بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

متوسطة ، بإذنه سبحانه وإرادته ومشيئته ، وهذا هو المراد من التوحيد في الخالقية ؛ فالخالق المستقل في خلقه ، واحد. وخالقية غيره بإذنه وإقداره. وهذا المقدار من الاستناد يكفي في رفع حاجة الممكن من دون حاجة إلى أن يكون هناك استناد مباشر.

وباختصار : إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار ، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله ، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص ، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ : إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد« والفعل فعل الله وهو فعل العبد ».

الحجج الأُخرى للأشاعرة

احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها :

الأوّل : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال ، ه وهذا معنى قوله سبحانه : (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) (١) ، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله ، بشهادةأنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها ، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى ، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة ، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم ، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع ، كالإحراق الصادر من النار من غير علم ، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد ، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد ، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملك : ١٤.

٢ ـ الأربعون للرازي : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، وشرح التجريد للقوشجي : ٤٤٧.

١٢١

والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به يستلزم العلم. ثمّ إنّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل ، يوجده بالعلم التفصيلي ، ولو كان قاصداً بالإجمال يوجده كذلك. فالفاعل للأكل والتكلّم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل ، فيستلزم علم الفاعل به كذلك ـ وفي الوقت نفسه ـ لا يقصد مضغ كلّ حبة ، أو التكلّم بكلّ حرف وكلمة إلاّ إجمالاً ، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.

كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة ، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل ، فيلزمه العلم به تفصيلاً ، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل ، تابعين لأصل القصد وكيفيته.

الثاني : لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم واراد العبد تحريكه ، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال ، أو لا يقع واحد منهما ، وهو أيضاً محال ، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين ، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون ، أو يقع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى وقدرة العبد. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين ، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه ، لا في المقام ؛ أعني : إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام ، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى ، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير ، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة. (٢)

والأولى أن يقال : إنّ قدرة الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير ، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة ، وليست صالحة للتأثير ، لأنّ من

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأربعون للرازي : ٢٣٢.

٢ ـ كشف المراد : ١٦ ؛ شرح التجريد للقوشجي : ٤٤٧.

١٢٢

شرائط القدرة الفعلية ، أن لا تكون ممنوعة من ناحية بالغة كاملة ، فتعلّق قدرته وإرادته بتحريك الجسم تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحدى القدرتين مطلقة ، والأُخرى مشروطة.

الثالث : إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات ، وعلى جميع مقدورات العباد ـ وعلى هذا ـ ففعل العبد : إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعني : قدرة الله وقدرة العبد ـ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى ، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين ، ولا يلزم منه محال ، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، ومفاضة منه ، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب ، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.

وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات ، ومنها أفعال العباد ، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة ، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد ، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين :

١ ـ إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام ، فإنّه قال : لا يقدر على القبيح.

٢ ـ إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال ، محققة بقدرة الله تعالى ، وموجودة بحوله وقوته ، لأنّ كلّ ما سواه ممكن ، ولا غنى للممكن عن الواجب ، لا في الذات ولا في الفعل ، لكن تحقّق الشيء بقدرته يتصور على وجهين :

أ : أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، كما هو الحال في

ــــــــــــــــــ

١ ـ الأربعون للرازي : ٢٣٢.

١٢٣

الصادر الأوّل من العقول والنفوس والأنوار الملكوتية.

ب : أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد ، قائمة بقدرته ، وموجدة بحوله وقوته ، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له ، واقدر عبده بهاعلى الفعل ، فيكون الفعل فعل الله من جهة ، وفعل العبد من جهة أُخرى.

وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.

والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمنعى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ ) (١) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلقالأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وجعل لكلّ سبب شرحاً ». (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ الكافي : ١/١٨٣ ، باب معرفة الإمام ، الحديث٧.

١٢٤

ثمّ إنّ للأشاعرة في مسألة « خلق الأفعال » حججاً وأدلّة ، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي وشرّاح التجريد ، فراجع.

نظرية الكسب ومشكلة الجبر

ولما كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مستلزماً للجبر ، حاول الأشعري أن يعالجه بإضافة « الكسب » إلى « الخلق » قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وملاك الطاعة والعصيان ، والثواب والعقاب هو « الكسب » دون الخلق ، فكلّ فعل صادر عن كلّ إنسان مريد ، يشتمل على جهتين« جهة الخلق » و « جهة الكسب » فالخلق والإيجاد منه سبحانه ، والكسب والاكتساب من الإنسان.

والظاهر أنّ بعض المتكلّمين سبق الأشعري في القول بالكسب.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلق بنا. وقال : إنّما نحن كالظروف لها حتى أنّ ماخلق فينا ، كان ، وإن لم يخلق لم يكن.

وقال ضرار بن عمرو (١) : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب ، وزاد عليه الإحالة. (٢)

أقول : إنّ نظرية الكسب التي انتشرت عن جانب الإمام الأشعري مأخوذة عن ذلك المتكلّم المجبر ، ونقلها العلاّمة الحلي في « كشف المراد » عن

ــــــــــــــــــ

١ ـ ضرار : من رجال منتصف القرن الثالث وهو ضرار بن عمرو العيني قال القاضي في طبقاته : ص ١٣ : كان يختلف إلى واصل ، ثمّ صار مجبراً وعنه نشأ هذا المذهب.

٢ ـ شرح الأُصول الخمسة : ٣٦٣ ، وقد نقل الشيخ مقالة ضرار في كتابه مقالات الإسلاميين : ٣١٣ وقال : والذي فارق ( ضرار بن عمرو ) المعتزلة قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وإن فعلاً واحداً لفاعلين ، أحدهما خلقه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وإنّ الله عزّوجلّ فاعل لأفعال العباد في الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة....

١٢٥

النجار وحفص الفرد أيضاً. (١) وأخذ عنهم الأشعري على الرغم من ادّعائه أنّه يخالف المجبره ولا يوافقهم. غير أنّ الذي يجب التركيز عليه أمران :

الأوّل : ما هو الداعي لإضافة الكسب إلى أفعال العباد؟

الثاني : ما هو المقصود من كون الإنسان كاسباً والله سبحانه خالقاً؟

أمّا الأوّل : فلأنّ الأشعري من أهل التنزيه ، وهو يناضل أهل التشبيه والتجسيم كما يخالف المجبرة. ولمّا كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه لا غير ، مستلزماً لوقوع الشيخ الأشعري ومن لفّ لفّه في مشكلة عويصة ـ إذ لقائل أن يقول : إذا كان الخالق هو الله سبحانه فلابدّ أن يكون هو المسؤول لا غير ، وحينئذ يبطل الأمر والنهي والوعد والوعيد ، وكلّ ما جاءت به الشرائع السماوية ـ لجأ الأشعري وأضرابه لأجل الخروج عن ذلك المضيق إلى نظرية « ضرار » معتقدين بأنّهم يقدرون بها على حل العقدة ، وقالوا : إنّ الله سبحانه هو الخالق ، والإنسان هو الكاسب ، فلو كان هناك مسؤولية متوجّهة إلى الإنسان فهي لأجل كسبه وقيامه بهذا العمل.

هذا هو الحافز والداعي لتبنّي نظرية الكسب لا غير.

وأمّا الثاني : ـ أعني : ما هي حقيقة تلك النظرية ـ فقد اختلفت كلمات الأشاعرة في توضيح تلك النظرية اختلافاً عجيباً ، فنحن ننقل ما ذكروه باختصار :

١ ـ نظرية الكسب والشيخ الأشعري

قبل أن نقوم بنقل ما ذكره تلاميذه نأتي بنص عبارة الشيخ في « اللمع » ، يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية : لماّ كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً ، لأنّ حقيقة الكسب هي أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ كشف المراد : ١٨٩ الفصل الثالث من الإلهيات ، ط لبنان.

٢ ـ اللمع : ٧٦.

١٢٦

وحاصله أنّ صدور الفعل من الإنسان في ظل قوة محدثة هو الكسب.

يلاحظ عليه : أنّ ظاهر العبارة هو صدور الفعل بسبب قوة محدثة من الله في العبد ، وعليه يكون الفعل مقدوراً للعبد ومخلوقاً له ، ومعه : كيف يمكن أن يكون في عرضه مقدوراً لله ومخلوقاً له؟!

وبعبارة ثانية : إمّا أن يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير في تحقّق الفعل أو لا؟فعلى الأوّل يكون الفعل مخلوقاً للعبد ، لا لله سبحانه ، وهو ينافي الأصل المسلّم عند الأشعري ومن قبله من الحنابلة ، من أنّ الخلق بتمام معنى الكلمة راجع إليه سبحانه ، ولا تصحّ نسبته إلى غيره ، وعلى الثاني : يكون الفعل مقدوراً مخلوقاً لله سبحانه ، من دون أن يكون لقدرة العبد دور في الفعل والإيجاد. وعندئذ يعود الإشكال وهو : إذا كان الفعل مخلوقاً لله كيف يكون المسؤول هو العبد؟!

وباختصار : إنّ العبارة المذكورة عبارة مجملة ، وهي على فرض القول بتأثير قوة العبد في عرض قدرة الله سبحانه أو طولها ، يستلزم إمّا اجتماع القدرتين على مقدور واحد ـ إذا كانت القدرتان في عرض واحد ـ أو كون الفعل مقدوراً للقدرة الثانية ، أعني : قدرة العبد ـ إذا كانت القدرتان طوليتين ـ وعلى فرض عدم تأثير قدرة العبد ، وكون الفعل متحقّقاً بقدرته سبحانه عند حدوث القدرة في العبد ، يعود الإشكال بعينه ، ولا تكون للكسب واقعية أبداً.

والظاهر من المحقّق التفتازاني ترجيح الشق الأوّل في تفسير كلام الأشعري ، حيث قال في شرح العقائد النسفية : فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلاّكونه موجداً لأفعاله بالقصد الإرادة ، وقد سبق أنّ الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها ، ومعلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين ، قلنا : لا كلام في قوّة هذا الكلام ومتانته ، إلاّ أنّه لما ثبت بالبرهان أنّ الخالق هو الله تعالى ( هذا من جانب ) و ( من جانب آخر ) ثبت بالضرورة أنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال ، كحركة اليد ، دون البعض كحركة الارتعاش ، احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى

١٢٧

القول بأنّ الله تعالى خالق ، والعبد كاسب. (١)

ولا يخفى أنّ القول بتأثير قدرة العبد لا يجتمع مع ما ثبت بالبرهان عندهم من أنّ الخالق هو الله تعالى ، فعلى مذهبه يقع التعارض بين ما ثبت بالبرهان ومااختاره من الأصل.

ثمّ الظاهر من الفاضل القوشجي هو اختيار الشق الثالث. أي عدم تأثير قدرة العبد في الفعل حيث قال : والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وارادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً لهو. (٢)

وعلى ما ذكره ذلك الفاضل لا يكون هنا للعبد دور إلاّ كون الفعل صادراً من الله وموجداً بإيجاده ، غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع صفة من صفات العبد ، وهما صيرورته ذا قدرة غير مؤثرة بل معطلة ، عن إيجاد الله تعالى الفعل في الخارج.

أنشدك بوجدانك الحر ، هل يصحّ تعذيب العبد ، بحديث المقارنة ، ألا بعد ذلك من أظهر ألوان الظلم ، المنزة سبحانه عنه؟!

قال القاضي عبد الجبار : : إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وإنّه أظهر أنّما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه ، ويوهم أنّه مصيب فيه ، وأنّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر ، ومشى ذلك في ملوك بني أُمية.

وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان رحمه‌الله ، ثمّ نشأ بعدهم يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف ما لايطاق. (٣)

وقال الدكتور« مدكور » في تصديره للجزء الثامن لكتاب المغني للقاضي عبد الجبار : إنّ هناك صلة وثيقة بين الحياة السياسية ونشأة الفرق والآراء الكلامية ، ولكن الوشاية والدس هما الّلذان قضيا على غيلان ـ فيما يظهر ـ أكثر

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح العقائد النسفية : ١١٥.

٢ ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٤٤٥.

٣ ـ المغني : ٨/٤.

١٢٨

من قوله بالاختيار ، بدليل أنّ عمر بن عبد العزيز سبق له أن جادله ولم يوقع عليه عقاباً ، ولعلّ من هذا أيضاً ما قيل عن معبد الجهني ، وجهم بن صفوان ، وأغلب الظن أنّهما قتلا لأسباب سياسية لا صلة لها باللدين. (١)

قال الراغب في محاضراته : خطب معاوية يوماً فقال : إنّ الله تعالى يقول : (وَمامِنْ شَيء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم) فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال : إنّا لا نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينامن خزائنه ، فأغلقت بابك دونه يا معاوية. (٢)

٢ ـ نظرية الباقلاني في تفسير الكسب

« تأثير قدرة الإنسان في ترتّب العناوين على أفعاله ».

قد قام القاضي الباقلاني (٣) من أئمّة الأشاعرة بتفسير نظرية صاحب المنهج بشكل آخر ، وقال ما هذا حاصله : الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلّى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهات من جهة الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو

ــــــــــــــــــ

١ ـ المغني : ٨/ هـ ، المقدّمة.

٢ ـ الكشكول لبهاء الدين العاملي : ٤٢٩ ، ط عام ١٣٢١ هـ. الحجرية.

٣ ـ القاضي أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى عام ٤٠٣ هـ ) من مشاهير أئمّة الأشاعرة في بغداد ، وله تأليفات ، وقد طبع منها : ١ ـ التمهيد ، ٢ ـ الإنصاف في أسباب الخلاف ، ٣ ـ إعجاز القرآن.

١٢٩

وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرّفنا أيّ شيء هي ، ومثّلناها كيف هي. (١)

وحاصل كلامه الذي قمنا بتلخيصه : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية ، وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية ، فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب والعقاب.

وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود ، فحينئذيكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل ؛ أو لا تكون له تلك الواقعية ، بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتى يثابه أو يعاقب.

٣ ـ نظرية الغزالي في تفسير الكسب

« صدور الفعل من الله عند حدوث القدرة في العبد ».

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/٩٧ ـ ٩٨.

١٣٠

إنّ الغزالي من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، وقد اختار في تفسير الكسب نظرية صاحب المنهج ، وقام بتوضيحه بكلام مبسوط نذكره باختصار ، قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد والحيوانات والملائكة والجن والشياطين ، وزعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا بقدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاد ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :

إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.

والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد المتعلقتين على شيء واحد غير محال ، كما نبينّه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتها وقوع الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد. (١)

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثاني ، فاستعير لها

ــــــــــــــــــ

١ ـ وأوضح التفتازاني تلكما الجهتين في مقاصده وقال : لما بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد. وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبر عنه عندنا بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع... شرح المقاصد : ١٢٧.

١٣١

النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى. (١)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلّق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد وحصول المقدور بها.

وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ، والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذاً لابدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب جديدوحاصله يتلخّص في كلمتين :

١ ـ إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

٢ ـ إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى نعبر عنها بالكسب ـ فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً ـ.

ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه لا يتحمّل مسؤولية ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلّم الإنسان إلى نزول المطر إلى الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث رد على المجبرة بوجدان الفرق بين

ــــــــــــــــــ

١ ـ وإليك نصّ عبارة الغزالي : لما كانت القدرة ( قدرة العبد ) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولما لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً. الاقتصاد في الاعتقاد : ٩٢.

٢ ـ الاقتصاد : ٩٢ ـ ٩٣.

١٣٢

الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّفي ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.

وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصور خلعها عن التأثير مع فرضها قدرة كاملة وبصورة علة تامة.

والمنشأ لهذه الاشتباهات والتناقضات هو العجز عن تفسير الأصل المسلّم من أنّه لا خالق إلاّ الله تعالى ، حيث إنّ الأشاعرة فسّروه بحصر الخلق والإيجاد والتأثير في ذاته سبحانه ، ونفي أيّ تأثير ظلي أو إيجاد حرفي لغيره. فصوّروه سبحانه وتعالى ، الفاعل المباشر لكلّ ماجلّ ودقّ في عالم المجرّدات والماديات ، فصارت ذاته قائمة مقام العلل الطبيعية والأسباب المادية ، فعند ذلك وقعوا في ورطة الجبر ومشكلة إضطرار العبد.

ولكن الحقّ في تفسير الأصل المذكور هو غير ذلك ، وحاصله : إنّ قصر الخالقية المستقلة بالله سبحانه ، لا ينافي قيام غيره بأمر الخلق والإيجاد بإذنه سبحانه وإقداره ، وقد شهدت الدلائل العقلية بصحّة هذا التفسير ، كما نطقت الآيات في الذكر الحكيم بتأثير جملة من العلل الطبيعية في معاليلها ، لكن بإذن منه سبحانه وإقدار له ، فليس للتوحيد في الخالقية معنى غير ذلك ، وسيوافيك تفسيره.

٤ ـ نظرية التفتازاني في تفسير الكسب

« توجه قدرة العبد على الفعل عند صدوره من الله ».

إنّ المحقّق التفتازاني جنح في تفسيره إلى ما نقلناه عن الغزالي ، ولخّص كلامه على ما عرفت في التعليقة.

ولكنّه في « العقائد النسفية » قام بتفسير الكسب بوجه واضح. وهو أنّ

١٣٣

صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (١)

ومراده من الصرف هو توجه القدرة إلى الفعل وإن لم تكن مؤثرة في المقدور ، فمجرّد التوجيه من غير دخل في وجود الفعل ، كسب.

ويرد عليه ما أوردناه على الغزالي من أنّ القدرة غير المؤثرة لا تورث المسؤولية ولا تصحح العقاب والثواب ، إلاّ أن يكون الجزاء على نفس العزم والإرادة ، لا على الفعل وهو كما ترى.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حدّ أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيره حيث قال : « وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ... ».

٥ ـ نظرية تخصيص ما دلّ على حصر الخلق بالله

إنّ هناك نظرية خامسة في حلّ مشكلة الجبر نقلها شارح العقيدة الطحاوية عن صاحب كتاب « المسايرة » (٢) وحاصلها : إنّ ما دلّ على حصر الخلق بالله يخصص بما سوى العزم ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه ، وهو خالقه ، إلاّ العزم على الطاعة والعصيان ، فالخالق له هو العبد.

وقال في ذلك المجال ما هذا نصّه : فإن قيل : لا شكّ أنّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح العقائد النسفية : ١١٧.

٢ ـ تأليف الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى م ٨٦١ هـ ) ولكتابه هذا شروح.

١٣٤

والرعدة الضرورية ، والقدرة ليست خاصيتها إلاّ التأثير ، فوجب تخصيص عمومات النصوص بما سوى أفعالالعباد الاختيارية ، فيكونون مستقلين بإيجاد أفعالهم بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى إيّاها كما هو رأي المعتزلة والفلاسفة. وإلاّ كان جبراً محضاً فيبطل الأمر والنهي.

قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي. ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرف الله تعالى العبد العاقل أفعال الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه. وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكل إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال : جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محل قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمماً بلا تردد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى ونحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم ، وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى ومتأثرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ شروح العقيدة الطحاوية : ١٢٢ ـ ١٢٦ نقلاً عن « المسايرة » لاحظ شرحها ٩٨.

١٣٥

يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية والأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم ، فالكل ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.

نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرّقون بين الخالق على وجه الاستقلال والخالق على الوجه التبعي لما صعب عليهم المقام.

٦ ـ نظرية ابن الخطيب في تفسير الكسب

« قدرة الله مانعة عن قدرة العبد ».

وإليك نصّ عبارته : إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم ، والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها. (١)

فالقدرة الحادثة تتعلّق ولا تؤثر ، وهي ـ أي القدرة الحادثة ـ تصلح للتأثير لولا المانع ، وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (٢)

ــــــــــــــــــ

١ ـ العبارة لا تخلو من حزازة ، والصحيح أن يقال : لعموم تعلّق القدرة القديمة به ، أي بالفعل.

٢ ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : ١٨٧ نقلاً عن « الفلسفة والأخلاق » للسان الدين بن الخطيب قال : يرى لسان الدين بن الخطيب أنّ الكسب فعل يخلقه الله تعالى في العبد كما يخلق القدرة والإرادة والعلم ، فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محلّه الذي قام به ، ثمّ نقل العبارة التي نقلناها في المتن. ولا يخفى أنّه لو كان الكسب أيضاً فعلاً مخلوقاً لله سبحانه ، تكون المحاولة المذكورة فاشلة ، إذ عندئذ يكون الخلق والكسب كلاهما من جانبه سبحانه ، فلاحظ.

١٣٦

وحاصل هذه النظرية أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لولا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة. ولولا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى لإلقاء المسؤولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسؤولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لولا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.

وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو صحّ فرض كونه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما يتصوّر من أنّ القدرة في الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، وأنّها عاطلة وباطلة خلقت عبثاً وسدى ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلّف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد ـ بإذنه سبحانه ـ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.

وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه ، حتى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : (وَللّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرضِ وَكانَ اللّهُ عَليماً حَكيماً ) (١) ، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ

ــــــــــــــــــ

١ ـ الفتح : ٤.

١٣٧

هُوَ)(١).

ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد ، فلأجل ذلك يتصور تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلبزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامّتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحرية هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحف به من الخصوصيات قائمة بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة منها ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (٢) ،( وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله). (٣)

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام حولها ، وعليه « فالفعل فعل الله وهو فعلنا ». (٤)

ــــــــــــــــــ

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ الأنفال : ١٧.

٣ ـ الإنسان : ٣٠.

٤ ـ شرح المنظومة للسبزواري : ص ١٧٥ اقتباس من قوله فيها :

لكن كما الوجود منسوب لنا

والفعل فعل الله وهو فعلنا

١٣٨

حصيلة البحث

هذه هي النظريات المطروحة حول قدرة العبد على الكسب ، وقدعرفت أنّ في الجميع إبهاماً وإجمالاً ، ولا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تحل بها عقدة الجبر. وقد بلغت نظرية الكسب من الإبهام إلى حدّ عدّت من إحدى المبهمات الثلاثة التي لم يقف أحد على حقيقتها. وفي ذلك يقول الشاعر :

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال

عند البهشمي وطفرة النظام (١)

فعد الشاعر نظرية الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية « الحال » عند المعتزلة و« الطفرة » عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :

قال : إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طرفين :

أحدهما : بأن يتبيّن فساده بالدلالة.

والثاني : بأن يتبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا تبيّن أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوفرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّ في واحد من هذه الطوائف ، على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة ، من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه ألبتة.

وممّا يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عن هـ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه. فلمّا لم شيء من اللغات ما يفيده هذه الفائدة ،

ــــــــــــــــــ

١ ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : ١٨٥.

١٣٩

دلّ على أنّه غير معقول. (١)

قال الشيخ المفيد :

ثلاثة أشياء لا تعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :

١ ـ اتحاد النصرانية.

٢ ـ كسب النجارية.

٣ ـ أحوال البهشمية.

وقال الشيخ : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى ـ في واحد منها ـ معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ خلاف ما حكما به هو الصواب وهيهات. (٢)

٧ ـ مالبرانس الفرنسي ونظرية الكسب ( ١٦٣١ ـ ١٧١٥م )

ثمّ إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي« مالبرانس » يتحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف ومن المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب ، وحاصل ما قال :

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتى لكأنّها يخيل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتفاقية ، أو نظرية الظروف

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ٣٦٤ ـ ٣٦٦.

٢ ـ حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة « تراثنا » العدد٣ ، من السنة الرابعة ، ص ١١٨.

١٤٠