البرهان على عدم تحريف القرآن

السيد مرتضى الرضوي

البرهان على عدم تحريف القرآن

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ومن المعلوم أنّ هذا الغلوّ في تقديس الصحابة الّذي لا يختلف عن العصمة في شيء ، ويتسّع للمنافقين منهم وحتّى للمشركين ممّن أرغموا على التظاهر بالإسلام كأبي سفيان ، وولده معاوية ، والمروانيّين وغيرهم ممّن كانوا يكيدون للإسلام ويعملون لإحياء مظاهر الجاهلية التي حاربوا من أجلها نحوا من عشرين عاما أو تزيد.

هذا الغلوّ في تقديس الصحابة قد تحوّل في الفترة التي ظهرت فيها المذاهب الفقهيّة لمحاربة التشيع لأئمة أهل البيت في فقههم ، وأصولهم وجميع تعاليمهم التي تجسد الإسلام في جميع مراحله وفصوله كما ورثوه عن جدّهم أمير المؤمنين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي سماه باب مدينة العلم في حديث رواه محدّثوا السّنة في صحاحهم جاء فيه أنّه قال :

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها ألا ومن أراد المدينة فليأت الباب».

وكان الأئمة عليهم‌السلام يقولون :

«إنّا إذا حدّثنا لا نحدّث إلّا بما يوافق كتاب الله ، وكلّ حديث ينسب إلينا لا يوافق كتاب الله ، فاطرحوه» ، كما كان الإمام الصادق يقول :

«حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله».

لم يكتف الحاكمون ، وأئمة المذاهب الذين كانوا يسيرون في ركابهم ويباركون جميع تصرّفاتهم بثوب العدالة الذي ألبسوه حتى لمنافقي الصحابة ومشركيهم حتى جعلوا لأقوالهم ، واجتهاداتهم ، نفس القداسة التي جعلها الله لأقوال رسوله وأحاديثه لا لشيء إلّا لأنّ الشيعة يقدّسون أقوال الأئمة من حيث إنّها تجسد أقوال الرسول ، وما جاء به من

٨١

عند الله ، ويقفون عندها كما يقفون عند المرويات الصحيحة عن الرسول ، وإذا لم يجد أهل السنة للصحابة قولا ، أو رأيا فيما يعرض لهم من الحوادث يرجعون إلى القياس ، والاستحسان ، والاستصلاح ، والمصالح المرسلة ، وقد أنهى الأستاذ عبد الوهاب الخلاف في كتابه : مصادر التشريع وأدلّة الأحكام عند فقهاء السنة الأوائل ، إلى تسعة عشر دليلا وعدّ منها بالإضافة إلى ما ذكرناه الأخذ بالأخف ، وسد الذرائع ، والعوائد وغير ذلك ممّا لم يرد في كتاب ، أو سنة ، ولا يعتمد على غير الاجتهاد المبني على الحدس ، والظن ، اللّذين لا يغنيان عن الحق شيئا ، ولم يرجعوا إلى الإمامين : الباقر ، والصادق اللّذين أسّسا مدرسة الفقه ، والفلسفة ، واجتمع إليها أكثر من أربعة آلاف طالب من مختلف الأقطار ، وكان التشريع الإسلامي من أبرز ما أنتجته تلك الجامعة التي غلب عليها الطابع الروحي ولم يستطع الحكام أن يتدخلوا في شيء من شؤونها ، وأنهم لم ينقلوا مرويّات الشيعة عن الرّسول وغيره ، ويشترطون في الراوي أن لا يكون شيعيا ، وعند أكثرهم يشترط فيه بالإضافة إلى ذلك أن لا يكون متّهما بالتشيّع ، لأنّ التشيّع والوثاقة لا يجتمعان!!

ولمّا وثق يحيى بن معين سعيدا بن خالد البجلي ، قيل له إنّ سعيدا يدين بالتشيّع فقال عند ذلك : وشيعيّ ثقة! مستغربا أن تجتمع هاتان الصفتان في واحد من البشر ، ولم يستغرب عدالة معاوية ، والحكم طريد رسول الله ، وأبناء الأوزاغ ، وسمرة بن جندب ، وأمثاله من المنافقين ، والمشركين لأنّهم من الصحابة ، والصحابة كالنّجوم بأيّهم اقتدى الإنسان يهتدي كما نسب الوضّاعون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا.

في حين أنّ الشيعة يأخذون برواية الراوي إذا كان ثقة ، ومستقيما في دينه مهما كان مذهبه ، ولا يشترطون في الراوي أكثر من ذلك كما

٨٢

تؤكد ذلك مجاميعهم التي وضعوها في أحوال الرواية ، والرواة (١).

من غرائب كتاب مسلم!

وقال المرحوم الشيخ محمود أبو ريه طاب ثراه تحت هذا العنوان :

لكي يدرأوا التهم عن بعض الصحابة الذين فتنتهم الدنيا أوردوا حديثا يقول :

«أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».

وهذا الحديث لا أصل له ، ولهذا الحديث قصة جرت بيني وبين الناصبي (٢) محب الدين الخطيب فإنّه عند ما ظهر كتابي : «الأضواء» واطلع فيه على فصل عدالة الصحابة قابلني غاضبا وقال :

كيف تذكر ذلك بعد أن قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصحابي كالنجوم ـ الحديث».

فقلت له : إنّك قد أوردت هذا الحديث في تعليقاتك على كتاب «المنتقى» للذهبي ص ٧١ على أنّه صحيح وقد طعنوا فيه ومن كبار الطاعنين ابن تيميّة فاشتدّ غضبه وقال :

في أيّ موضع هذا الطعن؟ فقلت له : في نفس كتابك «المنتقى»! فكاد يتميّز من الغيظ وقال :

في أيّ صفحة ، قلت له : في صفحة ٥٥١ وفيها يقول ابن تيميّه :

__________________

(١) الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ ص ١٤١ ـ ١٥٠ ط بيروت.

(٢) النواصب قوم يتديّنون ببغضة عليّ عليه‌السلام. لسان العرب (مادة نصب) (الناصب وهو الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت أو لمواليهم لأجل متابعتهم لهم ، وفي القاموس : النواصب ، والناصبة ، وأهل النّصب المتديّنون ببغض علي (ع) لأنّهم نصبوا له ، أي : عادوه) مجمع البحرين ومطلع النيّرين للطريحي ٢ / ١٧٣.

٨٣

«وحديث أصحابي كالنجوم» ضعّفه أئمة الحديث فلا حجة فيه».

وما كاد يقرأ هذا الكلام الّذي أثبته هو بنفسه في كتاب حقّقه ونشره بين الناس ، حتّى بهت واصفر وجهه. وقد قلت له قبل أن أغادر مجلسه :

إنّ كتاب «المنتقى» هذا سيسجّل عليك هذا الجهل ، وهذه الوصمة إلى يوم القيامة!!

وبمناسبة التشيع لمعاوية ، والتقرب إليه برواية أحاديث مكذوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ترفع من شأنه ، نسوق إليك حديثا رواه مسلم في صحيحه!! معناه :

إنّ أبا سفيان بن حرب طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوجه ابنته أم حبيبة ، وأن يجعل معاوية كاتبا بين يديه إلخ الحديث ، وقد ذكر أئمة الحديث :

أن هذا الحديث باطل بالإجماع لأنّ أبا سفيان قد دخل في الإسلام يوم فتح مكة بالإجماع.

أمّا ابنته أم حبيبة واسمها : رملة ، قد أسلمت قبل الهجرة ، وحسن إسلامها ، وكانت ممّن هاجر إلى الحبشة هربا من أبيها ، وقد تزوّجها رسول الله وأبوها كافر ، ولمّا بلغه هذا الزواج قال كلمته المشهورة :

«ذلك الفحل لا يجدع أنفه» ص ١٦ من تفسير سورة الإخلاص لشيخ الحنابلة ابن تيميّة ، والذي يلقّب عند الجمهور بشيخ الإسلام (١).

__________________

(١) شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ص ٢٠٠ الطبعة الثالثة لدار المعارف بمصر عام ١٩٦٩ م.

٨٤

موالاة الشيعة للصحابة

والشيعة يوالون أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة الدين ، وجاهدوا بأنفسهم ، وأموالهم.

وإن الدعاء الذي تردده الشيعة لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهو دليل قاطع على حسن الولاء ، وإخلاص المودة.

نعم : إنّ الشيعة ليدعون الله لأتباع الرّسل عامة ، ولأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة بما ورثوه من أئمتهم الطاهرين.

ومن أشهر الأدعية هو : دعاء زين العابدين عليه‌السلام في صحيفته المعروفة بزبور آل محمد الّذي يقول فيه :

«اللهم وأتباع الرّسل ومصدّقوهم من أهل الأرض بالغيب عند معارضة المعاندين لهم بالتكذيب ، والأشتياق إلى المرسلين ، بحقايق الإيمان في كلّ دهر وزمان ، أرسلت فيه رسولا ، وأقمت لأهله دليلا ، من لدن آدم إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أئمة الهدى ، وقادة أهل التقى على جميعهم السلام.

وأصحاب محمّد خاصة ، الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له ، حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج ، والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء ، والأبناء في تثبيت نبوّته ، والذين هجّرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته.

اللهم ما تركوا لك ، وفيك ، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك وكانوا من ذلك لك واليك ، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ...».

٨٥

هؤلاء هم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين تعظّمهم شيعة آل محمد (ص) ويدينون بموالاتهم ، ويأخذون تعاليم الإسلام فيما صحّ وروده عنهم.

ولكن التلاعب السياسي ، واحتدام النزاع بين الطوائف خلق كثيرا من المشاكل في عصور قامت بها فئات لإثارة الفتن حبّا للسيطرة ، وطمعا في النفوذ من باب فرّق تسد.

***

وصفوة القول إن عصور التلاعب بالمبادىء ، والتطاحن حول بغية ذوي الأطماع قد ولت ، ونحن في عصرنا الحاضر عصر انطلاق الفكر من عقاله والتقدّم ، والرقي.

أيصحّ لنا أن نستمرّ على ضرب وتر العصبيّة ، ونطرب لنغمات النزعة الطائفيّة ، ونكرع بكأس الشذوذ عن الواقع ، ونهمل ما يجب علينا من مكافحة خصوم الإسلام ، وأعدائه ، فقد وجّهوا إلينا سيلا جارفا من الآراء الهدّامة ، والمبادىء الفاسدة.

أليس من الذوق السليم الترفع عن التعبير بتلك العبارات التي اتّخذها ضعفاء العقول ، وأهل الجمود الفكري عند ما يكتبون عن الشيعة فينبزونهم بكلّ عظيمة.

أليس من الحق أن يتبيّنوا من صحة ما يقولون؟.

وإنّ اتهام الشيعة بسبّ الصحابة ، وتكفيرهم أجمع إنّما هو اتهام بالباطل ، ورجم بالغيب ، وخضوع للعصبيّة ، وتسليم لنزعة الطائفية ، وجري وراء الأوهام ، والأباطيل (١).

__________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ٦٠١ ـ ٦٠٢.

٨٦

من هو الصحابي؟

علينا قبل أن نتكلّم عن عدالة الصحابة : أن نبيّن من هو الصحابي كما عرفوه ، وأوفى تعريف له عند الجمهور ما ذكره البخاري :

قال البخاري في كتابه (١) :

«من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو رآه من المسلمين فهو صحابي!» (٢).

وقد شرح ابن حجر العسقلاني تعريف البخاري بقوله :

يعني أنّ اسم صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق على اسم صحبة لغة ، وإن كان العرف يخصّ ذلك ببعض الملازمة ، ويطلق أيضا على من رآه ولو على بعد.

وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح ، إلّا أنّه : هل يشترط في الرائي بحيث يميّز ما رآه! ، أو يكتفى بمجرّد حصول الرؤية ـ محل نظر ـ.

وعمل من صنّف في الصحابة يدل على الثاني ، فإنّهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق ، وإنّما ولد قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر وأيام كما ثبت في الصحيح أنّ أمّه اسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكّة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة (٢٠ ه‍).

وقال علي بن المديني : من صحب النبيّ أو رآه ساعة من نهار فهو

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢.

(٢) قال العلامة المقبلي يرد على الذين أثبتوا الصحبة لكلّ من رأى النبي : إنّهم يصطلحون على شيء في متأخر الأزمان ، ثم يفسّرون الكتاب والسنة باصطلاحهم المجرد ، والصحبة ليس فيها لسان شرعي إنّما هي بحسب اللغة ، وكذلك سائر الألفاظ التي وردت فيها فضائل الصحابة لكن المحدثين اصطلحوا وقضوا بغير دليل على أنّ الصحبة لكلّ من رآه النبيّ ـ أو رأى هو النبي ـ ولو طفلا! بشرط أن يكون محكوما بإسلامه ، ويشترط أن يموت ولا يرتد ..

٨٧

من أصحاب النبي. وكأنّهم أيّدوا تعريفهم هذا بما رووه عن النبي من أنّه قال :

«يغزو قوم فيقال :

هل فيكم من رأى رسول الله فيفتح لهم!».

وقال (١) في مقدمة «كتاب الإصابة في تمييز الصحابة» :

أصحّ ما وقفت عليه من ذلك أنّ الصحابي ـ من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنا به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيمن لقيه ، ومن طالت مجالسته له أو قصرت.

ومن روى عنه ، أو لم يرو ، ومن غزا معه ، أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى ...» (٢).

أوجب العلماء ... البحث عن رواة الحديث ، فجرحوا من جرحوا ، وعدّلوا من عدلوا ، وهم على حق في ذلك ، إذ لا يصح أن يؤخذ قول أيّ إنسان مهما كان بغير تمحيص ، وتحقيق ، ونقد ، وعلى أنّهم قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجبا تطبيقه على كلّ راو ، مهما كان قدره ، فإنّهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها ، إذ اعتبروهم جميعا عدولا لا يجوز عليهم نقد ، ولا يتّجه إليهم تجريح ، ومن قولهم في ذلك : «إنّ بساطهم قد طوي».

ومن العجيب أنّهم يقفون هذا الموقف ، على حين أنّ بعض الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضا ، وكفّر بعضهم بعضا.

قال النووي في التقريب : الصحابة كلّهم عدول ، من لابس الفتنة وغيرهم.

__________________

(١) أي ابن حجر.

(٢) ص ٤.

٨٨

وقال الذهبي : في رسالته الّتي ألّفها ـ في الرواة الثقاة (١) :

ولو فتحنا هذا الباب (الجرح والتعديل) على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمة ، فبعض الصحابة كفر بعضهم بعضا ـ بتأويل ما!!!».

والله يرضى عن الكلّ ويغفر لهم ، فما هم بمعصومين ، وما اختلافهم ، ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا.

ثم قال : وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقاة!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ـ ولكنّه غلط نادر لا يضرّ أبدا! إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقلوا ـ العمل وبه ندين الله تعالى.

وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدا ، ولكن لهم غلط ، وأوهام ، فمن ندر غلطه في حديث ما احتمل ، ومن تعدّد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضا ونقل حديثه وعمل به ، على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج بمن هذا نعته ، وكثر تفرده. ومن فحش خطؤه لم يحتج بحديثه.

وأما أصحاب التابعين ـ كمالك ، والأوزاعي ، وهذا الضرب فعلى المراتب المذكورة.

ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب ، أو من كثر غلطه فترك حديثه.

هذا مالك : هو النجم الهادي بين الأمة وما سلم من الكلام فيه! ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك ـ فقد تكلم فيه لعذر وأهين! وكذا :

__________________

(١) من ص ٣ ـ ٢١.

٨٩

الأوزاعي ثقة ، حجّة ، وربّما انفرد ووهم ، وحديثه عن الزهري فيه شيء! وقد قال فيه أحمد بن حنبل رأي ضعيف. وحديث ضعيف ـ وكذا تكلم من لم يفهم في الزهري لكونه خضّب بالسواد ، ولبس لبس الجند ، وخدم هشام بن عبد الملك ـ وهذا باب واسع.

ومحمد بن إدريس الشافعي من سارت الركائب بفضله ، ومعارفه ، وثقته ، وأمانته فهو حافظ متثبت نادر الغلط ، ولكن قال أبو عمر بن عبد البر :

روينا عن محمد بن وضّاح قال : سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال : ليس بثقة.

وكلام ابن معين (١) في الشافعي إنما كان من فلتات اللّسان بالهوى ، والعصبية (٢).

فإن ابن معين كان من الحنفية ، وإن كان محدّثا.

وجعفر بن محمد الصادق ، وثقه أبو حاتم ، والنّسائي إلّا أنّ البخاري لم يحتجّ به (٣).

وسعيد بن أبي عروبة : ثقة ، إمام ساء حفظا بآخرته. وحديثه في الكتب إلّا أنّه قدري ـ قاله أحمد بن حنبل.

والوليد بن مسلم : عالم أهل دمشق ثقة حافظ لكنّه يدلّس عن الضعفاء ، وحديثه في الكتب كلّها. انتهى ما نقلناه من هذه الرسالة باختصار.

__________________

(١) يحيى بن معين من كبار أئمة الجرح والتعديل الذين جعلوا قولهم في الرّجال حجة قاطعة.

(٢) أنظر كيف تفعل العصبيّة.

(٣) وإذا كان البخاري لا يحتج بمثل هذا العلم الشامخ فبمن يحتج؟ وانظر ما فعل البخاري بأئمة أهل البيت الذين تجافى الرواية عنهم.

٩٠

وقال الآمدي في (الأحكام) (١) :

اتّفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة ، وقال قوم إنّ حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية. ومنهم من قال :

«إنّهم لم يزالوا عدولا إلى حين ما وقع الاختلاف ، والفتن فيما بينهم ، وبعد ذلك فلا بدّ من البحث في العدالة عن الراوي ، أو الشاهد منهم ، إذا لم يكن ظاهر العدالة». ومنهم من قال :

«إنّ كل من قاتل عليّا ، عالما منهم ، فهو فاسق ، مردود الرواية ، والشهادة على الإمام الحق».

ومنهم من قال : برد رواية الكل وشهادتهم لأنّ أحد الفريقين فاسق ، وهو غير معلوم ولا معين أ ه (٢).

وقال الغزالي في (المستصفى) :

وزعم قوم أنّ حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث ..

وقال قوم : حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ، ثم تغيّرت الحال ، وسفكت الدماء ، فلا بد من البحث.

وممّا يتكىء عليه من يعتقدون عدالة جميع الصحابة قولهم إنّ رسول الله قال :

أصحابي كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، وفي رواية فأيّهم أخذتم

__________________

(١) الأحكام ٢ / ١٢٨.

(٢) قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث قالوا : ومن عجيب شأنهم أنّهم ينسبون الشيخ إلى الكذب ، ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني ، وأشباههما ، ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة ، وقد أكذبه عمر ، وعثمان ، وعائشة ص ١٠ ـ ١١.

٩١

بقوله ... ولكن هذا الحديث باطل لا أصل له (١).

* * *

تعريف الصحابي ونقطة الخلاف

اختلفت الأقوال في حدّ الصحبة ومن هو الصحابي فقيل :

من صحب النبي أو رآه من المسلمين ، فهو من أصحابه.

وإليه ذهب البخاري في صحيحه وسبقه إليه شيخه علي بن المديني وقال :

من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحابه.

وهذا التعريف ينطبق على المرتدين في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، وعلى كلّ راء له ، وإن لم يعقل ، وهذا أمر لا يقرّه العقل ، والوجدان ، فإنّ الردّة محبطة للعمل ، فلا مجال لبقاء سمة الصحبة ، وقد ذهب أبو حنيفة إلى الإحباط ، ونصّ عليه الشافعي في (الأم).

وقال الزين العراقي : الصحابي من لقي النبي مسلما ثم مات على الإسلام.

وقال سعيد بن المسيّب : من قام مع النبيّ سنة كاملة ، أو غزا معه غزوة واحدة.

وهذا القول لم يعملوا به لأنّه يخرج بعض الصحابة الذين لم تطل مدّتهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يغزوا معه.

قال ابن حجر : والعمل على غير هذا القول (٢).

__________________

(١) أضواء على السنة المحمّدية ص ٣٤١ ـ ٣٤٤. ط. دار المعارف بمصر.

(٢) المواهب شرح الزرقاني ٨ / ٢٦.

٩٢

وحكى ابن الحاجب قولا لعمرو بن يحيى أنّه يشترط في الصحابي طول الصحبة ، والأخذ عنه (١).

كما أنّهم جعلوا من الصحابة من لم ير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مسلم له ، أو له رؤية قصيرة.

ومهما تكن الأقوال ، والتعاريف فإنّ هذا الاسم يطلق على كلّ من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه من المسلمين مطلقا ، وهم كلّهم عدول عندهم ، وما صدر منهم يحتمل لهم بحجّة أنّهم مجتهدون.

وهذه هي النقطة الجوهرية التي وقع الاختلاف فيها ، إذ الشيعة لا يذهبون لهذا القول فلا يثبتون العدالة إلّا لمن اتصف بها ، وكانت فيه تلك الملكة ، وأصالة العدالة لكلّ صحابي لا دليل عليه ، ولا يمكن إثباته.

فالشيعة تناقش أعمال ذوي الشذوذ منهم بحريّة فكر ، وتزن كلّ واحد منهم بميزان عمله ، فلا (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ويتبرأون ممّن (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

والشيعة لا يخالفون كتاب الله ، وسنّة رسوله ، وعمل السلف الصّالح في تمييز الصحابة ، ومن هو مصداق هذا الاسم حقيقة.

ومن هذا فتحت على الشيعة باب الاتهامات الكاذبة ، وقد لفّقها خصومهم ، ولو كان هناك صبابة إنصاف ، ومسكة من عقل ، وقليل من تتبّع ، وإعطاء الفكر حريّته ، لما وقعت تلك الملابسات ، وحلّت تلك المشاكل.

ومن الغريب أن تتّهم الشيعة بسبّ الصحابة ، والطعن عليهم

__________________

(١) شرح ألفية العراقي : ٤ / ٣٢.

٩٣

أجمع ، وبذرة التشيّع نشأت في مجتمع الصحابة ، ومنهم أبطال التشيع ، وحاملو دعوته ، وهم الذين عرفوا بالولاء لعليّ عليه‌السلام ، وناصروه في حربه لمن بغى عليه ، وهم خيار الأئمة (١).

***

الأخذ بعدالة جميع الصحابة

وإذا كان الجمهور على أنّ الصحابة كلّهم عدول ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعا معصومين من الخطأ ، والسهو ، والنسيان ، فإنّ هناك كثيرا من المحقّقين لم يأخذوا بهذه العدالة (المطلقة) لجميع الصحابة ، وإنّما قالوا كما قال العلامة المقبلي إنّها (أغلبيّة) لا عامة وإنّه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط ، والسهو ، والنسيان ، بل والهوى ، ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلّا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم ، ممّا يرجع إلى الطبيعة البشرية.

وإنّ سيّدهم الّذي اصطفاه الله صلوات الله عليه «والله أعلم حيث يجعل رسالته» قد قال :

«أنا بشر أصيب وأخطىء».

ويعززون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله عليه من المنافقين ، والكاذبين. وبأنّ كثيرا منهم قد ارتدوا عن دينهم بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى ، بل ما وقع منهم من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث ، والنسل ، ولا تزال آثارها ـ ولمّا تزل ـ إلى اليوم ، وما بعد اليوم ، وكأنّ الرسول صلوات الله عليه قد رأى بعين بصيرته النافذة

__________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ٥٩٩ ـ ٦٠١.

٩٤

ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فقال في حجة الوداع : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي قال :

«إنّكم تحشرون حفاة عراة وإنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال.

فأقول : أصحابي! أصحابي! فيقول إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.

فأقول : كما قال العبد الصالح :

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ)».

وروى مسلم هذا الحديث بلفظ : «ليردن عليّ ناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا من دوني فأقول : أصحابي! فيقول : لا تدري ماذا أحدثوا بعدك».

وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال : «بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم ، خرج رجل من بيني ، وبينهم قال : هلم : قلت أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم» (١).

وفي رواية أخرى أنّ النّبي قال :

«يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلأون عن الحوض ، فأقول :

يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».

__________________

(١) همل النعم : الإبل بلا راع أي لا يخلص منهم من النّار إلّا قليل.

٩٥

وأخرج عن سهل بن سعد قال : قال النّبي : «ليوردن عليّ أقوام أعرفهم ، ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم».

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال :

هكذا سمعت من سهل؟! فقلت نعم.

فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته ـ وهو يزيد فيها ـ فأقول :

إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول :

«سحقا ، سحقا لمن غيّر بعدي!».

وأخرج من حديث عن ابن عباس جاء فيه :

وأنّ أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول :

أصحابي! أصحابي! فيقال :

إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ...» الحديث.

أخرج أبو يعقوب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة ، أنه كان يحدّث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط (١) من أصحابي فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (مسند عمر ص ٨٦ ط بيروت).

وأخرج أبو يعقوب عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليذادن (٢) رجال عن حوض كما يذاد البعير الضّال ، أناديهم

__________________

(١) الرهط : الرجال ما دون العشرة ، وقيل إلى الأربعين عن هامش مسند عمر بن الخطاب ص ٨٦ ط بيروت.

(٢) ليذادن : من الذود وهو الطرد ، لأذودن : لأطردن عن هامش مسند عمر بن الخطاب ص ٨٧ ط بيروت.

٩٦

ألا هلّم ، فيقال : إنّهم قد بدّلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا (١). (مسند عمر ص ٨٧).

وأخرج أبو يعقوب بن شيبة عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ثم ذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره ثم قال :

لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول :

يا رسول الله أغثني ، أقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة يقول : يا رسول الله أغثني أقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت يقول : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغثني ، أقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح يقول : يا رسول الله أغثني. أقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك (٢). (مسند عمر بن الخطاب ص ٨٧ ط بيروت).

وأخرج أبو يعقوب عن ابن أبي مليكة ، عن أسماء ابنة أبي بكر ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنا على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ بأناس دوني فأقول : أي ربّ منّي ومن

__________________

(١) أي بعدا بعدا.

(٢) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغلول وقول الله تعالى (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ).

٩٧

أمتي فيقال : ما شعرت ما عملوا بعدك ، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم. قال : فكان ابن أبي مليكة يقول :

اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا ، وأن نفتتن في ديننا. (مسند عمر ص ٩٢ ط بيروت).

واخرج البخاري أيضا في باب غزوة الحديبية عن العلاء بن المسيب عن أبيه.

قال : لقيت البراء بن عازب فقلت له :

«طوبى لك ، صحبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبايعته تحت الشجرة فقال؟

يا بن أخي : إنك لا تدري ما أحدثنا بعده!».

وأخرج عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم ، ثم ليختلجن دوني ، فأقول :

يا رب أصحابي! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

قال البخاري : تابعه عاصم عن أبي وائل ، وقال حصين عن أبي وائل ، عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إنّي على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ ناس دوني فأقول :

يا رب منّي ، ومن أمّتي؟ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟

والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم».

قال البخاري : فكان ابن مليكة يقول :

«اللهمّ إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا ، ونفتن عن ديننا!».

٩٨

هذا بعض ما نقلناه من البخاري ، ومسلم وفيهما وفي غيرهما كثير أعرضنا عنه خشية التطويل (١).

مسألة الصحابة

وعلى أيّ حال فإنّ فروض المسألة ثلاثة :

الأول : إنّ الصحابة كلّهم عدول أجمعين ، وما صدر منهم يحتمل لهم ، وهم مجتهدون ، وهذا هو رأي الجمهور من السنة.

الثاني : إنّ الصحابة كغيرهم من الرجال وفيهم العدول ، وفيهم الفسّاق ، فهم يوزنون بأعمالهم ، فالمحسن يجازى لإحسانه ، والمسيء يؤخذ بإساءته.

وهذا رأي الشيعة.

الثالث : إنّ جميع الصحابة كفار ـ والعياذ بالله ـ وهذا رأي الخارجين عن الإسلام ولا يقوله إلا كافر ، وليس من الإسلام في شيء.

هذه ثلاثة فروض للمسألة وهنا لا بدّ أن نقف مليّا لنفحص هذه الأقوال :

أمّا القول الثالث فباطل بالإجماع ولم يقل به إلّا أعداء الإسلام ، أو الدخلاء فيه.

وأمّا القول الأوّل وهو أشبه شيء بادعاء العصمة للصحابة ، أو سقوط التكاليف عنهم ، وهذا شيء لا يقرّه الإسلام ، ولا تشمله تعاليمه.

بقي القول الوسط وهو ما تذهب إليه الشيعة ، من اعتبار منازل الصحابة حسب الأعمال ، ودرجة الإيمان.

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ٣٥٣ ـ ٣٥٦ ط. دار المعارف بمصر.

٩٩

إنّ الصحبة شاملة لكلّ من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه ، أو سمع حديثه.

فهي تشمل المؤمن ، والمنافق ، والعادل ، والفاسق ، والبرّ ، والفاجر ، كما يدّل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك عند ما أخبره جبرئيل بما قاله المنافقون :

إنّ محمدا يخبر بأخبار السّماء ولا يعلم الطريق إلى الماء ، فشكا ذلك إلى سعد بن عبادة فقال له سعد : إن شئت ضربت أعناقهم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا».

فالصحبة إذن لم تكن بمجرّدها عاصمة تلبس صاحبها ابراد العدالة ، وإنّما تختلف منازلهم وتتفاوت درجاتهم بالأعمال.

ولنا في كتاب الله ، وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفاية عن التمحل في الاستدلال على ما نقوله ، والآثار شاهدة على ما نذهب إليه ، من شمول الصحبة وأن فيهم العدول من الّذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ورسخت أقدامهم في العقيدة ، وجرى الإيمان في عروقهم ، وأخلصوا لله فكانوا بأعلى درجة من الكمال ، وقد وصفهم الله تعالى بقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(١).

وهم المؤمنون (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا

__________________

(١) سورة الفتح : الآية ٢٩.

١٠٠