٠

١ ـ وجوب المعرفة

اتّفق المتكلّمون ـ ما عدا الأشاعرة ـ على لزوم معرفة الله سبحانه لزوماً عقلياً ، بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها ، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم ، وهو حسن. وفي تركها الوقوع في الضرر المحتمل. هذا إذا قلنا باستقلال العقل في ذلك المجال ، ولولاه لما ثبت وجوب المعرفة لا عقلاً ـ لأنّه حسب الفرض معزول عن الحكم ـ ولا شرعاً ، لأنّه لم يثبت الشرع بعد.

٢ ـ لزوم النظر في برهان النبوة

لا شكّ أنّ الأنبياء الحقيقيين بعثوا بمعاجز وبيّنات ، فإذا ادّعى أحدهم السفارة من الله إلى الناس ، فهل يجب على الناس النظر في دعواه وبرهانه؟ فعلى استقلال العقل في مجال التحسين والتقبيح يجب النظر والإصغاء دفعاً للضرر المحتمل. وأمّا على القول بعدمه فلا يجب ذلك لا عقلاً ولا شرعاً ، كما عرفت في سابقه. ونتيجة ذلك إنّ التارك للنظر معذور ، لأنّه لم يطّلع على حقيقة الأمر.

٣ ـ العلم بصدق دعوى النبوة

إذا اقترنت دعوة المتنبي بالمعاجز والبيّنات الواضحة ، فلو قلنا باستقلال العقل في مجال الحسن والقبح ، حكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب ، لما فيه من إضلال الناس. وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام ، فلا دليل على كونه نبيّاً صادقاً ، والشرع بعد لم يثبت حتى يحكم بصدقه.

٤ ـ قبح العقاب بلا بيان

اتّفق الأُصوليون على قبح العقاب بلا بيان ، وعليه بنوا أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإجمالي. وهذا يتم بالقول بالتحسين والتقبيح العقليين. نعم هذا إنّما يفيد إذا لم تثبت البراءة من الشرع ، بواسطة الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّ البحث فيها بعد ثبوت الشرع.

٢٩١

٥ ـ الخاتمية

إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ، بالمعنى الذي عرفت من الملاءمة للفطرة العلوية أو المنافرة لها ، أساس الخاتمية ، وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة. فإنّ الحكم بالحسن والقبح ـ على ما عرفت ـ ليس إلاّكون الشيء موافقاً للفطرة العلوية أو منافراً لها. وبما أنّ الفطرة مشتركة بين جميع الأفراد ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة.ولأجل ذلك لا يتطرق التبدل والتغيّر إلى أحكامه وإن تبدّلت الحضارات وتطورت المدنيات ، فإنّ تبدلها لا يمس فطرة الإنسان ولا يغير جبلّته.

٦ ـ لزوم بعث الأنبياء

إنّ مسألة لزوم إرسال الرسل تبتني على تلك المسألة ، فالعقل يدرك بأنّ الإنسان لم يخلق سدى ، بل خلق لغاية ، ولا يصل إليها إلاّ بالهداية التشريعية الإلهية. فيستقل بلزوم بعث الدعاة من الله لهداية البشر دفعاً للّغو.

٧ ـ ثبات الأخلاق أو تطورها

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرحت مؤخراً عند الغربيين ، ودارت حولها مناقشات وأبديت فيها الآراء. فمن قائل بثبات أُصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب الأنظمة والحضارات. ولكن المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليين ، الناشئين من قضاء الجبلة الإنسانية العالية ، فعند ذلك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود ، في ضوء ثبات الفطرة ، وأمّا ما يتغير بتغير الحضارات ، فإنّما هو العادات والتقاليد العرفية.

خذ على ذلك مثلاً« إكرام المحسن » فإنّه أمر يستحسنه العقل ويضفي عليه سمة الخلود ، وليس هذا الحكم متغيراً أبداً ، وإنّما المتغير وسائل الإكرام وكيفياته ، فإذاً الأُصول ثابتة ، والعادات والتقاليد متغيّرة ، وليست الأخيرة إلاّ ثوباً للأُصول.

٢٩٢

٨ ـ عادل لا يجور

إنّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليين ـ على ما عرفت ـ هو أنّ العقل ـ بما هوهو ـ يدرك أنّ هذا الشيء ـ بما هوهو ـ حسن أو قبيح ، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء ـ بما هوهو ـ من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود ، ومن دون دخالة درك مدرك خاص ، بل الشيء يتمتع بأحد الوصفين بما هوهو.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعية عامة ، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن ويمدح فاعله عند الجميع ، والظلم قبيح ويذم فاعله عند الجميع ، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصف هـ أعني : استحقاق الفاعل للمدح أو الذم من غير خصوصية للفاعل ـ كيف يقوم بفعل يحكم هو نفسه بأنّ فاعله مستحق للذم ، أو يقوم بفعل يحكم هو بأنّه يجب التنزّه عنه؟

وعلى ذلك فهو سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح والعدل حسن ، ولا يصدر القبيح من الحكيم. فالاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي له.

وإن شئت قلت : إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال مطلق لكلّ أحد ، وارتكاب الظلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك ـ حسب إدراك العقل ـ عنده سبحانه. ومعه : كيف يمكن أن يرتكب الواجب تعالى خلاف الكمال ويقوم بما يجرّ النقص إليه؟

دفع إشكال

ربما يقال إنّ كون الشيء حسناً عند الإنسان أو قبيحاً عنده ، لا يدل على كونه كذلك عند الله سبحانه. فكيف يمكن استكشاف أنّه لا يترك الواجب ولا يرتكب القبيح؟

٢٩٣

والإجابة عنه واضحة ، لأنّ مغزى القاعدة السالفة هو أنّ الإنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم من كلّ مدرك شاعر ، ولكلّ عاقل حكيم ، من غير فرق بين الظروف والفواعل. وهذا نظير درك الزوجية للأربعة ، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع ، لا عند خصوص الممكن. فليس المقام من باب إسراء حكم الإنسان الممكن إلى الواجب تعالى. بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين ، من غير فرق بين خالقهم ومخلوقهم. ولا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة ، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

وعلى هذا يثبت تنزّهه سبحانه عن كلّ قبيح ، واتّصافه بكلّ كمال في مقام الفعل ، فيثبت كونه تعالى حكيماً عادلاً لا يرتكب اللغو وما يجب التنزّه عنه ، كما لا يرتكب الجور والعدوان.

مكانة العدل في العقائد الإسلامية

إنّ هذا البحث الضافي حول التحسين والتقبيح العقليين ، وما يترتب عليهما من الآثار ، التي عرفت بعضها ، يوقفنا على مكانة العدل في العقائد الإسلامية ، إذ الاعتقاد بالعدل من شعب الاعتقاد بالتحسين والتقبيح العقليين ، وقد عرفت أنّه لولا القول به لارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، وامتنع حصول الوثوق بمعاجز مدعي النبوة ، وعزل العقل في درك التحسين والتقبيح في الأفعال يستلزم انخرام كثير من العقائد الإسلامية ، ولأجل هذه الأهمية والمنزلة تضافرت الآيات والروايات مركزة على قيامه سبحانه بالقسط.

العدل في الذكر الحكيم

قال سبحانه : (شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ). (١)

ــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ١٨.

٢٩٤

وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط ، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.

قال سبحانه : (لَقَدْأَرْسَلْنا رُسُلنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاس بِالقِسْطِ). (٢)

كما صرح بأنّ القسط هو الحجر الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازينَ القِسْط لِيَوم القِيامَة فَلا تُظْلَمُ نَفسٌ شَيْئاً ) (٣). إلى غير ذلك من الآياتالواردة حول العدل والقسط.

وهذه الآيات إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته ، بأنّ العدل كمال لكلّ موجود حي ، مدرك مختار ، وأنّه يجب أن يوصف الله به في أفعاله في الدنيا والآخرة ، وأنّه يجب أن يقوم سفراؤه به.

العدل في التشريع الإسلامي

وهذه المكانة التي يحتلها العدل هي التي جعلته سبحانه يعرف أحكامه ويصف تشريعاته بالعدل. وأنّه لا يشرع إلاّما كان مطابقاً له.

يقول سبحانه : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون). (١)

فالجزء الأوّل من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام ، كما أنّ الجزء الثاني ناظر إلى عدالته يوم الجزاء في مكافأته ، وعلى كلّ تقدير فإنّ شعار الذكر الحكيم هو : (وَما ظَلَمهُمُ الله وَلكِن كانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُون). (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الحديد : ٢٥.

٢ ـ الأنبياء : ٤٧.

٣ ـ المؤمنون : ٦٢.

٤ ـ النحل : ٣٣.

٢٩٥

وهذا يكشف عن عدالته في التشريع والجزاء ، كما يكشف عن تعلّق إرادته بإقامة العدل ورعاية القسط. (١)

ويتفرع على هذا الأصل مسألة نفي الجبر عن أفعال البشر ، وبما أنّ تحقيق هذه المسألة يحتاج إلى إسهاب في أدلّة الطرفين نرجئ البحث عنها إلى وقت تبيين عقائد المعتزلة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ إنّ توصيفه سبحانه بالعدل ربما يثير أسئلة حول عدله ، وقد أخذتها الملاحدة ذريعة للتشكيك :

١ ـ إذا كان عادلاً فما معنى المصائب والبلايا التي تحل بالإنسان في حياته؟

٢ ـ ما هذا الاختلاف في المواهب والقابليات لدى الأفراد؟

٣ ـ ما هي الحكمة في خلق العاهات الجسمية أو العقلية؟

٤ ـ ما هي الحكمة في الفقر والشقاء والجوع التي تعاني منها مجموعات كبيرة من البشر؟

إلى غير ذلك ممّا يشابه هذه الأسئلة. وقد أجبنا عنها في كتاب « الله خالق الكون » فلاحظ

منه : ص ٩٧ ـ ٩٩ وص ٢٦٩ ، ٢٨١.

٢٩٦

خاتمة المطاف

نذكر فيها أمرين هامّين :

الأوّل : الإيعاز إلى المنافسة المستمرة بين الحنابلة والأشاعرة.

الثاني : ترجمة عدة من شخصيات الأشاعرة البارزة ، الذين نضج بهم المذهب وكملت بهم أركانه ، وإليك البيان :

المنافسة والمنافرة بين الحنابلة والأشاعرة

إنّ المنافرة بين الطائفتين كانت قائمة على قدم وساق منذ ظهور مذهب الإمام الأشعري بين أهل السنّة واستقطب مجموعة كبيرة من العلماء ، واشتهر مذهباً خاصاً بين أهل السنّة ، ولكن الحنابلة منذ أن تاب الأشعري عن الاعتزال وادّعى أنّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، لم يقبلوا منه [ذلك].

وقد عرفت كلمة البربهاري عندما ذكر له الشيخ ، ما نقلناه عنه سابقاً. (١)

وقد تجلّت تلك المنافسة عبر الزمان بصور مختلفة من مرحلة ضعيفة إلى مرحلة قوية أدت إلى الضرب والشتم وحبس مشايخ الأشاعرة ونفيهم من أوطانهم ، ولأجل إيقاف القارئ على هذه المنافرة نأتي ببعض ما يدلّ على ذلك :

ــــــــــــــــــ

١ ـ لاحظ ص ٣٠ من هذا الكتاب.

٢٩٧

١ـ ترجمة الشيخ في كتب الذهبي

إنّ الشيخ الذهبي لم يقم بترجمة الشيخ على وجه يتلقّاه الأشاعرة بالقبول ، بل اشتمل كلامه على لذع ولدغ ، وفي هذا يقول السبكي :

وأنت إذا نظرت في ترجمة هذا الشيخ الذي هو شيخ السنّة وإمام الطائفة في تاريخ شيخنا الذهبي ، ورأيت كيف مزّقها وحار كيف يضع من قدره ، ولم يمكنه البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحق ، ولا الصبر عن السكون لما جبلت عليه طويته من بغضه ، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه ، ثمّ قال في آخر الترجمة : « من أراد أن يتبحّر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب « تبيين كذب المفتري » لأبي القاسم ابن عساكر. توفنا على السنّة ، وأدخلنا الجنة ، واجعل أنفسنا مطمئنة ، نحب فيها أولياءك ، ونبغض فيها أعداءك ، ونستغفر للعصاة من عبادك ، ونعمل بمحكم كتابك ، ونؤمن بمتشابهه ونصفك بما وصفت به نفسك ».

فعند ذلك تقضي العجب من هذا الذهبي ، وتعلم إلى ماذا يشير المسكين؟!فويحه ، ثم ويحه!إنّ الذهبي أُستاذي ، وبه تخرّجت في علم الحديث ، إلاّ أنّ الحقّ أحقّ أن يتبع ويجب عليَّ تبيين الحقّ فأقول :

أمّا حوالتك على « تبيين كذب المفتري » وتقصيرك في مدح الشيخ ، فكيف يسعك ذلك مع كونك لم تترجم مجسماً يشبّه الله بخلقه إلاّ واستوفيت ترجمته؟! حتى إنّ كتابك مشتمل على ذكر جماعة من أصاغر المتأخرين من الحنابلة ، الذين لا يؤبه إليهم ، وقد ترجمت كلّ واحد منهم بأوراق عديدة ، فهل عجزت أن تؤتي ترجمة هذا الشيخ حقّها وتترجمه كما ترجمت من هو دونه بألف ألف طبقة. فأي غرض وهوى نفس أبلغ من هذا؟! وأقسم بالله يميناً برّة ما بك إلاّ أنّك لا تحب شياع اسمه بالخير ، ولا تقدر في بلاد المسلمين على أن تفصح فيه بما عندك من أمره ، وما تضمره من الغموض منه ، فإنّك لو أظهرت ذلك لتناولتك سيوف الله.

وأمّا دعاؤك بما دعوت به ، فهل هذا مكانه يا مسكين؟!

وأمّا إشارتك بقولك : « نبغض أعداءك » إلى أنّ الشيخ من أعداء الله

٢٩٨

وأنّك تتبغضه فسوف تقف معه بين يدي الله يوم يأتي وبين يديه طوائف العلماء من المذاهب الأربعة ، والصالحين من الصوفية والجهابذة الحفّاظ من المحدّثين ، وتأتي أنت تتكسع في ظُلم (١) التجسيم الذي تدّعي أنّك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه ، وتزعم أنّك تعرف هذا الفن وأنت لا تفهم فيه نقيراً ولا قطميراً ، وليت شعري من الذي يصف الله بما وصف به نفسه؟! من شبهه بخلقه؟! أمن قال : لَيْسَ كمثله شيء وهو السَّميع البَصير ؟

والأولى بي على الخصوص إمساك عنان الكلام في هذا المقام ، فقد أبلغت ، ثمّ احفظ لشيخنا حقّه وأمسك. (٢)

٢ ـ استفتاء يتعلّق بحال الشيخ

وقد كتب استفتاء يتعلّق بحال الشيخ في زمان شيخ الأشاعرة أبي القاسم القشيري بخراسان عند وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة عام ست وثلاثين وأربعمائة ، وإليك جواب القشيري وغيره عنه :

بسم الله الرّحمن الرّحيم. اتّفق أصحاب الحديث إنّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث ، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث ، تكلّم في أُصول الديانات على طريقة أهل السنّة ، رد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة ، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة ، سيفاً مسلولاً ، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنّة.

بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج (٣) في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر وكتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري.

وكتب تحته الخبازي : كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ جمع الظلمة.

٢ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٤٧ ـ ٣٥٤.

٣ ـ الدرج : الذي يكتب فيه.

٢٩٩

والشيخ أبو محمد الجويني : الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه ، وكتبه عبد الله بن يوسف ، وكتب نظير تلك الجملة المشايخ : أبو الفتح الشاشي ، وعلي بن أحمد الجويني ، وناصر العمري ، وأحمد بن محمد الأيوبي ، وأخوه علي ، وأبو علي الصابوني ، وابو عثمان الصابوني ، وابنه أبو نصر بن أبو عثمان ، والشريف البكري ، ومحمد بن الحسن الملقاباذي. (١)

يظهر من كتاب « تبيين كذب المفتري وطبقات الشافعية » أنّ بعض هؤلاء كتبوا تحت الورقة بعبارات فارسية ، مثلاً كتب عبد الجبار الإسفرايني بالفارسية : « إن أبو الحسن الأشعري آن امام است كه خداوند عزوجل اين آيت در شأن وى فرستاد : فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه ... ( المائدة : ٥٤ ) (٢) ومصطفى عليه‌السلام در آن روايت ، به جد وى اشارت كرد فقال : هم قوم هذا ». (٣)

٣ ـ الفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور

يظهر من كلام تاج الدين السبكي أنّ هذا الاستفتاء كان مقروناً بالفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور قاعدة بلاد خراسان آنذاك ، وقد آلت الفتنة إلى خروج إمام الحرمين ، والحافظ البيهقي ، وأبي القاسم القشيري من نيسابور ، وكانت تلعب في ذلك يد الحنابلة تحت الستار ، وإليك شرحه :

قال السبكي : كان طغرل بك السلجوقي ـ وهو أوّل ملوك السلاجقة ـ رجلاً حنفياً سنّياً ، وكان له وزير يسمّى ب ـ : أبي نصر منصور بن محمد الكندري المعروف بعميد الملك ، والسبكي يتّهمه بأنّه كان معتزلياً ، رافضياً ، ومشبهاً لله سبحانه بخلقه ممّا هو شائع بين الكراميةوالمجسمة (٤). فحسّن عميد الملك

ــــــــــــــــــ

١ ـ ولعلّه تعريب ملك آباد.

٢ ـ وقد عرفت حقّ المقال في ادّعاء نزول هذه الآية في حقّ أبي موسى الأشعري جدّ الشيخ الأعلى ، فراجع.

٣ ـ طبقات الشافعية : ٣/٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٤ ـ نحن نشك في وجود هذه الصفات الثلاث في رجل مثقف مثل عميد الملك ، كيف يمكن أن

٣٠٠