قصص الأنبياء عليهم السلام - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

قصص الأنبياء عليهم السلام - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة العلامة المجلسي رحمه الله
المطبعة: عمران
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-91180-2-1
ISBN الدورة:
978-600-91180-7-6

الصفحات: ٤٥٤

١
٢

٣
٤

كلمة المكتبة ...

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين

وعلى آله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

أمّا بعد ..

فقد عرفت ـ منذ سنوات ـ أثناء بحثي ومطالعاتي في تراثنا العلمي والحديثي العظيم أنّ المحدّث الكبير والفقيه العظيم الشيخ قطب الدين أبا الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي (المتوفّى ٥٧٣ ه‍) ـ طيّب الله تربته وبرّد مضجعه ـ قد أخذ جلّ أخبار كتابه «قصص الأنبياء عليهم‌السلام» من كتاب «النبوّة» لشيخنا وصدوق طائفتنا أبي جعفر محمّد بن علي بن موسى ابن بابويه القمي (المتوفّى ٣٨١ ه‍) ، والطرق المذكورة للراوندي في كتاب القصص المنتهية إلى الشيخ الصدوق هي طرق الراوندي إلى كتاب النبوّة للشيخ الصدوق.

وهذا الأمر بمكان من الأهميّة بالنسبة إلى المحدّثين لا سيّما الفقهاء منهم ؛ لأنّه يرجع تاريخ جملة من الروايات الواردة في كتاب أحد علمائنا في القرن السادس

٥

الهجري إلى القرن الرابع الهجري في كتاب النبوّة للشيخ الصدوق ، وهو لا يقلّ أهميّة عن بقيّة تراث الشيخ الذي كان من الأصول المعتبرة ولكنّ ما يؤسف له أنّ هذا الكتاب وصل إلينا بنحو الاختصار عن طريق معتبر ومسند عن الراوندي.

وهذا مطلب خطير لابدّ من إثباته ..

هذا ، وقد أخذت على عاتقها مؤسسة الضحى الثقافيّة جمع وترتيب وإعداد كتاب النبوّة للشيخ الصدوق من كتب مختلفة ، وطبعته في سنة ١٤٢٣ ه‍ ـ فجزاهم الله خير الجزاء ـ ، وبعد الاطّلاع عليه وجدنا أنّ جلّ الأخبار المذكورة فيه قد أخذت من كتاب القصص للراوندي ، ولكن فاتتهم أمور على الرغم من جهدهم المشكور ؛ منها :

١ ـ عدم احتواء الكتاب على مقدّمة ضافية ودراسة وافية تشير فيها إلى أنّ روايات كتاب القصص مأخوذة من كتاب النبوّة للصدوق رحمه‌الله.

٢ ـ لم يذكر فيه كثير من الأخبار والروايات الموجودة في كتاب القصص مع أنّها قد نقلت من كتاب النبوّة ؛ وذلك لعدم ابتداء أسانيد بعض الروايات باسم الشيخ الصدوق أو أحد مشايخه ؛ لأنّهم لم يلتفتوا لطريقة تلخيص الأسانيد في كتاب القصص.

فأوجبت علينا الضرورة أن نعمل تحقيقا جديدا لكتاب قصص الراوندي الذي كان الجلّ الأعظم من رواياته وأخباره إنّما هي عن كتاب النبوّة وإظهاره بحلّة جديدة مزيّنة بتقديم واف للمراد وتصحيح وتخريج علميّ يبتني عليه فنّ التحقيق يناسب ذوق العصر ، من أجل أن يقوم تراثنا على قواعد وأسس محكمة وقوية يفهم منها ما عمله علمائنا الماضين ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ.

فأخرجنا الكتاب ضمن أعمالنا في «مكتبة العلّامة المجلسي رحمه‌الله» لإحياء تراث الشيعة والتي منها مصادر «بحار الأنوار» ، ولله الحمد.

٦

نسدي شكرنا أوّلا لفضيلة حجّة الإسلام الشيخ عبد الحليم الحلّي ـ حفظه الله ورعاه ـ لتجشّمه عناء تحقيق الكتاب ، وثانيا لكلّ من ساهم من قريب أو بعيد في سبيل إخراج هذا الكتاب وأخصّ بالذكر منهم الأستاذ الفاضل عبد الرسول الإبراهيمي والأخ العزيز زميلنا الأستاذ الشيخ أحمد علي مجيد الحلّي وأخي الفاضل المجدّ السيّد حسين الموسوي البروجردي ـ جزاهم الله خير الجزاء ـ.

ولا يفوتني أن أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان لسماحة العلّامة آية الله السيّد موسى الشبيري الزنجاني ـ حفظه الله ـ لتفضّله عليّ بنسخته الخاصّة من كتاب القصص مزيّنة بإفاضاته وتعليقاته على الكتاب والتي نفعتنا كثيرا في تحقيق الكتاب وإخراجه إلى النور ، كما لا يفوتني أن أتقدّم بأسمى آيات الشكر إلى سماحة العلّامة أستاذنا المحقّق السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي ـ حفظه الله ـ لجهوده في إرشادنا إلى تهذيب وتشذيب تحقيق الكتاب ، فلله درّه وعليه أجره.

وأخيرا نسأل الله تعالى الكريم أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا يوم نلقاه إنّه سميع مجيب وهو تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

السيّد حسن الموسوي البروجردي ـ عفي عنه ـ

مكتبة العلّامة المجلسي ـ قم المقدّسة

٢٦ ربيع الآخر سنة ١٤٣٠ ه

٧
٨

مقدّمة التّحقيق

الفصل الأوّل :

الأنبياء عليهم‌السلام وقصصهم

٩
١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد وعلى آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين واللعن الدائم على من عاداهم إلى قيام يوم الدين.

أمّا بعد ..

فقد انتهج القرآن الكريم ورسول ربّ العالمين أساليب عديدة في سبيل إيصال صوت الدعوة الإسلاميّة إلى جميع الناس ، وكلّ أسلوب من الأساليب ينجح ويثمر مع طائفة من الناس ، فتراه استعمل أسلوب المحاججة العقليّة مع قوم ، وأظهر الله سبحانه وتعالى له صلوات الله عليه المعاجز أمام قوم آخرين ، وأيّده بالنصر وخذل أعداءه يوم كان المسلمون فئة قليلة ، إلى غير ذلك ممّا يدخل في أساليب التبليغ والإقناع.

ومن جملة أساليب الدعوة إلى العقيدة الحقّة استعمال أسلوب نقل قصص الماضين وإخبار الناس بما جرى على الأنبياء السابقين مع أممهم ، وماذا جرى على تلك الأمم تلقاء عصيانهم دعوة ربّهم أو تلقاء استجابتهم لأنبيائهم.

١١

والكتاب الذي بين يديك ينقل لك قصص الأنبياء عليهم‌السلام من لدن نبي الله آدم عليه‌السلام إلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبيّن لك ما أمتاز به نبيّ عن نبيّ وما امتازت به أمّة عن أمّة رغم أنّ طريق الأنبياء واحد وهدفهم واحد.

ولكي تكون الفائدة أتمّ والغنيمة أحسن لا بأس بتقديم أمور تسهّل على القارئ الكريم جني ثمار قراءة قصص الماضين والاستفادة منها في المسيرة الفرديّة والاجتماعيّة.

الأمر الأوّل : تعريف القصص

القصص في اللغة اقتفاء الأثر ، وقصّ الشيء قصّا أتبعه ، وسمّي الخبر الطويل قصصا لأنّ بعضه يتبع بعضا حتّى يطول ، وإذا استطال السامع الحديث قال : هذا قصص (١).

وقال الراغب في المفردات : القصّ تتبع الأثر يقال : قصصت أثره ، والقصص الأثر قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(٢) (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)(٣) .. إلى أن قال : والقصص الأخبار المتتبّعة قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ)(٤) (فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)(٥) (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ)(٦) (نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)(٧) انتهى (٨).

__________________

(١) الفروق اللغويّة للعسكري ٢٩.

(٢) الكهف : ٦٤.

(٣) القصص : ١١.

(٤) آل عمران : ٦٢.

(٥) يوسف : ١١١.

(٦) القصص : ٢٥.

(٧) يوسف : ٣.

(٨) مفردات الراغب الإصفهاني : ٦٧١.

١٢

فالقصص هو القصّة وأحسن القصص أحسن القصّة والحديث ، وربّما قيل : إنّه مصدر بمعنى الاقتصاص. فإن كان اسم مصدر فقصّة يوسف عليه‌السلام أحسن قصّة لأنّها تصف إخلاص التوحيد في العبوديّة ، وتمثّل ولاية الله سبحانه لعبده وإنّه يربّيه بسلوكه في صراط الحبّ ورفعه من حضيض الذلّة إلى أوج العزّة ، وأخذه من غيابة جبّ الإسارة ومربط الرقيّة وسجن النكال والنقمة إلى عرش العزّة وسرير الملك.

وإن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصّته بالطريق الذي اقتصّ سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنّه اقتصاص لقصّة الحبّ والغرام بأعفّ ما يكون وأستر ما يمكن (١).

الأمر الثاني : قصص الأنبياء عند العرب

المعروف والمشهور أنّ أحبار اليهود ورهبان النصارى كان عندهم شيء يسير من قصص وأخبار الأنبياء السابقين ، غاية الأمر أنّ تلك القصص كانت محرّفة غير مطابقة للواقع ، بل في بعض الأحيان عندهم قصص لا تلائم ولا تناسب شأن الأنبياء عليهم‌السلام.

والسؤال الحالي : هل كان عند عرب الجزيرة شيء من أخبار الأنبياء أم لا؟

المراجع لقصّة نبي الله نوح عليه‌السلام في القرآن الكريم يرى أنّ عرب ذلك الزمان لم يكن عندهم علم بتلك الأحداث كما حكاها ووصفها القرآن الكريم.

قال الله تعالى في ذيل القصّة : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا)(٢) والآية الكريمة صريحة في عدم وجود علم مفصّل حول قضيّة نبيّ الله نوح عليه‌السلام وسفينته كما بيّنها القرآن الكريم عند قوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الميزان ١١ : ٧٥.

(٢) هود : ٤٩.

١٣

وهم العرب أو قريش ، وأمّا شخص النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله فواضح بأنّ جميع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله تبارك وتعالى كما يشير إلى ذلك نفس الآية المذكورة والآيات التالية. ولو كانت العرب عندها شيء من هذا الخبر لبان ولنقل إلينا ولما تحدّث القرآن بهذا الأسلوب.

وكذلك من يراجع قصّة نبي الله يوسف عليه‌السلام وإخوته يرى انّ الله تعالى يقول في آخرها : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١) فما سمعته يا رسول الله خبر من أخبار الغيب لا طريق لمعرفتك به إلّا الوحي المقدّس ، وهذا معناه أنّ ناس ذلك الزمان والقدر المتيقّن قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم العرب القاطنون في أرض الجزيرة أو قريش لم يكن عندهم علم بهذه المسألة.

وقصّة السيّدة مريم عليها‌السلام أيضا من أنباء الغيب الموحاة إلى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لهم سبيل للإحاطة بها من غير طريق الغيب. قال الله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)(٢).

نعم يمكن القول بوجود نتف من قصص الأنبياء الماضين وصلت إليهم عن طريق بعض الأحبار والرهبان القاطنين حول جزيرة العرب ولكن لم تكن بذلك الوضوح القرآني.

الأمر الثالث : الأمر بقراءة قصص الأنبياء

المراجع لنصوص الشريعة المقدّسة في القرآن الكريم وكلمات رسول ربّ العالمين يرى أنّ من جملة ما حثّونا عليه أن نطالع قصص التاريخ وأن نتدبّر فيها

__________________

(١) يوسف : ١٠٢.

(٢) آل عمران : ٤٤.

١٤

ونستلهم منها عبرا ودروسا بل إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور بأن يحكي لقومه قضايا الماضين عسى أن يتفكّروا ويتدبّروا ويأخذوا العبر ؛ قال الله تعالى : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١).

وهناك جملات من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام تبيّن ماذا يحصل الإنسان فيما لو كان عنده اطّلاع على قصص الأنبياء وما جرى عليهم صلوات الله عليهم.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدنيا حالا. اتّخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة وقهر الغلبة.

لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا إلى دفاع ، حتّى إذا رأى الله جدّ الصبر منهم على الأذى في محبّته ، والاحتمال للمكروه من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجا ، فأبدلهم العزّ مكان الذلّ ، والأمن مكان الخوف فصاروا ملوكا حكّاما ، وأئمّة أعلاما ، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء (٢) مجتمعة والأهواء متّفقة ، والقلوب معتدلة ، والأيدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين ، وملوكا على رقاب العالمين.

فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتّتت الألفة واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحازبين قد

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

(٢) الأملاء : جمع ملأ بمعنى الجماعة والقوم ، والأيدي المترادفة أي المتعاونة (شرح نهج البلاغة ١٣ : ١٧١).

١٥

خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته. وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين.

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم‌السلام. فما أشدّ اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال.

تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم وتفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم ، يحتازونهم عن ريف الآفاق (١) ، وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش.

فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر ، أذلّ الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها. فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرّقة في بلاء أزلّ ، وإطباق جهل! من بنات موؤودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة» (٢).

وقال عليه‌السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه‌السلام : «أحي قلبك بالموعظة .. إلى أن قال : وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وممّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا ... ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : أي بنيّ ، إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم ، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره (٣).

__________________

(١) أي يبعدونهم عنه ، والريف الأرض ذات الخصب والزرع والجمع أرياف (شرح نهج البلاغة ١٣ : ١٧٣).

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٥١.

(٣) نهج البلاغة ٣ : ٤١.

١٦

قال القاضي الأرجاني أحمد بن محمّد المتوفّى ٤٥٥ هجريّة.

إذا علم الإنسان أخبار ما مضى

توهّمته قد عاش من أوّل الدهر

وتحسبه قد عاش آخر عمره

إذا كان قد أبقى الجميل من الذكر

فقد عاش كل الدهر من كان عالما

حليما كريما فاغتنم أطول العمر (١)

ففوائد قراءة التاريخ كثيرة : فكرة ، وتنبيه ، وعبرة ، لا سيّما إذا كان مرتبطا بحياة الأولياء الصالحين ، وأحوال الأصفياء المقرّبين ، فإنّ المعرفة بأحوالهم رفعة وزين ، والجهل بحياتهم وصمة وشين ، والعلم بأقوالهم الرزينة وأفعالهم الوزينة جم المصالح والمراشد ، والجهل بها من جوالب المناقص والمفاسد.

الأمر الرابع : التأمّل والحذر

المراجع لكتب الحديث والتفسير يرى ركاما هائلا من الأخبار الناقلة لقصص الأنبياء عليهم‌السلام وللأمم السابقة ، وهذا الكمّ الغفير فيه الغث والسمين والمعقول وغير المعقول ، ويمكننا أن نتعامل معه معاملة أوّليّة بأن نقول : كلّ ما كان متّصلا بالسند المعتبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد ذريّته الطاهرين فنقبله ثمّ بعد ذلك نلاحظ أنّ هذا المذكور يتلائم مع روح القرآن ومع شأن الأنبياء والنبوّة أم لا ، وأمّا ما لم يكن مسندا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عن واحد من ذريّته الطاهرين عليهم‌السلام فمنظور فيه.

فإنّه من الجدير بالذكر أنّه قد فتحت باب الأحاديث الإسرائيليّة على مصراعيها لمثل تميم الداري الراهب النصراني وكعب أحبار اليهود وكانا قد أظهرا الإسلام بعد انتشار الدعوة ، وتقرّبا إلى الخلفاء بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ففسح لهما ولأمثالهما المجال أن يبثّوا الأحاديث الإسرائيليّة بين المسلمين كما يشاؤون ، وقد خصّص عمر بن الخطاب للأوّل ساعة في كلّ أسبوع يتحدّث فيها قبل صلاة الجمعة

__________________

(١) الوافي بالوفيات ١ : ٢٧.

١٧

بمسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجعلها عثمان على عهده ساعتين في يومين.

أمّا كعب أحبار اليهود فكان عمر وعثمان ومعاوية يسألونه عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد ، وتفسير القرآن ، إلى غير ذلك.

وروى عنهما صحابة أمثال أنس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطّاب وعبد الله بن الزبير ومعاوية ونظراؤهم من الصحابة والتابعين. ولم يقتصر نقل الإسرائيليات بهذين العالمين من علماء أهل الكتاب وتلاميذهما فحسب ، بل قام به ثلّة معهما ومن بعدهما كذلك وامتدّ حتّى عهد الخلافة العبّاسيّة ما عدا فترة حكم الإمام علي عليه‌السلام الذي طردهم من مساجد المسلمين ، وسمّي هؤلاء بالقصّاصين.

ومن ثمّ دخلت الثقافة الإسرائيليّة في الإسلام وصبغته في جانب منه بلونها وانتشر الاعتقاد بأنّ الله جسم ، وأنّ الأنبياء تصدر منهم المعاصي ، والنظرة إلى المبدأ والمعاد إلى غيرها من أفكار إسرائيليّة ، وعظم نفوذ هؤلاء على العهد الأموي وخاصّة في سلطان معاوية ، حيث اتّخذ بطانة من النصارى أمثال كاتبه سرجون ، وطبيبه ابن أثال ، وشاعره الأخطل من نصارى عصره ، ومن المعلوم أنّ هؤلاء عندما شكلوا البلاط الأموي لم يتركوا أفكارهم المسيحيّة وأعرافهم خلفهم ، بل حملوها معهم إلى بلاط الخلافة الأمويّة (١).

ولابدّ لمن يريد دراسة تاريخ الأنبياء من أن يقرأ قصصهم بحذر ووعي وبدقّة وتأمّل ، حتّى لا يقع في فخ التضليل والتجهيل ، فلابدّ له من أن يفتح عينيه وقلبه على كلّ كلمة تمرّ به ويحاول قدر المستطاع أن يستنطقها ، ويستخلص منها ما ينسجم مع الواقع الذي تؤيّده الدلائل والشواهد المتضافرة ، ويرفض أو يتوقّف في كلّ ما تلاعبت به الأهواء ، وأثرت عليه الميول والعصبيّات.

__________________

(١) معالم المدرستين ٢ : ٤٨.

١٨

فإنّ جملة منها لا تعدو أن تكون أوهاما وخيالات ، ابتدعتها المحدّثون المغرضون والقصاصون الأفاكون ، وأصحاب الأهواء والمتزلفون.

ولا يمكن دراسة تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام واستخلاص النتائج والدروس والعبر منه ما لم يتمّ الاعتماد على منهج علمي دقيق يفضي إلى النتائج الصحيحة والمتوخاة من البحث.

ومن أبرز خصائص هذا المنهج النظر إلى وقائع التاريخ وأحداثه كموضوعات خارجيّة يتمّ التثبّت من صدقها أو عدمه من خلال البحث العلمي الصارم ، والنظر المجرّد من الأهواء والميول والمشاعر ، وهو نفس المنهج الذي اتّبعه القرآن الكريم وربّى المؤمنين على الالتزام به وتطبيقه فنراه يدعو المؤمنين في آيات كثيرة إلى التفكّر في الوجود ، والنظر في الكون ، والتمعّن في الأحداث الجارية واستخلاص العبر والدروس الصحيحة منها ، كما نراه يذمّ التقليد في العقائد والأفكار ويهاجم الرضوخ للأهواء.

الأمر الخامس : ثمرات قراءة القصص

قد ذكرنا أنّه قد سلك القرآن الحكيم ورسولنا الكريم وأهل بيته الكرام سبلا عديدة من أجل إيصال المبادئ الحقّة إلى الناس ، وقد كان نقل قصص الماضين والتحدّث عن أحوالهم ونقل أخبارهم وماذا جرى عليهم واحدا من أساليبه في إيصال صوت العدالة الإنسانيّة وإبلاغ الرسالة الدينيّة إلى كافّة شعوب الناس ، فلم يكن غرض القرآن الكريم ونبيّنا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاده الطاهرين عليهم‌السلام صرف نقل القصّة بل لتلك الحكاية ثمرات.

والمتأمّل في آيات الذكر الحكيم وفي كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلمات أولاده المعصومين عليهم‌السلام يجني ثمرات عديدة من خلال مطالعته لقصص أنبياء الله تعالى

١٩

وما لاقوه من أممهم ؛ ولنذكر هنا أهمّها :

الثمرة الأولى : من ثمرات نقل قصص الأنبياء السابقين إثبات رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما ينزل عليه حقّ وصدق جاء به جبرئيل عليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ عرب ذاك الزمان يعرفون أنّ النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يقرأ ويكتب ولم يعرف عنه أنّه كان مجالسا لأحبار اليهود ورهبان النصارى ، فلم يكن آخذا علمه عن واحد من البشر ؛ وعليه فنقل القصّة لأهل ذلك الزمان وإخبارهم بأحوال الأنبياء السابقين وأممهم يبيّن لهم أنّ ما جاء به صلوات الله عليه من أخبار غيبيّة لم يكن له طريق غير الوحي المقدّس.

ويؤكّد ذلك قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(١).

الثمرة الثانية : بيان وحدة خطّ الأنبياء عليهم‌السلام فإنّ الخطّ السماوي خطّ واحد يشترك فيه جميع الأنبياء من آدم عليه‌السلام إلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والغرض الأساسي الذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عين الغرض الذي جاء به نبيّ الله عيسى وموسى وغيرهم ، وهو التوجّه إلى عبادة ربّ العالمين ونفي الأنداد والأضداد عنه.

فالصلة محكمة بين شريعتنا المقدّسة وبين شرائع الله سبحانه وتعالى المتقدّمة ، وأنّ الدين الإسلامي الحنيف امتداد لتلك الأديان مع اختصاصه بصفة الخاتميّة لأديان السماء ، بل ديننا الإسلامي مهيمن على ما سبق من الشرائع.

قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(٢) وهذه الهيمنة تبيّن للناس أنّ اللازم عليهم اتّباع الدين اللاحق وأنّه ناسخ لكلّ ما سبق ، بل إنّ النصراني الحقّ واليهودي الحقّ من كان مستمعا لأوامر السيّد

__________________

(١) يوسف : ٢ ـ ٣.

(٢) المائدة : ٤٨.

٢٠