بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

والقمر ، من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية ، ويكون صلتهما بالشمس والقمر كصلتهما بغيرهما. وعلى ذلك فليس في صفحة الكون إلاّ علّة واحدة ومؤثر فارد يؤثر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء ، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق الأسباب والمسببات. فهو سبحانه بنفسه ، قائم مقام جميع العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

هذا ما يتبنّاه الأشعري وأتباعه ناسبين إيّاه إلى أهل السنّة والجماعة عامّة ، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يقيمون للعلل الطبيعية والأبحاث العلمية وزناً. فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه ، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه. ومثله سائر الظواهر الطبيعية من نمو الأشجار ، وتفتح الأزهار ، وغناء الطيور ، وجريان السيول ، وحركة الرياح ، وهطول الأمطار ، وغير ذلك. فالكلّ مخلوق له سبحانه بلا واسطةوبلا تسبيب من الأسباب.

ولكن هذا المعنى محجوج بنفس القرآن الكريم ، مضافاً إلى أنّ الأدلة العقلية والعلمية لا توافقه أبداً ، ونكتفي بالقليل من الكثير من الآيات الكافية لإبطال هذه النظرية.

إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية ، وتسند الآثار إلى موضوعاتها ـ وفي الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه ـ حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحقّقة من تلقاء نفسها.

قال سبحانه : (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُمْ). (١)

وقال عزّ من قائل : (أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَسُوقُ الماءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بهِِ زَرعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ). (٢)

فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع ، إذ إنّ الباء في « به » في الموردين بمعنى السببية ، وأوضح منهما قوله سبحانه : (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٢.

٢ ـ السجدة : ٢٧.

١٦١

وَغَيْرُ صِنْوان يُسقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها على بَعْض في الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ ) (١). فإنّ جملة يسقى بماء واحد كاشفة عن دور الماء وتأثيره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يتفضّل بعض الثمار على بعض.

ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على أنّه كيف يبيّن المقدّمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء ، من قبل أن يعرفها العلم الحديث ، ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها ، يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين :

١ ـ ( اللّهُ الّذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ). (٢)

فقوله سبحانه : فتثير سحاباً صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر ، والإمعان في مجموع جمل الآية يهدينا إلى نظرية القرآن في تأثير العلل الطبيعية بإذن الله تعالى. فقد جاء في هذه الآية الأُمور التالية ناسباً بعض الأُمور إلى الظواهر الطبيعية ، وبعضها الآخر إلى الله سبحانه :

١ ـ تأثير الرياح في نزول المطر.

٢ ـتأثير الرياح في تحريك السحب.

٣ ـ الله سبحانه يبسط السحاب في السماء.

٤ ـ تجمع السحب بعد هذه الأُمور على شكلّ قطع متراكمة مقدمة لنزول المطر من خلالها.

فالناظر في هذه الآية ، والآية الثانية يذعن بأنّ نزول المطر من السماء إلى

ــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٤.

٢ ـ الروم : ٤٨.

١٦٢

الأرض رهن بأسباب وعلل ومؤثرات بإذن الله سبحانه ، فلهذه العلل دور في حدوث الظاهرة ( المطر ) كما أنّه له سبحانه وتعالى دوراً وراء هذه الأسباب وهي جنوده والأسباب التي خلقها وأعطى لها السببية ، مظاهر قدرته ومجالي إرادته.

٢ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزجي سَحاباً ثُمَّ يُؤلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَترى الوَدْقَ يَخرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأَبْصارِ). (١)

فالآية الأُولى تسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول : فتثير سحاباوهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول : (أنّ الله يزجي سحابا )وما هذا إلاّ لأنّ الرياح جند من جنوده ، وسبب من أسبابه التي تعلقّت مشيئته على إنزال الفيض عن طريقها ، وفعلها فعله ، والكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

وليست الآيات الدالة على توسيط الأسباب والعلل في تكون الأشياء وتحقّقها منحصرة بما ذكرناه. بل هناك آيات كثيرة نأتي بالنزر اليسير من الكثير المتوفر.

٣ ـ (وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج). (٢)

فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها ، ثمّ تصرح بأنّ الأرض تنبت من كلّ زوج بهيج.

وبعبارة أُخرى : الآية تصرح بوجود الرابطة الطبيعية بين نزول الماء على الأرض واهتزازها وربوتهاوانتفاخها ، ولولا تلك الرابطة لما صحّ جعل الاهتزاز والربوة جزاءً لنزول الماء. وحمل قوله تعالى « وأنبتت » على المجاز ، وجعل الأرض ظرفاً للإنبات فقط قائلاً بأنّ الله هو المنبت بلا توسيط الأسباب ، تأويل بلا وجه ولا يساعده ظاهر اللفظ ، بل هو ظاهر في أنّ الإنبات فعل للأرض

ــــــــــــــــــ

١ ـ النور : ٤٣.

٢ ـ الحج : ٥.

١٦٣

بضميمة عوامل وأسباب شتى ، والكل يعمل لا استقلالاً بل بإذنه ومشيئته سبحانه.

٤ ـ(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيل اللّهِ كَمَثَلِ حَبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مائة حَبّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَليمٌ). (١)

فالآية تسند إلى الحب ، إنبات سبع سنابل ، وحمله على المجاز ـ بتصور أنّ الحبّ ظرف ، ومحل لفعله سبحانه ـ تأويل لأجل رأي مسبق من غير دليل.

فالله سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحبة ، ولكنّ هـ في الوقت نفس هـ يسند نفس ذلك الفعل إلى ذاته ويقول : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا بهِِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَومٌ يَعْدِلُونَ). (٢)

ويقول سبحانه : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كَريم). (٣)

ولا تعارض ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات ، إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنّه منشىء الكون وموجده ومسبب الأسباب ومكوّنها ، كما هو فعل السبب لصلة بينه وبين آثاره. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه.

٥ ـ (خَلَقَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَها وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ ) (٤).أي جعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال لئلا تضطرب بكم. فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب إلى نفسه ، حيث قال : وَأَلقى وإلى سببه حيث قال : رواسي أن تميد والكل يهدف إلى أمر واحد ، وهو الذي ورد في الآية التالية ويقول : (هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٦١.

٢ ـ النمل : ٦٠.

٣ ـ لقمان : ١٠.

٤ ـ لقمان : ١٠.

١٦٤

دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلال مُبين ) (١) ، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات جميعه مخلوق لله ، والأسباب جنوده ، والآثار آثار للسبب والمسبب ( بالكسر ) ، كلّ على جهة خاصة.

فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بقانون السببية بين الأشياء وآثارها ، وإنهاء كلّ الكون إلى ذاته تبارك وتعالى. فلا يصحّ عندئذ حصرُ الخالقية والعلّية المطلقة ، الأعم من الأصلي والتبعي في الله سبحانه ، وتصوير غيره من الأسباب أُموراً عاطلة غير مفيدة لشيء يتوقّع منها.

إلى هنا تبيّن عدم صحّة ما عليه الأشاعرة وأهل الحديث من حصر الخالقية في الله بالمعنى الذي يتبنّونه.

نعم هناك معنى آخر لحصر الخالقية في الله سبحانه ونفيه عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه ، وهذا هو الذي يثبته العقل ، ويصرح به القرآن ، وتؤيّده الأبحاث العلمية في جميع الحضارات ، وهذا هو الذي نبيّنه في المعنى الثاني لحصر الخالقية.

الثاني (٢) : إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بتقديرة وقضائه ، وتسبيبه ومشيئته ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه يعملون بأمره ، وإليك توضيح ذلك :

لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها ، وبحرها وبرها ، وعناصرها ومعادنها ، والسحب والرعد والبرق والصواعق ، والماء والنجم والشجر ، والحيوان والإنسان ، إلى غير ذلك من الأشياء الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر

ــــــــــــــــــ

١ ـ لقمان : ١٠.

٢ ـ تقدّم المعنى الأوّل في ص ١٦٠.

١٦٥

إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها ، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه ، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات ، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض ، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به ، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة ، وبلا مباشرة الإنسان ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه ، وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ، وينمو ويفهم.

ومن جانب ثالث : إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام ، وينهاه نهي تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية ، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان ، فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة ؛ !

فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه : (قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار) (١) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منه أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه ، فعّال بأفعاله ، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه ، وتقدير منه ، وهو القائل سبحانه : (الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى ) (٢) وقال تعالى : (وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.

فعلى هذا ، فالأشياء في جواهرها وذواتها ، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات ، تنتهي إليه أيضاً ، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض ، ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء

ــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ١٦.

٢ ـ طه : ٥٠.

٣ ـ الأعلى : ٣.

١٦٦

هذا النظام ومعه وبعده ، لا خالق ولا مدبر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو ، كما لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

اختلاف الأشياء في قبول الوجود

يقول صدر المتألّهين : « إنّ الأشياء في قبول الوجود من المبدأ متفاوتة ، فبعضها لا يقبل الوجود إلاّ بعد وجود الآخر ، كالعرض الذي لا يمكن وجوده إلاّ بعد وجود الجوهر ، فقدرته على غاية الكمال ، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام ، بعضها صادرة عنه بلا سبب ، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة ، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلاّ بعد سبق أُمور هي أسباب وجوده ، وهو مسبب الأسباب من غير سبب ، وليس ذلك لنقصان في القدرة ، بل لنقصان في القابلية ، وعدم قبوله الوجود إلاّ في طريق الأسباب ، وإذا أردت التمثيل وتبيين نسبة أفعالنا إلى الله سبحانه فعليك بالكتاب النفسي ، والتأمّل في الأفعال الصادرة عن قواها ، فقد خلقها الله تعالى مثالاً ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، واتل قوله تعالى : (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (١) وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّ فعل كلّ حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، هو فعل النفس أيضاً ، إذ الإبصار مثلاً فعل الباصرة. لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها ، وكذلك السماع مثل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة ، أو انفعال السمع بها ، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني ، وفي الوقت نفسه هما فعل النفس بلا شكّ لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة ، وذلك لا بمعنى أنّ النفس تستخدم القوى كما يستخدم كاتب أو نقاش ، فإنّ مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بناءً ، ومستخدم الكاتب لا يلزم كونه كاتباً ، مع أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد نفوسنا ، هي بعينها المدركة والبصيرة والسميعة وهكذا الا (٢) مر في سائر القوى ».

ــــــــــــــــــ

١ ـ الذاريات : ٢١.

٢ ـ الأسفار : ٦/٣٧٧ ـ ٣٧٨.

١٦٧

وإلى ذلك يشير في الحديث القدسي : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ، وبقوتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ». (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ البحار : ٥/٥٧.

١٦٨

(١١)

الاستطاعة مع الفعل لا قبله

الاستطاعة غير الإنسان أوّلاً ، ويستحيل تقدّمها على الفعل ثانياً ، فله هاهنا دعويان يصرح بهما في العبارة التالية :

إن قال قائل : لم قلتم إنّ الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره؟

قيل له : لأنّه يكون تارة مستطيعاً ، وتارة عاجزاً ، كما يكون تارة عالماً ، وتارة غير عالم ، وتارة متحركاً وتارة غير متحرك ، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره ، كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره ، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره ، لأنّه لو كان مستطيعاً بنفسه ، أو بمعنى يستحيل مفارقته له ، لم يوجد إلاّوهو مستطيع ، فلما وجد مرة مستطيعاً ، ومرة غير مستطيع ، صحّ وثبت أنّ استطاعته غيره.

فإن قال قائل : فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره ، فلم زعمتم أنّه يستحيل تقدّمه للفعل؟

قيل له : زعمنا ذلك من قبل أنّ الفعل لا يخلو أن يكون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها ، فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها ، فقد صحّ أنّها مع الفعل للفعل ، وإن كان حادثاً بعدها ـ وقد دلّت الدلالة على أنّها لا تبقى ـ وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة ، ولو جاز ذلك فجاز أن يحدث العجز بعدها ، فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة ، فجاز أن يفعل مئة سنة ، من حال حدوث

١٦٩

القدرة ، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلّها ، بقدرة عدمت من مائة سنة ، وهذا فاسد ، وأيضاً لو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة ، ووقع الفعل بقدرة معدومة ، لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة ، وقد قلب الله النار برداً والقطع بحدّ سيف معدوم ، وقد قلب الله السيف قصباً ، والقطع (١) بجارحة معدومة وذلك معدوم ، فإذا استحال ذلك وجب أنّ الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها.

فإن قالوا : ولم زعمتم أنّ القدرة لا تبقى؟

قيل لهم : لأنّها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقى لنفسها أو لبقاء تقوم به ، فإن كانت تبقى لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وأن لا توجد إلاّ باقية ، وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها ، وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة ، فقد قامت الصفة بالصفة ، وذلك فاسد. ولو جاز أن تقوم الصفة بالصفة لجاز أن تقوم بالقدرة قدرة ، وبالحياة حياة ، وبالعلم علم ، وذلك فاسد. (٢)

أقول : إنّ الشيخ الأشعري قد تبنّى في العبارة المذكورة أُموراً ثلاثة : الأوّل والثاني منها ضروريان ، والثالث أمر نظري ، لم يأت عليه بدليل مقنع ، بل أجمل الكلام فيه إلى حد التعقيد.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون الاستطاعة مثل العلم غير الإنسان نفسه أمر بديهي لا يحتاج إلى البرهنة ، لأنّ كلّ إنسان يحس من بداية حياته أنّه تتجدد له القدرة والاستطاعة كسائر الكمالات النفسانية ، وأنّه ليس من أوّل يوم قادراً مستطيعاً على التكلم والمشي ، والكتابة والقراءة ، فلا يحتاج مثل هذاالأمر إلى التطويل.

وأمّا الثاني : فإنّ الإنسان لا يقدر على الفعل بقدرة واستطاعة معدومة ، وهذا أيضاً أمر بديهي مرجعه إلى أنّ الممكن « ذاتاً كان أو فعلاً » لا يتحقق إلاّبعلة موجدة له ، من غير فرق بين القول بأنّ حاجة الممكن إلى العلّة أمر بديهي

ــــــــــــــــــ

١ ـ قال المعلّق على الكتاب : ولعلّ الأولى أن يقول : البطش.

٢ ـ اللمع : ٩٣ ـ ٩٤.

١٧٠

فطري ، كما هو الحقّ ، أو هو أمر تجريبي ، كما عليه بعض المناهج الفلسفية.

وإنّما المهم في كلامه هو الأمر الثالث ، وهو لزوم مقارنة الاستطاعة مع الفعل واستحالة تقدّمها عليه ، وإليك توضيح برهانه.

إنّ القدرة المتقدّمة على الفعل لا تخلو عن حالات ثلاث :

١ ـ أن تكون القدرة المتقدمة عليه منعدمة عند حدوث الفعل ، فيلزم عندئذ حدوث الفعل بلا قدرة ، وهو محال.

٢ ـ أن تكون القدرة المتقدمة باقية ، وكان البقاء نفسها ، فيلزم عندئذ محذوران :

أ. بما أنّ البقاء نفس القدرة وذاتها ، يلزم امتناع تطرق العدم إليها وهو خلف ، وإليه يشير بقوله : « وأن لا توجد إلاّ باقية ».

ب. بما أنّ البقاء نفسها وذاتها ، وقد افترضنا أيضاً حدوثها يلزم أن تتصف بالبقاء في الوقت الذي تتصف بالحدوث ، وهو نظير اجتماع الضدين.

٣ ـ أن لا يكون البقاء نفسها ، بل تبقى ببقاء يعرض لها ، وبما أنّ البقاء صفة يلزم قيام الصفة بالصفة ، ولو جاز لجاز أن تقوم القدرة بالقدرة والعلم بالعلم.

أقول : إنّ القائل بالتقدّم يقول بالشقّ الثالث ، بتوضيح أنّ البقاء ليس نفس القدرة ولا ذاتها (١). بل هو أمر منتزع من استمرار وجود الشيء في الآنين والآنات وليس البقاء أمراً مغايراًلوجود القدرة بحيث يكون في القدرة ـ إذا بقيت بعد الحدوث ـ أمران :

أحدهما : أصل القدرة ، والآخر بقاؤها ، وإنّما الموجود في الخارج شيء واحد وهو القدرة ، وينتزع منه باعتبارين أمران : الحدوث والبقاء.

وإن شئت قلت : أصل القدرة ومفهومها الحدوث والبقاء وإن كانت

ــــــــــــــــــ

١ ـ المراد من الذاتي هنا ذاتي باب الإيساغوجي ، أي أن يكون البقاء جنساً أو فصلاً للقدرة ، لوضوح أنّ ما يفهم من القدرةوالاستطاعة غير ما يفهم من البقاء والدوام.

١٧١

مفاهيم مختلفة لكن ليس في الخارج بإزائها أُمور ثلاثة ، بل الموجود في الخارج شيء واحد وهو الاستطاعة ، لكن باعتبار أنّها تعطي للإنسان مقدرة تسمى قدرة واستطاعة ، وباعتبار سبق العدم عليها ينتزع منها الحدوث ، وباعتبار استمرار وجودها ينتزع منها البقاء ، فلا يلزم ـ لو قلنا ببقاء القدرة بعد حدوثها ـ أن يكون للقدرة عرض ووصف باسم البقاء يغايرها في العين والتحقّق.

وبعبارة ثالثة : إنّ الأعراض على قسمين : قسم يعتبر في صحّة حمله على الموضوع ، اتصافه بصفة خارجية مصححة لحمل العرض على الموضوع ، كحمل الأبيض على الجسم ، حيث يعتبر فيها اتصاف الجسم بشيء كالبياض ، وهذا ما يسمى ب ـ « المحمول بالضميمة ».

وقسم لا يعتبر في صحّة حمله على الشيء وجود حيثية خارجية في جانب الموضوع ، لكن الموضوع يكون على نحو يصحّ معه انتزاع ذلك لمفهوم العرضي منه ، كانتزاع الإمكان من الإنسان ، فلا يعتبر في حمله عليه تحقّق وصف وجودي ، بل يكفي واقعية وجوده لحمله عليه. وهذا ما يسمّى ب ـ « الخارج المحمول » وانتزاع البقاء من القدرة الحادثة من هذا القبيل فلها طوران من الوجود :

أ ـ وجود حادث غير مستمر ومنقطع.

ب ـ وجودحادث مستمر.

فينتزع من الأوّل ، الزوال والانقضاء ، ومن الثاني البقاء والاستمرار ، فليس لهما وراء نحو وجود القدرة والاستطاعة ، مطابق خارجي.

والنتيجة هي : أنّ بقاء القدرة في الآن الثاني ليس متوقفاً على انضمام وصف إليه باسم البقاء عارض للقدرة حتى يلزم منه بقاء الوصف بالوصف والعرض بالعرض.

وما ذكره من أنّ دليل امتناع قيام الوصف يستلزم جواز قيام القدرة بالقدرة موهون جداً ، فإنّ عدم الصحّة في تلك الموارد إنّما هو لأجل أنّ قيام القدرة بالقدرة يستلزم اجتماع المثلين ، وهو محال ، سواء أقلنا بجواز قيام العرض بالعرض أم لا ، فإنّ القدرتين وصفان متماثلان ، والمتماثلان لا يجتمعان.

١٧٢

إلى هنا تمّ ما يرومه الشيخ الأشعري في كتاب« اللمع ».

فهلمّ معنا ندرس ما ذكره تلاميذ مدرسته تأييداً لمؤسسها ، لقد ذهب المحقّق التفتازاني في شرح المقاصد ، ونظام الدين القوشجي في شرح التجريد ، إلى ما ذهب إليه مؤسس المنهج ، واستدلاّ على لزوم مقارنة القدرة مع الفعل بوجوه نشير إليها :

١.إنّ القدرة عرض ، والعرض لا يبقى في زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلة ، وهو محال (١). (٢)

ولا يخفى أنّ هذا البرهان إن صحّ فهو غير ما ذكره الشيخ الأشعري في « اللمع » ، والعجب أنّ الدكتور عبد الرحمن بدوي قد فسر عبارة « اللمع » بما جاء في « شرح المقاصد » (٣) ، وهو غير صحيح.

أقول : الظاهر أنّ المستدل لم يصل إلى كنه القول بعدم بقاء الأعراض ، فزعم أنّ المقصود من تجدّد الأمثال في الأعراض وتصرمها وعدم بقائها في آنين ، هو أنّ العرض في الآن الثاني ، غيره في الآن الأوّل ماهية ووجوداً وتشخيصاً ، بحيث يرد على الثلج والقطن بياضات مفصولة وألوان متجزئة ، حسب تصرّم الآنات وتقضّيها ، ولكنّه فاسد ، فإنّ المراد أنّ البياض الموجود في الآن الأوّل ، ليس أمراً ثابتاً وجامداً لا يتطرق إليه التغيّر والتبّدل ، بل هو مع حفظ وحدته وتشخصه واقع في إطار التغيّر والتبدّل ، ومثل ذلك يعني أنّ الشيء الواحد مع حفظ وحدته الشخصية ، له وجود سيال في عمود الزمان ، فالعرض باق في عين تغيّره ، ومحفوظ في عين تبدّله ، فلا يضرّالتغيّر بوحدته ولا الحركة بتشخّصه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المقاصد : ١/٢٤٠ ، وقد عبر بنفس تلك العبارة الفاضل القوشجي. لاحظ شرح التجريد المطبوع قديماً : ٣٦٢.

٢ ـ المسألة مبنية على كون القدرة عرضاً ، وامتناع بقاء الأعراض ، وكلاهما أمران نظريان يحتاجان إلى البرهنة ، وقد افترضهما المستدل أمرين ثابتين. لاحظ نقد المحصل للمحقّق الطوسي : ١٦٥.

٣ ـ مذاهب الإسلاميين : ٥٦٣.

١٧٣

وبعبارة أُخرى : إنّ هناك منهجين : منهج الكون والفساد ، ومنهج الحركة والتكامل.

فالأوّل يهدف إلى انقطاع صلة الموجود في الآن الثاني عن الموجود في الآن الأوّل ، ويتخيّل أنّ تبدّل النار إلى الرماد والماء إلى البخار ، من هذا القبيل ، فيبطل كون ويحصل كون آخر ، أو يفسد وجود ويصلح وجود ثان.

والثاني يهدف إلى حفظ الصلة والرابطة بين الموجودين في جميع الآنات من غير فرق بين تبدّل الأكوان وتجدّد الأعراض ، ويعني من تجدد الأمثال في الأعراض ـ بل سريان الحركة في جميع عوالم الموجود المادي ـ أنّ الأشياء بجوهرها وأعراضها مع حفظ وحدتها وتشخّصها تنحو نحو التغيّر والتبدّل مرّة ، وإلى الكمال مرّة ثانية ، وليس الموجود في الآن الثاني منقطع الرابطة والصلة عن الموجود في الآن الأوّل.

وإن شئت قلت : إنّ للسواد باشتداده ، والبياض عند اكتماله فرداً شخصياً زمانياً مستمراً متصلاً بين المبدأ والمنتهى ، محتفظاً بوحدته الشخصية ، ومثله سائر الحركات في الأعراض ، وعلى ذلك فمع القول بتبادل الأعراض وتجدّد أمثالها ، يظهر أنّ للمتجدّدات والمتصرّمات المتلاحقة ، نحو وحدة ونحو بقاء ، فلا يعدّ اللاحق مغايراً للسابق ، بل صورة بقاء له ، وكيفية وجود لما حدث أوّلاً.

وعلى ذلك فالقدرة وإن كانت كيفية نفسانية قائمة بالنفس ، لكن تغيّرها وتبدّلها وحركتها وتكاملها ، لا يوجب أن يكون الموجود منها في الآن الثاني مغايراً من جميع الجهات للموجود في الآن الأوّل. بل التغيّر والتبدّل والحركة والتكامل تتحقّق مع حفظ الوحدة الشخصية بين ما دثر وما بقي.

وإن شئت فلاحظ وجود الحركة في المقولات العرضية ، فإنّ في حركة التفاحة في كيفها وكمّها لوناً سيّالاً بعرضها العريض ، وكمّاًسيّالاً كذلك ، فمجموع ما يتوارد عليها من الألوان والكمّيات شيء واحد سيّال متفاوت الدرجات ، باق في عين التغيّر ومحفوظ في عين التبدّل.

٢ ـ إنّ الفعل حال عدمه ممتنع لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا

١٧٤

شيء من الممتنع بمقدور. (١)

والجواب عنه واضح ؛ فإن أُريد من كون الفعل ممتنعاً حال العدم امتناعاً بالذات فهو باطل ، إذ الممكنات في حال العدم ممكنات بالذات ، كما أنّ الممتنعات بالذات كذلك. ولا يلزم من كون الشيء معدوماً كونه ممتنعاً بالذات ، وإلاّ يلزم أن لا يصحّ الإيجاد والتكوين ؛ وإن أُريد أنّه ممتنع بالغير فنمنع عدم كونه مقدوراً بل الممتنعات بالغير مقدورات أيضاً ، بحجّة أنّه كلما تعلقت بها إرادة الفاعل ومشيئته تتحقّق في الخارج.

وقد استدلّ أصحاب منهج الشيخ الأشعري ببرهان ثالث وهو من الوهن بمكان لا يصحّ أن يذكر أو يسطر. (٢)

حصيلة البحث ضمن أُمور

١ ـ البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها معه ، لا يرجع إلى محصل ، وهو بحث قليل الفائدة أو عديمها ، ويشبه أن يكون البحث لفظياً ، فهو يريد من القدرة أحد الأمرين :

الأوّل : صحّة الفعل والترك ، وإن شئت قلت : كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل ، فلا شكّ أنّ القدرة بهذا المعنى مقدمة على الفعل فطرةً ووجداناً ، فإنّ القاعد قادر على القيام حال القعود بهذا المعنى ، والساكت قادر على التكلم في زمن سكوته لكن بالمعنى المزبور.

الثاني : ما يكون الفعل معه ضروري الوجود ( أي اجتماع جميع ما يتوقّف وجود الفعل عليه ) فالقدرة بهذا المعنى ( لو صحّ إطلاق القدرة عليه ، ولن يصحّ ) مقارنة مع الفعل غير منفكة عنه ، وهذا مفاد القاعدة التالية : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » وعلى ذلك (٣) فلو أُريد المعنى الأوّل فهذا

ــــــــــــــــــ

١ ـ المقاصد : ١/٢٥٩ ، شرح التجريد للقوشجي : ٣٦٢.

٢ ـ لاحظ المواقف : ٦/٨٨ قول الماتن : القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، وإلاّفلنفرض وجوده فيه الخ.

٣ ـ وقد صرّح الأشعري بأنّ مراده من القدرة المعنى الثاني في « اللمع » عند الاستدلال ببعض

١٧٥

متقدّم ، ولو أُريد المعنى الثاني فهو مقارن زماناً متقدّم رتبة. وسيوافيك ما يفيدك عن الإمام الرازي ، في هذا المجال.

٢ ـ إنّ الشيخ الأشعري مع تركيزه على مقارنة القدرة مع الفعل يعترف بتقدّمها في واجب الوجود على الفعل ، وإلاّ فلو قلنا هناك بالمقارنة يلزم إمّاحدوث قدرته سبحانه مقارناً لحدوث الأفعال ، أو قدم فعله سبحانه ، وكلاهما باطلان. وعندئذ يسأل صاحب المنهج : كيف فرّق بين القدرتين مع أنّ الملاك واحد؟ وكيف اعترف بالتقدّم في الخالق ونفى إمكانه في المخلوق ، مع أنّ ما أقام من البرهان ، أو أقامه أشياعه من البراهين على الامتناع ، جار في الواجب سبحانه حرفاً بحرف.

ثمّ إنّ أتباع الشيخ تصدّوا للدفاع عن هذا النقد الصارم بوجوه موهونة جدّاً وقالوا:

أ ـ نمنع الملازمة وإنّما تتم هذه الملازمة لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين ، فلا يلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله ، كون الأولى كذلك أيضاً.

ب ـ إنّ قدرة الله تعالى قديمة ، ولها تعلّقات حادثة ، مقارنة للأفعال الصادرة ، والكلام في تعلّق القدرة ، والأزلي إنّما هو نفس القدرة ، وكونها سابقة قديمة لا ينافي كون تعلّقها مقارناً حادثاً ، فلا يلزم من كون تعلّق القدرة القديمة مع الفعل ، قدم الحادث أو حدوث القديم. (١)

ولا يخفى أنّ كلاً من هذين الجوابين غير مجد.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون قدرة الواجب قديمةوغير حادثة لا يكون فارقاً في المسألة ، فإنّ البراهين التي أُقيمت من جانب الأشاعرة على امتناع تقدّم

ــــــــــــــــــ

الآيات القرآنية على مذهبه حيث قال : وهذا بيان أنّ ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل وأنّها إذا كانت كان لامحالة ، فهذا صريح في أنّ القدرة إذا تحقّقت تحقّق الفعل لا محالة. اللمع : ١٥٥.

١ ـ المقاصد : ٢/٢٤١ ، وشرح التجريد للقوشجي : ٣٦٢.

١٧٦

القدرة على الفعل ، مشتركة بين كلتا القدرتين.

وإن شئت فلاحظ البرهان الثاني الذي نقلناه عن المقاصد وشرح التجريد. وقالوا : « إنّ الفعل حال عدمه ممتنع ، لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا شيء من الممتنع بمقدور » فلو كان الشيء في حال العدم ممتنعاً فهو موصوف بالامتناع ، تجاه القدرة الواجبة أو القدرة الممكنة معاً ، من غير فرق بينهما.

نعم ، ما نقلناه عن « لمع » الأشعري من البرهان على الامتناع ربما لا يجري فيه سبحانه ، لأنّ صلب البرهان هنا كون القدرة عرضاً قائماً بالنفس وقدرته سبحانه ليست عرضاً ولا جوهراً ، اللّهمّ إلاّ أن تكون القدرة الواجبة عنده عرضاً قائماً بذاته ، كما هو غير بعيد من قوله بالصفات القديمة الزائدة على الذات.

أمّا الثاني : فمحصله أنّ نفس القدرة القديمة ، والحادث أعمالها ، ولكن لو صحّ ذلك لصحّ في الإنسان وغيره ، بأن يقال أصل القدرة متقدمة والأعمال متأخّرة.

٣ ـ إنّ من الأُصول المسلّمة عند الأشعري ؛ حصر الخالقية على الإطلاق في الله سبحانه وأنّه لا خالق ولا مؤثر لا بالذات ولا بالطبع إلاّ هو ، والأسباب والعلل كلّها علامات وإشارات إلى تعلّق إرادته سبحانه ، بإيجاد الشيء بعدها ، وعلى هذا الأصل أنكر مسألة العلية والمعلولية ، والسببية والمسببية في عوالم الوجود ، وحصرها في ذاته تعالى ، وقد تواتر عن الأشاعرة قولهم : « جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك » وعلى هذا الأصل قام سبحانه مكان جميع العلل المجردة والمادية.

وقال شاعرهم نافياً لأصل العلية بأي معنى فسرت في غيره سبحانه :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة

أقول : لو صحّ هذا الأصل ( ولن يصحّ أبداً لمخالفته لصريح الآيات ، وصرورة العقل والفطرة ) لكان البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنته معها ، فضولاً في الكلام وإضاعة للوقت ، فإنّه يسلم أنّ القدرة فيه سبحانه

١٧٧

متقدمة على الفعل ، وأمّا في غيره فليس هناك تأثير وسببية ، ولا اقتدار ، بل الفواعل كلّها تكون كآلات النجار والحدّاد ، بل أنزل من ذلك ، لأنّها مؤثرات غير اختيارية عندنا ، وليس العباد عندهم حتى بمنزلتها.

ولما كان القول بهذا الأصل ساقطاً عند العقل والعقلاء ، ومضاداً للفطرة السليمة ، حاول الأشعري تصحيحه بإضافة نظرية الكسب على خالقية الرب ، قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وأنّ الأفعال واقعة بقدرة الله وكسب العبد ، بمعنى أنّ الله أجرى عادته بأنّ العبد إذاعقد العزم على الطاعة مثلاً ، يخلق سبحانه فعل الطاعة ، وربما يمثلون لتفهيمه بمن يحمل شيئاً ثقيلاً على كاهله ويذهب به ويجعل شخص آخر يده تحت ذلك الحمل من غير أن يكون شيء من وزره وثقله على يده.

ولا يخفى أنّ إضافة الكسب لا تحلّ المشكل ، إذ على هذا الأصل أيضاً يكون الخالق والقادر هو الله سبحانه ، وليس لعبد شأن في الفعل ، وإنّما شأن العبد ينحصر في عقد العزم على الطاعة أو المعصية ، فعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يبحث هل القدرة على العزم مقترنة به أو متقدمة عليه؟ ومثل هذا لا يليق بهذا البحث المبسوط ، ولا يشكّ أحد في تقدّم القدرة على العزم على نفسه.

ونعم ما قال علاّمة الشيعة في « نهج الحق » : إنّ القدرة حسب مذهب الأشاعرة غير مؤثرة ألبتة ، لأنّ المؤثر في الموجودات هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول لأنّه خلاف مذهبهم. (١)

والعجب من الفضل بن روزبهان الأشعري ، حيث إنّه مع تصريحه بأنّ قدرة العبد غير مؤثرة في الفعل ، أجاب عن الإشكال بأنّه لا يلزم من عدم كون القدرة مؤثرة فيه ، الاستغناء عنها في جميع الوجوه كاتصاف الفعل باختيار ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولاً.

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت القدرة غير مؤثرة في فعل الإنسان يكون

ــــــــــــــــــ

١ ـ دلائل الصدق : ١/٣٢٤.

١٧٨

البحث عن تقدّم القدرة أو تقارنها لغواً ، وإن كانت لقدرة العبد عند خلق الأفعال من جانبه سبحانه فوائد وثمرات أُخرى فهي لا تمت إلى المقام بصلة.

٤ ـ الحقّ أن يقال : إنّ المسألة بديهية للغاية ، وما أُثير حولها من الشبهات ـ خصوصاً ما ذكره في « اللمع » ـ أشبه بالشبهات السوفسطائية ، إذ كلّ إنسان يحس من فطرته أنّه قادر على القيام قبل أن يقوم ، فالخلط حصل بين القدرة بمعنى الاستعداد لصدور الفعل ، والقدرة بمعنى ما لا ينفكّ عنه الفعل ويقترن به ، وكفى في ثبوت المسألة ، الفطرة الإنسانية أوّلاً ، وتقدّم قدرته سبحانه على فعله ثانياً.

وبذلك يظهر أنّ ما أقامه المعتزلة من البراهين على تقدّمها على الفعل تنبيهات على المسألة ، ولنعم ما قال المحقّق اللاهيجي : إنّ الدعوى ضرورية ، وهذه الوجوه تنبيهات عليها ، كيف والقطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام ، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان. (١)

٥ ـ ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الحافز أو الحوافز التي دعت الشيخ الأشعري إلى اختيار ذلك المذهب ، فإنّ القول بتقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها له ، لا يمس كرامة الدين والشريعة ولا النصوص الواردة فيها ، فما هو الداعي إلى اختيار القول بالتقارن ، بل التركيز عليه؟

ويحتمل أن يكون الداعي هو قوله : « إنّ أفعال العبد مخلوقة لله سبحانه لا للعباد ، لا أصالة ولا تبعاً ». والمناسب لتلك العقيدة حينئذ رفض القدرة المتقدمة للعبد على الفعل ، والاكتفاء بالمقارن لأجل تحقّق عنوان الطاعة والعصيان بالعزم عليهما.

وإلى ما ذكرنا أشار القاضي عبد الجبار فقال : ولعلّهم بنوا ذلك للّهعلى أنّ أحدنا لا يجوز أن يكون محدثاً لتصرّفه ، وأنّهم لما أثبتوا أنّ الله تعالى محدث على الحقيقة ، قالوا : إنّ قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الشوارق : ٤٤١.

٢ ـ شرح الأُصول الخمسة : ٣٩٦.

١٧٩

وكأنّ الشيخ يتصوّر أنّ القدرة المتقدّمة للفعل تزاحم قدرة الله عليه ، فلأجل ذلك وجد في نفسه حافزاً نفسياً إلى البرهنة على بطلان التقدّم وإثبات التقارن.

وما ذكرنا من الوجه يلائم عقيدة الشيخ في خلق الأعمال ، ولكن القول ببطلان التقدّم ولزوم التقارن لا يختص بالشيخ ، بل اختاره عدّة من المعتزلة ، والمتقدّمين على الشيخ عصراً ، يقول شارح المواقف : قد وافق الشيخ ـ في أنّ القدرة حادثة مع الفعل ـ كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وابن عيسى الورّاق وغيرهم. (١)

القدرة صالحة للضدين

ثمّ إنّ هناك مسألة تتفرّع على المسألة الأُولى ، وهي أنّ القدرة صالحة للضدين ، وهذا ما يعطيه مفهوم القدرة ، فالقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، فلو فرضنا صلاحية القدرة لأحد الضدين فقط ، لم يكن الآخر مقدوراً ، فلا يصدق على الفاعل كونه قادراً ولا على عمله أعمال القدرة ، وقد خالف في ذلك الأشاعرة فالقدرة الواحدة عندهم لا تتعلّق بالضدّين ، بل لا يتعلّق إلاّ بمقدور واحد ، سواء أكان المقدور الآخر ضداً أم لا.

و بما ذكرنا من التحقيق في المسألة الأُولى ، وأنّ النزاع هناك في أمر واضح يتضح حال هذه المسألة ، فإنّه لو أُريد من القدرة قابلية الفاعل واستعداده لأن يفعل فلا شكّ أنّها تتعلّق بالضدّين ، كما تتعلّق بالمتماثلين والمتخالفين ، وإن أُريد القوة الموجبة للفعل بحيث تجعل الفعل واجب التحقّق ، والفاعل واجب الفاعلية فلا شكّ أنّها لا تتعلّق إلاّ بمقدور واحد.

وإن شئت قلت : القدرة بمعنى العلّة الناقصة لصدور الفعل متقدمة على الفعل صالحة للتعلّق بالضدين ، وأمّا إذا كانت بمعنى العلّة التامّة غير المنفكة

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح المواقف : ٦/٩٢.

١٨٠