بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة ( بالكسر ) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمّى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عندما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه ». (١)

وقد نقل ذكاء الملك نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمحدث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرك هو الله سبحانه وارادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه. (٢)

ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف ، فعندئذ لا معنى لأن يختص التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقة.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي أوّلاً ، وصريح الذكر الحكيم ثانياً ، والفطرة السليمة الإنسانية ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محله.

٨ ـ نظرية إمام الحرمين

« الاعتراف بتأثير قدرة العبد في طول قدرة الله ».

إنّ الأشاعرة ، وإن أصرّوا على نظريتهم في أفعال العباد طوال قرون ، ولم يتجاوزوا ما رسمه لهم شيخهم في هذه المسألة إلاّ شيئاً يسيراً ، كما عرفته عند

ــــــــــــــــــ

١ ـ القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : ١٨٢.

٢ ـ سير الحكمة في أُوروبا : ٢/٢٤ ـ ٢٥.

١٤١

البحث عن نظرية الباقلاني ، غير أنّه وجد فيهم من أدرك خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ، ومضاعفاتها السيئة ، وتخبّط القوم تخبّطاً واضحاً في المسألة ، فنقض كلّ ما أبرموه وأجهر بالحقيقة ، ونخص بالذكر هنا شخصيات جليلة يعدّون من مشاهير العلم ورجال الفكر :

أ ـ إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، وهو من أعلام القرن الخامس. فقد صرح ـ كما يظهر من العبارة التالية ـ بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأن قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه واقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات ، وكلّ مسبب يستمد من سببه المقدم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه ، وإليك نصّ عبارته :

إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (١)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبب ـ على أصله ـ بالفعل والقدرة ( قدرة الإنسا من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميين ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/٩٨ ـ ٩٩.

١٤٢

كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (١)

هذا هو ما علّق به الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدل ، بل المراد هو تفاعل الأجسام الطبائع ، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحس والعلم.

وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزهر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدّات وممهّدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عندما صرح بأنّ لعالم الكون مدبّرات يدبّرونه بإذنه سبحانه ، قال : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (٢)

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما « ما به الوجود » لا « ما منه الوجود » ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني : إفاضة الوجود والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.

وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين ـ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين ـ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن العقل في ذاك المجال.

ــــــــــــــــــ

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ النازعات : ٥.

١٤٣

٩ ـ نظرية الشعراني

ب : إنّ الشيخ الشعراني ـ وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ـ أحد من وقف على أنّ العقيدة بالكسب لا تفارق الجبر قدر شعرة ، فلأجل ذلك يقول : « اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدق مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يزيل أشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة ( قدرة العبد ) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون : إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكشف لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثّل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :

إذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً

فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال : ملخّص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك ؛ فلابدّ أنّه مضطر على الاختيار. (١)

هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب. ولكن الاجالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول. أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

١٠ ـ نظرية مفتي الديار المصرية

« الإنسان يقدر فعله ويصدرها بقدرته المتكسبة ».

ــــــــــــــــــ

١ ـ اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : للشعراني : ١٣٩ ـ ١٤١.

١٤٤

ج. الشيخ محمد عبده ( ١٢٦٦ ـ ١٣٢٣ هـ ) قد خالف الرأي العام عند الأشاعرة ، وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله ، ولم يبال في ذلك بأحد من معاصريه ، ولا بأحد من رجال الأزهر الذين كانوا يرددون في ألسنتهم قول القائل :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملة

أقول : إنّ الشيخ الأزهري« عبده » كان يعيش في عصر رفعت فيه المادية الغربية عقيرتها ضد الإلهيين عامة والإسلاميين خاصة ، وشنّت حملة شعواء على عقائدهم. وكانت أرض مصر أوّل نقطة من الأراضي الإسلامية عانت من بث سموم المادية القادمة من الغرب مع احتلال الفرنسيين لها بقيادة نابليون.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري ، وكان إنكار العلية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه آية الإلحاد والكفر ، وقد شن الماديون على هذه العقيدة أُمور ملأوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :

١ ـ أنّ الإلهيين لا يعترفون بناموس العلية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم ـ بأساليبه التجريبية المختلفة يثبت ذلك بوضوح.

٢ ـ أنّ الإلهيين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العلوية التي يعبر عنها بالملك والجن والروح.

٣ ـ أنّ الإلهيين ـ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ـ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيّره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف عند حد.

وقد وقف الشيخ على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري بنفسه

١٤٥

اللوم والذم ، بل الأمر الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

نعم ، قد أثر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما:

١ ـ اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسد آبادي ( ١٢٥٤ ـ ١٣١٦ هـ ).

فعلى ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام ١٣٠٣ هـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إلى بيروت ـ :

« يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعدّ إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد ذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس... وعلى ذلك قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرّفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

أمّا البحث في ما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته ، وبين ما تشهد به البداهة من عمل المختار في ما وقع عليه الاختيار ، فهو من طلب سر القدر الذي نهينا عن الخوض فيه ، والاشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه. وقد خاض فيه الغالون من كلّ ملة ، خصوصاًمن المسيحيين والمسلمين ، ثمّ لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفاً حيث ابتدأوا ، وغاية ما فعلوه أن فرّقوا وشتّتوا ، فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله

١٤٦

واستقلاله المطلق ، وهو غرور ظاهر (١) ، ومنهم من قال بالجبر وصرح به. ومنهم من قالبه وتبرّأ من اسمه. (٢) وهو هدم للشريعة ، ومحو للتكاليف ، وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهوعماد الإيمان.

ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك بالل هـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به في مالا يقدر العبد عليه...

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :

الأوّل : أنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

والثاني : أنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده ، وأن لا شيء سوى الله يمكنه أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع هّمته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه‌الله ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (٣)

ثمّ إنّ الركب بعد لم يقف ، وإنّ هناك لفيفاً من المفكّرين أدركوا مرارة القول بالجبر ، وأنّ القول بالكسب لا يسمن ولا يغني من جوع ، فرجعوا إلى القول بالأمر بين الأمرين ، وإن لم يصرحوا باسمه ، ونأتي في المقام بنصّ عالمين كبيرين من شيوخ الأزهر وعلمائه :

ــــــــــــــــــ

١ ـ يريد المعتزلة.

٢ ـ يريد الأشاعرة.

٣ ـ رسالة التوحيد : ٥٩ ـ ٦٢ بتلخيص.

١٤٧

١١ ـ الزرقاني وأفعال العباد

د ـ وممّن اعترف بالحق ، الشيخ عبد العظيم الزرقاني قال :

ولنقف برهة بجانب هذا المثال ، مثال خلق الأفعال ، ليتضح الحال ، ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ، ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ، ويضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وأنّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وأنّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، مثل قوله عزّوجلّ :

(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء*هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ* وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ* وَإِليهِ يَرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ* مَنْ يشأ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشأ يَجْعَلْهُ عَلى صِراط مُسْتَقيم*وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ *ولَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً واحِدة* وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلُّهُمْ جَميعاً* وَلَوْ أَنّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيء قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله* إِنّا جَعَلنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِمْ وَقْرا *وَجَعَلنا مِنْ بَيْنِ أَيدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ* سَواءٌ عَلَيهِمْ أَ أَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ*كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ* فَمَنْ يرِد الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء* وَما رَمَيْتَ إِذ رَمَيْتَ وَلكِنّ الله رَمى )

وكذلك يقول النبي :

« إن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ». ويقول : « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ». ويقول : « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك » إلى غير ذلك.

١٤٨

هذه النصوص وأمثالها ، إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد الأُمور كلّها إلى الله معتقداً أنّه الواحد الأحد ، لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه ، وهي أفعال التكليف من عباده ، وكأنّ نسبة الأفعال إلى العباد هي الأُخرى محض فضل من الله ، على حدّ ما قال ابن عطاء الله : من فضله وكرمه عليك ، أن خلق العمل ونسبه إليك.

ويظاهر هذه الأدلّة النقلية أدلّة أُخرى عقلية ، ناطقة بوحدانية الله في كلّ شيء وبأنّ العبد لا يعقل أن يكون خالقاً لما اختاره من أفعاله ، لأنّه لو كان خالقاً لها لكان عالماً بتفاصيلها ، ولكنّه يشعر من نفسه بأنّه تصدر عنه أشياء كثيرة جداً من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها ، كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها. وإذاً فليس العبد هو الخالق لها « أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ »؟

بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم ، وتعلن رضوان الله وحبه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم من ذلك قوله سبحانه :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها* أَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيئاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُُمْ وَلا يَرضَى لِعِبادِهِ الكُفْرِ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرضَهُ لَكُمْ* وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لي عَمَلي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَريئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَريءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ* قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُون*قُلْ يا قَومِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّي عامِلٌ فَسَوفَ تَعَلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّار إِنّه لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ *وَمَاكانَ رَبُّكَ لِيُهِلكَ القُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِم الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَّبِئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *وَتِلْكَ الجَنّة الّتي أُورِثْتُمُوها بِماكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )

وكذلك نقرأ في السنة النبوية : « اعملوا فكلُّ مُيَسَّر لما خلق له. بادروا

١٤٩

بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، يا عباس بن عبد المطلب ، اعمل لا أُغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد ، اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً ، إلى غير ذلك.

وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم ، معتقداً أنّهم لا يستحقّون ثوابها إن أحسنوا ، وعقابها إن أساءوا. ويظاهر هذه الأدلّة النقليّة أدلّة عقليّة أيضاً شاهدة بعدالة الله وحكمته ، لأنّ العبد لو لم يكن موجداً لما اختار من أعماله ، لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة. وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.

غيري جنى وأنا المعذّب فيكم

فكأنّني سبابة المتندم

أهل السنة بهرتهم النصوص الأُولى والأدلّة العقلية التي بجانبها ، فرجّحوها وقالوا :

إنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية ، إنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد ـ وان لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب ، جمعاً بين الأدلّة. ثمّ إذا قيل لهم : ما هذا الكسب؟ اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده ، أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمّم؟ولكلّ وجهة نظر ، يطول شرحها وتوجيهها.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان العقل ، فرجّحوها وقالوا :

إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتى أعمال عباده

١٥٠

الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلّق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

وإذا قيل لهم : إنّ مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله ، وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية.

قالوا : لا نسلّم هذا ولا نقول به ، فإنّ الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره ، إنّما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنّة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته ، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم ، فإنّها لا تشبه أفعال الله بحال.

هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلاً سائغاً فيما تؤوِّله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجّحتها ، ونجد أيضاً أنّ كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأُخرى أن تلزمها إيّاه في مقام الحجاج والجدال ، بل توجه رأيها توجيهاً ينأى بها عن الوقوع في المحظور. ثمّ نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيراً بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقادالسديد بوحدانية الله وحكمة الله ، ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.

فكيف يرضى منصف إذاً بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى؟ وماذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة ، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أنّ الرحمن الرّحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.

١٥١

وقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله. ويؤمنون بقدره وأمره. ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في أمثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إياه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه « وما أُوتيتم من العلم إلاّقليلاً ».

لم يمتحنا بما تعيا العقول به

حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم (١)

١٢ ـ الشيخ شلتوت وأفعال العباد

هـ. إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحقّ أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :

وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعرفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان الل هـ وايات بيّنات واضحات ـ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.

ــــــــــــــــــ

١ ـ مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني : ١/٥٠٦ ـ ٥١١ ، والشعر من قصيدة البوصيري في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٥٢

وهذا فريق منهم يرى : أنّ العبد لا اختيار له في فعل ما ، وهو مجبور ظاهراً وباطناً ، فالهداية تلحقه بخلق الله ، والضلال يلحقه بخلق الله ، دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله ، لا ابتداءً ولا جزاءً. وهذا رأي يناقض صريح ما جاء في القرآن من نسبة الأعمال إلى العباد ، ومن التصريح بأنّ الجزاء ثواباً أو عقاباً إنّما يكون بالأعمال الصادرة من العباد ، وهي أكثر من أن تحصى ، وهو بعد ذلك يصادم الشعور والوجدان الذي يجده كلّ إنسان من نفسه حينما يفكّر وحينما يتجه ويعزم ، وحينما يفعل ، وهو مع كلّ هذا ، ينقض قاعدة التكليف ، وهي اختبار المكلّف ، وقاعدة العدالة ، وهي السّيئة بالسّيئة ، والحسنة بالحسنة.

وهذا فريق آخر يرى : أنّ الله يخلق الضلال في العبد ابتداءً واستمراراً ، وليس للعبد قدرة على فعل ما ، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما ، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم ، انتحلوا للتخلص منها شيئاً سمّوه كسباً ، وصحّحوا به في نظرهم قاعدة التكليف ، وقاعدة العدالة ، ونسبة الأفعال ، وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة ، أي إنّ الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها ، كما يقولون ، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد ، وكلّف بالفعل ، وسئل عنه ، وجوزي عليه. ولا ريب أنّ تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة ، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة « كسب » على أنّه بهذا المعنى الذي يريدون ، لا يصحح قاعدة التكليف ، ولا قاعدة العدالة والمسؤولية ، لأنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ، ويجازى عليه ، والفعل كما يقارن القدرة ، يقارن السمع والبصر والعلم ، فأيّ مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟

وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له ، وقد قال بعض العلماء : إنّ كسب الأشعري وطفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، ثلاثتها من محاولات الكلام.

وهذا فريق ثالث يرى : أنّ العبد يفعل بإرادته وقدرته الّلتين منحهما الله ابتداءً واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه ، ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء

١٥٣

فينسبه إلى العبد ، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد ، جزاءً على ضلاله ، فهناك في رأيهم زيغ من العبد باختياره ، ثمّ إزاغة من الله عقوبةً له على ذلك الزيغ ، هناك انصراف من العبد عن الحقّ ، ثمّ صرف من الله للعبد جزاء هذا الانصراف.

والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ؛ وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كلّ ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شراً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

ومن هنا يتبيّن أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إيّاه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّره.

القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام

وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسبّبات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوع هـ شأن المحيط علمه بكلّ شيء ـ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو

١٥٤

العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان وما يكون. (١)

ثمّ إنّ القول بالقدر السالب للاختيار من الإنسان والسائد على قدرته ومشيئته سبحانه ممّا جعل ذريعة للطعن على الشريعة ، وقد جاء الطعن لبعض المعتزلة في ما أنشأه وقال :

أيا علماءَ الدين ذِمِّيُّ دينكم

تحيّر ، دلّوه بأوضح حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

ولم يرض منّي فما وجه حيلتي؟

دعاني وسد الباب عني فهل إلى

دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي

قضى بضلالي ثمّ قال أرض بالقضا

فها أنا راض بالذي فيه شقوتي!

فإن كنت بالمقضيّ يا قوم راضياً

فربي لا يرضى لشؤم بليتي

وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي؟

وقد جرت دلّوني على كشف حيرتي

إذا شاء ربّي الكفر مني مشيئة

فها أنا راض باتّباع المشيئة

وهل لي اختيار أن أخالف حكمه

فبالله فاشفعوا بالبراهين حجّتي (٢)

وقد مال يميناً وشمالاً كلّ من فسر القضاء والقدر بسلب الاختيار حتى يجيبوا عن شبهة هذا المتظاهر بالذمية ، وقد أجاب عنه علاء الدين الباجي بنظمه وقال :

فكن راضياً نفس القضاء ولا تكن

بمقضي كفر راضياً ذا خطيئة

وحاصل هذا الجواب ، أنّ الواجب الرضا بالتقدير لا بالمقدر ، وكلّ تقدير يرضى به لكونه من قبيل الحقّ ، ثمّ المقدور وينقسم إلى ما يجب الرضى به كالإيمان ، وإلى ما يحرم الرضى به كالكفر ، إلى غير ذلك.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ أي معنى للتفريق بين القدر والمقدر؟! فإنّ التقدير لو كان سالباً للاختيار فالرضى بالتقدير رضى بالمقدر أيضاً.

ــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القرآن الكريم ، للأُستاذ الشيخ شلتوت : ٢٤٠ ـ ٢٤٢.

٢ ـ طبقات الشافعية : ١٠/٣٥٢ ، والقائل أنشأ الشعر من جانب الذمّي لئلاّ يؤخذ به ، ويقتل بسيف القضاء.

١٥٥

وقد كان الشيخ محمد عبده يعاني من القشريّين المتعبّدين بظواهر الكلم والجمل ، الذين عطّلوا عقولهم وفتحوا عيونهم على ظواهر الكتاب والسنّة فهؤلاء كانوا ألدّ الأعداء لرجال الإصلاح والنهضة العلمية في مصر ، وفيهم يقول الشيخ محمد عبده في أُخريات عمره :

ولست أُبالي أن يقال محمّد

أبل أم التظت عليه المآتم

ولكنّ ديناً قد أردت صلاحه

أحاذر أن يقضي عليه العمائم

فيا رب إن قدرت رجعي سريعةً

إلى عالم الأرواح وانفض خاتم

فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً

رشيداً يضيء النهج والليل قاتم

خاتمة المطاف

إنّ شيخ الشيعة الحسن بن المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) ردّ على القول بأنّ العبد لا تأثير له في أفعاله ، بأنّه يستلزم أشياء شنيعة ، ولما وقف ابن تيمية على كتابه ، ورأى إتقان الاستدلال ، رد عليه بأنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو ( العلاّمة الحلّي ) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ منهاج السنّة : ١/٢٦٦.

١٥٦

أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، وهو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بعدم تأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض بلا مصدر صحيح ، وسيوافيك نبذ من جزافاته في الجزء الرابع من هذه الموسوعة ، عند البحث عن عقائد الوهابية.

نظرية الكسب بين مراحل

التفسير والتطور والإنكار

لقد وقفت على نصوص أعلام الأشاعرة حول نظرية الكسب ، وحتى نصّ الأشعري فيها. والتدبر فيما نقلناه يعرب عن أنّ هذه النظرية ـ لأجل إحاطة الإبهام بها ووجود الغموض فيها ـ مضت عليها مراحل ثلاث :

١ ـ مرحلة التبيين والتفسير.

٢ ـ مرحلة التطور والتكامل.

٣ ـ مرحلة الإنكار والإبطال.

وهذه المراحل وإن لم تتكون حسب الترتيب الزمني ، ولكنّها تكونت طيلة قرون تنوف على عشرة.

أمّا المرحلة الأُولى فقد تكونت بفكرة الغزالي أوّلاً ، والتفتازاني ثانياً. فقام الأوّل بتفسيرها ب ـ « صدور الفعل من الله عند إيجاد القدرة في العبد » ، كما أنّ الثاني فسرها ب ـ « توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله ».

فهذان التفسيران لم يزيدا في بناء النظرية شيئاً إلاّ إلقاء الضوء عليها ، وتصويرها بشكل قابل للتصوّر.

أمّا المرحلة الثانية ـ أعني : مرحلة التطوّر ـ فقد حصلت باعتراف القاضي الباقلاني بتأثير قدرة العبد في ترتب العناوين على الفعل ، من الطاعة والعصيان

١٥٧

وغيرهما ، بعد ما لم يكن الأشعري ومن قبله أو بعده معترفين بأي تأثير لها في فعله.

ولم يكن التطوير خاصاً به ، بل يشاركه فيه بنحو آخر ابن الهمام صاحب المسايرة ، حيث قام بتخصيص القاعدة بخروج العزم عنها ، وأنّه مخلوق لقدرة العبد وليس مخلوقاً لله سبحانه.

ولا يقصر عنه في التطوير ، نظرية ابن الخطيب ، حيث اعترف بشأنية قدرة العبد وقابليته للتأثير لولا قدرة الله سبحانه العليا ، فلأجل ذلك صارت مغلوبة لقدرته.

أمّا المرحلة الثالثة ـ أعني : مرحلة الإنكار والإبطال ـ فقد عرفتها من الفحل المقدام إمام الحرمين في القرن الخامس ، والمصلح المصري الشيخ محمد عبده ، والزرقاني ، والشيخ شلتوت ، ولعلّ هنا من جهر بالحقّ وأصحر به ولم نقف عليه.

القرآن وخلق الأفعال

استدلّ الشيخ الأشعري على ما يتبنّاه من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بالأدلّة العقلية تارة ، والنقلية أُخرى.

أمّا الأُولى فقد مضت مع ما علّقنا عليها من الملاحظات ، وأمّا الثانية فقد استدلّ عليها في كتاب « الإبانة » بآيتين :

الأُولى : قوله سبحانه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَالله خَلَقَكُمْ وَماتَعْمَلُونَ). (١)

الثانية : قوله سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ). (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ الصافات : ٩٥ ـ ٩٦.

٢ ـ فاطر : ٣.

١٥٨

يلاحظ على الاستدلال بالآية الأُولى بأُمور :

أوّلا : أنّ الاستدلال مبني على كون « ما » في قوله سبحانه وما تعملونمصدرية ، وأنّ معنى الآية : والله خلقكم وعملكم ، وليست بموصولة حتى يكون معنى الآية والله خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام ، كقوله سبحانه : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ). (١)

ولكن الظاهر من الآية هو الثاني لا الأوّل ، بقرينة قوله : « أَتعبُدون ماتَنحِتُون » وهي فيها موصولة بلا إشكال ، فتكون قرينة على المراد في الآية الثانية ، إذ ليس « ماتعملون »إلاّ ترجمة لقوله « ما تنحتون » ولا يصار إلى التفكيك إلاّ بدليل قاطع.

وإنّما ذهب من ذهب إلى أنّ « ما » مصدرية ، وأنّ المراد « عملكم » لأجل رأي مسبق ومحاولة يطلب الدليل عليها ، ولولاها لما قال به.

فعلى المختار يكون معنى الآية : أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها ، وبذلك يكون الربط بين الآيتين محفوظاً ، بخلافه على القول الآخر.

إذ عليه تفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ، ويكون مفاد الآيتين : أتعبدون الأصنام التي تنحتون ، والله خلقكم وأعمالكم وأفعالكم ، وإن لم يكن للعمل صلة بعبادة ما ينحتوته.

ثانياً : إنّ الخليل عليه‌السلام عندما أدلى بمفاد الآيتين كان في مقام الاحتجاج على عبدة الأصنام ، ولا يصحّ الاحتجاج إلاّ باتّخاذ« ما » موصولة كناية عن الأصنام المنحوتة ، فكأنّه قال : « إنّ العابد والمعبود مخلوقان لله ، فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟ » على أنّ العابد هو الذي عمل صورته وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها. ولكن لو كان مفاد الآية : « والله خلقكم وخلق عملكم » لم يصحّ الاحتجاج به على العبدة ولم ينطبق على المقام.

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ٥٦.

١٥٩

ثالثاً : لو كانت مصدرية لتمّت الحجة صالح الخليل ولانقلبت عليه. إذا عندئذ ينفتح لهم باب العذر ، بحجّة أنّه لو كان هو الخالق لأعمالنا فلا جهة للتوبيخ والتنديد.

كلّ هذه الوجوه توضح أنّ المراد : أنّ الله خلق الإنسان وخلق الأصنام التي يعملها الإنسان ، أي يصوّرها ويشكلها. وعندئذ لا صلة له بما يدّعيه الأشعري.

أمّا الآية الثانية فلا شكّ أنّها صريحة في حصر الخالقية بالله سبحانه وكم لها من نظير في القرآن. قال سبحانه : (قُلِ الله خالِقُ كُلُّ شَيء وَهُوَ الواحِدُ القَهّار ) (١)وقال عزّ من قائل : (اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل ) (٢) وقال تعالى : (ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قصر الخالقية على الله. (٤)

غير أنّ الذي يهم القارئ الكريم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم من الآيات احتمالين لا يتعيّن أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخرى ، ودونك الاحتمالين :

الأوّل : حصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه ، وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه ، وأمّا غيره فليس بمؤثر ولا خالق ، لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية ، وعلى ذلك فما ترى من الآثار للظواهر الطبيعية فكلّها مفاضة منه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فالنار بمعنى أنّه جرت سنّة الله سبحانه على أن يوجد الحرارة عند وجود النار مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة سببية ومسببية بينها وبين أثرها ، وكذلك الشمس مضيئة والقمر منير ، بمعنى أنّه جرت عادة الله سبحانه على إيجاد الضوء والنور مباشرة ، عقيب وجود الشمس

ــــــــــــــــــ

ـ الرعد : ١٦.

٢ ـ الزمر : ٦٢.

٣ ـ غافر : ٦٢.

٤ ـ لاحظ : الأنعام١٠١ ـ ١٠٢ ؛ الحشر : ٢٤ ؛ الأعراف : ٥٤.

١٦٠