بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

الوجود في الواجب شيئاً طارئاً عليه ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصحّ للمستدلّ أن يجعل مصحّح الرؤية نفس الوجود ، ثمّ يدّعي اشتراكه بين الواجب وغيره.

بل هناك احتمال ثالث ، هو أن يكون الملاك ومصحّح الرؤية هو الوجود الإمكاني المادي ، الذي يقع في إطار شرائط خاصة لتحقّقها ، وهي عبارة عن المقابلة وكونه طرف الإضافة المقولية بين البصر والمبصر ، بضميمة وجود الضوء بينهما ، فادّعاء كون الملاك أمراً وسيعاً ( الوجود ) ، يحتاج إلى دليل.

ولو أردنا أن نقف على ما هو الملاك ـ من زاوية العلوم الطبيعية ـ فإنّ الإبصار حسب هذه العلوم رهن ظروف خاصة ، ولا تعدو عن كون المبصر موجوداً ممكناً مادياً ، يقع في أُفق الحس حيث يوجد هناك ضوء ، وادّعاء إمكان الإبصار في غير هذه الظروف يحتاج إلى دليل ، وليس الاحتمال كافياً في مقام البرهان.

والعجب أنّه يدّعي أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود ، وعليه أن يعترف بصحّة رؤية الأفكار والعقائد ، والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة ، إلى غير ذلك من الموجودات التي لا يشكّ أحد في امتناع رؤيتها.

ولكن الشيخ حسب نقل شارح المواقف أجاب عن هذا النقض بقوله : إنّنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بعدم الرؤية ، فإنّه أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولكن لا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها. (١)

ولا يخفى أنّ كلامه يتضمن المصادرة على المطلوب ، إذ من أين وقف على إمكان رؤيتها حتى يصحّ تعليل عدم وقوعها بقوله : « أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا مع إمكانها » فإنّ الكلام في نفس الإمكان ، والخصم يدّعي الامتناع وهو يدّعي خلافه.

أضف إلى ذلك أنّ اللجوء إلى عادة الله في كلمات الشيخ الأشعري

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المواقف : ٨/١٢٣.

٢٠١

وأتباعه ، يرجع لبه إلى إنكار السببية والمسببية بين عوالم الوجود ودرجات العالم ، وأنّ كلّ حادثة طارئة تستند إليه سبحانه مباشرة ، وأنّه هو المحرق والمبرد ، وما يتبادر إلى الأذهان والحواس من كون النار محرقة ليس إلاّ جريان عادة الله على إيجاد الحرارة بعد وجود النار ، ولا صلة بين النار والحرارة.

وهذا الأصل الذي يعتمد عليه الأشاعرة في كثير من المواضع يضاد الكتاب العزيز والبرهان القويم. كيف وقد صرّح سبحانه في الذكر الحكيم بتأثير العلل الطبيعية في معلولاتها بإذن منه سبحانه ، ونكتفي من الآيات الكثيرة بآية واحدة : (الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَبِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١). أنظر إلى قوله سبحانهفَأخرج بهأي بسبب الماء ، فللماء سببية وتأثير في خروج الثمرات. (٢)

الأمر الثالث : دليل القائلين بالجواز من القرآن

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة نذكر المهم منها :

الأُية الأُولى

قوله سبحانه : (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَةٌ *إِلى رَبِّها ناظِرَة* وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (٣)

تمسّكت الأشاعرة لجواز رؤية الله بهذا الدليل السمعي ، قائلين بأنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار ، يستعمل بغير صلة ، ويقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة « في » ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل باللام ، وإذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب ـ « إلى » والنظر في الآية استعمل بلفظ « إلى » ، فيحمل

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٢.

٢ ـ تقدّم الكلام فيه.لاحظ : ص ١٦١.

٣ ـ القيامة : ٢٠ ـ ٢٥.

٢٠٢

على الرؤية. (١)

قال الشيخ أبو الحسن : والدليل على أنّ الله تعالى يُرى بالأبصار قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَومَئِد ناضِرَة* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٢) ولا يجوز أن يكون معنى قوله ( إِلى ربّها ناظرة ) معتبرة ، كقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) (٣). لأنّ الآخرة ليست بداراعتبار ، ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال : « ولا ينظر إليهم » أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم ، لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه (٤). ولا يجوز أن يعني منتظرة ، لأنّ النظر إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين ، لأنّ القائل إذا قال : أنظر بقلبك في هذا الأمر ، كان معناه نظر القلب ، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلاّ نظر الوجه.

والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الذي يكون بالعين التي في الوجه ، فصحّ أنّ معنى قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظرةٌ )رائية. إذا لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر الأُخرى. (٥)

قال أيضاً حول دلالة الآية على الرؤية :

إنّ النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار ، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير ، وذلك لا يكون يوم القيامة ، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار ، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر القلب ، لأنّ الله تعالى ذكر النظر مع الوجه ، فاتضح أنّه نظر العينين ، وإذا بطلت هذه المعاني

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح التجريد للقوشجي : ٣٣٤.

٢ ـ القيامة : ٢٢ ـ ٢٣.

٣ ـ الغاشية : ١٧.

٤ ـ هذا سهو من قلمه ، لأنّ الآية تتضمن نفي نظره سبحانه إليهم بالرحمة والعطف ، لا نظرهم إليه بالعطف والحنان حتى يصح قوله : « لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه » فلاحظ.

٥ ـ اللمع : ٦٤.

٢٠٣

للنظر لم يبق إلاّ حالة واحدة وهي نظر الرؤية.

يلاحظ عليه : من أين وقف الشيخ الأشعري على أنّ الآيات تحكي عن أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النار؟

والظاهر بقرينة قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) أنّ الآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم في مستقرهم ومأواهم ، فلا مانع من أن يكون انتظار من دون أن يكون هناك تكدير وتنقيص.

قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة ، فالفرقة الأُولى تصرُّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية ، والثانية تصر على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية ، ويقولون : إنّ النظر إذا استعمل مع « إلى » يجيء بمعنى الانتظار أيضاً ، يقول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح (١)

أي منتظرة إتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

إلى غير ذلك من الآيات والروايات والأشعار العربية ، الواردة فيها تلك اللفظة بمعنى الانتظار ، حتى فيما إذا كانت مقرونة بـ « إلى ».

غير أنّ الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة ، حتى ولو قلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية ، فإنّ الآية على كلا المعنيين تهدف إلى أمر آخر ، لا صلة له بمسألة الرؤية ، ويعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض ، وإليك بيانه :

إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى ، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية ، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة :

أ. وجوه يومئذ ناضرة ـ يقابلها قوله : وجوه يومئذ باسرة.

ب. إلى ربّها ناظرة ـ يقابلها قوله : تظن أن يفعل بها فاقرة.

وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى ، فيكون قرينة على المراد منها ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفي رواية : تنتظر الخلاصا.

٢٠٤

فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ، ويقصم ظهرها ، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضدّه ، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته ، ومتوقعة لفضله وكرمه ، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته ، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.

وبعبارة أُخرى : يجب أن يكون المقابلان ـ بحكم التقابل ـ متحدي المعنى والمفهوم ، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات ، فلو كان المراد من المقابل الأو ، ّل أعني : إلى ربّها ناظرة ، هو رؤية جماله سبحانه وذاته ، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه ، أعني : تظن أن يفعل بها فاقرة هو حرمان هؤلاء عن الرؤية ، أخذاً بحكم التقابل. وبما أنّ تلك الجملة ـ أعني : القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى ، أعني : الحرمان من الرؤية ، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر ، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل ، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.

بيان آخر

إنّ المراد من « ناظرة » سواء أفسرت بمعنى الانتظار أم النظر المرادف مع الرؤية ، هو توقّع المطيعين المتقين الرحمة الإلهية ، في مقابل توقع العصاة عذابه الفاقر ، فإذا كان هو المراد من الآية حسب التقابل ، فلو قلنا بأنّ لفظة « ناظرة » بمعنى الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية ـ ولو كانت بمعنى النظر المرادف مع الرؤية ـ فهي كناية عن انتظار الرحمة ، مثلاً يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، يراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه ، وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية ، إذ يقول إنسان في حقّ آخر« فلان ينظر إلى الله ثمّ إليك » فالنظر ، وإن كان هنا بمعنى الرؤية بلا شك ، لكنّه كناية عن انتظار فضله سبحانه وكرمه ، كانتظاره بعد الله فضل سيده ، ويفسره في « أقرب الموارد » بقوله« يتوقع فضل الله ثمّ كرمك » والآية نظير قول القائل :

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

٢٠٥

فمحور البحث والمراد ، في أمثال المورد ، هو توقّع الرحمة وحصولها ، أو عدم توقّعها وشمولها ، فالطغاة يظنون شمول عذاب يفقرهم ويكسر ظهورهم ، والصالحون يظنّون عكسه وضدّه. وأمّا رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عن مدار البحث في هذه المواقع ، والأشعري وكلّ من استدلّ بهذه الآية على الرؤية خلط المعنى المكنّى به بالمعنى المكنّى عنه. فقد كنّى بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه.

ولذلك نظائر في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليم) (١). والمراد من قوله : « لا ينظر إليهم » هو المعنىالمكنّى عنه ، وهو طردهم عن ساحته ، وعدم شمول رحمته لهم ، وعدم تعطّفه عليهم ، وتدلّ على ذلك الآية المتقدّمة عليها ، حيث قال عزّ من قائل : (بَلى مَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ وَاتّقى فَإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقينَ). (٢)

فلو قمنا بالمقابلة يكون سياق الآيات بالشكل التالي :

مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتّقى يكون جزاؤه قوله : يحبّه الله فإنّ الله يحبّ المتقين.

وإِنَّ الَّذينَ يَشترون بِعَهْدِ الله وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلا يكون جزاؤهم قوله : لا يُكَلّمُهُمُ اللّهوَلا يَنْظُر إِليهِمْ يَومَ القِيامةِ.

فالإبهام الموجود في الجزاء الثاني يرتفع بالمعنى المتبادر من الجزاء الأوّل ، فبما أنّ المراد منه هو عموم رحمته وشمول فضله يكون المراد من الجزاء الثاني هو قبض رحمته وعدم شموله لهم.

وإن شئت قلت : إنّ المراد من « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية الله وعدم مشاهدته إيّاهم ، لأنّ رؤيتهم أو عدم رؤيته ليس أمراً مطلوباً لهم حتى

ــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٧٧.

٢ـ آل عمران : ٧٦.

٢٠٦

يُهَدَّدوا بعدم النظر إليهم وإنّما النافع بحالهم هو وصول رحمته إليهم ، والمضر بحالهم عدم شمول لطفه لهم ، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم.

هذا هو مفتاح حل المشكل المتوهم في الآية ، فتفسير الآية برؤية الله أخذاً بالمعنى المكنّى به غفلة عن محور البحث فيها.

ويدلّ على أنّ المراد من النظر ـ حتى ولو كان بمعنى الرؤية ـ ليس هو الرؤية البصرية ، بل المقصود انتظار الرحمة ، تقديم المفعول ، أعني : « إلى ربّها » على الفعل والفاعل أعني : « ناظرة » ، فإنّ تقديمه يدلّ على معنى الاختصاص ، والاختصاص صحيح لو قلنا بأنّ المراد هو انتظار رؤيته ، لأنّ الإنسان في هذا الظرف الهائل لا يتوقع إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه فقط ، ولا يتوقع شيئاً سواها حتى يتخلص من أهوال القيامة ، وأمّا رؤية الله سبحانه فليست بهذه المنزلة في تلك الأحوال ، فليس الناس بحالة لا يطلبون فيها إلاّ النظر إليه وعدم النظر إلى غيره. وإن عمّهم العذاب بعد الرؤية ليصحّ وجه الحصر. لأنّ ما ينجيهم من الأهوال هو رحمته ، لا رؤية وجهه.

يقول صاحب الكشاف : إنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد. فاختصاصه سبحانه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه ، محال أو غير واقع ، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص. والذي يصحّ معه أن يكون من قبيل قول الناس« أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي » يريد معنى التوقّع والرجاء ومن هذا القبيل قوله :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعماً (١)

إنّ هنا كلمة أُخرى للزمخشري في كشافه ، يقول :

« وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : « عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ».تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها ، كما هو معنى قولهم : « أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك » : « أتوقع فضل الله ثمّ فضلك ». (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف : ٤/٦٦٢ ـ

٢ ـ الكشاف : ٣/٢٩٤ ، في تفسير قوله سبحانه : ( إلى ربّها ناظرة ).

٢٠٧

فلو أنّ القوم تجرّدوا عن انتحال مسلك مسبق ، ونظروا إلى القرآن بعين التفهّم والاستفادة ، لما شكّ أحد في أنّ المراد من النظر إلى الله سبحانه في ذلك المشهد الرهيب هو رجاء رحمته وفضله وكرمه.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أتعب به الشيخ نفسه لا يفيد شيئاً. فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ النظر هنا بقرينة « وجوه » بمعنى الرؤية ، ولكنّه لم يستدلّ على أنّ الرؤية هل هي المقصود بالذات ، أو هي كناية عن معنى آخر وهو انتظار رحمته ، واليقين بفضله وكرمه؟ مع أنّ هنا فرقاً واضحاً بين قولنا : « عيون يومئذ ناظرة » و وجوه يومئذ ناظرة فلو كان الأوّل ظاهراً في الرؤية فليس الثاني كذلك. فهو في الانتظار أوضح وأبين. وليس الفاعل في قوله سبحانه : إِلى ربّها ناظرة هو العيون ، بل الوجوه المذكورة في الآية المتقدمة ، أعني قوله : وجوه يومئذ ناظرة فالنظر منسوب إلى الوجوه لا إلى العيون ، فافهم.

وباختصار ، إنّا لا نقول بأنّ النظر هنا نظر القلب ، حتى يستدلّ الشيخ على عدم صحّته بأنّ النظر إذا قرن بالوجوه لم يكن معناه نظر القلب ، الذي هو انتظاره ، وإنّما نقول بأنّ المراد منه هو النظر بالعين ، ولكن هذا المعنى المطابقي كناية عن معنى التزامي. والمقصود في الكنايات هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل. فإذا قلت « فلان كثير الرماد » فصدقه يتوقّف على كثرة ضيوفه ووفرة من ينزل في بيته ، لا على وجود رماد في بيته.

وعلى ذلك فالذي يجب التركيز عليه هو الوقوف على ما هو مقصود المتكلّم من قوله : إِلى ربّهاناظرة فهل هو يريد أنّ جزاء المطيعين ذوي الوجوه الناظرة هو النظر إلى ذات الله ورؤيته؟ أو أنّه كناية عن جزاء آخر ، هو انتظار رحمته وفضله وكرمه ، في مقابل الطغاة ذوي الوجوه الباسرة الظانين بنزول العذاب الفاقر.

وهذه هي النكتة المهمة في فهم الآية وقد غفل عنها الأشعري وروّاد منهجه.

الآية الثانية

قوله سبحانه : (وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ

٢٠٨

إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبُّهُ لِلْجَبَل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوّلُ المُؤْمِنينَ ) (١) (٢).

احتجت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ موسى سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها ، لأنّه إمّا يعلم امتناع الرؤية أو يجهله ، فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال ، وإن جهله فهو لا يجوز في حقّ موسى ، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحقّ أن يكون نبيّاً.

يلاحظ عليه : أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة ، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع ، وتصور أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي ، وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، وإليك بيانه : إنّ الكليم لماأخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأله سبحانه أن يكلّمه ، فلمّا كلّمه الله ، وسمعوا كلامه ، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظملهم وعتوهم واستكبارهم.

وإلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية :

١ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ). (٣)

٢ ـ (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم ). (٤)

٣ ـ (وَاخْتارَ مُوسى قَومَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١٤٣ ـ

٢ ـ وقد استدلّت به الأشاعرة ولم يستدلّ به الشيخ أبو الحسن في لمعه وإنّما ذكرناه تتميماً للبحث.

٣ ـ البقرة : ٥٥ ـ

٤ ـ النساء : ١٥٣ ـ

٢٠٩

رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيرُ الغافِرين ). (١)

إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحُمْ الكليم حول الرؤية ، ولم ينبس فيها ببنت شفة ، ولم يطلب شيئاً ، بل طلب منه سبحانه أن يحييهم ، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربما قالوا إنّك لما لم تكن صادقاً في قولك : إنّ الله يناجيك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه. وهذا هو مقاله. يقول سبحانه عنه قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتك.

فلو كان هناك سؤال من موسى فإنّما كان بعد هذه المرحلة ، وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى.

وعند ذلك يطرح السؤال الآتي :

هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم ـ بعد ما رأى بأُمّ عينه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار ، إثر سؤالهم الرؤية ـ أنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرر أو بلا ضرورة؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلاّ بعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه ، حتى تحصل رؤيته لله مكان رؤيتهم ، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية؟

لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى من يملك شيئاً من العقل والفكر ، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم. كيف وقد رأى جزاء من سأل الرؤية ، فالثاني هو المتعين ، وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم ، وكفى في القرينة قوله أَتُهلكنا بما فعل السُّفهاء حيث يعد السؤال من فعل السفهاء ، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم ومبرر أو بلا ضرورة وإلجاء ، وبما أنّ الله سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم إلى

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١٥٥ ـ

٢١٠

السؤال إلاّ بإصرار قومه حتى يكبت هؤلاء ويسكتهم ، لم يوجّه إلى الكليم أي مؤاخذة ، بل خاطبه بقوله لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.

وهناك كلام للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه‌السلام يعرب عن صحّة ما ذكرناه ، وأنّ سؤال الكليم لم يكن من جانب نفسه ، بل من جانب قومه. قال الإمام عليه‌السلام « إنّ كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام علم أنّ الله ، تعالى عن أن يرى بالأبصار ، ولكنّه لما كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجياً ، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت.

وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ، ثمّ اختار منهم سبعمائة ، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه‌السلام إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ، ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله ، تعالى ذكره ، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام. لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة ، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتَوا ، بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت به فقتلتهم ، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إيّاك ، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ، فقال موسى عليه‌السلام : « يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.

فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى عليه‌السلام : يا ربّ قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : يا

٢١١

موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : ربّ أرني أنظر إليك. قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ( وهو يهوي ) فسوف تراني ، فلما تجلّى ربّه للجبل ( بآية من آياته ) جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً ، فلمّا أفاق قال : سبحانك تبت إليك ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ) وأنا أوّل المؤمنين ( منهم بأنّك لا تُرى ) ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن. (١)

ثمّ إنّ للعّلامة الزمخشري كلاماً حول تفسير الآية هو فصل الخطاب ، يقرب كلامه ممّا نقلناه عن الإمام الطاهر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فإلى القارىء نصه : « فإن قلت : كيف طلب موسى عليه‌السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته ومايجوز عليه ومالا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس ، وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة ، وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة.

قلت : ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكِّت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً ، وتبرأ من فعلهم ، وليلقمهم الحجر ؛ وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا : لابدّ ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة. فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك ، وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ربِّ أرني أَنظر إليك.

فإن قلت : فهلاّ قال : أرهم ينظروا إليك؟ قلت : لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى عليه‌السلام وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه ، إرادة مبنية على قياس فاسد ، فلذلك قال موسى : أَرني أَنظر إليك ولأنّه إذا زجر عمّا طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله ، وقيل له : لن يكون ذلك ، كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام أُمّته فكان ما يخاطب به أو ما

ــــــــــــــــــ

١ ـ توحيد الصدوق : ١٢١ ـ ١٢٢.

٢١٢

يخاطب ، راجعاً إليهم ، وقوله : أَنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم ، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم ، وحكاية لقولهم ، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسة النظر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلّمين.

فإن قلت : ما معنى « لن »؟

قلت : تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » وذلك أنّ « لا » تنفي المستقبل ، تقول : لا أفعل غداً ، فإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً. والمعنى أنّ فعله ينافي حالي ، كقوله : لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلو اجْتَمعوا له ، فقوله : لا تُدركه الأَبصار نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان ، لأنّ النفي مناف لصفاته. (١)

ذلك كلام الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، أحد قرناء الكتاب وأعداله حسب تنصيص النبي الأكرمصلَّى الله عليه واله وسلَّم. (٢) وهذا تحليل علاّمة المعتزلة ، ولو تأمل الإنسان المحايد فيما ذكر ، لعرف دلالة الآية على امتناع الرؤية.

وبذلك يعلم أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى : وَلَمّا جاءَمُوسى لِميقاتِنا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِليك نفس الميقات الوارد في الآية الأُخرى ، أعني قوله : وَاخْتارَمُوسى قومهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمّا أَخَذتهُمُ الرّجْفَةولم يكن لموسى مع قومه أي ميقات غير هذا. غير أنّ الرجوع في سورة الأعراف إلى مسألة الميقات ثانياً بعد ذكره في بدء القصة ، لأجل العناية بهذه القطعة من القصة ، والقرآن ليس كتاب قصة ، وإنّما هو كتاب هداية يكرر من القصة ما يهمّه.

وبعبارة أُخرى : إنّ موضوع طلب الرؤية ذكر في ثنايا القصة مرّة

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف : ١/٥٧٣ ـ ٥٧٤ ط مصر. كذا في المطبوع ، والصحيح : أنّ الرؤية منافية ، كما في جوامع الجامع.

٢ ـ في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ».

٢١٣

( الأعراف : ١٤٣ ) لأجل حفظ تسلسل فصول القصة ، وذكر في نهايتها ثانياً ( الأعراف : ١٥٥ ) لأجل إبراز العناية ، وأنّه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل.

لقاء أو لقاءان؟

قد استظهرنا أنّه لم يكن لموسى حول مسألة الرؤية إلاّ ميقات واحد ، ولم يكن هنا إلاّ طلب واحد لأجل إصرار قومه. وربما يحتمل تعدد اللقاءين ، وأنّ الأوّل منهما كان عند اصطفائه سبحانه لكلامه ، وتشريفه بإعطاء التوراة ، وإرساله إلى قومه ؛ وكان الثاني بعد رجوعه من الميقات ومشاهدة اتخاذ قومه العجل إلهاً ، فعند ذاك اختار من قومه سبعين رجلاً وذهب بهم إلى الميقات ، فأصروا على أنّهم لا يؤمنون به إلاّ بعد رؤية الله جهرة. فالآية الأُولى وَلَمّاجاء مُوسى لميقاتناناظرة إلى اللقاء الأوّل والآية الثانية واختار موسى قومه إلى اللقاء الثاني. وكان في كلّ ، طلب وسؤال خاص.

هذا هو المفترض ، ولكنّه بعيد جداً ، وعلى فرض ثبوته لا يدلّ على المطلوب المدّعى ثانياً.

أمّا الأوّل : فلأنّه لو كان للكليم لقاءان ، وقد سأل في الأُولى منهما الرؤية لنفسه وحده وأُجيب بالنفي ، ولمّا شاهد اندكاك الجبل عند تجلي الرب صعق ووقع على الأرض ، كان عليه تذكير قومه بما وقع وتخويفهم من الطلب ، مع أنّه لم يذكر منه شيء في الآية الثانية. ولو نبّههم بذلك ـ ومع ذلك ألّحوا على الرؤية ـ لأشار إليه الذكر الحكيم إيعازاً إلى لجاجهم وعنادهم.

وكلّ ذلك يعرب عن وحدة اللقاء ، وأنّ مجيئه لميقات ربّه لإخذ الألواح كان مع من اختارهم من قومه ، ولم يكن إلاّ طلب واحد في حضرة القوم.

تفسير الآية بوجه آخر

وعلى فرض التعدّد فالرؤية التي طلبها موسى لنفسه وقال : أَرني أَنْظُر إِليك غير الرؤية التي طلبها قومه ، فالمراد من الثانية هو الرؤية البصرية

٢١٤

المستحيلة ، وقد أعقب السؤال نزول الصاعقة وإهلاك القوم ، ولكن المراد من الأوّل هوحصول العلم الضروري ، وإنّما سمي بالرؤية للمبالغة في الظهور. وله نظائر في القرآن كقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْض ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين ) (١) وقوله عزّ من قائل : (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحيم). (٢)

فالكليم أجلّ من أن يجهل امتناع الرؤية الحسية بالأبصار ، خصوصاً في الدنيا التي يسلّم الخصم امتناعه فيها. فهذا قرينة على أنّ مقصوده منها هو العلم الضروري من دون استعمال آلة حسية أو فكرية. فالله سبحانه لما اصطفاه برسالته وتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع ، رجا أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية ، وهو كمال العلم الضروري ، فأُجيب بالنفي ، وأنّ الإنسان ما دام شاغلاً بتدبير بدنه ، لا ينال ذاك العلم.

هذا ، والأصح هو الجواب الأوّل ، وأنّه لم يكن هنا إلاّ طلب واحد بإصرار من قومه.

إكمال

بقي الكلام في ارتباط قوله سبحانه : وَلكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني بما قبله لن تراني وقد قيل في وجه ارتباطه وجهان ، والثاني هو المتعيّن ، وإليك بيانه :

الأوّل ما ذكره صاحب الكشاف ، وحاصله ، أنّ اندكاك الجبل كان ردّ فعل لطلب الرؤية حتى يقف موسى على استعظام ما أقدم عليه من السؤال ، وإن كان بإلحاح قومه وإصرارهم ، وكأنّه عزّ وجلّ حقّق عند طلب الرؤية ما ذكره في مورد آخر ، أعني : نسبة الولد إليه ، أعني قوله : وتخرّ الجبال هداً* أن دعوا للرّحمن ولداً. (٣)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٧٥.

٢ ـ التكاثر : ٥ ـ ٦.

٣ ـ الكشاف : ١/٥٧٥.

٢١٥

يلاحظ عليه : أنّ سياق الآية ، سياق الهداية والبرهنة على أنّه لا يُرى ، وعلى ما ذكره يكون الكلام وارداً موضع العتاب الخفيف على موسى ، لأجل طلب الرؤية من جانب قومه ، ليقف على استعظام عمله وعظم أثره ، وهو اندكاك الجبل وانخراره وصيرورته تراباً ، وهذا لا ينطبق على ظاهر الآية وإن استحسنه الزمخشري وقال :

« وهذا كلام وارد في أُسلوب عجيب ونمط بديع ، فقد تخلص من النظر إليه إلى النظر إلى الجبل بكلمة الاستدراك ».

الثاني : أنّ الاستدراك بمنزلة التعليل لقوله : « لن تراني » والمقصود بيان ضعف الإنسان وعدم طاقته لرؤيته سبحانه ، وقد بين ذلك بتجلّيه على الجبل فصار دكاً ، وهوأقوى من الإنسان وأرسخ منه ، فإذا كان هذا حال الجبل فكيف حال الإنسان الذي يشاركه في كونه موجوداً مادياً خاضعاً للسنن الكونية ، وقد خلق الإنسان ضعيفا؟!

وبذلك يحفظ على سياق الآية وارتباط أجزائها بعضها ببعض.

وأمّا ما هو المقصود من تجلّيه سبحانه ، فالتجلّي هو الانكشاف والظهور بعد الخفاء ، قال سبحانه : (وَاللّيلِ إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى ) (١) فالليل يغشى النهار ويستره ، ثمّ يتجلّى النهار ويظهر بالتدريج. والمقصود من تجلّيه سبحانه هو تجلّيه بآثاره وأفعاله. وبما أنّ نتيجة التجلّي كانت اندكاك الجبل وصيرورته تراباً ، كان التجلّي بنزول الصاعقة على الجبل التي تقلع الأشجار ، وتهدم البيوت وتذيب الحديد ، وتحدث الحرائق ، وتقتل من تصيبه من الناس ، وليست هي إلاّ شرارة كهربائية تنتج من اتحاد كهربائية سحابة في الجو مع الكهربائية الأرضية ، فتكون نتيجة الاتحاد هي الصاعقة وبروز الشرارة ، وما يرى من نورها هو البرق ، وما يسمع هو الرعد ، وهو صوت الشرارة الكهربائية التي تخرق طبقات الهواء.

فإذا كان الإنسان عاجزاً وفاقداً للطاقة في مقابل تجلّيه بفعله وأثره ، فأولى

ــــــــــــــــــ

١ ـ الليل : ١ ـ ٢.

٢١٦

أن يكون عاجزاً في مقابل تجلّيه بذاته ونفسه.

وبذلك تتبيّن دلالة الآية على عدم إمكان رؤيته ، فضلاً عن دلالته على إمكانها.

قد عرفت أنّ الأشاعرة استدلّت بهذه الآية بوجهين ، وقد ظهر مدى صحّة الوجه الأوّل ، وإليك بيان الوجه الثاني :

الوجه الثاني

قالوا : إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه. والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله سبحانه فإن استقر مكانه هو إمكان الاستقرار. ولا شكّ أنّه أمر ممكن ، ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد تجلّيه ، وهو بعد لم يستقر عليه ، بدليل قوله سبحانه : جعله دكاً وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صليت » والمراد قيام المخاطب بها بالفعل لا إمكان قيامه.

وبذلك يظهر أنّ ما حكاه صاحب الانتصاف عن أحمد بن حنبل لا يفيد القائلين بالرؤية ، فقد نقل عنه أنّ من حيل القدرية في إحالة الرؤية ما يقولون إنّه سبحانه علّق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكّه. والمعلّق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة ، فإنّ المعلّق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار ، وذلك ممكن جائز ، وحينئذ نقول : استقرار الجبل ممكن وقد علّق عليه وقوع الرؤية ، والمعلّق على الممكن ممكن. (١)

وغير خفي على النبيه أنّ المعلّق عليه ليس ما حكي عن المعتزلة ، وهو استقرار الجبل حال دكّه ، ولا ما ذهب إليه أحمد من إمكان الاستقرار ، بل

ــــــــــــــــــ

١ ـ الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد الاسكندري المالكي بهامش الكشاف : ١/٥٧٥.

٢١٧

المعلّق عليه وجود الاستقرار وبقاؤه بعد تجلّي الرب سبحانه ، ولم يكن هذا واقعاً.

وباختصار ، إنّ إمكان الرؤية ، علّق على وجود الاستقرار وتحقّقه بعد التجلّي ، وهو حسب الفرض لم يقع. وينتج أنّ الرؤية ليست أمراً ممكناً.

الآية الثالثة

قوله سبحانه : (إِذا تُتْلى عَليهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوّلينَ* كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجُوبونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجَحيم). (١)

قال الرازي : « احتج أصحابنا بقوله سبحانه : كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُونعلى أنّ المؤمنين يرون سبحانه وتعالى. قال : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة ، ثمّ قال : وفيه تقرير آخر ، وهو أنّه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض التهديد والوعيد للكفّار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفّار لا يجوز حصوله في حقّ المؤمن ». (٢)

والاستدلال مبني على أنّ المراد هو كون الكفّار محجوبين عن رؤيته سبحانه مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم بسبب الذنوب التي اقترفوها ، وبأي دليل حملها الرازي على الحرمان من الرؤية؟

على أنّ المعرفة التامة به تعالى ، التي هي فوق الرؤية الحسية بالأبصار الظاهرة ، تكون حاصلة لكلّ الناس يوم القيامة ، إذ عندئذ ترتفع الحجب المتوسطة بينه تعالى وبين خلقه ، قال سبحانه : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ). (٣)

وقال سبحانه : (لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ

ــــــــــــــــــ

١ ـ المطففين : ١٣ ـ ١٦.

٢ ـ مفاتيح الغيب : ٨/٣٥٤ ، ط مصر.

٣ ـ النور : ٢٥.

٢١٨

فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديد). (١)

الآية الرابعة

قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (٢)

قالوا : إنّ المراد من « الحسنى » هو الجنة ومن « زيادة » هو رؤية الله. قال الرازي : إنّ الحسنى لفظ مفرد دخل عليه حرف التعريف ، فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار السلام المذكور في الآية المتقدمة : وَالله يَدعُو إِلى دار السَّلام وَإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من « زيادة » أمراً مغايراً لكلّ ما في الجنة من المنافع والتعظيم ، وإلاّ لزم التكرار ، وكلّ من قال بذلك قال : إنّما هي رؤية الله. (٣)

يلاحظ عليه : أنّه لا دليل على حمل اللام على العهد ، بل المراد الجنس ، والمراد أنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى مع زيادة على ما يستحقونه. قال سبحانه : ليوفّيهم أُجورهُمْ ويزيدهم من فَضله ويؤيده ذيل الآية التي تليها (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَة بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عاصِم كَأْنَّما أُغشيِتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (٤)

وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقضي بأنّ المراد : إنّ للذين أحسنوا في الدنيا ، المثوبة الحسنى مع زيادة عمّا يستحقونه ، والّذين كسبوا السّيئات لا يجزون إلاّ بمثلها ، وليس في الآية إشعار برؤية الله ، فضلاً عن الدلالة.

وبذلك يتبين مفاد آية أُخرى ، أعني قوله سبحانه : (ادْْخُلُوها بِسَلام ذلِكَ

ــــــــــــــــــ

١ ـ ق : ٢٢.

٢ ـ يونس : ٢٦.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ٨/٣٥٤.

٤ ـ يونس : ٢٧.

٢١٩

يَومُ الخُلُودِ* لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزيد) (١) فالآيتان تشيران إلى ما يفيده قوله : ( فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَدِّبُهُمْ عَذاباً أَليماً ). (٢)

ولقد جرى الحقّ على قلم الرازي إذ قال : ويحتمل أن يكون المعنى : عندنا ما نزيده على ما يرجون وعلى ما يشتهون.

الآية الخامسة

قوله سبحانه : (وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّ عَلى الخاشِعينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليهِ راجِعُونَ ). (٣)

قالوا : « إنّ الملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل ». (٤)!

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ لقاء الربّ لو كان مستلزماً لرؤيته ، فهو عام للمؤمن والكافر ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ* فَسَوفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً). (٥) مع أنّ الأشاعرة يخصّون الرؤية بالمؤمن.

وثانياً : أنّ المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه وبين ربّه ، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق. قال الله تعالى : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ. (٦) وقال سبحانه : (لِمَنِ المُلْكِ اليَومَ للّهِ الواحِدِ القَهّارِ). (٧) وقال سبحانه : (لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ

ــــــــــــــــــ

١ ـ ق : ٣٤ ـ ٣٥.

٢ ـ النساء : ١٧٣.

٣ ـ البقرة : ٤٥ ، ٤٦.

٤ ـ مفاتيح الغيب : ٢/٣٤٦ ، ط مصر.

٥ ـ الإنشقاق : ٦ ـ ٨.

٦ ـ النور : ٢٥.

٧ ـ غافر : ١٦.

٢٢٠