بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

على عقبه ، قال : وكانت نفقته في كلّ سنة سبعة عشر درهماً. (١)

وهذا من غرائب الأُمور ، إذ مع أنّه لا يكفي لنفقة إنسان طول السنة مهما بلغت قيمة العملة الفضية ، كما هو معلوم لمن تتبع قيمة الدرهم والدينار في العصور الإسلامية ، إنّ الشيخ قام بتأليف كتب يناهز عددها المائة ، وبعضها يقع في مجلدات ضخمة ، وقد ذكر المقريزي أنّ تفسيره يقع في سبعين مجلداً. (٢)

وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها ويراعها ، والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة ، وأخذ بالمحاسبة الدقيقة ، وخرج بهذه النتيجة : أنّ الأشعري كان ينفق في السنة ١٧ درهماً ، والدرهم ( ٩٥/٢ ) غراماً من الفضة فكان مقدار ما ينفقه في العام هو ما يساوي ( ١٥/٥٠ ) غراماً من الفضة ، ثمّ قال : فما كان أرخص الحياة في تلك الأيام. (٣)

ولأجل ما في هذا النقل من الغرابة ، نقله ابن خلّكان بصورة أُخرى ، وهي أنّ نفقته كلّ يوم كانت (١٧) درهماً. (٤)

ولكن الحقّ ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ، من أن مُغَلَّه كان في كلّ سنة (١٧) ألف درهم (٥). فسقط الألف من نسخ القوم ، وبذلك تجلّى الأشعري بصورة أنّه كان زاهداً متجافياً عن الدنيا.

رجوعه عن الاعتزال

اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ١٤٢.

٢ ـ الخطط المقريزية : ٢/٣٥٩.

٣ ـ مذاهب الإسلاميين : ٥٠٣ ـ ٥٠٤.

٤ ـ وفيات الأعيان : ٣/٣٨٢.

٥ ـ البداية والنهاية : ١١/١٨٧ حوادث عام ٢٢٤ هـ.

٢١

وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في ( فهرسته ) حيث يقول : أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة ، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، في المسجد الجامع بالبصرة ، في يوم الجمعة رقي كرسياً ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت قلت بخلق القرآن ، وإنّ الله لا يرى بالأبصار ، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة ، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير. (١)

وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثيرمن علماء التراجم ، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته ، ولأجل ذلك يجب التوقف هنا إجمالاً ، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال.

سبب رجوعه عن الاعتزال

إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علة وسبباً ، ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته ، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.

إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم ، أو قلم العاطفة ، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة ، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا الحسن أن ينصر سنّته ، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في « تبيينه » في ذلك المجال ، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه :

١ ـ نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ فهرست ابن النديم : ٢٧١ ووفيات الأعيان : ٣/٢٨٥.

٢٢

كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً ، فيتحير في ذلك ، فحكي أنّه قال :

وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد ، فقمت وصليت ركعتين ، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم ، ونمت فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليك بسنّتي ، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته ، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.

٢ ـ نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال : بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان ، رأيت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم ، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي ، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك ، حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال لي : ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت : يا رسول الله ، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام ، واتّبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي : أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن ، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن ؛ إلى آخر ما ذكره من الرؤيا. (١)

وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات ، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة ، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام ، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.

أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين ، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام وتزايده إلى أن أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا ، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ٣٨ ـ ٤١.

٢٣

من الشك والتردد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.

وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات ، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.

٣ ـ إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً ، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال : معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة ، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق ؛ فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا ؛ وانخلع من ثوب كان عليه ، ورمى به. ودفع الكتب إلى الناس ، فمنها كتاب « اللمع » وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه ب ـ « كشف الأسرار وهتك الأسرار » وغيرهما ، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها ، واعتقدوا تقدّمه ، واتّخذوه إماماً حتى نسب إليه مذهبهم. (١)

ولا يصحّ هذا النقل من وجوه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل ، وهو في غاية البعد.

وأمّا ثانياً : فلأن الناظر في كتابيه : ـ الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد ، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة ، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث ، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه. وسيوافيك الكلام في ذلك عند عرض مذهب الأشعري من خلال كتبه.

وأمّا ثالثاً : فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٤

موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة ، وبما أنّه من مواليد عام ( ٢٦٠ هـ ) ، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة ( ٣١٥ هـ ).

هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي ، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام ( ٣٠٣ هـ ) ، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل؟!

الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال

إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره ، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه ، فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم ، وناظر وغَلب أو غُلب ، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم ، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل وبقاؤه على مسائل أُخر ، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه ، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة ، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.

ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.

فنقول : أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزل من جانب السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه ، وإليك بيانه :

١ ـ الضغط العباسي على المعتزلة

إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم ، إلى الواثق بالل هـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر ، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام ٢٣٢ هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده ، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث ، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه ، فالمستعين بالله ، فالمعتز بالله ،

٢٥

فالمهتدي ، فالمعتمد ، فالمعتضد ، فالمكتفي ، فالمقتدر ، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام ٢٩٥ هـ إلى ٣٢٠ هـ وفي تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل ، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً ، وفي تلك الفترة ، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث ، الذين كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.

لا أقول : إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال ، بل أقول : قد أوجدت تلك الفكرة ، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث ، والثورة على المعتزلة ، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.

٢ ـ فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث

وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة ، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال عن الاعتزال كلياً.

توضيحه : إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر ، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصاري ، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان ، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث ، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه ، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل ، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزييهها عمّا لا يناسب ساحة الرب ، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال ، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم ، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.

٢٦

وفي هذا المورد يقول بعض المحقّقين : إنّ الخرافات السائدة بين أهل الحديث أوجبت سقوط عقائدهم عن مقامها في نفوس الناس ، بعد ما كانت قد طبقت العالم الإسلامي ، وانتشرت في أرجاء البلاد ، ولما قام الإمام الأشعري بالإصلاح ، بإحلال التنزيه ، مكان التجسيم ، حلت محلها عقيدة الأشعرية بعد هدوء الجو ، وبسرعة تتناسب معتغيير العقائد في العادة.

والعقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدلة ، وقد تصرفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُم ، وهي الحنبلية. (١)

وقد توفّق الرجل في عملية الإصلاح في بعض المجالات ، غير أنّه أبقى مسائل أُخرى على حالها ، فممّا توفق فيه مثلاً هو : القول بكون القرآن قديماً ، أو الاعتقاد بالجبر والقدر ، بحيث يكون الإنسان مسبّراً لا مخيّراً ، أو إثبات الصفات الخبرية لمعانيها الحقيقية على الله تعالى ، كاليد والرجل والعين وسائر الأعضاء التي كانت الحنابلة وأهل الحديث يثبتونها بوضوح ، وكان سبباً لسقوط هذه العقائد في نفوس العقلاء والمفكّرين ، فجاء الإمام الأشعري بإصلاح وتغيير في هذه الأفكار المشوهة ، فجعل القديم من القرآن ، هو الكلام النفسي القائم بالله تبارك وتعالى ، لا القرآن الملفوظ والمكتوب والمسموع ، كما أنّه فسّر مسألة الجبر والقدر بأنّ الله سبحانه هو الخالق للأفعال خيرها وشرها ، ولكن العبد كاسب لها ، فللعبد دور في أفعاله باسم الكسب كما يأتي ، ومع ذلك فقد أبقى رؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الأبصار الظاهرة على حالها ، ولم يفسرها بشيء.

يقول الشيخ الكوثري في تقديمه على كتاب التبيين ، عن عصر المتوكل : ففي ذلك الزمان ارتفع شأن الحشوية والنواصب ، وقمع أهل النظر والمعتزلة ، والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء ، ويتقولون في الله مالا يجوّزه الشرع ولا العقل ، من إثبات الحركة له ، والنقلة ، والحد ، والجهة ، والقعود والاقعاء والاستلقاء والاستقرار ، إلى نحوها ممّا تلقّوه بالقبول

ــــــــــــــــــ

١ ـ بحوث مع أهل السنة : ١٥٧.

٢٧

من دجاجلة الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب ، ومما ورثوه من أُمم قد خلت ويؤلّفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة بالآخرين ، متذرعين بالسنّة ومعزين إلى السلف ، يستغلون ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجّة فيها ، وكانت المعتزلة تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء ، ويسعون في استعادة سلطانهم على الأُمّة ، وأصناف الملاحدة والقرامطة الذين توغلوا في الفساد ، واحتلوا البلاد ، ففي مثل هذه الظروف قام الإمام أبو الحسن الأشعري لنصرة السنّة وقمع البدعة ، فسعى أوّلاً للإصلاح بين الفريقين من الأُمّة بإرجاعهما عن تطرّفهما إلى العدل ، قائلاً للأوّلين : أنتم على الحقّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن ، اللفظ والتلاوة والرسم ، وللآخرين : أنتم مصيبون إذا كان مقصودكم بالقديم ، الصفة القائمة بذات الباري غير البائنة منه ، وأسماه بالكلام النفسي.

وقام بمثل هذا الجمع في مسألة الرؤية فقال للأوّلين : نفي المحاذاة والصورة صواب ، غير أنّه يجب عليكم الاعتراف بالتجلّي من غير كيف. وقال لأصحاب الحديث : إيّاكم من إثبات الصورة والمحاذاة ، وكلّ ما يفيد الحدوث ، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف. (١)

أقول : إنّ هذا الإصلاح لو صحّ فإنّما هو بفضل ما تمرن عليه بين أصحاب التفكير والتعقّل ، وعرف منهم التنزيه والتشبيه. ولولاه لما كان له هذا التوفيق البارز ، وسيوافيك أنّه وإن نجح في هذا الأمر ، لكنّه نجاح نسبي لا نجاح على الإطلاق. فإنّ المذهب الأشعري عند التحليل يتفق مع أحد المنهجين ، وإن كان يتظاهر بأنّه على مذهب المحدثين ، ولكنّه تارة يوافقهم ، وأُخرى يخالفهم ويوافق المعتزلة في اللب والمعنى ، وإن كان يخالفهم في القشر واللفظ كما سيظهر.

ــــــــــــــــــ

١ ـ مقدّمة التبيين : ١٤ ـ ١٥.

٢٨

كلام لأبي زهرة

إنّه تصدى للرد على المعتزلة ومهاجمتهم ، فلابدّ أن يلحن بمثل حجتهم ، وأن يتّبع طريقتهم في الاستدلال ، ليفلح عليهم ، ويقطع سباتهم ، ويفحمهم بما بين أيديهم ، ويرد حججهم عليهم.

إنّه تصدى للرد على الفلاسفة ، والقرامطة ، والباطنية ، والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة ، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلاّ أقيسة البرهان ، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلاّ دليل العقل ، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.

ولقد نال الأشعري منزلة عظيمة ، وصار له أنصار كثيرون ، ولقي من الحكام تأييداً ونصراً ، فتعقّب خصومه من المعتزلة والكفّار ، وأهل الأهواء في كلّ مكان ، وبث أنصاره في الأقاليم والجهات ، يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها ، ولقّبه أكثر العلماء بإمام أهل السنّة أو الجماعة.

ولكن مع ذلك بقي له من علماء الدين مخالفون منابذون ، فابن حزم يعدّه من الجبرية ، لرأيه في أفعال الإنسان (١) ، ويعده من المرجئة لرأيه في مرتكب الكبيرة (٢) ، وقد تعقّبه في غير هاتين المسألتين ، ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه في لجة التاريخ الإسلامي ، واشتد ساعد أنصاره جيلاً بعد جيل ، وقويت كلمتهم وقد حذوا حذوه ، وسلكوا مسلكه ، وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدي من محاربة المعتزلة والملحدين ، ومنازلة لهم في كلّ ميدان من ميادين القول ، وكلّ باب من أبواب الإيمان ، ومذاهب اليقين.

ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً أبو بكر الباقلاني (٣) ، فقد كان عالماً كبيراً ، هذّب بحوث الأشعري ، وتكلّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد ، فتكلم في الجوهر والعرض ، وأنّ العرض لايقوم بالعرض ، وأنّ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الفصل في الملل والنحل : ٣/٢٢.

٢ ـ الفصل في الملل والنحل : ٤/٢٠٤.

٣ ـ مات الباقلاني سنة ٤٠٣ هـ.

٢٩

العرض لا يبقى زمانين ، إلى آخر ما هنالك ، ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه من نتائج ، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك النتائج ؛ فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة ، فإنّ المقدمات العقلية لم تذكر في كتاب أو سنّة ، وميادين العقل متسعة ، وأبوابه مفتحة ، وطرائقه مسلوكة ، وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل إليها الأشعري ، وليس من شر في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج ، وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية. (١)

وما أُطري به الشيخ الأشعري ، على طرف النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه « الإبانة » ، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.

والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم الحشوية خدمة جليلة ، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها ، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه على الزوال والفناء ؛ فالناظر في كتاب « الإبانة » يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد الحشوية بالنصوص والروايات ، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.

والله سبحانه هو الواقف على سرائره ، وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية ، وما يذكرون له من المبررات والأعذار لا محصل وراءها.

وأمّا كتابه « اللمع » وهو وإن كان لم ينسجه على غرار كتاب الإبانة ، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال ، ولكنّه استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية ، ونسف الاتجاه العقلي ؛ غفر الله له ولنا.

مع ذلك ، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد من التعديل ، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري ، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر المروزي ، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه على العرش.

ــــــــــــــــــ

١ ـ ابن تيمية عصره وحياته : ١٩٢ ـ ١٩٣.

٣٠

روى القاضي ابن أبي يعلى بسنده : أنّه ما كان يجلس مجلساً إلاّ ويذكر فيه أنّ الله عزّوجلّ ـ يُقعِد محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه على العرش ، وليس هذا بغريب عن مثل البربهاري ، إنّما الغريب أن يتبعه من ينسب إلى العلم مثل ابن قيم وأُستاذه ابن تيمية محيي البدع في القرن الثامن.

قال الأوّل : المراد من المقام المحمود إقعاد الرسول على العرش. (١)

وقال الثاني فيما ردّ به على « أساس التقديس » للرازي عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة ، فاستقلت بقدرته ، فكيف على عرش عظيم (٢)؟

وقد حكى ابن أبي يعلى في طبقاته بطريق الأهوازي حيث قال : قرأت على علي القومسي عن الحسن الأهوازي قال :

سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول : لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول : رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ، ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس ، وقلت وقالوا ، وأكثر الكلام ، فلمّا سكت قال البربهاري : وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. قال : فخرج من عنده وصنف كتاب « الإبانة » فلم يقبله منه ، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (٣)

والحقّ أنّ كتاب « الإبانة » لا يفترق عمّا كتبه أبناء الحنابلة في عقائدهم قدر شعرة ، ففيه الجبر والتجسيم والتشبيه ، إلى غير ذلك ممّا يعتقده المتطرّفون من أهل الحديث ، ولأجل ذلك شكّ بعض المحقّقين كالشيخ محمّد زاهد الكوثري في صحّة نسبة ما طبع من الإبانة إلى الشيخ الأشعري صيانة لمقامه عن بعض الأُمور الشنيعة الواردة فيه ممّا لا يفترق عن التجسيم والجهة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ بدائع الفوائد : ٤/٣٩.

٢ ـ لاحظ تعليقة تبيين كذب المفتري : ٣٩٣.

٣ ـ تبيين كذب المفتري ، قسم التعليقة : ٣٩١.

٣١

ملامح المذهب الأشعري

إنّ الاطّلاع التفصيلي على ملامح وسمات مذهب الإمام الأشعري يتطلب سبر أغوار كتبه على الوجه التفصيلي ، وعرض آرائه وأنظاره ، غير أنّا هنا نركز على أمرين رئيسيّين يميّزان ذلك المذهب عمّا تقدمه من مذهب المحدّثين ، وإليك بيانهما :

١ ـ عدم عزل «العقل» في مجال العقائد

كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية ، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ ولا يكادون يعتمدون على السنة ، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء ، لا غفران ذنوب الفاسقين.

وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد ، وينكرون العقل ورسالته في مجالها ، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول ، فكيف في الفروع ، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.

وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين ، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة ، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.

كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام ، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية ، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث ، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث ، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام (١). وبذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبعت الرسالة لأوّل مرّة مع اللمع في بيروت عام ١٩٥٣م ، ومستقلة في حيدر آباد الدكن في الهند عام ١٣٤٤ هـ ، وسيوافيك نصها.

٣٢

الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.

ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهج هـ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، وعبد القاهر البغدادي ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له ، حتى في الكتاب والسنّة.ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.

ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات والحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة ، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز ، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب « مقالات الإسلاميين » يبحث عن الجسم والجواهر ، والجوهر الفرد ، والطفرة والحركة والسكون ، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة فى الأُمور العامة ، وفي قسم الطبيعيات.

ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ولا يعترف بهما.

وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدلية بكثير ، واقترب من منهج أهل الحديث ، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه.

والخسارة التي توجهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً ، كما سيوافيك بيانه عند عرض آرائه.

٢ ـ العقيدة الوسطى بين العقيدتين

ربما يتخيل القارئ من إنابة الأشعري إلى مذهب أهل الحديث أنّه لجأ إلى عقيدة المحدّثين ( وفيهم أهل التنزيه والتقديس ، وفيهم أهل التشبيه والتجسيم ) وقبل ذلك المنهج بلا تغيير ولا تصرف ، ويقوى ذلك التخيّل إذا اطّلع على ما ذكره في مقدمة كتاب « الإبانة » ، حيث إنّه يصرح فيها بأنّه على

٣٣

مذهب أئمّة الحديث ، وفي مقدمتهم إمام الحنابلة ، ويقول : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبت هـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظم ، وكبير مفخم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين. (١)

ويقرب من ذلك ما ذكره في مقالات الإسلاميين ، حيث إنّه بعد ما سرد عقائد أهل الحديث قال : وبكلّ ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. (٢)

إلاّ أنّ السابر في كتبه يقف على أنّ هذه التصاريح ليست على إطلاقها ، وإنّما اتّخذها واجهة لإيجاد المنهج الوسط بين المنهجين.

فإذا كان بعض أهل الحديث يصرون على إثبات الصفات الخبرية لله تعالى ، كالوجه واليد والرجل والاستواء على العرش ، حتى اشتهروا بالصفاتية ، كما اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات ومؤوّليها. فجاء إمام الأشاعرة بمنهج وسط ، وزعم أنّه قد أقنع به كلا الطرفين ، فاعترف بهذه الصفات كما ورد في الكتاب والسنّة بلا تأويل وتصرف ، ولما كان إثباتها على الله سبحانه بظواهرها يلازم التشبيه والتجسيم ـ وهما يخالفان العقل ، ولا يرضى بهما أهل التنزيه من العدلية ـ أضاف كلمة خاصة أخرجته عن مغبّة التشبيه ومزلقة التجسيم ، وهي أنّ لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.

وهذا هو المميز الثاني لمنهج الأشعري ، فقد تصرف في الجمع بين المنهجين في كلّ مورد بوجه خاص ، وسيجيء الكل عند عرض آرائه ونظراته.

وقد تفطّن إلى ما ذكرناه بعض من جاء بعده ، منهم :

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة : ١٧.

٢ ـ مقالات الإسلاميين : ٣١٥.

٣٤

ابن عساكر في ترجمته عن الأشعري فقال : إنّه نظر في كتب المعتزلة ، والجهمية والرافضة ، فسلك طريقة بينها. قال جهم بن صفوان : العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء ، وقالت المعتزلة : هو قادر على الإحداث والكسب معاً. فسلك طريقة بينهما ، فقال : العبد لا يقدر على الإحداث ، ويقدر على الكسب. فنفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب ، وكذلك قالت الحشوية المشبهة : إنّ الله سبحانه يُرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية : إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال ، فسلك طريقة بينهما فقال : يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، فكما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيّف ، كذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيّف.

وكذلك قالت النجارية : إنّ الباري سبحانه بكلّ مكان من غير حلول ولا جهة وقالت الحشوية والمجسّمة : إنّه سبحانه حال في العرش وإنّ العرش مكان له ، وهو جالس عليه. فسلك طريقة بينهما فقال : كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان ، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه ، وقالت المعتزلة : يده يد قدرة ونعمة ، وجهه وجه وجود ؛ وقالت الحشوية : يده يد جارحة ، ووجهه وجه صورة. فسلك طريقة بينهما فقال : يده يد صفة ، ووجهه وجه صفة ، كالسمع والبصر.

وكذلك قالت المعتزلة : النزول : نزول بعض آياته وملائكته ، والاستواء بمعنى الاستيلاء. وقالت المشبهة والحشوية : النزول : نزول ذاته بحركة ، وانتقال من مكان ، إلى مكان ، والاستواء : جلوس على العرش وحلول فيه. فسلك طريقة بينهما فقال : النزول صفة من صفاته ، والاستواء صفة من صفاته وفعل من أفعاله في العرش يسمّى الاستواء (١).

إلى غير ذلك من الموارد التي تصرّف فيها في المذاهب والمناهج وكوّن منها مذهباً.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ١٤٩ ـ ١٥٠.

٣٥

وقال « زهدي حسن جار الله » المصري :

« لقد كان المستقبل ، بعد الحركة الرجعية ، يلوح سيّئاً قاتماً ، وكان يبدو أنّ العناصر الرجعية ، ستدوس كلّ ماعداها ، وأنّ كلّ حركة ترمي إلى التقدم العلمي ، والتحرر الفكري ، ستخمد أنفاسها... لولا أن قام « أبو الحسن الأشعري » ( المتوفّى٣٣٠ هـ ) ، فأنقذ ما أمكن إنقاذه من الموقف... كان الأشعري معتزلياً صميماً ، ولكنّه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح ، حقيقة الوضع. رأى الهوة بين أهل السنّة وبين أهل الاعتزال في اتّساع وازدياد ، ووجد الحركة الرجعية تقوى وتشتد ، فعلم أنّ الاعتزال صائر لا محالة إلى زوال.

فأزعجته هذه الحقيقة المروعة وأقضّت مضجعه ، ولذلك تقدم إلى العمل... فتنكّر للمعتزلة ، وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنّة (١) غير أنّه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ ، بل اتخذ طريقاً وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة (٢) ، وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ، ما عدا الحنابلة ، ولاقى استحساناً ، ولا عجب فإنّ الجمود على التقليد ، ما كان ليروق للكثيرين بسبب تقدم الأُمّة في الحضارة واقتباسها العلوم العقلية ، واطّلاعها على فلسفة الأقدمين ، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرّفوا في عقائدهم ، وأساءوا التصرف مع غيرهم. فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلّف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال ، وهذا هو ما بدأه الأشعري ، وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه ، وساروا على طريقه ، وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم ، وخيرة رجاله ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني (٣) ( المتوفّى٤٠٣ هـ ) ، وابن فورك ( المت (٤) وفّى ٤٠٦ هـ ) ، وأبي إسحاق الإسفرائيني ( المتوفّى ٤١٨ هـ ) (٥) ، وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى ٤٢٩ هـ ) (٦) والقاضي أبي الطيب

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة ، ٨ ؛ والوفيات : ١/٤٦٤.

٢ ـ مقدّمة ابن خلدون : ٤٠٦ ؛ الخطط : ٤/١٨٤.

٣ ـ الوفيات : ١/٦٨٦.

٤ ـ طبقات الشافعية : ٣/٥٢ ـ ٥٤.

٥ ـ طبقات الشافعية : ٣/١١١ ـ ١١٤.

٦ ـ طبقات الشافعية : ٣/٢٣٨.

٣٦

الطبري ( المتوفّى ٤٥٠ هـ ) (١) ، وأبي بكر البيهقي ( المتوفّى ٤٥٨ هـ ) (٢) ، وأبي القاسم القشيري ( المتوفّى ٤٦٥ هـ ) (٣) ، وأبي إسحاق الشيرازي ( المتوفّى ٤٧٦ هـ ) رئيس المدرسة النظامية ببغداد (٤) ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (المتوفّى ٤٧٨ هـ).(٥)

والإمام الغزالي ( لمتوفّى ٥٠٥ هـ ) (٦) ، الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام ، وابن تومرت ( لمتوفّى ٥٢٤ هـ ) المغربي ، تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب (٧) ، والشهرستاني ( لمتوفّى ٥٤٨ هـ ) (٨) ، وغيرهم كثير ، شرحوا عقائد الأشعري ونظموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلّة والبراهين العقليّة ، فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره.

وممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ هذه الحركة التي قام بها الأشعري كانت ضرورية ، ويظهر لنا بجلاء أنّ الناس كانوا يشعرون بوجوب وضع حدّ لذلك النزاع المستحكم بين أهل السنّة وبين المعتزلة باتّباع طريق وسط بين قوليهما ، أنّ اثنين من كبار علماء المسلمين المعاصرين للأشعري قاما ـ على بعدهما عن هـ بنفس المحاولة التي قام الأشعري بها في البصرة ، وهما أبوجعفر الطحاوي ( لمتوفّى ٣٣١ هـ ) (٩) ، الحنفي في مصر ، وأبو منصور الماتريدي ( المتوفّى ٣٣٣ هـ ) الحنفي في سمرقند.

يلاحظ عليه : بالرغم ممّا ذكره هذا الكاتب المصري ، فإنّ الأشعري لم يتخذ موقفاً محايداً ، بل استعمل سلاح العقل ضد المعتزلة ، فهو بدل أن

ــــــــــــــــــ

١ ـ طبقات الشافعية : ٣/١٧٦.

٢ ـ طبقات الشافعية : ٣/٤.

٣ ـ الوفيات : ١/٤٢٥.

٤ ـ طبقات الشافعية : ٣/٨٩ ـ ٩٩.

٥ ـ طبقات الشافعية : ٣/٢٥٠.

٦ ـ الوفيات : ١/٦٦١ ؛ طبقات الشافعية : ٤/١٠٣.

٧ ـ طبقات الشافعية : ٤/٧١ ـ ٧٤.

٨ ـ الوفيات : ١/٦٨٨ ؛ طبقات الشافعية : ٤/٧٩.

٩ ـ بل توفّي عام ٣٢١ هـ.

٣٧

يستعمله في نصرة الدين ، استعمله في هدم الاعتزال ، ولأجل ذلك خدم الرجعية خدمة عظيمة وأنقذها من الهلاك والدمار ؛ ترى أنّه دعا إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة الذي لا ينفك عن القول بالتجسيم والتشبيه ، وإن أضاف إليه بأنّ الرؤية بلا إثبات جهة وكيف ؛ وإلى القول بالخلق والقدر الذي يجعل الإنسان كالريشة في مهب الرياح ، وإن أضاف إليه بأنّ العبد كاسب والله خالق ـ ولم يُفهم معنى الكسب إلى يومنا هذا ، بل صار شيئاً معقّداً فسره كلّ حسب ذوقه ـ والى إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن اللّذين يبتنى عليهما لزوم تصديق الأنبياء عند التحدي بالمعاجز ، إلى غير ذلك من الأُصول التي كانت عليها عقيدة أهل الحديث.

والله سبحانه هو العالم بالضمائر والمقاصد ، وإنّ الشيخ الأشعري لماذا استخدم سلاح المنطق ضدّ دعاة الحرية والاختيار ، وهل كان هذا مجاراة للرأي العام وطمعاً في كسب عواطف الحنابلة ، أو كان هناك غاية أُخرى لا نعرفها ، ولكن الله من وراء القصد.

وقد وقف الكاتب على سوء قضائه ، فاستدركه في موضع آخر من كلامه ، وقال:

استمرت الحركة الرجعية في الدولة الإسلامية بعد ظهور الأشعرية قوية ، وقد قلت : إنّ الأشعرية نفسها بالنسبة إلى الاعتزال ، السابق لها ، كانت حركة رجعية ، وكانت رجعية أيضاً بمعنى آخر ، وذلك أنّها استخدمت سلاح العقل والمنطق الذي أخذته عن المعتزلة ، لا في نصرة الدين فحسب ، بل في مقاومة الاعتزال وهدمه ، وقد يكون الأشاعرة فعلوا ذلك مجاراة للرأي العام ، وطمعاً في كسب عطفه وتأييده ، ومهما يكن فجدير بنا أن نلاحظ أنّ الأشاعرة خضعوا للقوى الرجعية إلى حدّ كبير ، فإنّهم وصلوا في تقدمهم الفكري إلى درجة لم يقدروا أن يتجاوزوها كما تجاوزها المعتزلة ، ولذلك فقد استولى عليهم الجمود ، وصاروا إلى ركود ، ومن أدلة سيطرة الرجعية على الموقف ما يذكره « مسكويه » : أنّ عضد الدولة البويهي أفرد في داره موضعاً خاصاً للحكماء والفلاسفة يجتمعون فيه للمفاوضة ، آمنين من السفهاء ورعاع

٣٨

العامة. (١)

ولهذا فإنّ الحركات الفكرية التي ظهرت بعد نكبة المعتزلة ، كإخوان الصفا ، لم تجسر أن تعلن عن نفسها خشية طغيان العامة عليها ، فاضطرت إلى أن تعمل في الخفاء ، فكان من أسوأ النتائج التي ترتّبت على ذلك ، شيوع عادة تأليف الفرق والجمعيات السرية كالقرامطة والحشّاشين الذين كان لهم أثر كبير في إضعاف الإسلام وتأخيره ، أمّا الذين وجدوا في أنفسهم الجرأة ليتابعوا دروسهم وأبحاثهم على رؤوس الأشهاد ، وهم جماعة الفلاسفة كالفارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، فقد كانوا مكروهين ، وظلوا طوال الوقت يحيون في جوّ ناء منفصل عن الجو الذي تعيش فيه سائر الأُمّة. (١)

٣ ـ انتشار المذهب الأشعري في البلاد

ثمّ إنّ الظاهر ممن ترجموه هو أنّ المذهب الأشعري انتشر من فوره ، يقول الكوثري : وفّقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم ، وقمع المعاندين وكسر تطرّفهم ، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها ، فطبق ذكره الآفاق ، وملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنّة ، والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب.

وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ، ومضى لسبيله ، وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه ، لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر بن الباقلاني قام في وجههم ، وقمعهم بحججه ، ودان للسنّة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقية. (٢)

وقد جعله ابن عساكر أحد من يقيّضه الله سبحانه في رأس كلّ مائة سنة ، يعلّم الناس دينهم ، فيعدّ في المائة الأُولى عمر بن عبد العزيز ، وفي المائة

ــــــــــــــــــ

١ ـ تجارب الأُمم : ٦/٤٠٨.

٢ـ المعتزلة : ٢٦٤.

٢ ـ مقدّمة التبيين : ١٥.

٣٩

الثانية الشافعي ، وفي المائة الثالثة أبا الحسن الأشعري ، وعلى رأس المائة الرابعة ابن الباقلاني. (١)

أقول : مضافاً إلى أنّ أصل الحديث غير ثابت ، وأنّ جعل هؤلاء من مجدّدي المذهب ـ خصوصاً عمر بن عبد العزيز ، مع كونه معاصراً للإمام الباقر عليه‌السلام الذي لا يشكّ في إمامته في العلوم من له إلمام بالتاريخ ـ من الغرائب ، إنّ ما ذكره ابن عساكر هنا يضادُّ ما ذكره في موضع آخر من أنّ عامة المسلمين وجمهورهم كانوا لا يأتمون بمذهبه في عصر ابن عساكر ، حيث قال :

إن قيل : إنّ الجم الغفير في سائر الأزمان ، وأكثر العامة في جميع البلدان ، لا يقتدون بالأشعري ولا يقلّدونه ولا يرون مذهبه ولا يعتقدونه ، وهم السواد الأعظم ، وسبيلهم السبيل الأقوم.

قيل : لا عبرة بكثرة العوام ولا الالتفات إلى الجهّال ، وإنّما الاعتبار بأرباب العلم ، والاقتداء بأصحاب البصيرة والفهم ، وأُولئك في أصحابه أكثر ممن سواهم ، ولهم الفضل والتقدّم على من عداهم ، على أنّ الله عزّوجلّ قال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَليل) (٢).

على أنّ ابن النديم لا يذكر من أصحابه إلاّ شخصين : الدمياني وحمويه من أهل سيراف قال : وكان الأشعري يستعين بهما على المهاترة والمشاغبة ، وقد كان فيهما علم بمذهبه ، ولا كتاب لهما يعرف. (٣)

ولأجل عدم انتشار مذهبه في عصره بل بعد مدّة من وفاته ، نجد الحنابلة لا يترجمونه في طبقاتهم ، ولا يعدونه منهم ، وتمقته الحشوية منهم فوق مقت المعتزلة ، مع أنّه صرح في بعض كلماته بأنّه على مذهب أحمد. (٤)

نعم ، لا شكّ في انتشار مذهبه بعد القرن السادس إلى أن صار مذهباً

ــــــــــــــــــ

١ ـ التبيين : ٥٢.

٢ ـ التبيين : ٣٣١.

٣ ـ فهرست ابن النديم : ٢٧١.

٤ ـ مقدّمة التبيين بقلم الكوثري : ١٦.

٤٠