بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

وكيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنّه سبحانه يقول في حقّه : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنَّ بِالَّذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكيلاً ) (١). فهل يصحّ توصيف القديم بالإذهاب والإعدام؟

٦ ـ العجب أنّ محط النزاع لم يحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه ، فهاهنا احتمالات نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل والقرآن :

أ. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها ، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم وقرأها الرسول فتلقتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة.

ب. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والأدب أو غيرها.

ج. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجمله.

د. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

هـ. الكلام النفسي القائم بذاته.

و. كون القرآن ليس مخلوقاً للبشر « وما هو قول البشر ».

وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تطَّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله ، وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم :

أمّا الأوّل : فلا أظن إنساناً يملك شيئاً من الدرك والعقل يعتقد بكونه غير مخلوق أو كونه قديماً ، كيف وهو شيء من الأشياء ، وموجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كان غير مخلوق وجب أن يكون واجباً

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ٨٦.

٢٦١

بالذات ، وهو نفس الشرك بالله سبحانه. حتى لو فرض أنّه سبحانه تكلم بهذه الألفاظ والجمل ، فلا يخرج تكلمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟

وأمّا الثاني : فهو قريب من الأوّل في البداهة ، فإنّ القرآن يشتمل ـ وكذا سائر الصحف ـ على الحوادث المحقّقة في زمن النبي من محاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أوالمسرّة ، فها يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَول الَّتي تُجادِلُكَ في زَوجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُركُما إِنَّ اللّهَ سَميعٌ بَصيرٌ) (١) ، قديمة؟

وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث ، وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب ، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير ، فهذه الحقائق واردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شك لا قديمة.

وأمّا الثالث : فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لاإله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال ، وليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل كلّما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق. فحقائقه المشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة ، وفي الوقت نفسه ما يشير به من الكلام والجمل ، حادث.

وأمّا الرابع : أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ـ فلا شكّ أنّه قديم بنفس ذاته ، ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين ـ إلاّمن شذّ من الكرامية ـ بحدوث علمه.

وأمّا الخامس : أعني كونه سبحانه متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف ولا أصوات ، مغاير للعلم والإرادة ـ فقد عرفت أنّ ما أسماه الشيخ

ـــــــــــــــــ

١ ـ المجادلة : ١.

٢٦٢

الأشعري بكلام نفسي لا يخرج عن إطار العلم والإرادة ، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

وأمّا السّادس : أعني كون الهدف من نفي كونه غير مخلوق القرآن غير مخلوق للبشر ، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ، فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه ، والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله قال سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجَتَمَعتِ الإِنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً). (١)

وقد نقل سبحانه عن بعض المشركين الألداء أنّ القرآن قول البشر وقال : (فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر* اِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَر ـ ثمّ أوعده بقوله : ـ سَأُصليه سَقَر* وَما أَدْراكَ ما سَقَر* لا تُبْقي ولا تَذرَ). (٢)

وهذا التحليل يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مشوّشة اختلط فيها الحابل بالنابل ، ولم يكن محط البحث محرراً على وجه الوضوح حتى يعرف المثبت عن المنفي ، ويمخّض الحقّ من الباطل ، ومع هذا التشويش في تحرير محل النزاع ، نرى أهل الحديث والأشاعرة يستدلّون بآيات وغيرها على قدم كلامه ، وكونه غير مخلوق ، وإليك هذه الأدلة واحداً بعد واحد :

أدلّة الأشاعرة على كون القرآن غير مخلوق

استدلّ الأشعري على قدم القرآن بوجوه :

الأوّل : قوله سبحانه : ( إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) (٣) قال الأشعري : وممّا يدلّ من كتاب الله على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عزّوجلّ : إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أَرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون. فلوكان القرآن مخلوقاً لوجب أن يكن مقولاً له : « كن فيكون ». ولو كان الله عزّوجلّ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ٨٨.

٢ ـ المدثّر : ٢٤ ـ ٢٨.

٣ ـ النحل : ٤٠.

٢٦٣

قائلاً للقول« كن » لكان القول قولاً ، وهذا يوجب أحد أمرين :

إمّا أن يؤول الأمر إلى أنّ قول الله غير مخلوق.

أو يكون كلّ قول واقعاً بقول لا إلى غاية ، وذلك محال ، وإذااستحال ذلك ، صحّ وثبت أنّ لله عزّ وجلّ قولاً غير مخلوق. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الاستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية ونظائرها أمراً لفظياً مؤلّفاً من الحروف والأصوات ، وأنّه سبحانه كالسلطان الآمر ، فكما أنّه يتوسل عند أمر وزرائه وأعوانه باللفظ فهكذا سبحانه يتوسل عند خلق السماوات والأرض باللفظ والقول ، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة « كن ».

ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال باطل جدّاً ، إذ لا معنى لخطاب المعدوم. وما يقال في تصحيحه بأنّ المعدوم معلوم لله تعالى ـ فهو يعلم الشيء قبل وجوده ، وأنّه سيوجد في وقت كذا ـ غير مفيد ، لأنّ العلم بالشيء لا يصحح الخطاب الجدي ، وإنّما المراد من الأمر في الآية كما فهمه جمهور المسلمين ، هو الأمر التكويني المعبر به عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء ، والمقصود من الآية : إنّ تعلّق إرادته سبحانه بشيء يستعقب وجوده ، ولا يأبى عنه الشيء ، وأنّ ما قضاه من الأُمور وأراد كونه ، فإنّه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. وبذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب والسنّة ، والأمر التكويني ، فالأوّل يخاطب به الإنسان العاقل القابل للتكليف ولا يخاطب به غيره فضلاً عن المعدوم ، وهذا بخلاف الأمر التكويني فإنّه رمز إلى تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد المعدوم.

وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يفسر الأمر التكويني بقوله : « يقول لمن أراد كونه ، كن ، فيكون لا بصوت يقرع ، ولا بنداء

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة : ٥٢ ـ ٥٣.

٢٦٤

يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه ، أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً ». (١)

وثانياً : نحن نختار الشق الثاني ، ولا يلزم التسلسل ، ونلتزم بأنّ هنا قولاً سابقاً على القرآن هو غير مخلوق ، أوجد به سبحانه مجموع القرآن وأحدثه ، حتّى كلمه « كن » الواردة في تلك الآية ونظائرها ، فتكون النتيجة حدوث القرآن وجميع الكتب السماوية وجميع كلمه وكلامه إلاّ قولاً واحداً سابقاً على الجميع ، فينقطع التسلسل بالالتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد ، فتدبر.

وثالثاً : كيف يمكن أن تكون كلمة « كن » الواردة في الآية وأمثالها قديمة ، مع أنّها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل : ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ولأجل ذلك التجأ المتأخرون من الأشاعرة إلى أنّ لفظ « كن » حادث ، والقديم هو المعنى الأزلي النفساني. (٢)

الثاني : قوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَيَطْلُبُهُ حَثيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَوَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمينَ). (٣)

قال الأشعري : « فالخلق » جميع ما خلق داخل فيه ، ولما قال« الأمر » ذكر أمراً غير جميع الخلق. فدلّ ما وصفناه على أنّ الله غير مخلوق. وأمّا أمر الله فهو كلامه.

وباختصار : انّه سبحانه أبان الأمر من الخلق ، وأمر الله كلامه ، وهذا

ــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦.

٢ ـ دلائل الصدق حاكياً عن ابن روزبهان الأشعري : ١/١٥٣.

٣ ـ الأعراف : ٥٤.

٢٦٥

يوجب أن يكون كلام الله غير مخلوق. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ « الأمر » في الآية بمعنى كلام الله ، وهو غير ثابت ، بل القرينة تدلّ على أنّ المراد منه غير ذلك ، كيف وقد قال سبحانه في نفس الآية : والنُّجُوم مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْق وَالأَمْر والمراد من اللفظين واحد ، والأوّل قرينة على الثاني. وهدف الآية هو أنّ الخلق بمعنى الإيجاد وتدبير الموجد كلاهما من الله سبحانه ، وليس شأنه سبحانه خلق العالم والأشياء ثمّ الانصراف عنها وتفويض تدبيره إلى غيره ، حتّى يكون الخلق منه ، والتدبير على وجه الاستقلال من غيره ، بل الكلّ من جانبه سبحانه.

وباختصار : المراد من الخلق هو إيجاد ذوات الأشياء ، والمراد من الأمر ، النظام السائد عليها : فكأنّ الخلق يتعلّق بذواتها ، والأمر بالأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها. وتدلّ على ذلك بعض الآيات التي يذكر فيها « تدبير الأمر » بعد الخلق.

يقول سبحانه : (إِنَّ رَبّكُمُ الله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفيع إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه). (٢)

وقال تعالى : (اللّهُ الَّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونها ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري لأَجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). (٣)

فليس المراد من الأمر ما يقابل النهي ، بل المراد الشؤون الراجعة إلى التكوين ، فيكون المقصود إنّ الإيجاد أوّلاً ، والتصرف والتدبير ثانياً ، منه سبحانه ، فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق والإيجاد ، ولا في الإرادة والتدبير.

ـــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة : ٥١ ـ ٥٢.

٢ ـ يونس : ٣.

٣ ـ الرعد : ٢.

٢٦٦

وفي الختام نضيف أنّه سبحانه يصف الروح بكونه من مقولة الأمر ويقول : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (١) فهل الأشعري يسمح لمسلم أن يعتقد بكون الروح ( بأيّ وجه فسر ) المسؤول عنه في الآية غير مخلوق؟!

الثالث : قوله سبحانه : (إِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَرِ ) (٢) قال الأشعري : فمن زعم أنّ القرآنمخلوق فقد جعله قولاً للبشر ، وهذا ما أنكره الله على المشركين. (٣)

يلاحظ عليه : أنّ من يقول بأنّ القرآن مخلوق لا يريد إلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه. فالله سبحانه خلقه وأوحى به إلى النبي ، ونزّله عليه نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة ، وجعله فوق قدرة البشر ، فلن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

نعم ، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أن يكون ما يقرأه الإنسان مخلوقاً له ، لبداهة أنّ الحروف والأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم ، وهذا كمعلّقة امرئ القيس وغيرها ، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر ، لكن المقروء مثال له ، ومخلوق للقارئ.

والعجب أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده لم ينقّحوا موضع النزاع ، فزعموا أنّه إذا قيل « القرآن مخلوق » فإنّما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر ، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه ، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن ويقرأ هتاف الباري سبحانه فيه : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقِّ) (٤)أن يتفوّه بأنّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في

ـــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ٨٥.

٢ ـ المدثر : ٢٥.

٣ ـ الإبانة : ٥٦.

٤ ـ آل عمران : ٣.

٢٦٧

حقّه ، غير أنّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم ، فيكون مثال ما نزّله سبحانه مخلوقاً للإنسان. وكون المثال مخلوقاً ليس دليلاً على أنّ الممثَّل مخلوق لهم. والناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن ، ولكنّهم قادرون على إيجاد مثاله ، فلاحظ وتدبّر.

وبذلك تقف على أنّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب « الإبانة » غير تام من جهة الدلالة ، ولا نطيل المقام بإيراده ونقده ، وفيما ذكرنا كفاية.

بقيت هنا نكتة ننبه عليها وهي : أنّ المعروف من إمام الحنابلة أنّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السلف الصالح ، لأنّه ما كان يرى علماً إلاّ علم السلف. فما يخوضون فيه يخوض فيه ، وما لا يخوضون فيه من أُمور الدين يراه ابتداعاً يجب الإعراض عنه. وهذه مسألة لم يتكلم فيها السلف فلا يتكلّم فيها. والمبتدعون هم الذين يتكلمون ، وعلى هذا ، كان عليه أن يسير وراءهم ، وكان من واجبه حسب أُصوله ، التوقّف وعدم النبس في هذا الموضوع ببنت شفة. نعم ، نقل عنه ما يوافق التوقف ـ رغم ما نقلناه عنه من خلاف هـ وأنّه قال : من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن زعم أنّه غير مخلوق فهو مبتدع.

ويرى المحقّقون أنّ إمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن ـ بأنّه مخلوق أو غير مخلوق ـ بدعة ، ولكنّه بعد ما زالت المحنة وطلب منه الخليفة العباسي المتوكل ، المؤيد له ، الإدلاء برأيه ، اختار كون القرآن ليس بمخلوق. ومع ذلك لم يؤثر عنه أنّه قال إنّه قديم. (١)

موقف أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدد فيه لم يكن بهدف إحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك. بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت

ـــــــــــــــــ

١ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : ٣٠٠.

٢٦٨

عليهم‌السلام منعوا أصحابهم عن الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الريان بن الصلت ، الإمام الرضا عليه‌السلام وقال له : ما تقول في القرآن؟ فقال : « كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضّلوا ».

وروى علي بن سالم ، عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد فقلت له : يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال : « هو كلام الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ووحي الله ، وتنزيله ، وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل حكيم حميد ».

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : « قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهم‌السلام : يابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا ، فقال قوم إنّه مخلوق ، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟ فقال عليه‌السلام : « أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول إنّه كلام الله ».

فإنّا نرى أنّ الإمام عليه‌السلام يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لمّا رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم عليهم‌السلام عندما أحسّوا بسلامة الموقف ، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله ، وغيره مخلوق ، والقرآن ليس نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتحاد المنزل ( بالكسر ) والمنزل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليهم‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله عزّوجلّ ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين ، جعلنا الله وإيّاك من الّذين

٢٦٩

يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ». (١)

في الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون ، فقد كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن ، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة ، وبلغت المحنة أشدّها على المحدثين ، وبقي أحمد بن حنبل ثمانية عشر شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. ولماجاء المتوكل العباسي نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم ، فعند ذلك أحس المحدّثون بالفرج ، وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً ، وقرآنياً ، لمعرفة الحقيقة وتبيينها ، أو أنّه كان وراءه شيء آخر. والله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

ــــــــــــــــــ

١ ـ توحيد الصدوق ، باب القرآن ما هو ، الأحاديث : ٢و ٣و ٤و ٥.

٢٧٠

(١٥)

عموم إرادته لكلّ شيء

إنّ من آرائه هو عموم إرادة الله سبحانه لكلّ شيء ، ويعد ذلك من المسائل الرئيسية في مذهبه ، وحاصله : أنّ كلّ ما في الكون من جواهر وأعراض حتى الإنسان وفعله ، مراد لله سبحانه ، تعلّقت إرادته بوجوده ، وليس شيء في صفحة الوجود خارجاً عن سلطان إرادته ، ولا يقع شيء من صغير وكبير إلاّ بإرادة منه سبحانه. ويقابل ذلك مذهب المعتزلة حيث جعلوا أفعال العباد خارجة عن حريم إرادته ، فإيمان العبد وكفره وعصيانه وإطاعته لم تتعلّق بها إرادته سبحانه ، وإنّما خلقه وفوض إليه إرادته. وإنّما اختلف المذهبان في عموم الإرادة وعدمه ، لأجل التحفّظ على عدله سبحانه والتخلّص عن الجبر وعدمهما ، فالأشعري ومن حذا حذوه لا يتحاشون عن الاعتقاد بالأصل أو الأُصول التي تساند الجبر وتستلزمه ، بناءً على ما أسّسه من كون الحسن ما حسّنه الشرع ، والقبح ما قبّحه الشارع ، وليس للعقل دور في تشخيص الحسن والقبح. وهذا بخلاف المعتزلة فإنّ للتحسين والتقبيح دوراً عظيماً في تكييف مذهبهم ، وعلى هذا الأساس ذهب الأشعري إلى عموم إرادته سبحانه لكلّ شيء من وجوده وفعله ، من غير فرق بين الإنسان وفعله ، سواء أوافق العدل أم خالفه ، استلزم الجبر أم لا.

وزعمت المعتزلة أنّ القول بعموم الإرادة يستلزم الجبر في أفعال البشر ، وهو ينافي عدله سبحانه. ولا معنى لأن يريد سبحانه كفر العبد وهو يأمر بالإيمان به ، ويعذبه على ما أراده منه ، وسيوافيك الكلام في استلزام عموم

٢٧١

إرادته الجبر وعدمه. وعلى كلّ تقدير فقد استدل الأشعري على مقالته بوجوه عقلية ونقلية ، نشير إلى أُمهاتها :

الأدلّة العقلية على عموم إرادته

١ ـ إنّ الإرادة إذا كانت من صفات الذات بالدلالة التي ذكرناها وجب أن تكون عامة لكلّ ما يجوز أن يراد على حقيقته. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لم يبيّن وجه الملازمة بين كون الإرادة من صفات الذات وعموميتها لجميع المحدثات ، فكون الإرادة من صفات الذات لا يستلزم تعلّقها بكلّ ما يجوز أن يراد.

اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى وجه آخر ، وهو كون الإرادة من صفاته الذاتية ، والذات علّة تامّة بلا واسطة لكلّ شيء ، فيستنتج عموم إرادته لكلّ شيء من عموم علّيّة ذاته لكلّ شيء كما سيذكره.

٢ ـ دلّت الدلالة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء حادث ، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده. (٢)

٣ ـ قد دلّت الدلالة على أنّ كلّ المحدثات مخلوقات لله تعالى ، فلمّا استحال أن يفعل الباري تعالى مالا يريده ، استحال أن يقع من غيره ما لا يريده ، إذ كان ذلك أجمع أفعالاً لله تعالى. (٣)

ويلاحظ على الوجهين : أنّهما مبنيان على أصل غير مسلَّم عند المعتزلة وهو أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، وأنّه سبحانه علّة تامة لها ، وفاعل مباشري لكلّ شيء ، وقائم مقام جميع العلل والأسباب.

٤ ـ إنّه لا يجوز أن يكون في سلطان الله تعالى مالا يريده ، لأنّه لو كان في سلطان الله تعالى مالا يريده لوجب أحد أمرين : إمّا إثبات سهو وغفلة ، أو

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٤٧.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ نفس المصدر.

٢٧٢

إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده ، فلمّا لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه مالا يريده. (١)

٥ ـ لو كان في العالم مالا يريده الله تعالى لكان ما يكره كونه ، ولو كان ما يكره كونه ، لكان يأبى كونه. وهذا يوجب أنّ المعاصي كانت ، شاء الله أم أبى. وهذه صفة الضعيف المقهور. وتعالى ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً. (٢)

يلاحظ على الوجهين : أنّ عدم تعلّق إرادته ليس بمعنى تعلّق إرادته بعدمه ، فلا يكون صدور الفعل عن الغير دليلاً على سهوه أو عجزه كما زعم ، كما لا يكون دليلاً على كونه مقهوراً ، إذ عدم كراهية وجود المعاصي لا يلازم كراهية عدمه ، حتى يستدلّ بوقوعها على المقهورية.

وفي الختام ، إنّ القول بعموم إرادته سبحانه لكلّ ما لا يجوز أن يراد عند الأشاعرة ، يتفرع على أصل آخر ، وهو أنّه سبحانه خالق لكلّ شيء مباشرة ، وأنّه لا سبب ولا علّة في دار الوجود إلاّ هو ، وليس لغيره أي سببية وتأثير استقلالاً وتبعاً. فلازم ذلك القول إنكار النظام السببي والمسببي ، والاعتراف بعلة واحدة قائمة مقام جميع العلل الطبيعية والمجردة ، وهذا القول لا ينفك عن عموم إرادته لكلّ شيء ، فكان الأصل هو مسألة خلق الأعمال عندهم ، ويترتب عليها القول بعموم إرادته. ويشهد لذلك بعض ما مرّ من أدلّة الشيخ الأشعري كالدليل الثاني.

قال الرازي في المحصل : « إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات خلافاً للمعتزلة.[وسبق] لنا أن بيّنا أنّه تعالى خالقها ، وقد تقدّم أنّ خالق الشيء مريد لوجوده ». (٣)

وقال القاضي عضد الدين الإيجي في المواقف : إنّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون لنا ، أمّا أنّه مريد للكائنات فلأنّه خالق

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٤٩.

٢ ـ اللمع : ٥٧ ـ ٥٨.

٣ ـ تلخيص المحصل : ٣٣٤.

٢٧٣

الأشياء كلّها لما مرّ من استناد جميع الحوادث إلى قدرته تعالى ابتداء ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة. (١)

ثمّ إنّ الأشاعرة زعمت أنّ في ذلك القول تعظيماً لقدرة الله تعالى وتقديساً لها عن شوائب النقصان والقصور في التأثير ، ولكن غفلوا عن أنّ تفسير إرادته عن طريق خلق الأعمال مباشرة وبلا واسطة ، وإنكار سلسلة العلل والمعاليل في دار الوجود ، يستلزم نسبة كلّ عيب وشين إلى الله سبحانه ، فكفر الكافر مراد لله سبحانه لأنّه خالقه ، وإن كان المسؤول هو الكافر المجبور المكتوف الأيدي.

نعم ، تفسير عموم إرادته بهذا الوجه في جانب الإفراط ، كما أنّ قول المعتزلة بإخراج أفعال العباد عن حريم إرادته في جانب التفريط ، حيث زعموا أنّه سبحانه أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، ففوض إليهم الأمر ، فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على طبق مشيئتهم وقدرتهم متمسكين بالقول المعروف : « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ناسين القول الآخر : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » وقد ندّد أئمّة الإمامية بكلا الرأيين فقد سأل محمد بن عجلان الصادق عليه‌السلام فقال له : فوض الله الأمر إلى العباد؟ فقال : « الله أكرم من أن يفوّض إليهم ». قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال : « الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ». (٢)

وقال الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام في ذم المفوضة :

« مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزّوجلّ بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه ». (٣)

وعلى ضوء ذلك فيجب تفسير عموم إرادته على وجه يليق بساحته ، مع

ــــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المواقف : ٨/١٧٤.

٢ ـ التوحيد للصدوق : ٣٦١ ، الحديث ٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٥/٥٤ ، الحديث٩٣ ، ط طهران.

٢٧٤

التحفّظ على الأُصول المسلّمة العقلية فنقول :

التفسير الصحيح لعموم إرادته

لا شكّ أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي عرّفناك به عند البحث عن « خلق الأعمال » هو كون ما في الوجود مخلوقاً لله سبحانه ، لكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب ، بل بمعنى انتهاء كلّ الأسباب والمسببات إليه سبحانه ، كانتهاء المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، وقيام الممكن بالذات ، بالواجب بالذات.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ إرادته سبحانه من صفات ذاته ، وإن لم نحقّق كنهها ، لأنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، غير أنّ الإرادة في الإنسان طارئة حادثة ، وفيه سبحانه ليست كذلك.

فإذا كانت إرادته نفس ذاته ، والذات هي العلّة العليا للكون فلا يكون هناك شيء خارج عن حريم إرادته ، فكما تعلّقت قدرته بكلّ شيء ، تعلّقت إرادته به ، ولا يكون في صفحة الوجود شيء خارج عن سلطان إرادته.

ولكن وزان عمومية إرادته لكلّ شيء ، وزان عمومية قدرته لكلّ شيء ، فكما أنّ عمومية الثانية لا تسلتزم الجبر ، فهكذا عمومية الإرادة ، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل كلّ شيء عن فاعله على وجه الإلجاء والاضطرار ، بل تعلّقها به على قسمين : قسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله على نحو الاضطرار ، ولكن لا عن شعور ، كالحرارة بالنسبة إلى النار ؛ أو عن شعور ، ولكن لا عن إرادة واختيار ، كحركة المرتعش. وقسم تعلّقت إرادته بصدور الفعل عن فاعله عن اختيار.

فمعنى تعلّق إرادته بفعل الإنسان هو تعلّق إرادته بكونه فاعلاً مختاراً يفعل ما يشاء في ظل مشيئته سبحانه ، فقد شاء أن يكون مختاراً ، وفي وسعه سبحانه سلب اختياره وإلجاؤه إلى أحد الطرفين من الفعل والترك.

وباختصار : إنّه كما تعلقت إرادته بصدور فعل كلّ فاعل عنه ، كذلك تعلّقت إرادته بصدور فعله عن المبادئ الموجودة فيها.

٢٧٥

فالفواعل الطبيعية غير المختارة تعلّقت إرادته بصدور آثارها عنها بلا علم أو بلا اختيار ، وأمّّا غيرها فقد تعلّقت بصدور أفعاله ( الإنسان ) عن المبادئ الموجودة فيه ، ومن المبادىء كونه مختاراً في تعيين الفعل وترجيحه على الترك.

وعموم الإرادة بهذا المعنى لا يستلزم الجبر بعد التأمل والإمعان. وأمّا النقل فيشهد على عمومية إرادته بعض الآيات ، وإليك قسماً منها :

١ ـ قال سبحانه : (وَما تَشاءُونَ إِلاّ أنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمينَ). (١)

وهو صريح في أن تعلّق مشيئة الإنسان بعد تعلّق مشيئة الله ، لا قبله ولا معه.

٢ ـ (وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله). (٢)

وهذا أصل عام في عالم الوجود وإنّما ذكر الإيمان من باب المثال.

٣ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقينَ). (٣)

فقطع الأشجار أو إبقاؤها على أُصولها من أفعال الإنسان كان مشمولاً لإذنه سبحانه ومتعلّقاً به.

هذا إجمال ما أوضحناه في الأبحاث الكلامية ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مظانّها.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التكوير : ٢٩.

٢ ـ يونس : ١٠٠.

٣ ـ الحشر : ٥.

٢٧٦

(١٦)

التحسين والتقبيح العقليان

قد عنون الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم « التعديل والتجوير » وهذه المسألة ، تعد الحجر الأساس لكلام الأشعري وعقيدة أهل الحديث والحنابلة. فالشيخ تبعاً لأبناء الحنابلة صوّر العقل أقلّ من أن يدرك ما هو الحسن وما هو القبيح ، وما هو الأصلح وما هو غيره ، قائلاً بأنّ تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية ، وتقيدها بقيد وشرط ، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل ، كما عليه الاجتناب عمّا هو القبيح عنده. فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية قالوا : لا حسن إلاّما حسّنه الشارع ، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه ، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسناً.

أقول : الإنسان المتحرر عن كلّ عقيدة مسبقة ـ وعن كلّ عامل روحي يمنعه عن الاعتناق بحكم العقل في ذلك المجال ـ يصعب عليه الإذعان بصحّة عقوبة الطفل المعصوم ، وتصويره حسناً وعدلاً. ولا تجد إنساناً على أديم الأرض ينكر قبح الإساءة إلى المحسن. فعند ذلك يتوارد السؤال عن العلة التي دفعت الأشعري إلى هذه العقيدة ، ولم يكن ذلك إلاّ لمواجهة المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع ، وإخضاعهم الدين له ، حتى صاروا يؤوّلون بعض ما لا ينطبق من الشرع على أُصولهم العقلية. فصار ذلك الإفراط دافعاً للشيخ إلى التفريط والتورط في مغبة إعدام العقل ورفضه عن ساحة الإدراك على الإطلاق.

٢٧٧

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من تفكير الأشعري في هذا الباب ننقل بعض عباراته من كتابه « اللمع » :

يقول : فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟

قيل له : لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ـ إلى أن قال ـ : ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان. وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين ، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (١)

دليل الأشعري على نفي التحسين والتقبيح العقليين

١ ـ هو المالك القاهر

استدلّ الأشعري على مقالته ، بقوله : والدليل على أنّ كلّ ما فعله ، فله فعله ، أنّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، ولا فوقه مبيح ، ولا آمر ولا زاجر ، ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم ، وحد له الحدود.

فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا ، لأنّا تجاوزنا ما حُدَّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلمّا لم يكن البارئ[مملوكاً ]ولا تحت أمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه ، قيل له : أجل ، ولوحسّنه لكان حسناً ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا : فجوّزوا عليه أن يكذب ، كما جوّزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كلّ ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به. (٢)

يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فإنّنا نسأل الشيخ الأشعري إنّه سبحانه إذا آلم طفله في الآخرة وعذّبه بألوان التعذيب ، ورأى ذلك بأمّ عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، ونفس الحسن ، أو أنّه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً منكراً؟ ومثله ما لو فعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله ، مع

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ١١٦ ـ ١١٧.

٢ ـ نفس المصدر.

٢٧٨

كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، ويراه نفس العدل ، غير متجاوز عنه ، بحجّة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، أو أنّه يقضي بخلاف ذلك؟

وأمّا ثانياً : فلا شكّ أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت ، يقدر على كلّ أمر ممكن كما عرفت من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه ، نوع تدخل في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحقّ غير ذلك.

توضيحه : إنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه ، وإنّ أيّ فعل يصدر منه تعالى وأيّ منه لا يصدر ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه بل هو ـ بالنظر إلى الله وصفاته التي منها الحكمة والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.

وبعبارة أُخرى : إنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكلّ الكمال ، والغني عن كلّ شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقق الصارف عنه وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً. وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح ، ولا تهدف به إلى تحديد فعله

٢٧٩

من جانب العقل ، بل الله ، بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.

وباختصار : إنّ فعله سبحانه ـ مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً ، ومتحرّراً عن كلّ سلب وإيجاب ، وليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، وإنّما هو واقعية وحقيقة يكشف عنها العقل ، كما يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتصور أنّ فعله سبحانه متحرر من كلّ قيد وحدّ ، بحجّة حفظ شأن الله سبحانه وسعة قدرته ، أشبه بالمغالطة ، فإنّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعله عن كلّ قيد وشرط.

وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليّين ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض أدلّتهم التي أقامها المتأخّرون عن أبي الحسن الأشعري.

٢ ـ لو كان التحسين والتقبيح ضرورياً لما وقع الاختلاف

قالوا : « لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكن التالي باطل بالوجدان ».

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله : « ويجوز التفاوت في العلم لتفاوت التصور ». (١)

توضيحه : أنّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. وقد قرر في صناعة المنطق أنّ للبديهيات مراتب ، فالأوّليات أبدَهُ من المشاهدات بمراتب ، والثانية أبده من التجريبيات ، والثالثة أبده من الحدسيات ، والرابعة أبده من المتواترات ، والخامسة أبده من الفطريات.

ــــــــــــــــــ

١ ـ كشف المراد : ١٨٦ ـ ١٨٧ ، ط صيدا.

٢٨٠