بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

(١٣)

كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ويبدو أنّ البحث في كلامه سبحانه أوّل مسألة طرحت على بساط المناقشات في تاريخ علم الكلام ، وإن لم يكن ذلك أمراً قطعياً بل ثبت خلافه ، وقد شغلت تلك المسألة بال العلماء والمفكّرين الإسلاميين في عصر الخلفاء ، وحدثت بسببه مشاجرات ، بل مصادمات دامية ذكرها التاريخ وسجل تفاصيلها ، وخاصة في قضية ما يسمّى ب ـ « محنة خلق القرآن » وكان الخلفاء هم الذين يروّجون البحث عن هذه المسألة ونظائرها حتّى ينصرف المفكّرون عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، إنّ الفتوحات الإسلامية أوجبت الاختلاط بين المسلمين وغيرهم ، وصار ذلك مبدء لاحتكاك الثقافتين ـ الإسلامية والأجنبية ـ وفي هذا الجو المشحون بتضارب الأفكار ، طرحت مسألة تكلُّمِه سبحانه في الأوساط الإسلامية ، وأوجدت ضجة كبيرة في المجامع العلمية ، خصوصاً في عصر المأمون ومن بعده ، وأُريقت في هذا السبيل دماء الأبرياء ، ولما لم تكن هذه المسألة مطروحة في العصور السابقة بين المسلمين تضاربت الأقوال فيها إلى حدّ صارت بعض الأقوال والنظريات موهونة جدّاً كما سيوافيك.

ثمّ إنّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضعين :

الأوّل : ما هو حقيقة كلامه سبحانه؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم

٢٤١

والقدرة والحياة ، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق إلى غير ذلك من الصفات الفعلية؟

الثاني : هل هو قديم أوحادث ، أو هل هو غير مخلوق أو مخلوق؟ والاختلاف في هذا المقام من نتائج الاختلاف في الموضع الأوّل. ونحن نطرح رأي الأشاعرة في كلا المقامين.

ما هو حقيقة كلامه؟

إنّ في حقيقة كلامه آراء مختلفة نذكرها إجمالاً أوّلاً ، ونركز على البحث عن رأي الأشاعرة ثانياً.

١ ـ نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة في تعريف كلامه تعالى :

إنّ كلامه سبحانه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها سبحانه في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرائيل ، أو النبي ، فمعنى كونه متكلّماً كونه موجداً للكلام ، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل. (١)

٢ ـ نظرية الحكماء

إنّ كلامه سبحانه لا ينحصر فيما ذكره ، بل مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه ، يتكلّم به ، بإيجاده وإنشائه ، فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته. (٢)

فعلى تينك النظريتين ، يكون تكلّمه سبحانه من أوصاف فعله ، لا من صفات ذاته ، خلافاً للنظريتين الآتيتين.

٣ ـ نظرية الحنابلة

كلامه حرف وصوت يقومان بذاته ، وأنّه قديم ، وقد بالغوا فيه حتى قال

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، المتوفّ ـ ى عام ٤١٥ هـ.

٢ ـ شرح المنظومة : ١٧٩ ، وللحكماء نظرية أُخرى في كلامه سبحانه تطلب من محلها.

٢٤٢

بعضهم جهلاً : إنّ الجلد والغلاف قديمان. (١)

٤ ـ نظرية الأشاعرة

إنّ مسلك الأشاعرة هو مسلك الحنابلة ، لكن بصورة معدّلة نزيهة عمّا لا يقبله العقل السليم. فذهب أبو الحسن الأشعري إلى كونه من صفات الذات ، لا بالمعنى السخيف الذي تتبنّاه الحنابلة ، بل بمعنى آخر ، وهو القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم.

وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري ، لم نجدها في « الإبانة » و« اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية ، وهي أنّ كلامه سبحانه غير مخلوق ، ولم يبحث عن حقيقة كلامه ، ومع ذلك فقد نقلها عنه الشهرستاني وقال : وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية ، وبذات المتكلّم ، وليس بحروف ولا أصوات ، وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده ، وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد ، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ وان كان على طريق الحقيقة فإطلا ق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك. (١)

وقال الآمدي : ذهب أهل الحقّ من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني ، أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات وهو ـ مع ذلك ـ ينقسم بانقسام المتعلقات ، مغاير للعلم والإرادة وغير ذلك من الصفات. (٢)

وقال العضدي : ـ بعد نقل نظرية المعتزلة ـ وهذا لا ننكره ، لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ، ونزعم أنّه غير العبارات ، إذ قد

ــــــــــــــــــ

١. المواقف : ٢٩٣.

٢ ـ نهاية الإقدام : ٣٢٠.

٣ ـ غاية المرام : ٨٨.

٢٤٣

تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ، بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ عليه بالعبارة ـ إلى أن قال ـ : وإنّه غير العلم ، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل هو يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، وغير الإرادة ، لأنّه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا ، فإذا هو صفة ثالثة غير العلم والإرادة ، قائمة بالنفس ، ثمّ نزعم أنّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى ـ إلى أن قال ـ : الأدلّة الدالّة على حدوث الألفاظ إنّما تفيدهم بالنسبة إلى الحنابلة ، وأمّا بالنسبة إلينا فيكون نصّاً للدّليل في غير محلّ النزاع. وأمّا ما دلّ على حدوث القرآن مطلقاً ، فحيث يمكن حمله على حدوث الألفاظ ، لا يكون لهم فيه حجّة علينا ، ولا يجدي عليهم إلاّ أن يبرهنوا على عدم المعنى الزائد على العلم والإرادة. (١)

فقد أحسن العضدي وأنصف. وستوافيك البرهنة على أنّ ما يسمونه كلاماً نفسياً أمر صحيح ، لكنّه ليس خارجاً عن إطار العلم والإرادة ، وليس وصفاً ثالثاً وراءهما.

ثمّ إنّ الشهرستاني قد قام بتبيين المقصود من الكلام النفساني في كلام مبسوط. وبما أنّ الكلام النفسي قد أحاط به الإجمال والإبهام ، فنأتي بنصّ كلامه ، وإن كان لايخلو عن تعقيد في الإنشاء ، حتّى يتبيّن المقصود منه قال :

العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه ، تارةً إخباراً عن أُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتداها إلى منتهاها على وفق ثبوتها ، وتارةً حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم ، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارةً نطقاً عقلياً إمّا بجزم القول أنّ الحقّ والصدق كذا ، وإمّا بترديد الفكر أنّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب ، إلى غير ذلك من الأفكار حتّى أنّ كلّ صانع يحدث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت

ــــــــــــــــــ

١ ـ المواقف : ٢٩٤.

٢٤٤

إليه صنعته ، ثمّ تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة ، وباهَتَ العقل ، وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان ، وسبيله سبيل السوفسطائية ، كيف وإنكاره ذلك ممّا لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه ، ثمّ لم يعبّر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار ، فوجد أنّ المعنى معلوم بالضرورة وإنّما الشكّ في أنّه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير ، والتمييز بينه وبين العلم هين ، إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به ، وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب ، ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء ، وهي أقسام معلومة وقضايا معقولةوراء التبيين ، والتمييز بينه وبين الإرادة أسهل وأهون ، فإنّ الإرادة قصد إلى تخصيص الفعل ببعض الجائزات ( الممكنات ) ولا قصد في هذه القضايا ولا تخصيص ، وأمّا التقدير والتفكير والتدبير فكلّ ذلك عبارات عن حديث النفس ، وهو الذي يعنى به من النطق النفساني ، ومن العجب أنّ الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كلّ معنى ولا يجد نفسه قط خالياًعن حديث النفس حتى في النوم فإنّه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدّث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتّى يتكلّم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق. (١)

نرى أنّ ما ذكره الآمدي الذي نقلناه آنفاً في تفسير الكلام النفسي وارد في كلمات المتأخرين عنه ، كالفاضل القوشجي والفضل بن روزبهان ، وإليك نصوصهما :

١ ـ قال الفاضل القوشجي في شرح التجريد : إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك ، يجد في نفسه معاني يعبر عنها ، نسمّيها بالكلام الحسي ، والمعنى الذي يجده ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه ، هو الذي نسمّيه الكلام. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ نهاية الإقدام : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

٢ ـ شرح التجريد للقوشجي : ٤٢٠.

٢٤٥

٢ ـ وقال الفضل في نهج الحق : إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولابدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلّف من الحروف والأصوات فنقول :

ليرجع الشخص إلى نفسه أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنّه يزور ويرتب معاني فيعزم على التكلّم بها ، كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فإنّه يرتب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا. فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتة. فهذا هو الكلام النفسي. ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول لهذه المدلولات : هي الكلام النفسي. (١)

حصيلة البحث

دلّت النصوص المذكورة عن أقطاب الأشاعرة على أنّ في مورد كل كلام صادر من أيّ متكلم ـ خالقاً كان أو مخلوقاً ـ وراء العلم في الجمل الخبرية ، ووراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية ، معاني قائمة بنفس المتكلّم ، وهو الكلام النفسي ، يتبع حدوثه وقدمه ، حدوث المتكلّم وقدمه.

وما ذكروا في توضيحه حقّ لا ينكره أحد ، إنّما الكلام في إثبات مغايرته للعلم في الجمل الخبرية ، وللإرادة في الجمل الإنشائية ، وهو غير ثابت ، بل الثابت خلافه ، وإنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلّم ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة ، فيرجع

ــــــــــــــــــ

١ ـ نهج الحق المطبوع ضمن دلائل الصدق : ١/١٤٦ ، ط النجف.

٢٤٦

الكلام النفسي في الجمل الخبرية إلى التصورات والتصديقات ، فأي شيء هنا وراء العلم حتى نسمّيه بالكلام النفسي ، كما أنّه عندما يرتب المتكلّم المعاني الإنشائية ، فلا يرتب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدمة لهما ، كتصور الشيء والتصدّيق بالفائدة ، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة ، فأيّ شيء هنا غيرهما حتّى نسميه بالكلام النفسي ، وعند ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الإخبار ، ووراءه مع الإرادة في الإنشاء ، مع أنَّ الأشاعرة يصرون على إثبات وصف ذاتي باسم التكلّم وراء العلم والإرادة ، ولأجل ذلك يقولون : كونه متكلّماً بالذات ، غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

والأولى أن نستعرض ما استدلّوا به على أنّ الكلام النفسي وراء العلم ، فإليك بيانه:

الأوّل : أنّ الكلام النفسي غير العلم ، لأنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالإخبار عن الشيء غير العلم به. قال السيد الشريف في شرح المواقف : والكلام النفسي في الإخبار معنى قائم بالنفس لا يتغير بتغير العبارات ، وهو غير العلم ، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه ، أو يشكّ فيه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من رجوع كلّ ما في الذهن في ظرف الإخبار إلى العلم ، هو الرجوع إلى العلم الجامع بين التصور والتصديق. فالمخبر الشاك أو العالم بالخلاف يتصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية ثمّ يخبر ، فما في ذهنه من هذه التصوّرات الثلاثة لا يخرج عن إطار العلم ، وهو التصوّر.

نعم ، ليس في ذهنه الشق الآخر من العلم وهو التصديق. ومنشأ الاشتباه هو تفسير العلم بالتصديق فقط ، فزعموا أنّه غير موجود عند الإخبار في ذهن المخبر الشاك أو العالم بالخلاف ، والغفلة عن أنّ عدم وجود العلم بمعنى التصديق لا يدلّ على عدم وجود القسم الآخر من العلم وهو التصوّر.

الثاني : ما استدلوا به في مجال الإنشاء قائلين بأنّه يوجد في ظرف الإنشاء شيء غير الإرادة والكراهة ، وهو الكلام النفسي ، لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فالمقصود هو الاختبار دون الإتيان. (٢)

ــــــــــــــــــ

(١و٢) شرح المواقف : ٢/٩٤.

٢٤٧

أوّلاً : إنّ الأوامر الاختبارية على قسمين :

قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدّمة ولا تتعلّق بنفس الفعل ، كما في أمره سبحانه الخليل بذبح إسماعيل. ولأجل ذلك لما أتى الخليل بالمقدّمات نودي أن قد صدّقت الرؤيا.

وقسم تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة وذيلها ، غاية الأمر ، أنّ الداعي إلى الأمر مصلحة مترتبة على نفس القيام بالفعل ، لا على ذات الفعل ، كما إذا أمر الأمير أحد وزرائه في الملأ العام بإحضار الماء لتفهيم الحاضرين بأنّه مطيع غير متمرد. وفي هذه الحالة ـ كالحالة السابقة ـ لا يخلو المقام عن إرادة ، غاية الأمر ، أنّ القسم الأوّل تتعلّق الإرادة فيه بالمقدّمة فقط ، وهنا بالمقدّمة مع ذيلها. فما صحّ قولهم إنّه لا توجد الإرادة في الأوامر الاختبارية.

وثانياً : الظاهر أنّ المستدل تصور أنّ إرادة الآمر تتعلّق بفعل الغير ، أي المأمور ، فلأجل ذلك حكم بأنّه لا إرادة متعلّقة بفعل الغير في الأوامر الامتحانية ، ويستنتج أنّ فيها شيئاً غير الإرادة ، ربما يسمّى بالطلب ( في مقابل الإرادة ) عندهم أو بالكلام النفسي ، ولكن الحقّ غير ذلك ، فإنّ إرادة الآمر لا تتعلّق بفعل الغير مطلقاً ، لأنّ فعله خارج عن إطار اختيار الأمر ، وما هو كذلك لا يقع متعلّقاً للإرادة ، فلأجل ذلك ما اشتهر من « تعلّق إرادة الآمر والناهي بفعل المأمور به » كلام صوري ، إذ هي لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري ، وليس فعل الغير من أفعال الأمر الاختيارية ، فلا محيص من القول بأنّ إرادة الآمر متعلّقة بفعل نفسه وهو الأمر والنهي. وإن شئت قلت : إنشاء البعث إلى الفعل أو الزجر عنه ، والكلّ واقع في إطار اختيار الآمر ويعدّان من أفعاله الاختيارية.

نعم ، الغاية من البعث والزجر هي انبعاث المأمور إلى ما بعث إليه ، أو انتهاؤه عمّا زجر عنه ، لعلم المكلّف المأمور بأنّ في التخلّف مضاعفات دنيوية أو أُخروية.

وعلى ذلك يكون تعلّق إرادة الآمر في الأوامر الجدية والاختيارية على

٢٤٨

وزان واحد ، وهو تعلّق إرادته ببعث المأمور وزجره ، لا فعل المأمور ولا انزجاره ، فإنّه غاية للآمر لا مراد له ، فالقائل خلط بين متعلّق الإرادة ، وما هو غاية الأمر والنهي.

وباختصار : إنّ فعل الغير لمّا كان خارجاً عن اختيار الآمر لا تتعلّق به الإرادة.

وربما يبدو في الذهن أن يعترض على ما ذكرنا بأنّ الآمر إذا كان إنساناً لا تتعلّق إرادته بفعل الغير لخروجه عن اختياره ، وأمّا الواجب سبحانه فهو آمر قاهر ، وإرادته نافذة في كلّ شيء : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمواتِوَالأَرْض إِلاّ آتي الرَّحْمن عَبْداً). (١)

ولكن الإجابة عن هذا الاعتراض واضحة ، فإنّ المقصود من الإرادة هنا هو الإرادة التشريعية ، وأمّا الإرادة التكوينية القاهرة على العباد المخرجة لهم عن وصف الاختيار ، الجاعلة لهم كآلة بلا إرادة ، فهي خارجة عن مورد البحث ، قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعا ) (٢) فهذه الآية تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بإيمان من في الأرض ، ولكن من جانب آخر تعلّقت مشيئته بإيمان كلّ مكلّف واع ، قال سبحانه : (وَاللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ ) (٣) فقوله« الحق » عام ، كما أنّ هدايته السبيل عامة مثله لكلّ الناس. وقال سبحانه : (يُريدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ) (٤) ، إلى غير ذلك منالآيات الناصة على عموم هدايته التشريعية.

الثالث : إنّ العصاة والكفّار مكلّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنصّ القرآن الكريم ، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه

ــــــــــــــــــ

١ ـ مريم : ٩٣.

٢ ـ يونس : ٩٩.

٣ ـ الأحزاب : ٤.

٤ ـ النساء : ٢٦.

٢٤٩

وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، ولابدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة ، وبالطلب أُخرى. فيستنتج من ذلك أنّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

وقد أجابت عنه المعتزلة بأنّ إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما أنّها تعلّقت بالفعل الاختياري الصادر من العبد عن حرية واختيار ، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل ، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

والأولى في الجواب أن يقول : إنّ المستدل خلط بين الإرادة التكوينية المتعلّقة بالإيجاد مباشرة أو تسبيباً ، فإنّ إرادته في ذلك المجال لا تنفك عن المراد ، قال سبحانه ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (١) ، وبين الإرادة التشريعية المتجلّية بصورة التقنين في القرآن والحديث فإنّها تتعلّق بنفس إنشائه وبعثه ، وجعله الداعي للانبعاث والانزجار ، والمراد فيها ( الإنشاء والبعث ) غير متخلّف عن الإرادة ، وأمّا فعل الغير ، أي انبعاث العبد وانتهاؤه فهو من غايات الإرادة التقنينية لا من متعلّقاتها ، فتخلّفهما عن الإرادة التقنينية لا يكون نقضاً للقاعدة ، أي امتناع تخلف مراده سبحانه عن إرادته ، لما عرفت من أنّ فعل الغير ليس متعلّقاً لإرادته في ذلك المجال.

الرابع : ما ذكره « الفضل بن روزبهان » من أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلّماً هو خلقه الكلام فلا يقال لخالق الكلام متكلّم ، كما لا يقال لخالق الذوق إنّه ذائق. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس قسماً واحداً وهو القسم الحلولي ، بل له أقسام ، فإنّ القيام منه ما هو صدوري كالقتل والضرب في القاتل والضارب ، ومنه حلولي كالعلم والقدرة في العالم والقادر ، والتكلّم

ــــــــــــــــــ

١ ـ يس : ٨٢.

٢ ـ دلائل الصدق : ١/١٤٧ ، طبعة النجف الأشرف.

٢٥٠

كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل أنّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه أنّه متكلّم وِزانَ إطلاق الرزّاق عليه سبحانه. بل ربما يصحّ الإطلاق وإن لم يكن المبدأ قائماً بالفاعل أبداً لا صدورياً ولا حلولياً ، بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ ، كالتمّار واللبان لبائع التمر واللبن ، وأمّا عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنّ صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليس قياسياً حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشام بسبب إيجاده الذوق والشم ، وربما احترز الإلهيون عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه.

الخامس : أنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي ، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه : (وأََسِرُّوا قَولَكُمْ اَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). (١)

يلاحظ عليه : أنّ إطلاق« القول » على الموجود في الضمير من باب العناية المشاكلة ، فإنّ « القول » من التقول باللسان ، فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له ، إلاّ الصورة العلمية ، إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث

إنّ الأشاعرة زعموا أنّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصورات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة والكراهة في الثانية ، شيئاً يسمّونه بالكلام النفسي ، وربما خصّوا لفظ « الطلب » بالكلام النفسي في القسم الإنشائي ؛ وبذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وأنّ الكلّ من الصفات الذاتية.

ولكن البحث والتحليل ـ كما مرّ عليك ـ أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملك : ١٣.

٢٥١

والكراهة في الجمل الإنشائية ، شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، كما عرفت أنّ الطلب أيضاً هو نفس الإرادة.

وبذلك نقف على أنّ ما يقوله المحقّق الطوسي من أنّ « النفسانية غير معقولة » (١) أمر متين لا غبار عليه.

إلى هنا تمّ بيان النظريات الثلاث للمعتزلة والحكماء والأشاعرة.

وبه تمّ الكلام في المقام الأوّل. وحان أوان البحث في المقام الثاني وهوحدوث كلامه أو قدمه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ كشف المراد : ١٧٨ ، ط صيدا.

٢٥٢

(١٤)

كلام الله غير مخلوق أو قديم

لقد شاع في أواخر القرن الثاني ، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم إمام الحنابلة ، وتحمل في طريق عقيدته هذه ألوان التعذيب ، وقد اعتنقوا هذه الفكرة مع الاعتراف بأنّه لم يرد فيها نصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا جاء من الصحابة فيها كلام.

وقد تسربت تلك العقيدة مثل القول بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية ، حيث قال اليهود بقدم التوراة (١) والنصرانية بقدم الكلمة ( المسيح ).

يقول أبو زهرة : كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، وقد عمل على إثارة هذه المسألة ، النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي ، الذ ي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم ، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيّهم ، مثل زعمه عشق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزينب بنت جحش ، فقد جاء في القرآن أنّ عيسى بن مريم كلمته ألقاها إلى مريم ، فكان يبث بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة ، فيسألهم أكلمته قديمة أم لا؟ فإن قالوا : لا... فقد قالوا : إنّ كلامه مخلوق (٢) ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ اليهودية : ص ٢٢٢ تأليف أحمد شلبي كما في بحوث مع السلفيين : ١٥٣.

٢ ـ يراد أنّه مختلق ومزور.

٢٥٣

وإن قالوا : قديمة... ادّعى أنّ عيسى قديم. (١)

وعلى ذلك وجد من قال إنّ القرآن مخلوق ، ليرد كيد هؤلاء ، فقال ذلك الجعد بن درهم ، وقاله الجهم بن صفوان ، وقالته المعتزلة واعتنق ذلك الرأي المأمون.

وقد أعلن في سنة ٢١٢ ، أنّ المذهب الحقّ هو أنّ القرآن مخلوق ، وأخذ يدعو لذلك في مجلس مناظراته ، وأدلى في ذلك بما يراه حججاً قاطعة في هذا الموضوع ، وقد ترك المناقشة حرة ، والناس أحراراً فيما يقولون.

ولكن في سنة ٢١٨ وهي السنة التي توفي فيها ، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة ، ومن الغريب أنّه ابتدأ بهذا وهو خارج بغداد ، وقد خرج مجاهداً فكتب هذه الكتب وهو بمدينة الرقة ، وأخذ يرسل الكتب لحمل الناس على اعتناق عقيدة أنّ القرآن مخلوق ، إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم ، وقد جاء في بعض كتبه : وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من أُمور رعيته بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر بأنّه مخلوق محدث. (٢)

وقد سارع نائبه ببغداد إلى تنفيذ ما أمر به ، لكنّه تجاوز الحدّ السلبي إلى الحدّ الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ « ولا شكّ أنّ ذلك تلبيس ، لأنّ معنى كلمة الله ، أنّ الله خلقه بكلمة منه ، كما نصّ على ذلك في آيات أُخرى ، لا أنّه هو ذات كلمة الله ». هذا ما أفاده أبو زهرة في تعليقته على كتابه. والحقّ أنّ المسيح كلمة الله نفسها ، وليس المسيح وحده كذلك ، بل الموجودات الإمكانية كلّها كلامه تعالى. قال سبحانه : ( وَلو أنّ ما فِي الأَرض مِنْ شَجَرة أَقلام وَالبَحر يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلمات الله)( لقمان : ٢٧ ).

٢ ـ تاريخ الطبري : ٧/١٩٦ ، والرسالة مبسوطة.

٢٥٤

وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة ، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم : « أحمد بن حنبل » ، و« محمد بن نوح » ، و« القواريري » ، و« سجادة » فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما : ابن نوح وأحمد بن حنبل ، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون ، ومات الأوّل في الطريق ، وبقي أحمد ، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن ، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة المأمون في مسألة خلق القرآن. (١)

ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين ، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.

وقال محقّق كتاب« الأُصول الخمسة » للقاضي عبد الجبار : الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة ، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، وكان شعار النظريتين المتنازعتين« هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون ، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد ، وذهب ضحية الخلاف كثيرون ، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس ، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة ، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية ، مع أنّهم روّادها الأوائل.

أقول : و (٢) ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وكم في تاريخ خلفاء

ــــــــــــــــــ

١ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : ٢٩٤ ـ ٢٩٦ بتلخيص.

٢ ـ الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ٥٢٧.

٢٥٥

الإسلام من ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية!!

هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم.

وعلى أي تقدير فقد قال المحقّق المزبور : إنّ أوّل من تفوّه بقدم القرآن هو عبد الله بن كلاب ، لأنّ السلف كانوا يتحرجون من وصف القرآن بأنّه قديم وقالوا فقط غير مخلوق ، لكن المعتزلة زادوا بأنّ كلام الله مخلوق محدث ، وميز الأشعري متابعاً لابن كلاب بين الكلام النفسي الأزلي القديم ، والكلام المتعلّق بالأمر والنهي والخبر وهو حادث. (١)

وأمّا ابن تيمية ففرّق بين كونه غير مخلوق وكونه قديماً وقال : وكما لم يقل أحد من السلف إنّه ( أي كلام الله ) مخلوق ، لم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم... وأوّل من عرف أنّه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب. (٢)

والظاهر الواضح أنّ القول بأنّ السلف القائلين بعدم خلق القرآن ، لا يقولون بقدم القرآن ، والتفريق بين عدم الخلق والقدم لا يعدو عن أن يكون كذباً وغير صحيح.

فأوّلاً : إنّ ابن الجوزي يصرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا إنّ القرآن كلام الله قديم. (٣)

وثانياً : إنّ معنى كون شيء غير مخلوق هو أنّه قديم ، إذ لو فرض كونه غير قديم مع كونه غير مخلوق ، فلابدّ وان يكون قد حدث ووجد من العدم بنفسه ، وهو واضح البطلان ، قال سبحانه : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأُصول الخمسة : ٥٢٨.

٢ ـ مجموعة الرسائل : ٣/٢٠.

٣ ـ المنتظم في ترجمة الأشعري : ٦/٣٣٢.

٢٥٦

شَيْء ) (١) (٢)

ولأجل إيضاح الحال نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري في ذلك المجال.

قال أحمد بن حنبل : والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله ، فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.

وكلّم الله موسى تكليماً ، من الله ، سمع موسى يقيناً ، وناوله التوراة من يده ، ولم يزل الله متكلماً عالماً ، تبارك الله أحسن الخالقين. (٣)

وقال أبو الحسن الأشعري : ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر. (٤)

وقد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له : هاهنا قوم يقولون : القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال : هؤلاء أضر من الجهمية على الناس ، ويلكم فإن لم تقولوا : ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد : هؤلاء قوم سوء ، فقيل له : ما تقول؟ قال : الذي اعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال : سبحان الله ، ومن شكّ في هذا؟ (٥)

هذا ما لدى المحدثين والحنابلة والأشاعرة. وأمّا المعتزلة : فيقول القاضي عبد الجبار: أما مذهبنا في ذلك : أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو

ــــــــــــــــــ

١ ـ الطور : ٣٥.

٢ ـ بحوث مع أهل السنّة والسلفية : ١٥٨.

٣ ـ كتاب السنة : ٤٩.

٤ ـ الإبانة : ٢١ ، ولاحظ مقالات الإسلاميين : ٣٢١.

٥ ـ الإبانة : ٦٩ ، وقد ذكر في : ص ٧٦ أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.

٢٥٧

مخلوق حدث ، أنزله الله على نبيّه ليكون علماً ودالاً على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام ، لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر ، وإذاً هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه ، وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن. (١)

وقبل الخوض في تحليل المسألة نقدّم أُموراً :

١ ـ إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كلّ منهما عقيدة الآخر فإمام الحنابلة يقول : إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. وقالت المعتزلة : إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم ، شرك بالله سبحانه ، فيجب تحليلها على ضوء العقل والكتاب والسنة بعيداً عن كلّ هياج ولغط. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة قد طرحت في أجواء خاصة ، عزّ فيها التفاهم وساد عليها التناكر ، وإلاّ فلا معنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله ، وكتابه وسنته ، التنازع في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنّه ملاك الكفر وأنّ التوحيد في خلافه ، وتزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.

ولو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي ، التصريح بأحد القولين ، ورفع الستار عن وجه الحقيقة ، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نصّ في المسألة ، وإنّما طرحت في أوائل القرن الثاني. نعم ، استدلت الأشاعرة ببعض الآيات ، غير أنّ دلالتها خفية ، لا يقف عليها ـ على فرض الدلالة ـ إلاّ الأوحدي. وما يعد ملاك التوحيد والشرك يجب أن يرد فيه نصّ لا يقبل التأويل ، ويقف عليه كلّ حاضر وباد...

٢ ـ قد عرفت أنّ بعض السلف كانوا يتحرّجون من وصف القرآن بأنّه قديم ، وقالوا فقط إنّه غير مخلوق. ثمّ إنّ القائلين بهذا القول تدرّجوا فيه ووصفوا كلام الله بأنه قديم ، ومن المعلوم أنّ توصيف شيء بأنّه غير مخلوق أو قديم ممّا لا يتجرّأ عليه العارف ، لأنّ هذين الوصفين من خصائص ذاته

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح الأُصول الخمسة : ٢٥٨.

٢٥٨

سبحانه ، فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق ، أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحّة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام ، فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة ممّا يجب الاعتقاد به على كلّ مسلم ، مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل ويدرك كون شيء غير الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه غير مخلوق.

إنّ سهولة العقيدة ويسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية وبهما تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم ، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى ـ وهو غير ذات هـ غير مخلوق أو قديم ، شيء يعسر فهمه على الخاصة ، فكيف على العامة.

٣ ـ إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء ، الأمر الذي تنكره البداهة والعقل ونفس القرآن. وقد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال : « والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها ». (١)

ولمّا رأى ابن تيمية الذي يظن نفسه مروّجاً لعقيدة أهل الحديث ، أنّها عقيدة تافهة ، صرح بحدوث القرآن المقروء وحدوث قوله تعالى : (يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) و ( يا أَيُّهَا المُدَّثِّر )وقوله : ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها... ) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل. (٢)

والعجب أنّه استدلّ بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء ، وقال : إنّ ترتيب حروف الكلمات الجمل يستلزم الحدوث آنَ تحقُّقِ كلمة « بسم الله » ، يتوقف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك إلى آخر

ــــــــــــــــــ

١ ـ رسالة التوحيد ، الطبعة الأُولى وقد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة لاحظ : ص ٤٩ من طبعة مكتبة الثقافة العربية.

٢ ـ مجموعة الرسائل الكبرى : ٣/٩٧.

٢٥٩

الكلمة ، فالحدوث والانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها ، وذلك حتى يمكن أن توجد كلمة ، فإذاً كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟!

٤ ـ لمّا كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث وسمتهم ، ومن جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم ، جاءت الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول بعدم خلق القرآن وقدمه ، والتجأوا إلى أنّ المراد من كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي ، وقد عرفت مدى صحّة القول بالكلام النفسي. وليس هذا أوّل مورد تقوم الأشاعرة فيه بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشكل يقبله العقل ، وعلى كلّ تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.

٥ ـ كيف يكون القول بخلق القرآن وحدوثه ملاكاً للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد. قال سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحَدَث إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون ) (١). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه : (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون ) (٢). وقال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِك). (٣)

والمراد من « محدث » هو الجديد ، وهو وصف للذكر ، ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنّه أتاهم بعد التوراة. وكذلك بعض سور القرآن وآياته « ذكرجديد » أتاهم بعد بعض. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله ، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف ل ـ « ذكر » فالذكر ـ بذاته وشؤون هـ محدث ، فلا معنى لإرجاع الوصف إلى النزول ، بعد كونه محدثاً بالذات.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١ ـ ٢.

٢ ـ الحجر : ٩.

٣ ـ الزخرف : ٤٤.

٢٦٠