البرهان على عدم تحريف القرآن

السيد مرتضى الرضوي

البرهان على عدم تحريف القرآن

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) الآية ، إلى (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).

__________________

(١) مسند الإمام أحمد : ١ / ٢٣٥ طبعة مصر.

٦١
٦٢

ما أحدثه الصحابة بعد الرسول (ص)

قال محمد بن عمر الواقدي :

وكان طلحة بن عبيد الله ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، يقولون :

صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتلى أحد ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أنا على هؤلاء شهيد.

فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أليس إخواننا ؛ أسلموا كما أسلمنا ، وجاهدوا كما جاهدنا؟ قال : بلى ، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا ، ولا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر وقال :

إنّا لكائنون بعدك (١)؟

وأخرج البخاري عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال : لقيت البرّاء ابن عازب (رض) فقلت : طوبى لك ، صحبت النبيّ صلّى الله عليه

__________________

(١) كتاب المغازي : ١ / ٣١٠.

٦٣

وسلم ، وبايعته تحت الشجرة. فقال :

يا بن أخي ، لا تدري ما أحدثنا بعده (١).

وقال العلّامة الشيخ لطف الله الصافي دام ظلّه :

نعم : لو قال : لقد رضي الله عن الذين بايعوك ، تشمل كلّ من بايعه كائنا من كان ، وإن شك في إيمانه ، ولكن لا يجوز التمسك به فيمن شككنا في أصل بيعته ، كما لا يثبت إيمان من شككنا في إيمانه بقوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ.)

وهذا كلام متين في غاية المتانة.

وأيضا هذه الآية لا تدل على حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين. وإن فسق بعضهم ، أو نافق. لأنّها لا تدل على أزيد من أنّ الله تعالى رضي عنهم ببيعتهم هذه ، أي قبل عنهم هذه البيعة ، ويثيبهم عليها ، وهذا مشروط بعدم إحداث المانع من قبلهم.

والحاصل : إن اتصاف الشخص بكونه مرضيّا لا يكون إلّا بعمله المرضيّ ، والعامل لا يتّصف بنفسه بهذه الصفة ، فهذه الصفة تعرض على الشخص بواسطة عمله. فإذا صدر عنه الفعل الحسن ، والعمل المرضي ، يوصف العامل بهذه الصفة أيضا ، ولا دلالة للآية على أنّ من رضي الله عنه بواسطة عمله يكون مرضيّا طول عمره ، وإن صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك ، ورضا الله تعالى عن أهل بيعة الحديبية ليس مستلزما لرضاه عنهم إلى الأبد.

والدليل على ذلك قوله تعالى في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة ، وتعظيمها :

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٤٤ ، باب غزوة الحديبيّة من كتاب المغازي. ط مصر موطأ الإمام مالك : ٢ / ٤٦٢ باب الشهداء في سبيل الله ، الحديث رقم ٣٢. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

٦٤

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ، إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.)

فلو لم يجز أن يكون في المبايعين من ينكث بيعته ، وكان رضا الله عنهم مستلزما لرضاه عنهم إلى الأبد لا فائدة لقوله :

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.)

وأيضا قد دلّت آيات من القرآن ، وأحاديث صحيحة على وقوع غضب الله تعالى ، وسخطه على من يرتكب بعض المعاصي ، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذا مانع من حسن إيمانه في المستقبل ، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الأنفال :

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.)

فإذا لم يكن بوء شخص ، أو قوم إلى غضب الله مانعا من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضا سببا لعدم صدور فسق ، أو كفر من العبد بعد ذلك.

والقول بدلالة الآية على حسن حال المبايعين مطلقا ، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية ، وبين آية الأنفال المذكورة فيمن ولّى دبره عن الجهاد من المبايعين لأنها أيضا تدلّ باطلاقها على سوء حال من يولّي دبره ، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك.

والحديث الأول صريح بأنّ حسن خاتمة مثل : أبى بكر من الصحابة المبايعين المهاجرين موقوف على ما يحدث بعد الرّسول (ص).

هذا مختصر الكلام حول مدلول الآية الكريمة.

٦٥

وعليه : ليس المستفاد منها أن أبا بكر وعمر لم يمحضا الإيمان.

نعم : لا يثبت بها إيمان واحد معين من المبايعين على نحو التفصيل ، فلا يصح التمسك بها في إثبات إيمان صحابي خاص ، وعدم نفاقه ، أو حسن إيمانه إذا شك فيه (١).

لعن الرسول (ص) لبعض الصحابة

قال برهان الدين الحلبي : وفي رواية :

صار صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

اللهم العن فلانا ، وفلانا (٢).

وأخرج البخاري عن يحيى بن عبد الله السّلمي : أخبرنا معمر عن الزهري ، حدثني سالم عن أبيه أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول :

اللهم العن فلانا ، وفلانا ، وفلانا بعد ما يقول :

سمع الله لمن حمده ، ربّنا ولك الحمد ، فأنزل الله :

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(٣).

وقال السيوطي : وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، والبيهقي في (الدلائل) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد :

اللهم العن أبا سفيان.

اللهم العن الحرث بن هشام.

__________________

(١) مع الخطيب في خطوطه العريضة : ص ١٢٠ ، ١٢٢.

(٢) السيرة الحلبية : ٢ / ٢٣٤ طبعة مصر.

(٣) صحيح البخاري مشكول : ٣ / ٢٤ طبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.

٦٦

اللهم العن سهيل بن عمرو.

واللهم العن صفوان بن أميّة. ثم قال السيوطي :

وأخرج الترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر قال :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على أربعة نفر ... وكان يقول في صلاة الفجر :

اللهم العن فلانا وفلانا ... (١).

وأخرج نصر بن مزاحم المنقري عن عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال :

أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«اللهم العن التابع والمتبوع ، اللهم عليك بالأقيعس».

فقال ابن البراء لأبيه :

من الأقيعس (٢)؟ قال معاوية (٣).

وأخرج نصر عن علي بن الأقمر (٤) في آخر حديثه قال :

فنظر رسول الله إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاوية وأخوه ،

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير المأثور : ٢ / ٧١.

(٢) قعس ومنه حديث الأخدود «فتقاعست أن تقع فيها» تقعّس : أي تأخر ومنه حديث الزبرقان «أبغض صبياننا إلينا الأقيعس الذكر» هو تصغير الأقعس. النهاية في غريب الحديث والأثر ٤ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) وقعة صفين ص ٢١٧ تحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام محمد هارون طبع مصر.

(٤) هو علي بن الأقمر بن عمر الهمداني الوادعي. كوفي ثقة. تقريب الرواي (عن هامش الكتاب).

٦٧

أحدهما قائد والآخر سائق ، فلمّا نظر إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«اللهم العن القائد ، والسائق ، والراكب».

قلنا :

أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! قال : نعم ، وإلّا فصمّتا أذناي كما عميتا عيناي (١).

__________________

(١) وقعة صفين ص ٢٢٠ طبعة مصر.

٦٨

كلمة عامة

قال الشيخ أبو رية رحمه‌الله :

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن علماء الجرح والتعديل قد بذلوا جهدا كبيرا في تمحيص ما روي من أحاديث رسول الله ممّا يستحقّون عليه الثناء الطيب ، والتقدير الحق.

بيد أنّهم على فضلهم وتدقيقهم ، لم يبلغوا الغاية من عملهم ، إذ لا تزال كتب الحديث تحمل الكثير من الأحاديث المشكلة ، أو التي يبدو عليها الوضع ، ولم يكن ذلك عن تقصير منهم ـ رحمهم‌الله ـ لأنهم قد بذلوا كل طاقتهم في عملهم ، وإنّما كان ذلك لأمر فوق قدرتهم البشريّة ، ذلك بأن حكمهم على الرجال إنّما كان (لظاهر أحوالهم) وما وصل إلى علمهم من أخبارهم ، أما بواطنهم ، ودخائل نفوسهم ، ومطويّات ضمائرهم ، فهذا أمر من وراء إدراكهم لا يطلع عليه إلّا علام الغيوب ، وربّ رجل حسن السمت ، طيب المظهر ، إذا كشف عن دخيلته تبيّن لك سوء مخبره ، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد ، وقد تكلم فيه العلماء المحققون.

قال مجتهد اليمن الوزير اليماني في (الروض الباسم) : ١ / ١٥١) :

٦٩

إن الإجماع منعقد على الاعتبار بالظاهر دون الباطن ، ومن نجم نفاقه ، وظهر كفره يترك حديثه ومن (ظهر إسلامه) وأمانته ، وصدقه قبل ، وإن كان في الباطن خلاف ما ظهر منه ، فقد عملنا بما وجب علينا ، وبذلنا في طلب الحق جهدنا ، وقد كان رسول الله يعمل بالظاهر ، ويتبرّأ من علم الباطن ، وإلى ذلك الإشارة في هذه الآية بقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي إنه (ص) لم يكن يعلم المنافقين وذلك في الآية (١٠١) من سورة التوبة ونصّها :

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(١).

كلمة قيّمة للدكتور طه حسين

قال العلّامة الشيخ محمود أبو ريّة :

وقال الدكتور طه حسين في كلمة قيّمة (٢) قرّظ فيها كتابنا «الأضواء» وهو يذكر ما بذله رجال الجرح والتعديل :

وقد فطن المحدّثون القدماء لهذا كلّه ، واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح من الحديث وتنقيته عن كذب الكذابين ، وتكليف المتكلفين. وكانت طريقتهم في هذا الاجتهاد إنّما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل حتى تم تدوينه فكانوا يتتبّعون كل واحد من هؤلاء الرجال ، ويتحقّقون من أنّه كان نقيّ السيرة صادق الإيمان بالله ورسوله. شديد الحرص على الصدق في حديثه كله ، وفي

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ٣٣٧ ط ثالثة لدار المعارف بمصر.

(٢) نشرت هذه الكلمة في جريدة الجمهورية المصريّة الصادرة في ٢٥ نوفمبر ١٩٥٨ م.

٧٠

حديثه عن النبي خاصة ، وهو جهد محمود خصب بذله المتقون من علماء الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الإخلاص سبيلا. ولكن هذا الجهد على شدته ، وخصبه لم يكن كافيا ، فمن أعسر الأشياء وأشدّها تعقيدا ، أن تتبع حياة الناس والبحث ، والفحص ، والتنقيب عن دقائقها ، فمن الممكن أن تبحث وتنقب دون أن تصل إلى حقائق الناس ، ودقائق أسرارهم ، وما تضمر قلوبهم في أعماقها ، وما يمعنون في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم ، وفي سيرتهم أيضا.

ولم يكن بد إلى أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر ، وهو درس النّص نفسه. فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد عندهم ، ولكن الله وحده هو الّذي اختصّ بعلم السرائر ، وما تخفيه القلوب ، وتستره الضمائر ، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم. ولكن سرائرهم مدخولة يخفى دخائلها على الناس ، فلا بد إذن من أن نتعمق في نصّ الحديث الذي يرويه عن أمثاله من العدول ، لنرى مقدار موافقته للقرآن الّذي لا يتطرّق إليه الشك ، ولا يبلغه الريب من أيّ جهة من جهاته ، لأنّه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا ، أو جماعات ، وإنّما تناقلته أجيال الأمة الإسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها.

وهذه الأجيال لم تنقله بالذاكرة ، وإنّما تناقلته مكتوبا ، كتب في أيام النبي نفسه ، وجمع في خلافة أبي بكر ، وسجّل في المصاحف ، وأرسل إلى الأقاليم في خلافة عثمان ، فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة ، والرواية المحفوظة في الذاكرة ، وتطابقت كلتا الروايتين دائما ، فلا معنى للشك ، في نص من نصوص القرآن لأنّها وصلت إلينا عن طريق لا يقبل فيها الشك.

٧١

وإنا إذ نسوق ما سقناه من عرض الحقائق على وجهها ، وإظهار وقائع التاريخ بعد تمحيصها ، لا نقصد وايم الله أن ننال أحدا بسوء من عندنا ، وإنّما لنبيّن في غير حرج أمر الصحابة على حقيقته ، وأنّهم أناس من الناس فيهم البّر والآثم ، والصادق وغير الصادق ، وأنّهم كانوا يعيشون في الحياة ويستمتعون بها كما يعيش الناس. ويستمتعون ، وهذا كلّه لا يضرّ الإسلام في شيء وإنّ ضياءه ليشرق من كتابه العظيم على الناس إلى يوم الدين.

وقال العلّامة الكبير السيّد هاشم معروف الحسني تحت عنوان : عدالة الصحابة :

وإلى جانب التصوف ، والإرجاء ، والجبر برز في مطلع العهد الأموي سلاح آخر لعلّ أثره على العقول ، والقلوب ، والأفكار ، ومساندة الحكم الأموي لا يقل عن آثار الأسلحة الثلاثة ، ذلك السلاح هو عدالة الصحابة.

لقد برزت هذه الفكرة في مطلع العهد الأموي بعد أن أكلت الحروب الكثير منهم ومات أكثر الباقين بآجالهم.

وكان من الطبيعي بعد ذلك التاريخ الذي تركه الأمويّون الملوّث بالشرك والجرائم ، والذي كان ماثلا لدى الجميع أن يحاولوا استبدال تلك الصورة الكريهة العالقة في الأذهان عنهم نتيجة لمواقعهم المعادية للإسلام حتى بعد أن دخلوا فيه مكرهين ، كان من الطبيعي أن يحاولوا استبدال تلك الصورة بصورة تتناسب مع مراكزهم التي تسنّموها باسم الإسلام فوضعوا فكرة العدالة لجميع من عاصر الرسول من المسلمين حتى ولو لم يره ، أو يسمع منه شيئا ، وتوسع بعضهم فيها وأثبتها لكل من ولد في عصر الرسول ، وما دام ابو هريرة ، وزملاؤه من الوضاعين في

٧٢

تصرّفهم ، فمن السهل عليهم أن يحصلوا على عشرات الأحاديث التي تدعمها.

وظلّت فكرة العدالة لجميع الصحابة التي تتسع للامويين وعلى رأسهم أبو سفيان والحكم ، طريد رسول الله (ص) ، تسير وتتفاعل حتى أصبحت وكأنّها من الضرورات عند السنة وحكامهم في عصر الصراع العقائدي ، لأنّها تخدم مصالحهم ومبادئهم التي اعتمدوها في سيرة الخلافة ، ومواقفهم المعادية لأهل البيت عليهم‌السلام. ولم يكن الصحابة أنفسهم يتصوّرون بأنّ الغلوّ بهم سينتهي إلى هذه النتيجة ، وتكون لهم تلك الهالة التي استخدمها معاوية لخدمة الجاهلية التي تجسّدت في البيت الأموي ، ذلك البيت الذي ظل يحارب الإسلام منذ أن بزغ فجره وحتى اللحظات الأخيرة من حكمهم.

عدالة الصحابة

وتعني عدالة الصحابة فيما تعنيه ، أنّ كلّ من عاصر الرسول ، أو ولد في عصره لا يجوز عليه الكذب والتزوير ، ولا يجوز تجريحه ، ولو قتل آلاف الأبرياء ، وفعل جميع المنكرات ، وعلى أساس ذلك فجميع الطبقة الأولى من الأمويين كأبي سفيان وأولاده ، وعثمان بن عفان وحاشيته ، وجميع المروانيّين بما فيهم طريد رسول الله الوزغ وأولاده الأوزاغ ، والمغيرة بن شعبة ، وسمرة بن جندب وزياد بن سميّة ، وعمرو ابن العاص ، وولده عبد الله الذي كان في حدود العاشرة من عمره حين وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك فقد نسبوا إليه مجموعة من الأحاديث كتبها على النبي في صحيفة يسمّونها الصادقة ، فجميع هؤلاء الذين هم من أشدّ النّاس عداوة للإسلام ، ولله ورسوله من العدول ، ومرويّاتهم من نوع الصحاح حتّى ولو كانت في تجريح عليّ وأهل البيت

٧٣

وفي التقريظ ، والتقديس لعبد الرحمن بن ملجم.

وكلّ ما رووه وما لفّقوه في فضل الصحابة الأوائل ، وفضل الأمويين ، ومعاوية ، والشام ، وما إلى ذلك من آلاف الرويات التي كانت تنتجها مصانع أبي هريرة من عشرات الرّواة الذين استعملهم معاوية للدّس ، والكذب ، وتشويه الإسلام.

هذه المرويّات يجب قبولها ، ولا يجوز ردّها لأنّ رواتها من العدول ، والعادل لا يتعمد الكذب ، والذين اتبعوا معاوية وسايروه طيلة ثلاثين عاما من حكمه ، هؤلاء كانوا على الحق والهدى ، وحتى الّذين سمّوا الحسن بن علي ، وقتلوا الحسين ، وأصحابه وفعلوا ما فعلوا من الجرائم في الكوفة وغيرها ، كانوا محقّين أيضا ، ومن المهتدين ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال على حدّ زعمهم :

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (١) ، ومن هو أولى بالاقتداء به من معاوية الذي كان الوحي كلما نزل على النبي يتفقده ويسلّم عليه ، ويوصي به ، كما تدعيه مرويّات تلك الطغمة من أنصاره إلى كثير من أمثال هذه الأحاديث التي أفرزتها مصانع أبي هريرة ، وابن العاص ، وابن جندب ، وكعب الأحبار وغيرهم ، في معاوية ، وبني أمية ، ومن سبقهم من الخلفاء ، وغير ذلك ، واختلطت بين الصحيح من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولو لا المخلصون من أهل البيت ، وشيعتهم ، وقليل غيرهم من بقية المحدّثين ، لفقدت السنة أبرز سماتها ، وانطمست معالمها ، وكنوزها ، بسبب ما أدخلوه عليها من التحريف والبدع ، والمفتريات.

__________________

(١) طعن في هذا الحديث ابن تيمية وقال : ضعّفه أئمة الحديث فلا حجة فيه.

٧٤

لقد كان الصحابة يفسّق بعضهم بعضا ، ويشتم بعضهم بعضا ، واتفق أكثرهم على ضلال (١) عثمان وحاشيته ، وأنصاره ، واستحلال دمه.

وكان طلحة ، والزبير ، وعائشة ، من أكثر النّاس تحريضا عليه ، وبلغ الحال بعائشة أن كفّرته ، واستعارت له اسما ليهودي كان من أقذر أهل المدينة ، يسمونه نعثلا ، وقالت أكثر من مرّة :

«اقتلوا نعثلا فقد كفر» ، وأخذت بيدها قميصا كان لرسول الله (ص) وقالت :

«هذا قميص رسول الله لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنّته!».

وبعد مصرع عثمان على يد المهاجرين والأنصار تحريضا ومباشرة من الوفود التي زحفت من مختلف الأمصار ، اتجهت تلك الوفود الزاحفة من مختلف الجهات ، وجميع المهاجرين والأنصار إلى علي عليه‌السلام ، وانضمّت تحت لوائه ، وأكثر المهاجرين وجدوا أنّهم قد حقّقوا بهذه البيعة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعزّ أمانيه ، وإن جاءت متأخرة عن وقتها ، وراحوا ينتظرون فجرا جديدا مشرقا بتعاليم الإسلام ومبادئه ، وعدالته.

واتجه الفريق الّذي اشترك في قتل عثمان ، وكان من أشد النّاس تحريضا عليه من الصحابة ، إلى حرب الخليفة الشرعي الّذي تمّت خلافته بالإجماع والاختيار ، وبكلّ الشروط الّتي وضعوها للخلافة في عصر الصراع العقائدي الّذي وضعوا فيه الشروط للخلافة الإسلامية لتصحيح خلافة الذين تقمّصوها بعد وفاة الرسول عليه‌السلام.

وبعد أن بذل لهم إمام الهدى جميع الوسائل ليرجعوا عن غيّهم

__________________

(١) في رأي الدكتور طه حسين أن عثمان كان يقاد كالثور. انظر : مع رجال الفكر في القاهرة الحلقة الأولى ص ١٩٨ طبع القاهرة.

٧٥

وضلالهم ، فلم يسمعوا له قولا ، ولا رعوا له وللأبرياء حرمة. وكانت المعركة لغير صالحهم كما هو المعلوم من حالها ، واتّجه بعدهم معاوية لحربه في أهل الشام ، ومعه فريق ممّن يسمونهم الصحابة حسب التحديدات التي وضعوها للصحبة ، لتستقطب أولئك المأجورين ، الذين كانوا يسيرون في ركابهم ، ويتمرّغون على أعتابهم ، لقاء مبالغ من أموال الأمة ، وضعها ابن هند في تصرّفهم ، ليضعوا له الحديث في انتقاص عليّ وذويه (ع) ، وفضل الأمويين والسائرين في ركابهم ، وكانت مصانع أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وسمرة بن جندب ، وابن العاص ، وولده عبد الله تنتج لهم ما يشاؤون ، ويشتهون من مختلف الألوان ، ولعلّ أبا هريرة ، وابن جندب ، وكعب الأحبار كانوا من أبرز المقرّبين لمعاوية في صنع الحديث من بين من أسموهم بالصحابة.

وجاءت الطبقة الثانية وعلى رأسها عروة بن الزبير ، ومحمد بن شهاب الزهري ، وغيرهم من عشرات الرواة ، والمحدّثين الذين اعتمدوا مصانع الطبقة الأولى ، ومضوا على نفس الطريق الذي يخدم مصالح أصحاب القصور وأهدافهم ، متسترين بقداسة الصحابة وعدالتهم ، وبما أنتجته مصانع أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وسمرة بن جندب ، وابن العاص ، وولده عبد الله الّذي اشتملت مرويّاته عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يوم وفاته لم يتجاوز سن الطفولة ، فيما اشتملت عليه ، صحيفة عرفت في أوساطهم بالصحيفة الصادقة ، كما ذكرنا.

وظلّت تلك الأحاديث إلى جانب المرويّات الصحيحة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أشدّ الأسلحة فتكا بيد الحاكمين أعداء الإسلام الذين تستّروا به ، ليطعنوه من الداخل بتلك الأسلحة التي وفّرها لهم عدول الصحابة! وفي الوقت ذاته لإضفاء الشرعية على حكمهم الذي استمرّ قرابة قرن من الزمن.

٧٦

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم كما جاء في شرح النهج للمعتزلي :

«إنّ أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أميّة تقربا إليهم بما يظنّون أنّهم يزغمون أنوف بني هاشم».

ومع أن تلك الأحاديث قد صنعها الوضاعون لمصلحة المروانيّين والعثمانيّين ، وأبي سفيان ، وولده معاوية ، وأنصاره ، فقد صاغوها بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض ، وتصبّ اللعنات على كل من سبّ أحدا منهم ، أو اتهمه بسوء كما جاء فيما رووه عن أنس بن مالك أنّ النبي (ص) قال : «من سبّ أحدا من أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين!!».

ومن عابهم ، أو انتقصهم فلا تؤاكلوه ، ولا تشاربوه ، ولا تصلوا عليه (١).

مع أنّها جاءت بهذا الأسلوب ، ولم تفرّق بين صحابي ، وصحابي ، فقد فرض معاوية سبّ عليّ عليه‌السلام ، وانتقاصه في جميع المقاطعات التي كانت تخضع لحكمه بما في ذلك الكوفة ، وجهاتها التي تجرّعت كل أنواع الأذى ، والظلم لكثرة الموالين فيها لعليّ وولده عليهم‌السلام الذّين تعرّضوا للقتل والحبس ، والتشريد ، وكان يقول في جواب ناصحيه من أنصاره ، الّذين كانوا يرون أنّ هذا الأسلوب من السياسة الخرقاء ، يخدم عليّا وشيعته أكثر ممّا يسيء إليهم :

«والله لا أدع سبّه وشتمه حتى يهرم عليه الكبير ، ويشبّ عليه الصغير!».

وقد بذل للصحابي أبي سمرة بن جندب خمسمئة ألف درهم

__________________

(١) انظر : ص ٢٣٨ من كتاب الكبائر للحافظ الذهبي.

٧٧

ليروي له عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الآية :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ، وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١) نزلت في عليّ بن أبي طالب.

وأنّ الآية :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٢). نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لأنّه قتل عليّا عليه‌السلام ، إلى غير ذلك من الموضوعات التي كان يبذل لصانعيها بسخاء لا حدود له ، مع أنّه فعل ذلك بإجماع المؤرخين فقد بقى من عدول الصحابة كما بقيت منتجات مصانع الوضاعين ، ممّن كانوا يتمرّغون على أعتاب قصر الحمراء ، وغيره من قصور الحاكمين ، التي كانت تعجّ بالفساد ، والظلم ، والمنكرات ، إلى جانب غيرها من مرويّات الثقاة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صحاحها ، لأنّها من صنع الصحابة ، والصحابة كلّهم من العدول ، ومن سبّهم أو انتقصهم فعليه لعنة الله ، ولم يستثن منهم سوى عليّ عليه‌السلام ، ومن وقف إلى جانبه من صحابة الرّسول الأوفياء لرسالة الإسلام وتعاليمه ، فهؤلاء بنظر معاوية وزبانيته ، كانوا يسعون في الأرض ليفسدوا فيها ، ويهلكوا الحرث ، والنّسل والله لا يحب الفساد!!

لقد بقيت إلى جانب غيرها من مرويّات عدول الصحابة مرجعا للجمهور في التشريع وغيره على اختلاف مذاهبهم ، ونزعاتهم الفقهيّة ،

__________________

(١) سورة البقرة : الآيتان ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٠٧.

٧٨

وعلى أساس ذلك غلب عليهم اسم السنة في مقابل الشيعة الذين رجعوا إلى الأئمة من أهل البيت (ع) وإلى ما رواه ثقاة الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة إلى كتاب الله في جميع ما جاء به الإسلام من أصول وفروع ، وتشريعات ، ولم يعرف الجمهور بهذا الوصف قبل أواخر القرن الأوّل ، وبهذا الاعتبار يمكن اعتبار التسنّن من الأحداث الطارئة ، وبخاصة عند ما نلاحظ أنّ مفهوم السّنة خلال تلك الفترة من تاريخ المسلمين قد أصبح أوسع ممّا كان عليه في عهد الصحابة ، والطبقة الأولى من التابعين ، فبعد أن كان عند أوائلهم لا يتجاوز أقوال الرسول ، وأفعاله وكانوا يلاحقون الراوي للتأكد من صدقه وبعضهم يستحلفه ، ويتجنّب أكثرهم مرويات أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وأمثالهما ممّن كانوا لا يتورّعون عن الكذب ، والافتراء ، على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرّغم من أنّ درّة ابن الخطاب كانت لهم بالمرصاد.

فبعد أن كانت لا تتعدّى أقوال الرسول ، وأفعاله عند متقدّمي الصحابة ، أصبحت في العصور التي تعدّدت فيها المذاهب ، وتوزعت في العواصم ، وبقيّة الأقطار بنظر العلماء ، وأئمة المذاهب تتّسع لرأي الصحابي ، وفتواه إذا لم يجدوا نصّا على حكم الواقعة في كتاب الله ، وسنّة الرسول ، وأصبحت آراء الصحابة في أحكام الحوادث التي كانت تعرض عليهم المصدر الثالث من مصادر التشريع بعد كتاب الله ، وسنّة رسوله ، ولعلّ أئمة المذاهب الثلاثة وعلماءهم الأحناف والمالكية ، والحنابلة ، أكثر تعصّبا لآراء الصحابة ، واجتهاداتهم من الشوافع كما يبدو ذلك من تصريحاتهم ، ومجاميعهم الفقهيّة ، ومع أنّ أبا حنيفة كان متحمّسا للقياس ، ويراه من أفضل المصادر بعد كتاب الله ، كان يقدم رأي الصحابة عليه إذا تعارضا في مورد من الموارد (١).

__________________

(١) المستصفى للغزالي ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

٧٩

وجاء عنه أنّه كان يقول :

إن لم أجد في كتاب الله ، ولا في سنّة رسوله ، أخذت بقول أصحابه ، فإن اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذ بقول من شئت ، وأدع من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين (١).

وجاء في (أعلام الموقعين) لابن القيم :

إنّ أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة : الأول : النص ، الثاني : فتوى الصحابة وإنّ الأحناف والحنابلة قد ذهبوا إلى تخصيص الكتاب بعمل الصحابي ، لأن الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلّا لدليل ، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب ، دليلا على التخصيص ، وقوله بمنزلة عمله (٢).

وما أبعد ما بين هؤلاء ، وبين القائلين بعدم جواز الاعتماد على السنة في مقام التشريع إلّا إذا تأيّدت بآية من القرآن لأن فيه تبيان كل شيء ، وقد نزل بلغة العرب ، وبأسلوب يفهمه كل عربي ، وذلك لأنّ السنة رواها عن الرسول جماعة يجوز عليهم الخطأ ، والكذب ، وكانوا لا يقبلون مرويات بعضهم أحيانا ، ويعمل كلّ منهم بما يوحيه إليه اجتهاده ، وقد تراشقوا بأسوأ التّهم ، واستحلّ بعضهم دماء البعض الآخر (٣).

ومهما كان الحال فأقوال الصحابة ، وآراؤهم ، واجتهاداتهم كانت من أبرز أصول التشريع عند الجمهور بعد كتاب الله. وفي الوقت ذاته يخصّصون بها عموماته ويقيدون بها مطلقاته ، وكأنّها من وحي السماء

__________________

(١) أنظر أبا حنيفة لأبي زهرة ص ٣٠٤. والإمام زيد له أيضا ص ٤١٨.

(٢) المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص ٢١٧.

(٣) أنظر : تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور محمد يوسف موسى عن كتاب الأم للشافعي ص ٢٢٨.

٨٠