بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

عن الفعل فهي متقارنة مع الفعل ، غير متعلّقة إلاّ بمقدور واحد. والأشاعرة لما اختارت تبعاً لمؤسس المنهج كون القدرة مع الفعل ، نفت صلاحية تعلّقها بمقدورين ، فضلاً عن الضدّين ، وبما أنّك عرفت أنّ النزاع في المسألة السابقة أشبه باللفظي ، يكون النزاع هنا أيضاً مثله.

قال الإمام الرازي : قد تطلق القدرة على القوة العضلية ، التي هي مبدأ الآثار المختلفة في الحيوان ، بحيث لو انضم إليها إرادة كلّ واحد من الضدّين حصل دون الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين على السواء. وقد تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ في امتناع تعلّقها بالضدّين ، وإلاّ اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور ، غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، لاختلاف الظروف بحسب كلّ مقدور. فلعلّ الأشعري أراد بالقدرة ، المعنى الثاني ، فحكم بأنّها لا تتعلّق بالضدّين ، ولا هي قبل الفعل ، والمعتزلة أرادت بها المعنى الأوّل ، فذهبوا إلى أنّها تتعلّق بالضدّين وأنّها قبل الفعل. (١)

ثمّ إنّ أبا الحسن الأشعري لماّ اختار لزوم مقارنة القدرة مع الفعل وامتناع تقدّمها عليه ، وقع في تكليف الكفّار بالإيمان في زمان كفرهم في حيرة ، كما قام بتأويل كثير من الآيات الصريحة في تقدّم القدرة على الفعل ، وإليك نماذج منها :

١ ـ إنّ الكفّار مكلّفون بالإيمان كما هو صريح الكتاب ، فلو كانت القدرة موجودة مع الفعل لكان تكليفهم بالإيمان في حال الكفر تكليفاً بالمحال ، وهذا من النقوض الواضحة التي سعى الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه في حلّها ولم يأتوا بشيء مقنع.

٢ ـ قال سبحانه : (أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَو عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَرَ وَعَلى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكين). (٢)

اتّفق مشاهير المفسرين على أنّ الضمير في « يطيقونه » يرجع إلى الصيام ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المواقف : ٦/١٥٤.

٢ ـ البقرة : ١٨٤.

١٨١

والمراد أنّ الذين يقدرون على الصيام لكن بعسر وشدة يجوز لهم الإفطار ، والفدية لكلّ يوم بطعام مسكين. فالآية نصّ في تقدّم الاستطاعة على العمل. قال في المنار : إنّ الذين لا يستطيعون الصوم إلاّ بمشقة شديدة ، عليهم فدية طعام مسكين في كلّ يوم يفطرون فيه. (١)

والشيخ الأشعري تكلّف بإرجاع الضمير إلى الإطعام ، والمعنى : وعلى الذين يطيقون الإطعام ويعجزون عن الصيام ، عليهم الفدية.

يلاحظ عليه : أنّ مرجع الضمير غير مذكور على تفسيره أوّلاً ، والعجز عن الصيام الذي هو المهم لم يذكر في الآية لا تصريحاً ولا تلويحاً ، الإطعام واجب مطلقاً للعاجز وغيره ثانياً.

٣ ـ قال سبحانه : (وَللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبيلاً ) (٢) فالآية صريحة في أنّ المستطيع بالفعل يجب عليه الحجّ في المستقبل.

وقد تكلّف الشيخ في تفسير الاستطاعة بالمال ، ويعني الزاد والراحلة وقال : ولم يرد استطاعة البدن التي في كونها كون مقدورها.

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير الاستطاعة بخصوص ما ذكره لا دليل عليه ، مع أنّ استطاعة البدن ركن مثل المال ، وثانياً : أنّه لو انضم إليه البدن لما كان في كونه ، كون مقدوره ، أعني : نفس عمل الحجّ ، لأنّ للزمان وشهور الحجّ دخلاً في تحقّق المقدور.

٤ ـ قوله تعالى : (وَسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (٣)

ترى أنّ المنافقين يحلفون بعدم الاستطاعة على الخروج إلى الجهاد والله يكذبهم ويقول : إنّهم مستطيعون ولا يريدون الخروج ، قال سبحانه : ( وَلَوْ

ــــــــــــــــــ

١ ـ المنار : ٢/١٥٦.

٢ ـ آل عمران : ٩٨.

٣ ـ التوبة : ٤٢.

١٨٢

أَرادُوا الخُروجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة ). (١)

وقد فسر الشيخ الإستطاعة بالمال ، وقال : إنّهم كانوا يجدون المال ، وكانت المحاورة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجدة ، وإذا كان كذلك فنحن لا ننكر تقدّم المال للفعل ، وإنّما أنكرنا تقدّم استطاعة السلوك للفعل. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ هؤلاء الواجدين للمال لم يكونوا خارجين عن حالتين : الصحّة والسلامة ، المرض والضعف.

فعلى الأوّل كانت الاستطاعة بعامة أجزائها موجودة قبل الفعل ، أعني : الخروج إلى الجهاد ، وعلى الثاني لم يكونوا مخاطبين بالخروج إلى الجهاد لقوله سبحانه : (وَلاَ عَلى المَريضِ حَرَجٌ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي هي ظاهرة في تقدّم الاستطاعة على الفعل ، وقد أتعب الشيخ نفسه في تأويل هذه الآيات بما لا يرضى به من له إلمام بتفسير الآيات وتوضيحها.

والعجب أنّ الشيخ يتهجّم على المعتزلة تبعاً لأهل الحديث ، لتأويلهم الآيات والروايات الظاهرة في أنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً ، مع أنّه يتكلّف التأويل في هذا الباب عند تفسير كثير من الآيات الظاهرة في خلاف ما تبنّاه.

وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا فلاحظ تأويله قوله سبحانه ، في قصة سليمان حكاية عن عفريت من الجن : (قالَ يا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُوني مُسْلِمينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ). (٤)

فانظر صراحة الآية في أنّ العفريت يصف نفسه بالقوة والاستطاعة قبل أن يفعل.

ــــــــــــــــــ

١ ـ التوبة : ٤٦.

٢ ـ اللمع : ١٠٦.

٣ ـ النور : ٦١.

٤ ـ النمل : ٣٨ ـ ٣٩.

١٨٣

وبعد ذلك فانظر إلى تكلّف الشيخ في تفسير الآية حيث يقول : عنى العفريت بقوله : َ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ ) إن استطعت ذلك وتكلفته وأردته ، أو عنى منه : إن شاء الله ، أو عنى منه : إن قوّاني الله تعالى عليه.

والعجب أنّه يتنبّأ ويقول : « ولو لم يعلم سليمان أنّ العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذّبه ورد عليه قوله » أو ليس هذا تخرصاً على الغير؟!

ونحن لا نعلّق على التأويل الذي أتى به الشيخ ، ولا على التنبّؤ الذي نسبه إلى سليمان شيئاً ، بل نرجع القضاء في ذلك إلى وجدان القارئ الحر ، ونقول : هكذا يتلاعب الإنسان بالآيات القرآنية بسبب أفكاره المسبقة. (١)

التكليف بما لا يطاق

إنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، أمّا إذاكان الآمر إنساناً فلأنّه بعد وقوفه على أنّ المأمور غير مستطيع لإيجاد الفعل ، وغير قادر عليه ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفسه وضمير روحه ، ولا يبلغ تصوّر الفعل والتصديق بفائدته إلى مرحلة العزم والجزم بطلبه من المأمور ، وبعثه من صميم القلب نحو الشيء المطلوب ، إذ كيف يمكن أن يطلب شيئاً بطلب جدي ممّن يعلم أنّه عاجز ، وهل يمكن لإنسان أن يطلب الثمرة من الشجرة اليابسة ، أو المطر من الأحجار والأتربة الجامدة ، ولأجل ذلك يقول المحقّقون : إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، وإنّ الإرادة الجدية لا تنقدح في ضمير الأمر هذا كلّه إذا كان الآمر إنساناً ، وأمّا إذا كان الآمر هو الله سبحانه ، فالأمر فيه واضح من جهتين :

١ ـ إنّ التكليف بمالا يطاق أمر قبيح عقلاً ، فيستحيل عليه سبحانه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد مالا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، ويطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه ، فلا يجوز له أن يكلّف الزمن ، الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدين ، ولا إدخال الجمل في خرم الإبرة ، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ راجع في ما نقلناه عن الشيخ الأشعري حول الآيات ، اللمع : ٩٩ ـ ١٠٩.

١٨٤

٢ ـ الآيات الصريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلاّ بمقدار قدرته وطاقته ، قال سبحانه : (لا يُكَلّفُ الله نَفساً إِلاّ وُسْعَها). (١) وقال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبيدِ). (٢) وقال عزّ من قائل : (ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحدا). (٣)

والظلم هو الإضرار بغير المستحق ، وأيّ إضرار أعظم من هذا ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ومع هذه البراهين المشرقة سلك الأشعري غير هذا الصراط السوي ، وجوز التكليف بمالا يطاق ، واستدلّ عليه بالآيات التالية :

١ ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٤) وقد أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكلّفوه ، فدلّ ذلك على جواز تكليف مالا يطاق ، وأنّ من لم يقبل الحقّ ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً.

٢ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَها عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسماءِ هؤلاءِإِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ )(٥) قال : الآية تدل على جواز تكليف ما لا يطاق ، فقد أُمروا بإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.

٣ ـ(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَونَ إِلى السُّجُود فَلا يَسْتَطيعُونَ* خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَونَ إِلى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (٦) قال : فإذا جاز تكليفه إيّاهم في الآخرة مالا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٨٦.

٢ ـ فصلت : ٤٦.

٣ ـ الكهف : ٤٩.

٤ ـ هود : ٢٠.

٥ ـ البقرة : ٣١.

٦ ـ القلم : ٤٢ ـ ٤٣.

١٨٥

٤ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَو حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ الْمَيلِ فَتَذرُوها كالمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً ). (١) قال : وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ، ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يعدل. (٢)

يلاحظ عليه :

أمّا الآية الأُولى : فيظهر ضعف الاستدلال بها بتفسير مجموع جملها :

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ : إنّهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية وإن خرجوا عن زي العبودية وافتروا على الله الكذب ، ولكن ماغلبت قدرتهم قدرة الله. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ : إنّهم وإن اتّخذوا أصنامهم أولياء ولكنّها ليست أولياء حقيقة ، وليس لهم من دون الله تعالى. يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ : يجازون بما أتوا به من الغي والظلم والأعمال السيّئة ». ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ هذه الجملة في مقام التعليل يريد أنّهم لم يكفروا ولم يعصوا أمر الله ، لأجل غلبة إرادتهم على إرادة الله ، ولا لأنّ لهم أولياء من دون الله ، بل لأنّهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من إنذار وتبشير ، أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله سبحانه ، وما كانوا يبصرون آياته ، حتى يؤمنوا بها ، ولكن كلّ ذلك لا لأجل أنّهم كانوا غير مستطيعين أن يسمعوا ويبصروا من بداية الأمر ، بل لأنّهم أنفسهم سلبوا هذه النعم بالذنوب فصارت وسيلة لكونهم ذوي قلوب لا يفقهون بها ، وذوي أعين لا يبصرون بها ، وذوي آذان لا يسمعون بها ، فصاروا كالأنعام بل أضلّ منها. (٣)

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٢٩.

٢ ـ لاحظ اللمع : ٩٩ ، ١١٣ ، ١١٤.

٣ ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( لهم قلوب لا يفقهون بها... ) الأعراف : ١٧٩.

١٨٦

إنّ الآيات الكريمة صريحة في أنّ عمل الإنسان وتماديه في الغي ينتهي إلى صيرورة الإنسان أعمى وأصم وأبكم ، قال سبحانه : (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ الله قُلُوبَهُمْ). (١)

وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسِقينَ). (٢)

وعلى ذلك فالآية التي استدلّ بها الشيخ ، نظير قوله سبحانه : (خَتَمَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِم وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (٣) وقوله سبحانه : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّل مَرَّة). (٤)

ولكن كل ذلك في نهاية حياتهم بعد تماديهم في الغي.وأمّا في ابتداء حياتهم فقد أعطى للجميع قدرة الإبصار والاستماع والتفكّر والتعقّل. قال سبحانه : (وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٥) ولكن الإنسان ربما يبلغ به الغي إلى درجة ينادي فيها ويقول : (لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أَصْحابِ السَّ عيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصحابِ السَّعيرِ). (٦)

وباختصار ، الآية تحكي عن عدم استطاعتهم السمع ، ولكن السبب في حصول هذه الحالة لهم ، هو أنفسهم باختيارهم ، وهذا لا ينافي وجود الاستطاعة قبل التمادي في الغي ، وما يتوقّف عليه التكليف هو القدرة الموجودة قبل سلبها عن أنفسهم.

ومن القواعد المسلّمة في علم الكلام قولهم : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

ــــــــــــــــــ

١ ـ الصف : ٥.

٢ ـ البقرة : ٢٦.

٣ ـ البقرة : ٧.

٤ ـ الأنعام : ١١٠.

٥ ـ النحل : ٧٨.

٦ ـ الملك : ١٠ ـ ١١.

١٨٧

إلى هنا تعرفت على مفاد الآية ، ووقفت على أنّها لا تمت إلى ما يدّعيه الشيخ بصلة ، وهلم معي ندرس الآيات الباقية :

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله سبحانه : (أَنْبِئُوني بِأَسماءِ هؤلاءِ) فليس الأمر فيها للتكليف والبعث نحو المأمور به ، بل للتعجيز ، مثل قوله سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (١)

إنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، ويشترط فيه القدرة الاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئينَ ) (٢) والإهانة ، مثل قوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريمُ ) (٣) ، أو التمنّي ، مثل قول امرئ القيس في معلّقته :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلّم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر ، وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وأمّا الآية الثالثة فليست الدعوة إلى السجود فيها عن جد وإرادة حقيقية ، بل الغاية من الدعوة إيجاده الحسرة في المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا. والآية تريد أن تبين أنّهم في أوقات السلامة رفضوا الإطاعة والامتثال ، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أعينهم ورأوا العذاب ـ همّوا بالسجود ، ولكن أنّى لهم ذلك ، وإليك تفسير جمل الآية.

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٣.

٢ ـ البقرة : ٦٥.

٣ ـ الدخان : ٤٩.

١٨٨

يوم يكشف عن ساق الجملة كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، وإن لم يكن هناك كشف ولا ساق ، وذلك لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقيه ، ويخوض غمار الحوادث. وهذا كما يقال للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، وإن لم يكن هناك يد ولا غل. ويدعون إلى السجود : لا طلباً ولا تكليفاً جدّياً ، كما زعمه الشيخ أبو الحسن ، بل لازدياد الحسرة على تركهم السجود في الدنيا مع سلامتهم. فلا يستطيعون : لسلب السلامة منهم (١) أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم ، واليوم تبلى السرائر. (٢) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة : تكون أبصارهم خاشعة ويغشاهم في ذلك اليوم ذلّة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون : إنّهم لماّ دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا عنه مع صحتهم وصحّة أبدانهم ، يدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وذلك لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء.

ومجموع جمل الآية تعرب بوضوح عن أنّ الدعوة فيها لا تكون عن تكليف جدي ، بل لغايات أُخرى لا يشترط فيها القدرة.

وأمّا الآية الرابعة ، فلا شكّ أنّ الله سبحانه أمر بالعدالة من يتزوج أكثر من واحدة قال سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةٌ ) (٣) وفي الوقت نفسه أخبر في آية أُخرى عن عدماستطاعة المتزوّجين أكثر من واحدة على أن يعدلوا. ولكن نهى عن التعلّق التام بالمحبوبة منهن ، والإعراض عن الأُخرى رأساً ، حتى تصير كالمعلّقة لا متزوّجة ولا مطلّقة ، قال سبحانه : ( وَلَنْ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف : ٣/٢٦١.

٢ ـ الميزان : ٢٠/٤٦ ، والمعنى الأوّل الذي قال به صاحب الكشاف أظهر لما في الآية التالية من قوله : ( وهم سالمون ).

٣ ـ النساء : ٣.

١٨٩

تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقةِ وَأَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ). (١)

وبالتأمّل في جمل الآية ، يظهر أنّ العدالة التي أمر بها ، غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها. فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن ، وغيرها من الحقوق الزوجية التي يقوم بها الزوج بجوارحه ، ولا صلة لها بباطنه.

وأمّا غير المستطاع منها فهو المساواة في إقبال النفس والبشاشة والأنس ، لأنّ الباعث عليها الوجدان النفسي والميل القلبي ، وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره.

والآية بصدد التنبيه على أنّ العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ، ولا يتعلّق به التكليف ، ومهما حرص الإنسان على أن يجعل المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن لا يستطيعه ، وهذا هو العدل الحقيقي التام. (٢)

وباختصار : إنّ المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرّف أصلاً ، وهو ليس محلاً للتكليف ، والمثبت المشروع الذي أمر به هو العدل التقريبي الذي هو في وسع كلّ متزوج بأكثر من واحدة. (٣)

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٢٩.

٢ ـ المنار : ٥/٤٤٨.

٣ ـ الميزان : ٥/١٠٦.

١٩٠

(١٢)

رؤية الله بالأبصار

إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتم الأشعري بإثباته اهتماماً بالغاً في كتابيه : « الإبانة » و « اللمع » وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع ، وفي الثاني من ناحية العقل.

قال في « الإبانة » : وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله. (١)

وقال في « اللمع » : إن قال قائل : لم قلتم إنّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟

قيل له : قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه ، لا يلزم في القول بجوازالرؤية. (٢)

ولإيقاف القارئ على حقيقة الحال نبحث عن الأُمور التالية :

١.سرد الأقوال وتعيين محلّ النزاع.

٢ ـ دليل القائلين بجواز الرؤية من العقل.

٣ ـ دليل القائلين بالجواز من القرآن.

٤ ـ دليل القائلين بالجواز من السنّة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الإبانة : ٢١.

٢ ـ اللمع : ٦١ بلتخيص.

١٩١

٥ ـ استدلال المنكرين بالعقل.

٦ ـ استدلال المنكرين بالسمع.

الأمر الأوّل : في نقل الآراء حول الرؤية

المشهور بين أهل الحديث ، وصرح به إمامهم أحمد بن حنبل ، هو القول بجواز الرؤية في الآخرة ، قال : والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي : أنّ أهل الجنّة يرون ربّهم ، لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله. (١)

وقال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة : يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، لا يراه الكافرون لأنّهم عن الله محجوبون ، قال الله تعالى : (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون )وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ، وإنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً ، فأعلمه بذلك أنّه لا يراه في الدنيا ، بل يراه في الآخرة. (٢)

ولكن الظاهر من الآمدي أنّ القائلين بالجواز لا يخصونه بالآخرة بل يقولون بجوازها في الدنيا أيضاً ، وإنّما اختلفوا في أنّه هل ورد دليل سمعي على جوازها في الدنيا أو لاً ، بعد ما اتّفقوا على وروده في الآخرة ، قال : « اجتمعت الأئمة من أصحابنا على رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً ، واختلفوا في جوازها سمعاً ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون ». (٣)

وعلى كلّ تقدير فقد نقل الأشعري في مقالات الإسلاميين أقوالاً كثيرة حول الرؤية لا يستحقّ أكثرها أن يذكر ، ونشير إلى بعضها إجمالاً :

إنّ جماعة يقولون : يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الرد على الزنادقة : ٢٩.

٢ ـ مقالات الإسلاميين : ٣٢٢.

٣ ـ شرح المواقف : ٨/١١٥.

١٩٢

وأجاز عليه بعضهم في الأجسام ، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعلّ آلهتهم فيه.

وأجاز كثير ممّن جوّز رؤيته في الدنيا ، مصافحته وملامسته ومزاورته إيّاه ، وقالوا إنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك ، حكي ذلك عن بعض أصحاب « مظهر » و « كهمس ».

وقال « ضرار » و « حفص الفرد » : إنّ الله لا يُرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة ، غير حواسنا فندركه بها. (١)

يقول ابن حزم : إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة في العين ، بل بقوة أُخرى موهوبة من الله. (٢)

هذه هي بعض الأقوال المطروحة في المسألة من جانب بعض أهل الحديث ، وليس ذلك بعجيب من أهل التجسيم ، وإنّما العجب ممّن يتجنب التجسيم ويعد نفسه من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه ، ويقول ـ مع ذلك ـ بالرؤية ، كالأشاعرة عامة.

ولأجل ذلك ذهبت المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة ، وقالوا بأنّ القول لا يفارق التجسيم والتشبيه ، كما ستقف عليه عند سرد براهينهم إن شاء الله.

أهل الكتاب ومسألة الرؤية

وقد يدين بالرؤية أهل الكتاب قبل أهل الحديث والأشاعرة ، ووردت رؤيته في العهد القديم ، وإليك مقتطفات منها :

١ ـ « رأيت السيد جالساً على كرسي عال. فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود » ( أشعيا ج٦ ص ١ ـ ٦ ). والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

ــــــــــــــــــ

١ ـ مقالات الإسلامين : ٢٦١ ـ ٢٦٥و ٣١٤.

٢ ـ الفصل : ٣/٢.

١٩٣

٢ ـ« كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج ، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار » ( دانيال ٧ : ٩ ).

٣ ـ « أما أنا فبالبر أنظر وجهك » ( مزامير داود : ١٧ : ١٥ ).

٤ ـ « فقال منوح لامرأته : نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله » ( القضاة ١٣ : ٢٣ ).

٥ ـ « فغضب الرب على سليمان ، لأنّ قلبه مال عن الرب ، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين » ( الملوك الأوّل ١١ : ٩ ).

٦ ـ« وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه » ( الملوك الأوّل ٢٢ : ١٩ ).

٧ ـ « كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الل هـ إلى أن قال : ـ هذا منظر شبه مجد الرب ، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم » ( حزقيال١ : ١و٢٨ ).

والقائلون بالرؤية من المسلمين ، وإن استندوا إلى الكتاب والسنّة ودليل العقل ، لكن غالب الظن أنّ القول بالرؤية ، تسرب إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وربما صاروا مصدراً لبعض الأحاديث في المقام ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها ، واستدعاء الأدلّة عليها من النقل والعقل.

ما هو محلّ النزاع؟

إنّ محلّ النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية ، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه ، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه ، أي بدون استلزام ما يمتنع عليه سبحانه ، من المكان والجهة.

وأمّا الرؤية القلبية ، ومشاهدة الواجب من غير الطرق الحسية فخارج

١٩٤

عن مصب البحث ، إذ لم يقل أحد بامتناعها.

والقائلون بالرؤية مع التنزيه على فرقتين : فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية ، وفرقة أُخرى على العكس.

فمن الأُولى : سيف الدين الآمدي ، أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع ( ٥٥١ ـ ٦٣١ هـ ) ، يقول : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية ، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين ، فلا يذكر إلاّ على سبيل التقريب. (١)

ومن الثانية : الرازي في عديد من كتبه كمعالم الدين ص ٦٧ والأربعين ص ١٩٨ ، والمحصل ص ١٣٨ ، فقال : إنّ العمدة في جوازالرؤية ووقوعها هو السمع ، وعليه الشهرستاني في « نهاية الأقدام » ص ٣٦٩ ـ

هذه هي الأقوال الدارجة حول الرؤية ، وقد عرفت ما هو محلّ النزاع.

الأمر الثاني : الأدلّة العقلية على جواز الرؤية

قد عرفت أنّ طرف النزاع في المقام هو الأشاعرة ، وفي مقدّمهم الشيخ الأشعري ، وهم من أهل التنزيه ، فلأجل ذلك يطرحون المسألة بشكل يناسب مذهبهم.

يقول التفتازاني : ذهب أهل السنة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان. (٢)

وهذه القيود التي ذكرها التفتازاني ، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج ، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية ، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية ، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار ، ولكن

ــــــــــــــــــ

١ ـ غاية المرام في علم الكلام : ١٧٤.

٢ ـ شرح المقاصد : ٢/١١١.

١٩٥

مجرّدة عن المقابلة والجهة والمكان ، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان. فتحقّق الرؤية ـ سواء قلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث ، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل ؛ ولأجل ذلك يحاول التفتازاني أن يصحّح هذا النوع من الرؤية ويقول :

إنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم ، كان نوعاً من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعاً آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية ، ولا تتعلّق في الدنيا إلاّبما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكية ، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة ، وأن تتعلّق بذات الله تعالى منزهاً عن الجهة والمكان ، أو لا؟. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الرؤية الأُولى أيضاً قبل الغمض ، تصدق عليها الرؤية ، وليس الاختلاف بين الرؤيتين إلاّ في الوضوح والخفاء والقصر والطول ، ولكنّه إنّما خصّ النزاع بالرؤية الثانية لأجل ما ورد في الروايات ، من أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كفلق البدر.

ثانياً : أنّ الرؤية قائمة بأُمور ثمانية : ١ ـ سلامة الحاسة ٢ ـ المقابلة أو حكمها كما في رؤية الصور المنطبعة في المرآة ٣ ـ عدم القرب المفرط ٤ ـ عدم البعد كذلك ٥ ـ عدم الحجاب بين الرائي والمرئي ٦ ـ عدم الشفافية ، فإنّ ما لا لون له كالهواء لا يرى ٧ ـ قصد الرؤية ٨ ـ وقوع الضوء على المرئي وانعكاسه منه إلى العين.

فلو قلنا بأنّ هذه الشرائط ليست إلزامية بل هي تابعة لظروف خاصة ، ولكن قسماً منها يعد مقوماً للرؤية بالأبصار ، وهو كون المرئي في حيز خاص ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المقاصد : ٢/١١١.

١٩٦

وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.

ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات ، التجأوا إلى أمر آخر ، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا ، وهذا مثل أن يقال : إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا ، أو إنّ نتيجة « ٢*٢ » تصير في الآخرة خمسة ، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله ، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (١)

ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين : أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي ، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال ، والآخر إلى الجانب الإيجابي ، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود ، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.

ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية ، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين : الأدلّة العقلية ، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية :

الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية

إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه ، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه ، أو تشبيهه أو تجنيسه ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويره أو تظليمه ، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط ، ونحن نقتطف منه جملتين :

١ ـ « ليس في جواز الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٥.

١٩٧

محدث ، ولو كان مرئياً لذلك للزم أن يرى كلّ محدث ، وذلك باطل ».

٢ ـ « ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه ». (١)

يلاحظ على الفقرة الأُولى : أنّ الملازمة ممنوعة ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية حتى يلزم رؤية كلّ محدث ، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط ، وبما أنّ بعضها غير متوفّر في المجردات المحدثات ، لا تقع عليه الرؤية.

ويلاحظ على الفقرة الثانية : أنّه اكتفى بمجرّد ذكر الدعوى ، ولم يعززها بالدليل ، مع أنّ مشكلة البحث هي التشبيه الذي أشار إليه ، فإنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة ولو بالمعنى الوسيع ، ولولاها لا تتحقّق ، والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان ، وهذا يستلزم كونه سبحانه ذا جهة ومكان ، وهو نفس التشبيه والتجسيم. وكيف يقول إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه؟! « ما هكذا تورد يا سعد الإبل »!

وهناك إشكال آخر التفت إليه الشيخ ، فعرضه وأجاب عنه ، ونحن نعرض الإشكال والجواب بنصّهما ، قال :

فإن عارضونا بأنّ اللمس والذوق والشم ، ليس فيه إثبات الحدث ، ولا حدوث معنى في الباري تعالى ، قيل لهم : قد قال بعض أصحابنا إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان واللهوات بالجسم الذي له الطعم ، وإنّ الشمّ هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له ، وإنّ المتماسين إنّما يتماسان بحدوث مماسين فيهما ، وإنّ في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري.

يلاحظ عليه : أنّ التفريق بين الأبصار وسائر الإدراكات الحسية تفريق بلا جهة ، وما ذكره من أنّ المتماسّين إنّما يتماسّان بحدوث مماسّين فيهما... مجمل جداً ، وذلك لأنّه إن أراد أنّ اللمس يوجب حدوث نفس المماسين وذاتهما فهو ممنوع ، لأنّ ذاتهما كانتا موجودتين قبل تحقّق اللمس ، وإن أراد حدوث

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٦١ ـ ٦٢.

١٩٨

وصف مادي ورابطة جسمانية ، وهي التي عبر عنها بقوله : « إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات » فتلك الحالة أيضاً حادثة عند الإبصار ، غاية الأمر أنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، والإبصار ضرب من ضروب المقابلات ، وبإعمال كلّ واحد من الحواس تتحقّق إضافة بين الحاسة والمحسوس ، وفي ظلها يتحقّق الإبصار واللمس والشمّ والذوق.

وأضف إلى ذلك ما نقله عن بعض أصحابه في نقد السؤال الماضي وحاصله :

إنّ لمسنا أو ذوقنا أو شمنا إياه سبحانه ، يتصور على صورتين :

١ ـ أن يحدث الله تعالى للذائق أو الشام أو اللامس إدراكاً من غير أن يحدث في الباري تعالى معنى.

٢ ـ تلك الصورة لكن يحدث فيه سبحانه معنى ، فالثاني غير جائز ، والأوّل جائز ، ولكن الأمر في التسمية إلى الله ، إن أمرنا أن نسمّيه لمساً وذوقاً وشماً سمّيناه ، وإن منعنا امتنعنا. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ معنى ذلك أن يكون سبحانه مشموماً ملموساً ، مذوقاً ، إذا لم يحدث فيه معنى بشمنا ، وذوقنا ، ولمسنا ، وهذا في نهاية الضعف لا تجترئ عليه المجسّمة ، فكيف بالمنزّهة؟!

وثانياً : أنّ إيجاده سبحانه في جوارحنا إدراكاً ، حتى يتحقّق في ظله لمسه وذوقه ، وشمّه ، بلا حدوث معنى فيه ، أشبه بترسيم الأسد على عضد البطل ، من غير رأس ولا ذنب ، لأنّ واقعية أعمال هذه الحواس لا تنفك عن تحقّق إضافة ورابطة بينها وبين المحسوس من غير فرق بين الإبصار وغيره ، وهذه الإضافة إضافة مقولية قائمة بالطرفين. وقد التزم المجيب بامتناع هذا القسم ، وإنّما سوغ قسماً آخر ، غير معقول ولا متصوّر.

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٦٢.

١٩٩

وباختصار : إنّ الدليل السلبي الذي اعتمد عليه الشيخ الأشعري غير كاف ، لأنّ الرؤية تستلزم التشبيه ، أي ما يستحيل عليه سبحانه من كونه طرف الإضافة المقولية الحاصلة بينه وبين الحواس.

الدليل العقلي الثاني لجواز الرؤية

إنّ الوجود هو المصحح للرؤية ، وهو مشترك بين الواجب وغيره وقد نسبه في المواقف إلى الشيخ الأشعري والقاضي وأكثر أئمّة الأشاعرة. (١)

وحاصله : أنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولابدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة وهي إمّا الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلية ، لأنّه أمر عدمي ، فتعيّن الوجود ، والوجود مشترك بين الواجب والممكن ، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن.

وقد اعترض على ذلك البرهان في الكتب الكلامية ، حتى من جانب نفس الأشاعرة (٢) ، بكثير ولكنّا نعتمد في نقض هذا البرهان على ما يبطله من أساسه ، فنقول:

إنّ الحصر في كلامه غير حاصر ، فمن أين علم أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود؟ إذ من المحتمل أن يكون الوجود شرطاً لازماً ، لا شرطاً كافياً ، ويكون الملاك هو الوجود الممكن ، وليس المراد من الممكن في قولنا « الوجود الممكن » الإمكان الذاتي ، الذي يقع وصفاً للماهية ، حتى يقال بأنّ الماهية ووصفها « الإمكان » من الأُمور العدمية والاعتبارية لا تصلح أن تكون جزء العلّة ، بل المراد هو الإمكان الذي يقع وصفاً للوجود ، ومعناه كون الوجود متعلقاً بالغير قائماً به ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، وليس الإمكان بهذا المعنى شيئاً غير حقيقة الوجود الإمكاني ، كما أنّ الوجوب ليس وراء نفس حقيقة

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المواقف : ٨/١١٥.

٢ ـ تلخيص المحصل : ٣١٧ ، غاية المرام : ١٦٠ ، شرح التجريد للقوشجي : ٤٣١ وغيره.

٢٠٠