بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٨٩

واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها وقال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (١)

٥ ـ وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية الأعراف « ثمّ استوى على العرش »:

وقد كان السلف الأوّل ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (٢)

إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.

وتصحيح ذلك بالجهل بالكيفية لا يفيد شيئاً ، فإنّ تلك اللفظة المجملة شيء تلتجئ إليه كلّ من المشبّهة والمجسمة ، ويقولون إنّ لله سبحانه جسماً لا كسائر الأجسام ، ولحماً لا كاللحوم ، ودماً لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ؛ وإنّمااستحيوا عن إثبات الفرج واللحية ، وإذ قال قائلهم : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. (٣)

ليت شعري إذا كانت تلك اللفظة المبهمة مفيدة في مجال التوحيد والتنزيه والتجنب عن التشبيه فليقولوا : إنّ الله جسم لا كالأجسام ، عرض لا كسائر

ــــــــــــــــــ

١ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ١١٥.

٢ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ١١٥.

٣ ـ الملل والنحل : ١/١٥.

١٠١

الأعراض ، آكل وشارب لا كالإنسان والحيوان ، فلماذا يستحيون عن حشد هذه الأوصاف مع انّها تفيدهم في التنزيه ، « البلكفة » وتكرار بلا كيف ولا تشبيه بعد كلّ صفة خبرية.

وبعد هذا لا تتعجب ممّا ذكره الزمخشري في كشّافه عن هؤلاء القوم حيث يقول : ثمّ تعجب من المتسمّين بالإسلام ، المتسمّين بأهل السنّة والجماعة ، كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهباً ، ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة ( أي قولهم بلا كيف ) فإنّه من منصوبات أشياخهم ، والقول ما قال بعض العدلية فيهم :

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

شنع الورى فتستّروا بالبلكفة (١)

ثمّ إنّنا نرى أنّ هؤلاء مع تحرّزهم عن تأويل الآيات يؤوّلون الآيات التي لا تناسب التجسيم بل تضاده ، فما هو الهدف من هذا التأويل مع كونه على خلاف منهجهم ، وإليك الآيات التي يصر القوم على تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها ، وما ذلك إلاّ بأنّ الأخذ بظاهرها لا يجتمع مع جلوسه سبحانه على العرش ، وكونه في تلك الجهة ، وكونه جسماً متحيزاً في مكان خاص.

١ ـ قوله سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (٢)

٢ ـ قوله سبحانه : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كانُوا). (٣)

٣ ـ قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذي في السّماء إِلهٌ وَفي الأَرْضِ إِلهٌ ). (٤)

فلو لم يكن هدف القوم من الجمود على الظواهر هو التجسيم والجهة فما هو الداعي إلى تأويل هذه الآيات بأنّ المراد منها هو إحاطة علمه سبحانه بالناس ، لا إحاطة ذاته ووجوده ، أليس ذلك يدلّ على أنّ القوم يبطنون

ــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف : ١/٥٧٦.

٢ ـ الحديد : ٤.

٣ ـ المجادلة : ٧.

٤ ـ الزخرف : ٨٤.

١٠٢

العقيدة بجلوسه سبحانه في السماء على عرشه حقيقة ، ولما شاهدوا أنّ ذلك لا يجتمع مع إحاطة وجوده لجميع العوالم الإمكانية ، خرجوا عن منهجهم بتأويل هذه الآيات بحمل الإحاطة على الإحاطة العلمية لا الوجودية ، والعجب أنّهم من يقول بوجوده سبحانه في كلّ مكان بالقول بالطول والنفوذ في الأجسام ، وهم لا يفرّقون بين الإحاطة الجسمية المادية ولا الإحاطة القيّومية ، والآية ناظرة إلى الثانية لا الأُولى.

هذا حال الطائفة الأُولى ، وأمّاالطائفة الأُخرى التي أفضى بهم القول بالإثبات إلى مهزلة الغموض والتعقيد ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :

١ ـ قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (١)

٢ ـ قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (٢)

٣ ـ قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف وَرَدَ بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : « ليس كمثله شيء » (٣)

٤ ـ قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف ـ رضي الله عنهم ـ متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. (٤)

٥ ـ يقول ابن تيمية ـ مثير هذه النظرية بعد متروكيتها ـ « إنّ لله يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون

ــــــــــــــــــ

١ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ٤٤.

٢ ـ نفس المصدر : ٥٨.

٣ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ٥٩.

٤ ـ نفس المصدر : ٥٩.

١٠٣

الملائكة وإبليس ، وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى. (١)

٦ ـ يقول الخطابي : وليس اليد عندنا الجارحة ، وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف ، فنحن نطلقهاعلى ما جاء ولا نكيّفها. (٢)

٧ ـ يقول الإلكائي : إنّ وكيعاً قال : إذا سُئلتم عن ضحك ربّنا فقولوا سمعنا بها.(٣)

هذه العبارة ونظائرها تصبغ صفات الله بصبغة التعقيد والإبهام ، ولا تهدي الإنسان إلى معرفة. فإنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرون منه فرار المزكوم من المسك. وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لناحتى تتّسم العقيدة بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام. وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خداعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار : إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟

إنّ ما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها

ــــــــــــــــــ

١ ـ مجموعة الفتاوى : ٦/٣٦٢.

٢ ـ فتح الباري : ١٣/٤١٧.

٣ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ٩٧.

١٠٤

على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامهابنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية. فاستعمالها في المعاني ، حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا... فقولهم : « المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي »أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه « البلكفة » أثر ولا عين ، وإنّما هو شيء اخترعته الفاكرة ، للتذرّع به في مقام الردّ على الخصم والنقص عليهم ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.

وقد ذكرنا ما يفيد في المقام عند تحليل عقائد الحنابلة حول الصفات ، فراجع.

ج : التفويض

إنّ هناك نظرية ثالثة حول الصفات الخبرية اختارها جمع من الأشاعرة وهي نظرية التفويض ، وحاصلها الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات التي وصف الله سبحانه نفسه بها إجمالاً ، وتفويض ما يراد منها إليه :

١ ـ يقول الغزالي : وأقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف هو ما يترجمه قوله ـ لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الل هـ ثمّ إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله بأنّه حي قادر ، عالم متكلم مريد ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق ، إلاّ من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل كقدم القرآن وحدوثه ، ونفي الاستواء والنزول وغيره. (١)

٢ ـ قال الشهرستاني : اعلَم أنّ جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله

ــــــــــــــــــ

١ ـ علاقة الإثبات : ١٦٢ نقلاً عن الرسالة الواعظية.

١٠٥

تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام... وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤوّلون ذلك ، إلاّ أنّهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية ، ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات ، والسلف يثبتون ، سمّي السلف صفاتية ، والمعتزلة معطّلة ( لتعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الصفات ) ـ إلى أن حكى عن بعض السلف ـ : عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك ، إلاّ أنّا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله سبحانه : (الرّحمن على العرشِ استوى )، ومثل قوله : (لما خَلَقْتُ بيدي )، ومثل قوله : (وَجاءَ رَبُّك) ، إلى غير ذلك ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه. (١)

٣ ـ قال ابن الجوزي في « تلبيس إبليس » : واعلم أنّ عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا ، لأنّهم لا يخالطون الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم. (٢)

٤ ـ ويظهر ذلك من الرازي في أساس التقديس قال : إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها ، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها. (٣)

وهنا كلمات للقائلين بالتفويض يشبه بعضها بعضاً.

إنّ التفويض هو شعار من لا يتعرض للأبحاث الخطيرة ، ولا يقتحم المعارك المدلهمة ، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لاإله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » (٤) ، وعند ذاك يرى

ــــــــــــــــــ

١ ـ الملل والنحل : ١/٩٢ ـ ٩٣.

٢ ـ تلبيس إبليس : ١١٣ ، ط دار العلم.

٣ ـ أساس التقديم : ٢٢٣ كما في علاقة الإثبات : ١٠٢.

٤ ـ صحيح البخاري : ١/٧ ، كتاب الإيمان.

١٠٦

أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي ـ عند الإفراط ـ إلى التشبيه والتجسيم المبغوض ، أو إلى التعقيد واللغز الذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.

هذه حقيقة التفويض ، غير أنّ ابن تيمية شنّ على هذه الطائفة بما ليس في شأنهم وقال : إنّ هؤلاء المبتدعة هم الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف ؛ من حيث ظنّوا أنّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث ، من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها ، واعتقدوا أنّهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : (وَمِنهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ ) (١). (٢)

وكأنّه تأثّر بما ذكره محيي الدين ابن العربي حيث رد على أهل التفويض وقال : « قالوا نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى ، حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع به ، ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر. وهذا القول بهذا القسم متحكم أيضاً ، فإنّه ردّ على الله بأنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب. وقسم آخر قالوا : نؤمن بهذا اللفظ على حدّ علم الله فيه وعلم رسوله ، فهؤلاء قد قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً لأنّه خاطبنا بما لا نفهم ، والله يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (٣). (٤)

غير أنّا نلفت نظر القارىء إلى أنّ ما عاب به ابن تيمية أهل التفويض مشترك بينهم وبين أهل الإثبات ، فقد عرفت أنّ إثبات الصفات الخبرية مع حفظ التنزيه تجعل الصفات ألفاظاً بلا معان واضحة ، لما سبق من أنّ الكيفية المادية هي المقوّمة لليد والوجه والرجل ، فإثبات مفاهيمها مع سلب كيفياتها أشبه شيء بإثبات شيء في عين سلبه ، فعندئذ تنقلب الآيات البينات الدالّة على

ــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٧٨.

٢ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ٦٠.

٣ ـ إبراهيم : ٤.

٤ ـ الفتوحات المكية : ٤/٩٢٨.

١٠٧

أشرف المعاني وأجلّها ، لدى القوم ، إلى آيات غير مفهومة ولا معقولة.

والعجب أنّ أحد المصرّين على الإثبات بصورة النمط الأشعري يحسبه عقيدة سلفية ، ويقول في كتابه : إنّ صفات الله يجب أن تكون لدى المسلم بديهيات ذهنية تتغلغل في قلبه ، فيتحرر من أي ضغط خارجي ، لما لها من انعكاسات تربوية هامة على النفس البشرية ـ إلى أن قال ـ : إنّ الجهل بالله أمر خطير ، وضرره على المسلمين كبير ، لأنّ ذلك يؤدي إلى أن يكون عرضة للزلاّت ، وأن يكون قلبه مورداً للشبهات ومستقراً للأوهام. (١)

إنّ السمة التي يثبتها الكاتب لصفات الله ، هل هي موجودة في قولهم : إنّ لله يداً لا كالأيدي ، أو وجهاً لا كالوجوه ، أو أنّ هذا لا يزيد في صفاته تعالى إلاّ غموضاً وتعقيداً ، وتصبح العقيدة الإسلامية عند الواصف كالعقائد المتخذة من الكنائس التي يدّعي أصحابها أنّ الإيمان بها واجب ، وإن لم يعلم كنهها ، كما هو قولهم في التثليث ونظائره.

قال حنبل بن إسحاق : سألت أحمد بن حنبل : ألم ترو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا؟ قال أحمد : نؤمن بها ونصدق ولا نرد شيئاً عنها إذا كانت الأسانيد صحاحاً ـ إلى أن قال ـ : قلت : أنزوله بعلمه أو بماذا؟ قال : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد. (٢)

إنّ سؤال ابن إسحاق أوضح دليل على أنّ الإثبات على النمط الذي يتبنّاه أهل الحديث لا يجعل العقيدة الإسلامية واضحة مفهومة ، بل يجعلها مجهولة معقّدة. ولكن يجب الإيمان بها مهما كانت غير مفهومة ولا معقولة ، ولا تَنْسَ ما رمى به ابن تيمية أهل التفويض بأنّهم اعتقدوا أنّهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم ـ إلخ. ولا تنس أيضاً ما شن به ابن العربي على تلك الطائفة بقوله : إنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب ، إنّهم قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً بما لا نفهم.

ــــــــــــــــــ

١ ـ علاقة الإثبات والتفويض : ١٥.

٢ ـ شرح أُصول السنّة للألكائي كما في علاقة الإثبات والتفويض : ٩٨.

١٠٨

إنّ المنهجين يرتضعان من ثدي واحد ، لا فرق بينهما في المعنى واللب ، وإنّما يختلفان في التعبير ، فأهل التفويض يعترفون بجهلهم بمعاني هذه الصفات ، وللتوقي عن التورط في مغبة التشبيه أو التقوّل بغير العلم ، يفوضون معانيها إلى الله.

وأمّا أهل الإثبات ، فلو أنّهم صدقوا في قولهم بلا تشبيه ولا تكييف ، فهم يعترفون بذلك مآلاً ، وإن كانوا يجحدون بها ابتداءً.

وإذا أردت أن تقف على أنّ نظرية الإثبات على النمط الثاني تجعل المعاني السامية والمعارف العليا الواردة في الذكر الحكيم في عداد الألغاز والمبهمات و... ، فانظر إلى ما يذكره عبدالقادر الجيلاني في « الغنية ».

يقول الجيلاني : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنّه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والمماسّة ، كما قالت المجسّمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشاعرة ، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة ؛ لأنّ الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة ، ولا نقل من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق ، وقد روي عن أُمّ سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله سبحانه : (الرّحمن على العَرْشِ استوى ) (١) قالت : الكيف غير معقول والاستواء غيرمجهول ، والإقرار به واجب والجحود كفر.(٢)

فعندئذ نسأل الجيلاني : إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا ذلك مراداً ، فما هو المراد من تلك الآية ، والتي تكررت في الذكر الحكيم سبع مرات؟ وهل فهم الشيخ منها أمراً معقولاً أو أوكل الجميع إلى الله سبحانه؟

وكم للقوم من هذه الكلمات المفروغة في قوالب ، ومآلها إلى الجهل بمفاهيم الآيات ومضامين الذكر الحكيم ، وكأنّه سبحانه لم يخاطبهم بقوله :

ــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٥.

٢ ـ الغنية : ٥٦.

١٠٩

(أَفَلا يَتَدَبّرونَ القُرآنَ) (١).

التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير

إنّ أهل الإثبات بعامّة فروعه يرمون المعتزلة بالتعطيل ، ويصفونهم ب ـ « المعطّلة » لتعطيلهم ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الأوصاف وجلائل النعوت ، غير أنّه يجب إلفات نظرهم إلى أنّ أهل التفويض من أهل الإثبات من المعطلة أيضاً ، لكن بملاك آخر ، وهو تعطيل العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول ، كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتابه هداية وتعليم وإرشاد ، قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلْيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء). (٢)

فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء ، فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه ، وكيف يكون المطلوب نفس الاعتقاد من دون فهم معناه.

إنّ المنع عن التفكّر والتدبّر فيما نزل من الذكر الحكيم ، وما يحكم به العقل السليم محجوج بنص القرآن لا يقبل من أي إنسان ، والاستدلال عليه بقول الشاعر أخذ بنغمة الشاعر ، وترك لنص الباري :

نهاية إقدام العقول محال

وأكثر سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (٣)

والعجب أنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة ، بحجة أنّ مبادئها ومقدّماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ، ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ، ويعد ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٢.

٢ ـ النحل : ٨٩.

٣ ـ منسوب إلى الرازي كما في شرح العقائد الطحاوية : ٢٢٧.

١١٠

يقول : « وقد كان الأنبياء عليهم‌السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتوهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيها حواسّهم ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث آنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً. (١)

إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية التي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة ، وكشف قوانينها وأنظمتها ، دعا إلى التعّقل والتفكّر في كلّ ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : (أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها). (٢)

وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعا إلى التدبّر فيها نظير : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء) (٣) ،( وَلله المَثَلُ الأَعْلى) (٤) ،( لَهُ الأَسماءُ الحُسْنى ) (٥) ،( المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكبّرُ ) (٦) ،( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) (٧) ،( هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ

ــــــــــــــــــ

١ ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ٩٧.

٢ ـ محمد : ٢٤.

٣ ـ الشورى : ١٠.

٤ ـ النحل : ٦٠.

٥ ـ طه : ٨.

٦ ـ الحشر : ٢٣.

٧ ـ البقرة : ١١٥.

١١١

وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَليمٌ ) (١) ،( وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم) (٢) ، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ ) (٣) ،( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ). (٤)

إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يصل إليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرف عليها العلوم الحسية وإن بلغ القمة.

د. التأويل

إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها على الإطلاق في مورد الصفات الخبرية وغيرها بلا دليل وحجّة شرعية ليس بأقل خطراً من الجمود ، لو لم يكن أكثر ، إذ ينتهي ذلك القسم من التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة. (٥)

غير أنّا نخص البحث بتأويل الصفات الخبرية حيث يفسر اليد بالنعمة والقدرة ، والاستواء على العرش بالاستيلاء وإظهار القدرة.

فنقول : إن كان التأويل لأجل أنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصريح ولذا يجب ترك النقل لأجل صريح العقل ، فلا شكّ أنّه مردود ، إذ الكتاب العزيز والسنة الصحيحة منزهان عمّا يخالف صريح العقل. ولا أظن أنّ مسلماً واعياً يتفوّه بذلك. وما ربما ينسب إلى بعض المؤولة من أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أُصول الكفر (٦) ، أو أنّ التمسّك في أُصول العقائد بظواهرالكتاب والسنّة من غير بصيرة هو أصل الضلالة ، فقالوا بالتشبيه

ــــــــــــــــــ

١ ـ الحديد : ٣.

٢ ـ الحجر : ٢١.

٣ ـ الحديد : ٤.

٤ ـ الرعد : ٣٩.

٥ ـ قد أشبعنا الكلام في أقسام التأويل في مقدّمة الجزء الخامس من موسوعتنا القرآنية ـ مفاهيم القرآن ـ : ص ١٢ ـ ١٦.

٦ ـ الصاوي على تفسير الجلالين : ٣/١٠ ، كما في علاقة الإثبات والتفويض : ٦٧.

١١٢

والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى : (الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى) (١) ، فهو من هفوات القلم وزلاّت الفكر ، بل الأخذ بظواهر الكتاب نفس الهداية والإعراض عنه واللجوء إلى غيره سبب الضلالة.

غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكبرى الكلية ( لزوم الأخذ بالكتاب والسنّة الصحيحة ) لا نقاش لمسلم فيها ؛ فيجب على الكلّ اتّباع الذكر الحكيم من دون أي تحوير وتحريف ، ومن دون أي تصرف وتأويل.

إنّما الكلام في الصغرى ـ أي تشخيص الظاهر عن غيره ، وتعيين مرمى الآية ـ مثلاً : هل اليد في قوله سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (٢) ظاهرة في الجارحة المخصوصة ، أو كناية عن الجود والبذل ( بسط اليد ) أوالبخل والتقتير ( غلّ اليد ). وهذا هو الذي يجب بذل الجهد في سبيل معرفته ، بدل السب والشتم ، أو التفسيق والتكفير.

ولو أنّ قادة الطوائف الإسلامية وأصحاب الفكر منهم ، نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة وركّزوا البحث على تشخيص الظاهر عن غيره ، حسب المقاييس الصحيحة ؛ لارتفع جدال الناس ونقاشهم حول الصفات ، الذي دام طوال مئات السنين.

إنّ رؤساء الطوائف الإسلامية في هذه الأعصار ، لو ابتعدوا عن العصبية والحزبيةوالآراء التي ورثوها من أناس غيرمعصومين ، وأحسّوا بضرورة توحيد الكلمة ـ إثر كلمة التوحيد ـ ورصّ الصفوف وتكاتف الجهود ، لارتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

وبما أنّ المعتزلة هم المعنيون بالمؤولة تارة ، وبالمعطلة أُخرى ، نبحث عن هذا الموضوع ( تعيين ما هو الظاهر المتبادر عند الذكي والأعرابي الحافي من الصفات الخبرية ، الواردة في الذكر الحكيم ) في الفصل الذي نخصّصه لبيان

ــــــــــــــــــ

١ ـ شرح أُمّ البراهين : ٨٢ كما في المصدر السابق.

٢ ـ الإسراء : ٢٩.

١١٣

عقائد هذه الطائفة ، عسى أن نتوفق لذلك بإذنه سبحانه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ). (١)

ــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٦٦.

١١٤

(١٠)

أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه

قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ـ إلى أن قال ـ : كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة. (١)

وقد ذكر في « الإبانة » في الباب الثاني : أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة ، كما قال : (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله) (٣). (٤)

وقال في « مقالات الإسلاميين » في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة : وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله ، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله ، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (٥)

ــــــــــــــــــ

١ ـ وفيات الأعيان : ٣/٢٨٥ ؛ فهرست ابن النديم : ٢٥٧.

٢ ـ الصافات : ٩٦.

٣ ـ فاطر : ٣.

٤ ـ الإبانة : ٢٠.

٥ ـ مقالات الإسلاميين : ١/٣٢١.

١١٥

وقد استدلّ الشيخ بالأدلّة العقلية والنقلية فاكتفى من الأوّل بوجهين :

الدليل الأوّل

ما ذكره في « اللمع » وحاصله :

١ ـ الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب ؛ والكفر متصف بالقبح ، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.

٢ ـ إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك ، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه ، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.

٣ ـ كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد ، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.

٤ ـ لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان ، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات ، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما ، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن ، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب ، وهو ليس كذلك ، فينتج : إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر ، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن ، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه. (١)

وباختصار : إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية ؛ والكفر قبيح باطل ؛ ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً ومتعباً ، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب ، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير

ــــــــــــــــــ

١ ـ عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل ، وما ذكرناه في المتن ملخص مراده. راجع اللمع : ٧١ ـ ٧٢.

١١٦

الحقيقة التي يتصورها المؤمن والكافر ، يستكشف أنّ الفاعل الحقيقي للإيمان والكفر ، هو الله سبحانه. إذ لو كان الفاعل هو شخص المؤمن والكافر ، وجب أن يتحقّق الإيمان والكفر على النحو الذي يريدانه ، لا على الحقيقة التي هما عليها من الأوصاف والخصوصيات.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام ، والكفر على خلافه ، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية ، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات ؛ والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته ، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.

ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد ، فالأمر على العكس. فالإيمان نور وضياء للروح ، والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية ، ولا نطيل الكلام بذكرها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ) (١)

ثانياً : لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل ، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء ، فما وقع لم يقصد ، وما قصد لم يقع.

ثالثاً : أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية ، فالأُولى : كالبياض والسواد ، والحرارة والبرودة ، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك ، والثانية : كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء ، لا تحتاج إليه ، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه ، كما أنّه يوجد

ــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٣٠.

١١٧

ذات الصغير لا وصفه ، وإنّما الذهن يقوم بعمل الانتزاع عند المقايسة.

فالجسم الذي هو بقدر ذراع ، أكبر من الجسم الذي على نصفه ، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما ، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين : إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه ، وهكذا في الجسم الصغير ، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة ، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.

وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان ، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر ، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.

وإن شئت قلت : إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً ، وهو ذاته لا شيئين : أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله : « إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن ، مع أنّه في الواقع باطل قبيح ، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما ، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع ».

والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان ، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين ، بالكل عنده شرعيّان.

الدليل الثاني

إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار ، قائم في خلق حركة الاكتساب ، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها ، حدوثها ، فكذلك القصة في حركة الاكتساب ، وإن كان الذي يدلّ على خلقها ، حاجتها إلى مكان وزمان ، فكذلك قصة حركة الاكتساب ، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى ، يجب به القضاء على

١١٨

أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى ، وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار. (١)

وحاصله : إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان ، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس ، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان ، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.

وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين ، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان ، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته ، فيحكم باستنادها إلى الله ، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان ، وتأكيد انتسابها إلى الله.

نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل ، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام ، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.

إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله ، و ( الإيجي ) في مواقفه ، والتفتازاني في شرح مقاصده ، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي... حرّروا المسألة بصورة واضحة ، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.

أوّلاً : بحثوا عن المسألة تحت عنوان « أنّ الله قادر على كلّ المقدورات »

ــــــــــــــــــ

١ ـ اللمع : ٧٤ ـ ٧٥.

١١٩

أو « عموم قدرته لكلّ شيء » وارادوا من « عموم القدرة » (١) أنّ كلّ موجود ، واقع بقدرته ابتداء ، وإن توقف تأثيره في البعض على شرط ، كتوقف إيجاده للعرض على إيجاده لمحله ، لامتناع قيامه بنفسه. (٢)

وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة ، لا القدرة الشأنية ، وإن لم يستعملها ؛ فلو قيل : إنّ قدرته سبحانه عامة ، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.

ثانياً : اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث ، وبين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.

يقول الرازي : إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان ، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع ، وهما بخلاف المقدورية ، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات ، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى ، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض ، افتقر إلى المخصص. (٣)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ، ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه ، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب ، ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه ، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب ، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات ، فكلّ وجود ، مسبب لما فوقه ، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة ، إلى السافلة ، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة ، فلكلّ حادث سبب ، ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه ؛ وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة

ــــــــــــــــــ

١ ـ وقد يراد من « عموم قدرته تعالى » ، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال : بعدم قدرته عليه ، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل.

٢ ـ هامش شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي.

٣ ـ المحصل : ٢٩٨ ؛ شرح المواقف : ٨/٦٠ ؛ شرح المقاصد : ٢/١٣٧.

١٢٠