بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديدُ). (١) والمراد من كشف الحجب هو وصول الإنسان في الإذعان والإيمان إلى حد لا يبقى معه أيّ شك وتردد.

إنّ الإنسان في المشهد الأخروي يبلغ مبلغاً من الكمال ، يدرك حضوره عند خالقه وبارئه ، وذلك نفس حقيقةوجود الممكن وواقعيته ، إذ لا حقيقة للوجود الإمكاني إلاّ قوامه بعلّته ، وتعلّقه بموجده ، تعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والإنسان في ذلك المشهد يجد نفسه حاضرة عند بارئها حضوراً حقيقياً كما يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، والعلم الحضوري لا يختصّ بالعلم بالذات ، بل يعم العلم بالموجد الذي هو قائم به.

وباختصار : فرقٌ بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه ببارئه ، وبين أن يجد تلك الواقعة التعلقية بوجودها الخارجي. فذلك الحضور والشهود ، شهود بين القلب ، وحضور بتمام الوجود ، لا يصل الأوحدي في الدنيا ، كما يصل إليه الإنسان في المشهد الأُخروي.

وإلى ذلك يشير ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حين جاءه حبر وقال له : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك ، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. (٢)

ونظيره ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام حيث سئل عن أيّ شيء يعبد؟ قال : « الله تعالى ». فقيل له : رأيته؟ قال : « لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو ». فخرج السائل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (٣)

ــــــــــــــــــ

١ ـ ق : ٢٢.

٢ ـ الكافي : ١ ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث ٦.

٣ ـ المصدر السابق ، الحديث٥.

٢٢١

ويحتمل أن يكون المراد من لقاء الله هو يوم البعث ، ويؤيده قوله سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الله) (١) فكنّى بلقاء الله عن يوم البعث ، لأنّ الكافرين ما كانوا يكذبون إلاّ بيوم البعث ، قال سبحانه : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). (٢) وقال تعالى : (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرونَكُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا). (٣) وقال عزّاسمه : (وَقيلَ الْيَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا). (٤)

وإنّما كنّي عن لقاء يوم البعث بلقاء الله ، لأنّه سبحانه يتجلّى للإنسان بقدرته وسلطانه ، ووعده ووعيده ، ولطفه وكرمه ، وعزّه وجلاله ، وجنوده وملائكته ، إلى غير ذلك من شؤونه. فيصح أن يقال : إنّ هذا اليوم يوم لقاء الرب ، فإنّ لقاء الآثار والآيات الدالة على عظمة صاحبها ، نوع لقاء له.

ويرشدك إلى ما ذكرنا قوله سبحانه : (إِنَّ الّذِينَ لا يَرجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ... ) (٥) فجعل عدم رجاء لقاء الرب في مقابل الرضى بالحياة الدنيا ، يدل على أنّ المراد من لقاء الرب هو الحياة الأُخروية ، الملازمة لشهود آياته وآثاره العظيمة.

وما أوردناه من الآيات هي من أهمّ ما استدل به الأشاعرة ، وبقيت هناك آيات ربما تمسكوا بها ولكنّها لا تمت إلى مقصودهم بصلة. ولأجل ذلك تركنا التعرض لها.

الاستدلال على الرؤية بالسنَّة

استدلّ القائلون بالرؤية بالأدلّة السمعية ، منها الكتاب ، وقد عرفت المهم منها ، ومنها السنّة ، ونكتفي بالمهم منها أيضاً :

ــــــــــــــــــ

١ ـ لأنعام : ٣١.

٢ ـ السجدة : ١٤.

٣ ـ الزمر : ٧١.

٤ ـ الجاثية : ٢٤.

٥ ـ يونس : ٧.

٢٢٢

روى البخاري في باب « الصراط جسر جهنم » بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا ، فإذا أتانا ربّنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم... إلى أن يقول : ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثمّ يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثمّ يقول : ربّي أدخلني الجنة ، ثمّ يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك ( الله ) ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها... الحديث. (١)

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ البخاري : ٨/١١٧باب الصراط جسر جهنم.

٢ ـ صحيح مسلم : ١/١١٣ ، باب معرفة طريق الرؤية.

٢٢٣

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينَه آية فتعرفونه بها ، فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه... الحديث. (١)

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص. ورواه أحمد في مسنده. (٢)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نَقَلَتُه لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :

١ ـ إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم الإتيان به ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشكّ عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يورث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

ــــــــــــــــــ

١ ـ صحيح مسلم : ١/١١٥ ، باب معرفة طريق الرؤية.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٢/٣٦٨.

٢٢٤

٢ ـ إنّ الحديث مخالف للقرآن الكريم ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين رحمه‌الله.

٣ ـ ماذا يريد الراوي في قوله : « فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم »؟ فكأنّ لله سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟

٤ ـ ماذا يريد الراوي من قوله : « فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه... »؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالة عليه.

٥ ـ كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين رحمه‌الله حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر ، ماثلَيْن فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذ به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب ، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم. (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ كلمة حول الرؤية : ٦٥ ، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة ، وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ.

٢٢٥

إنّ أحمد بن حنبل احتج في مجلس المعتصم بحديث جرير ، فقال المعتصم للقاضي أحمد بن أبي داود : « ما تقول في هذا؟ » فقال القاضي : إنّه يحتجّ بحديث جرير ، وإنّما رواه عنه قيس بن حازم ، وهو أعرابي بوّال على عقبيه. (١)

استدلال المنكرين بالعقل

استدلّ المنكرون بوجوه عقلية :

الأوّل : إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان ، ومسافة خاصة بينه وبين رأيه ، أن يكون مقابلاً لعين الرائي ، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه ، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمنّي المحال.

الثاني : إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً ، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركباً ، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.

الثالث : إنّ كلّ مرئي بجارحة العين يشار إليه بحدقتها ، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيره.

الرابع : إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقّق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين ، والله سبحانه منزّه عن كلّ ذلك.

وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهادي أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليهما‌السلام فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس. فكتب : « لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ». (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ مناقب أحمد : ١/٣٩١.

٢ ـ الكافي : ١/٩٧ ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث ٤.

٢٢٦

ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه.

الاستدلال بالكتاب

استُدِلَّ على امتناع رؤيته سبحانه بآيات :

الآية الأُولى : قوله سبحانه : (ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ). (١)

الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي ، إلاّبإضافته إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، ولأجل ذلك لو قال قائل : أدركته ببصري وما رأيته ، أو قال : رأيته وما أدركته ببصري يعدّ متناقضاً ، والآية بصدد بيان علوّه ، وأنّه تعالى تفرّد بهذا الوصف ، وهو أنّه يرى ولا يُرى ، كما تفرَّد سبحانه بأنّه يطعم ويجير ، ولا يطعم ولا يجار عليه ، قال سبحانه : (قُل أَغَيْرَ اللّهِ أَ تَّخِذُ وَلِيّاً فاطِرِالسَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) (٢) وقال سبحانه : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (٣)

وإن شئت قلت : إنّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :

١ ـ ما يرى ويرى ( بالضم ) كالإنسان.

٢ ـ مالا يرى ولا يُرى كالأعراض النسبية ، أي : الكيف والكم.

٣ ـ ما يُرى ولا يرى كالجمادات.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ١٠٢ ، ١٠٣.

٢ ـ الأنعام : ١٤.

٣ ـ المؤمنون : ٨٨.

٢٢٧

٤ ـ ما يرى ولا يُخرى ، وهذا القسم تفرّد به سبحانه ، وأنّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وبعبارة أُخرى : إنّه سبحانه لمّا قال : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء لا تُدْرِكُهُ الأَبصارولمّا يتبادر من ذلك الوصف ، إلى بعض الأذهان أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الحس ، وبطل الاتصال الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه وبين مخلوقاته ، دفعه بقوله : وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ثمّ علّل بقوله : وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ، واللّطيف وهو الرقيق النافذ في الشيء والخبير من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء ، كان شاهداً على كلّ شيء ، لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنه ، من غير أن يشغله شيء عن شيء ، أو يحتجب عنه شيء بشيء. (١)

ومن عجيب التأويل : قول الأشعري : إنّ قوله سبحانه : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار : تأويله الصحيح : إمّا أنّ الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة.

وإمّا أنّ أبصار الكافرين لا تدركه. (٢)

ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له ، وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات ، وقد ارتكبه هو في الذب عن مذهبه.

وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في تفسير الآية ، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال : قال ذو الرئاستين : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت

ــــــــــــــــــ

١ ـ الميزان : ٧/٣٠٨ بتلخيص.

٢ ـ الإبانة : ١٧.

٢٢٨

فداك ، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية ، فقال بعضهم : لا يُرى. فقال : يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه ، فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأَبصار وهو اللَّطيف الخبير. (١)

وهناك حديث آخر عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال أبو قرة للإمام الرضا عليه‌السلام : إنّا رُوينا أنّ الله عزّ وجلَّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسى عليه‌السلام الكلام ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرؤية؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : فمن المبلّغ عن الله عزّوجلّ إلى الثقلين : الجن والإنس : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، ووَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ، وليْسَ كَمِثْلِهِ شَيءأليس محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْما ، وليْسَ كَمِثْلِهِ شَيءثمّ يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا : أن يكون يأتي عن الله بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. (٢)

كلام الرازي حول الآية

وإنّ تعجب فعجب قول الرازي : « إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته ، والمؤمنون يرونه في الآخرة » فإنّ الآية لو لم تدل على مقالة المنكِر ، لا تدل على مقالة المثبت ، ولما كان موقف الرازي في المقام موقف المفسر الذي اتخذ لنفسه عقيدة وفكرة ، حاول أن يثبت دلالة الآية على ما يرتئيه بوجوه عليلة ، وإليك تلك الوجوه :

ــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير العياشي : ١/٣٧٣ الحديث ٧٩.

٢ ـ التوحيد للصدوق : ١١٠ ـ ١١١ ، الحديث ٩ ، وقد استدلّ الإمام عليه‌السلام بعدة آيات على امتناع رؤيته ، وسيوافيك بيان دلالتها.

٢٢٩

( الأوّل ) : أنّ الآية في مقام المدح ، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : لا تدركه الأبصار ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم ، لا تصحّ رؤية شيء منها ، ولا مُدح شيء منها في كونها لا تدركها الأبصار ، فثبت أنّ قوله : لا تدركه الأبصار يفيد المدح ، ولا يصحّ إلاّ إذا صحت الرؤية.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : لو كان المدح دليلاً على إمكان الرؤية فليكن المدح في الآية التالية دليلاً على إمكان ما ذكر فيها ، قال سبحانه : (وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً). (١) فلو دل سلب شيء عن شيء على إمكان ثبوته له ، لدلت الآية على جواز اتخاذه الولد والشريك ، ممّا يعد مستحيلاً في نفسه عليه تعالى.

وثانياً : أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل وهو لا تدركه الأبصار بل بمجموع الجزءين المذكورين في الآية ، واللّ هـ سبحانه جلّت عظمت هـ يدرك ، ولكن لعلوّ شأنه ، ومقامه لا يُدرك.

( الثاني ) : أنّ لفظ الأبصار ، صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الأبصار ، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.

يلاحظ عليه : أنّ المتبادر في المقام هو الثاني لا الأوّل ، وأيّ عبارة أصرح من الآية في الدلالة على أنّه لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ، وأنّه تعالى يدركهم ، وهذا هو المفهوم من نظائره.

قال سبحانه : (إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتدين) (٢) ، وقال سبحانه : (فَإِنَّ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ١١٠.

٢ ـ البقرة : ١٩٠.

٢٣٠

اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ) (١) ، (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْظالِمينَ) (٢)

قال الإمام عليّ عليه‌السلام : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفِطَن ». (٣)

فهل يحتمل الرازي أنّ المراد من هذه الجمل سلب العموم وأنّ بعض القائلين والعادّين والمجتهدين يبلغ مدحته ، ويحصي نعماءه ، ويؤدّي حقّه؟

( الثالث ) : أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة ، يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه الآية لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار ، لتخصيص نفي إدراك الله ، بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أنّ الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً ، ولما ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أنّ الله تعالى يخلق حاسة سادسة فينا تحصل رؤية الله بها.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ محور البحث رؤية الله بالعيون والأبصار لا بحاسة سادسة ، فماذ كره خروج من محل البحث والأشاعرة تبعاً لإمامهم ، يقولون برؤية الله سبحانه في الآخرة بهذه العيون كفلق القمر ، وتفسير الرؤية بخلق حاسة سادسة ، رجم بالغيب.

ثانياً : كيف رضي الإمام بأنّ مفهوم قوله : لا تدركه الأبصار أنّه يدرك بغير الأبصار ، فحاول التفتيش عن الحاسة التي يدرك بها يوم القيامة ، فهداه التدبر إلى القول بأنّه يدرك بحاسة سادسة ، فهل يقول به في نظائره؟ إذا قال قائل : « ما رأيت بعيني » و« ما سمعت بأذني » ، فهل معناهما أنّه رآه بغير عينه أو سمعه بغير أذنه؟

ــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٣٢.

٢ ـ آل عمران : ٥٧.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

٢٣١

هذا ولو سمح لي أدب البحث والنقد ، لقلت بأنّ ما ذكره الرازي أشبه بالمهزلة ، وليست محاولته هذه إلاّ أنّه بصدد إصلاح ما اتخذه من موقف مسبق في هذا المجال. وإلاّ فالرازي ينبغي أن يترفع عن مثل هذا الكلام.

ولأجل ذلك ضربنا عن الوجه الرابع صفحاً ، لكونه في الوهن مثل الثالث (١) ، بل أوهن منه.

الآية الثانية : قوله سبحانه : (يَومَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً). (٢)

إنّ الرؤية سواء أوقعت على الكل أم على الجزء ، نوع إحاطة به سبحانه عنها. والآية في كيفية البيان نظير الآية السابقة ، وتختلفان في تقدّم الإيجاب وتأخّر السلب هنا ، عكس الآية السابقة.

فقوله : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ نظير قوله : وهو يدرك الأبصار.

وقوله : ولا يحيطون به علماً نظير قوله : لاتدركه الأبصار.

والضمير في ولا يحيطون به يرجع إلى الله. واحتمل الرازي لأجل الفرار من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه رجوع الضمير إلى ما بين أيديهم وما خلفهم أي لا يحيط العباد بما فيهما. وهو تأويل لأجل تثبيت موقف مسبق ، لأنّ عدم علم العباد بما فيهما ، أمر واضح لا حاجة لذكره هنا بلا موجب ، وإنّما المناسب هو ذكر إحاطته سبحانه بعباده ، وعدم إحاطتهم به ، فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الآخرة ، وهو مابين أيديهم ، وقبل أن يحضروا الموقف في الدنيا وهو وما خلفهم ، فهم محاطون بعلمه ، ولا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا ، وقد عرفت أنّ الرؤية نوع إحاطة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ راجع للوقوف على هذه الوجوه تفسير الرازي : ٤/١١٨ ـ ١١٩.

٢ ـ طه : ١٠٩ ـ ١١٠.

٢٣٢

الآية الثالثة : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا اِلى بِارئِكُمْ فَاْقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذْتُكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). (١)

إذا كان جزاء اتخاذ العجل معبوداً هو قتل الأنفس ، كان جزاء الطالبين رؤية الله تعالى جهرة هو الأخذ بالصاعقة. وهذا يدلّ على أنّ الجرمين من باب واحد. فكما أنّ عبدة العجل جسّدوا الإله في العجل فطلبة الرؤية والمصرّون عليها ، صوّروه جسماً أو عرضاً قابلاً للرؤية ، فكلتا الطائفتين ظلموا ربّهم ونزّلوا الإله المتعالي عن الكيف والتشبيه والتجسيم والتجسيد ـ حسب زعمهم ـ إلى حضيض الأجسام والماديات والصور والأعراض ، فاستحقوا جزاءً واحداً ، وهو أخذهم من أديم الأرض بقتل أنفسهم ، أو حرقهم بالصاعقة.

وإن شئت قلت : إنّ التماس الرؤية لو كان التماس أمر ممكن ، لم يكن في سؤالهم بأس أبداً ، فإمّا أن تجاب دعوتهم أو ترد ، ولا يصحّ إحراقهم بالصاعقة كما في سؤالهم الآخر. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحِد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذي هُوَ اَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ). (٢)

الآية الرابعة : إنّه سبحانه ما ذكر سؤال الرؤية إلاّ استعظمه ، وما نوّه به إلاّ استفظعه ، ولو كانت الرؤية أمراً جائزاً وشيئاً ممكناً ، لما كان لهذا الاستعظام وجه ، وكان سؤالهم لها مثل سؤال الأُمم أنبياءهم بأنّهم لا يؤمنون إلاّ أن يحيي الموتى ، أو غير ذلك ، من دون الاستعظام والاستفظاع.

وإليك هذه الآيات :

١ ـ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأْلُوا

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٥٤ ـ ٥٥.

٢ ـ البقرة : ٦١.

٢٣٣

مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهُمُ البَّيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبينا). (١)

فسمّى سبحانه نفس السؤال ظلماً وعدواناً ، ويكفي في الاستعظام قوله فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وقوله ثمّ اتخذوا العجل فكان السؤال واتخاذ العجل من باب واحد.

٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبّنا لَقَدِ اسْتَكْبَروا في أَنْفُسِهمْ وَعَتَوا عُتُوّاً كَبيراً). (٢)

٣ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) (٣) (٤)

فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من أعظم الجزاء ، لم يكن التماسها عتواً ، لأنّ من سأل تعالى نعمة في الدنيا لم يكن عاتياً ، وجرى مجرى ما يقال : لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.

وباختصار : إنّ هذا الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمراً ممكناً ونعمة من نعمه سبحانه يكرم عباده بها في الآخرة.

الرازي والاستدلال بهذه الآيات

قد اتخذ الرازي في تفسير الآيات موقف المجادل الذي لا يهمه سوى الدفاع عن فكرته ، أو موقف الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش وإن كان يعلم أنّه لا يجديه. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاستمع لما نتلوه عليك منه وهو بصدد ردّالاستدلال بهذه الآيات من عدّ السؤال أمراً منكراً :

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٥٣.

٢ ـ الفرقان : ٢١.

٣ ـ البقرة : ٥٥.

٤ ـ وقد مرّت الآية في الحجة الثالثة ، ولكن كيفية الاستدلال في المقام تختلف عن ما تقدّم.

٢٣٤

١ ـ إنّ رؤية الله لا تحصل إلاّ في الآخرة ، فكان طلبها في الدنيا أمراً منكراً.

يلاحظ عليه : أنّه سبحانه يصف طلب الرؤية في الآيات السابقة بالظلم تارة والاستكبار ثانية ، والعتو الكبير ثالثة ، وإيجابه العذاب ونزول الصاعقة رابعة.

فهل هذا أنسب مع طلب الأمر المحال ، أو أنسب مع طلب الأمر الممكن غير الواقع لمصلحة؟

فهل الظلم ( التعدّي عن الحدود ) والاستكبار والعتو ، يناسب تطّلعهم إلى أمر عظيم رفيع ، وهؤلاء أقصر منه وتناسيهم أين التواب ورب الأرباب ، أو أنّه يناسب سؤالهم شيئاً ليس خارجاً عن مستواهم ، غير أنّ المصلحة أوجبت حرمانهم ، لا شكّ أنّ الأُمور الأربعة التي تحكي عن تكون جرم كثير وعصيان فظيع ، إنّما هي تناسب الأمر الأوّل لا الثاني.

والذي يكشف عن ذلك أنّه سبحانه عدّ طلب الرؤية من موسى أكبر من سؤال أهل الكتاب من النبي الأكرم تنزيل كتاب عليهم من السماء وقال : (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَة ) (١). وليس وجه كون الثاني أكبر من الأوّل سوى كونه أمراً محالاً دون الآخر ، وإن كان غير واقع.

٢ ـ إنّ حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله ، فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف ، والرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف.

يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف الرازي على أنّ رؤية الله سبحانه في الدنيا لحظة أو لحظات توجب إزالة التكليف؟ فهل ورد ذلك في الكتاب أو السنّة ، أو أنّه من نتاج ذهنه وفكرته؟

ثمّ إنّ مزيل التكليف هو حصول غايات التكليف وأهدافه. وليست

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٥٣.

٢٣٥

الغاية من التكليف إلاّ التكامل الروحي ، والانسلاخ من المادة والماديات ، والانسلاك في عداد الروحانيين وليس هذا ممّا يحصل بوقوع البصر على ذاته لحظة أو لحظات ، إلاّ أن تحولهم الرؤية إلى إنسان مثالي قد أتم كمالاته ، وهل هذا يحصل بصرف الرؤية؟ لا أدري ، ولا المنجم يدري ، ولا الرازي يدري.

وأقصى ما يعطيه النظر بالأبصار ، هو الإذعان وحصول العلم الضروري بوجوده سبحانه عن طريق الحس ، وأين هذا من إنسان مثالي صار بالعبادة والطاعة مثلاً لأسمائه ، ومجالي لصفاته ، وترفع عن حضيض المادية ، متوجهاً إلى عالم التجرد.

٣ ـ إنّه لما تمت الدلائل على صدق المدّعى ، كان طلب الدلائل الأُخرى تعنتاً ، والتعنت يستوجب التعنيف.

يلاحظ عليه : أنّ بني إسرائيل أُمّة معروفة بالجدل والعناد ، وكانت حياتهم مملوءة بالتعنت. فلماذا لم تأخذهم الصاعقة إلاّ في هذا المورد؟

وهذا يكشف عن كون التعنت في المورد ذا خصوصية ، وليست هي إلاّ لأجل إصرارهم على الرؤية عن طريق التكبر والعتو ، على تحقّق أمر محال.

٤ ـ لا يمنع أن يعلم الله أنّ في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة ، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا. (١)

يلاحظ عليه : إذا كانت الرؤية أمراً ممكناً وجزاءً للمؤمنين في الآخرة ، وقد اقتضت المصلحة منعها عن الخلق في الدنيا ، فما معنى هذا التفزيع والاستنكار والاستفظاع؟ فهل طلب شيء خال عن المصلحة ، يوجب نزول الصاعقة والإحراق بالنار؟

لم تكن هذه المحاولات الفاشلة صادرة عن الرازي لتبنّي الحقّ والبخوع

ــــــــــــــــــ

١ ـ راجع تفسير الرازي : ١/٣٦٩ ، ط مصر في ثمانية أجزاء.

٢٣٦

للحقيقة ، وإنّما هو نوع تعنت في مقابل أدلّة المحقّين في باب الرؤية. ونعم الحكم الله.

الآية الخامسة : قوله سبحانه : (وَلَما جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَةُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني اَنْظُر إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتتُ إِلَيْكَ وَأَنَا اَوّلُ الْمُؤْمِنين). (١)

وقد تعرفت على كيفية الاستدلال بالآية عند سرد أدلّة المثبتين ونقدها ، فلا حاجة للتكرار. ولكن نشير إلى بعض الأهواء الساقطة للرازي في الاستدلال بها :

١ ـ لو كانت الرؤية ممتنعة فلماذا طلبها موسى؟

وقد تعرفت على الإجابة عنه فلا نعيد.

٢ ـ لو كانت رؤيته مستحيلة لقال لا أرى ( بصيغة المجهول ). ألا ترى أنّه لو كان في يد رجل حجر. فقال له إنسان : ناولني هذا لآكله ، فإنّه يقول له : هذا لا يؤكل ، ولا يقول له لا تأكل ، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة ، لقال له« لا تأكله » أي هذا ممّا يؤكل ولكن لا تأكله. فلما قال تعالى« لن تراني » ولم يقل لا أُرى علمنا أنّ هذا يدل على أنّه تعالى في ذاته جائز الرؤية.

يلاحظ عليه : أنّ الإجابة ب ـ « لن تراني » مكان « لا أُرى » لأجل حفظ المطابقة بين السؤال والجواب ، فلمّا كان السؤال ب ـ « أرني » وافاه الجواب ب ـ « لن تراني » وحين سمع القوم إنكاره سبحانه عليه مع نبوّته ، علموا أنّهم أولى به. وأنّ رؤيته تعالى شيء غير ممكن ، ولو جازت لنبيه.

فأي قصور في دلالة الآية على الامتناع حتى يبدل الجواب بـ « لا أُرى ».

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١٤٣.

٢٣٧

٣ ـ إنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر ممكن جائز ، والمعلّق على الجائز ، جائز فينتج أنّ الرؤية في نفسها جائزة.

وقد تعرفت على الإجابة عنه.

٤ ـ إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل لله ، وهو لما رآه سبحانه اندكّت أجزاؤه ، فإذا كان الأمر كذلك ، ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية. أقصى ما في الباب أن يقال : الجبل جماد ، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً ، إلاّ أنّا نقول : لا يمتنع أن يقال : إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من رؤية الجبل إياه سبحانه ، مع الحياة والعقل والفهم ، شيء نسجته فكرته ، وليس في نفس الآية أي دليل عليه ، والحافز إلى هذه الحياكة ، هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها ، فإنّ ظاهر الآية أنّ الجبل لم يتحمل تجلّيه سبحانه فدُك وذاب ، وبطلت هويته ، لا أنّه رآه وشاهده ، وقد عرفت أنّ التجلّي كما يكون بالذات ، يكون بالفعل أيضاً ، ولو كان الجبل لائقاً بهذه الفضيلة الرابية ، فنبيّه أولى بها ، وفي قدرته سبحانه أن يريه ذاته ، مع حفظه عمّا ترتّب على الجبل من الاندكاك ، فالنتيجة أنّ العالم بأسره لا يتحمل تجلّيه سبحانه ، بفعل أو بوصف من أوصافه ، أو باسم من أسمائه.

استدلال المنكرين بالسنّة

لقدعرفت هدي القرآن وقضاءه في الرؤية. وهناك روايات متضافرة عن طريق أهل البيت والعترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعدال الكتاب وقرناءه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله عزّوجلّ حبل ممدود

ــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الرازي : ٤/٢٩٢ ـ ٢٩٥ ، ط مصر في ثمانية أجزاء ، وقد جعل كلّ واحد من هذه الأُمور حجّة على جواز الرؤية ، وقد نقلناه ملخصاً.

٢٣٨

من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ». (١)

ومن يرجع إلى خطب الإمام عليه‌السلام في التوحيد ، وما أثر من أئمّة العترة الطاهرة ، يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية ، وأنّه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف أبصار العيون. وإليك النزر اليسير في ذلك الباب :

١ ـ قال الإمام في خطبة الأشباح : « الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد ، فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه ». (٢)

٢ ـ وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه‌السلام : « أفأعبد مالا أرى؟! » فقال : وكيف تراه؟ فقال : « لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد عنها غير مباين ». (٣)

٣ ـ وقال عليه‌السلام : « الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ». (٤)

إلى غير ذلك من خطبه عليه‌السلام الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة الأبصار والقلوب به. (٥)

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في

ــــــــــــــــــ

١ ـ مسند أحمد : ٣/٢٦ ، وقريب منه ما رواه غيره.

٢ ـ نهج البلاغة : ( الخطبة : ٨٧ ) ط مصر للإمام عبده. « أناسي » : جمع إنسان البصر : هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة : ١٧٤.

٤ ـ نهج البلاغة : الخطبة : ١٨٠.

٥ ـ لاحظ الخطب : ٤٨و ٨١ و....

٢٣٩

كتاب « الكافي » ، باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثماني روايات. (١)

كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية ، فيها نور القلوب وشفاء الصدور. (٢) ومن أراد الوقوف فليرجع إلى تلك الجوامع الحديثية.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي : ١/٩٥ ، باب إبطال الرؤية.

٢ ـ التوحيد : ١٠٧ ـ ١٢٢ ، الباب ٨.

٢٤٠