البرهان على عدم تحريف القرآن

السيد مرتضى الرضوي

البرهان على عدم تحريف القرآن

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال ، فنحن نحتج بعدولهم ، ونتولاهم في الدنيا والآخرة.

أمّا البغاة على الوصيّ ، وأخي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر أهل الجرائم كابن هند ، وابن النابغة ، وابن الزرقاء ، وابن عقبة ، وابن أرطأة ، وأمثالهم فلا كرامة ولا وزن لحديثهم ، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبيّن أمره.

هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة والكتاب والسنة بنينا على هذا الرأي كما هو مفصّل في مظانّه من أصول الفقه. لكنّ الجمهور بالغوا في تقديس كلّ من يسمونه صحابيّا ، حتّى خرجوا عن الاعتدال ، فاحتجوا بالغثّ منهم والسمين ، واقتدوا بكل مسلم سمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو رآه اقتداء أعمى ، وأنكروا على من يخالفهم في هذا الغلوّ ، وخرجوا في الإنكار على كل حدّ من الحدود ، وما أشدّ إنكارهم علينا حين يروننا نرّد حديث كثير من الصحابة مصرّحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال ، عملا بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينيّة ، والبحث عن الصحيح من الآثار النبويّة.

وبهذا ظنّوا بنا الظنونا ، فاتهمونا ، رجما بالغيب ، وتهافتا على الجهل ، ولو ثابت إليهم أحلامهم ، ورجعوا إلى قواعد العلم ، لعلموا أنّ أصالة العدالة في الصحابة ممّا لا دليل عليها ، ولو تدبّروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحونا بذكر المنافقين منهم. وحسبك منه سورة التوبة ، والأحزاب (١).

__________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ٥٨٩ ـ ٥٩٢ ط بيروت.

٤١

درجات الصحابة

لم يكن الصحابة طرازا واحدا في الفقه والعلم ، ولا نمطا متساويا في الإدراك والفهم ، وإنّما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة ، ودرجات متباينة ، شأن الناس جميعا في هذه الحياة على مرّ الدّهور :

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً.)

قال ابن خلدون في مقدمته :

«إنّ الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم ، وإنّما كان مختصا بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ، ومنسوخه ، ومتشابهه ومحكمه ، وسائر دلالته ، بما تلقوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ممّن سمعه منهم ، وعن عليتهم ، وكانوا يسمّون لذلك (القراء) ، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أميّة ، فاختصّ من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ ، وبقي الأمر كذلك صدر الملّة».

وعن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه (١) قال :

«كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة نفر من المهاجرين ، وثلاثة نفر من الأنصار ، عمر وعثمان وعلي ، وأبي كعب ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت».

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي ، دعا رجالا من المهاجرين ، والأنصار ، دعا عمر وعثمان وعليّا ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت.

وكلّ هؤلاء كان يفتى في خلافة أبي بكر ، وإنّما تصير فتوى الناس

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ / ١٦٨.

٤٢

ألى هؤلاء ، فمضى أبو بكر على ذلك.

ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر.

وفي مسلم : عن مسروق قال :

«شاممت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدت علمهم انتهى ألى ستة :

إلى عمر وعلي وعبد الله ، ومعاذ (١) وأبي الدرداء وزيد بن ثابت ، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله» (٢).

وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن مسروق قال :

«جالست أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا كالإخاذة :

الإخاذة : تروي الراكب ، والإخاذة : تروي الراكبين : والإخاذة : لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم ، وإن عبد الله من تلك الإخاذة».

وروى البخاري ومسلم عن النبي قال :

«إنّ مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية (٣) قبلت الماء فأنبتت الكلأ ، والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب بها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ».

وعن عامر قال :

«كان علماء هذه الأمة بعد نبيّها ستة :

عمر وعبد الله وزيد بن ثابت. فإذا قال عمر قولا ، وقال هذان

__________________

(١) رواية ابن القيم في أعلام الموقعين ، وابي بن كعب بدل معاذ.

(٢) هو عبد الله بن مسعود.

(٣) وفي رواية طائفة طيبة. ارجع في هذه الأخبار كلها إلى طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٤٣

قولا ، كان قولهما لقوله تبعا ، وعلي ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري ، فإذا قال علي قولا ، كان قولهما لقوله تبعا».

وقال : «قضاة هذه الأمة أربعة :

عمر وعلي وزيد ، وأبو موسى الأشعري.

ودهاة هذه الأمة أربعة :

عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد».

٤٤

تفاوت الصحابة في صدق الرواية

فبعضهم أصدق من بعض

صدّق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له : أنت عندنا العدل الرضا ـ

قال الذهبي في شرح الخبر : فأصحاب رسول الله ، وإن كانوا عدولا ، فبعضهم أعدل من بعض ، فها هنا عمر قنع بخبر عبد الرحمن ، وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى الأشعري :

ائت بمن يشهد معك (١).

رواية الصحابة بعضهم عن بعض وروايتهم عن التابعين

ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله ، ودوّن في الكتب ، قد سمعوه كلّه بآذانهم من النبي صلوات الله عليه مشافهة ، ولا أخذوه عنه تلقينا ، وإنّما كان يروي بعضهم عن بعض ، فمن لم يسمع من الرسول ، كان يأخذ ممّن سمع منه صلّى الله

__________________

(١) سير اعلام النبلاء للذهبي : ١ / ٤٨ ؛ راجع ص ٥٨.

٤٥

عليه وسلم ، وإذا رواه غيره لم يعزه إلى الصحابي الّذي تلقاه عنه ـ بل يرفعه إلى النبي بغير أن يذكر اسم هذا الصحابي ـ ذلك أن مجالس الرسول كانت متعددة ، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة ، ولا يمكن أن يحضر الصحابة جميعا كلّ مجلس من مجالسه ، فما يحضره منها بعض الصحابة لا يحضره البعض الآخر.

وقد ذكر الآمدي في كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» (١) :

أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ، ولما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّما الربا في النسيئة» وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة ، قال في الجزء الأول لما روجع فيه قال :

أخبرني به أسامة بن زيد ، وفي الخبر الثاني : أخبرني به أخي الفضل بن العباس. ولما روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له ، راجعوه في ذلك فقال :

ما أنا قلته وربّ الكعبة ولكنّ محمّدا قاله! ثم عاد فقال :

حدثني به الفضل بن العباس (٢).

وروي عن البراء بن عازب قال :

«ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) ص ١٧٨ ـ ١٨٠ ج ٢. وقال ابن القيم في (الوابل الصهيب) : إنّ ما سمعه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبلغ العشرين حديثا. وعن ابن معين ، والقطان ، وأبي داود ، وفي السنن ، أنّه روى تسعة أحاديث ، وذلك لصغر سنه ، ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده ١٦٩٦ حديثا.

(٢) لهذا الحديث قصة شائقة تقرؤها في تاريخ أبي هريرة الذي طبعناه باسم (شيخ المضيرة) مرتين.

٤٦

وسلم! ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه».

وأما التابعون : فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ، ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنّه قال :

قلت لإبراهيم النخعيّ : إذا حدثتني فأسند (١). فقال :

إذا قلت لك : حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني ، وإذا قلت : حدثني عبد الله ، فقد حدثني جماعة عنه ، وقد قال الآمدي بعد ذلك ، ولم يزل ذلك مشهورا فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعا (٢) ا ه.

وكما كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض فإنّهم كذلك كانوا يروون عن التابعين وهذا أمر نص عليه علماء الحديث في كتبهم فارجع إليه إن شئت.

وفي كلام ابن الصلاح وغيره في باب «رواية الأكابر عن الأصاغر» أن إبن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم خداعا في عهد عمر وعدّوه من كبار التابعين ثم سوّده بعد ذلك على المسلمين. وهاك ما قاله السيوطي في ألفيّته (٣) :

وقد روى الكبار عن صغار

في السنّ أو في العلم والمقدار

ومنه أخذ الصحب عن أتباع

وتابع عن تابع الأتباع

كالحبر عن كعب وكالزهري

عن مالك ويحيى الأنصاري

__________________

(١) الحديث المسند ما اتصل سنده إلى منتهاه ، وكان التابعون يتبعون في ذلك سبيل الصحابة فيما يروون من الأحاديث التي لم يسمعوها من النبي ، وإنما تلقوها من إخوانهم ، فإنهم كانوا لا يذكرون أسماء من تلقوا عنهم.

(٢) ص ١٧٨ ـ ١٨٠ ج ٢.

(٣) ص ٢٣٧.

٤٧

وقال شارح الألفيّة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه‌الله :

ومن هذا النوع رواية الصحابة عن التابعين كرواية الحبر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة وأبي هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار!

على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا ـ كما رأينا ـ يذكرون أن أحاديثهم قد جاءت من سبيل الرواية عن غيرهم ، بل يروون ما يروون في المناسبات التي تستدعي ذكر الحديث مهما طال الزمن من غير عزو إلى من سمعوا منه ثقة بهم ، ويرفعونها إلى النبي ، وظلوا على ذلك إلى أن وقعت الفتنة ، ومن ثم قالوا : سمّوا لنا رجالكم!

قال ابن سيرين : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ٣ قالوا : سمّوا لنا رجالكم.

وأخرج مسلم عنه : لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث ، فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث.

في سنن الترمذي عنه :

كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد! فلمّا وقعت الفتنة ، سألوا عن الإسناد ، إنّ الرجل ليحدثني فما اتّهمه ، ولكن أتهم من هو فوقه.

وقد روى التابعون عن «تابعي التابعين». ومن رواية التابعين عن تابعي التابعين .. رواية الزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذها.

ومن الطريف للفطن كما قال السيوطي في ألفيّته :

٤٨

أن يروي الصحابي عن تابعي ، عن صحابي آخر حديثا ، ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من نام عن حزبه ، أو عن شيء منه ، فقرأه فيما بين الصلاتين الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنّما قرأه في الليل» رواه مسلم في كتابه. ومن ذلك حديث :

«لا يستوي القاعدون».

وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثا.

نقد الصحابة بعضهم لبعض

لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة كما أسلفنا ؛ ولكنّه تجاوز ذلك إلى أن ينقد بعضهم بعضا.

ولقد كان عمر ، وعلي ، وعثمان ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة ، يتصفحون على إخوانهم في الصحبة ، ويشكّون في بعض ما يروونه عن الرسول ، ويردونه على أصحابه.

عن محمود بن الربيع ـ وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير ـ أنّه سمع عثمان بن مالك الأنصاري ، وكان ممّن شهد بدرا ، أنّ رسول الله قال :

إنّ الله حرّم النار على من قال : لا إله إلّا الله يبغي بها وجه الله ـ وكان الرسول في دار عتبان ، فحدثها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله ـ فأنكرها على (أبو أيّوب) وقال : والله ما أظن رسول الله قد قال ما قلت!

٤٩

وقد استدلت المرجئة (١) بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم.

وردّت عائشة حديث عمر ، وابن عمر :

«إنّ الميّت يعذب ببكاء أهله عليه» فقالت :

إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطىء ، والله ما حدّث رسول الله أنّ الله يعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه! وقالت :

حسبكم القرآن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.)

وفي رواية أنّها لما سمعت أنّ ابن عمر يحدث بهذا الحديث قالت :

«وهل! إنّما قال : إنه ليعذب بخطيئته ، وذنبه ، وإنّ أهله ليبكون عليه».

وفي رواية ثالثة :

إنّه لم يكذب ولكنّه نسي أو أخطأ وقالت مثل قوله (ابن عمر) :

إنّ رسول الله قال على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال :

إنّهم ليسمعون ما أقول. وقالت : إنما قال :

إنّهم الآن يعلمون أنّ ما كنت أقوله لهم حق ، ثم قرأت :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) حين تبوّأوا مقاعدهم من النار. والحديثان في البخاري ومسلم وغيرهما.

وردّت عائشة كذلك حديث رؤية النبي لربّه ليلة الإسراء الذي رواه الشيخان عن عامر بن مسروق الذي قال لعائشة : يا أمتاه : هل رأى محمد ربّه؟ فقالت :

__________________

(١) المرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول : لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة.

٥٠

لقد قفّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث؟ من حدثكم فقد كذب (١) :

من حدثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب ، ثم قرأت :

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.)

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.)

ومن حدّثك أنّه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت :

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً.)

ومن حدثك أنّه كتم شيئا فقد كذب ، ثم قرأت :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.)

وفي مسلم : وكنت متكئا فجلست فقلت :

ألم يقل الله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.) فقالت :

أنا أوّل من سأل رسول الله عن هذا فقلت يا رسول الله ، هل رأيت ربّك؟ فقال :

لا ، أنا رأيت جبريل منهبطا. وفي حديث أبي ذر عن مسلم أنّه سأل النبي عن ذلك.

فقال : نور أنى أراه ـ ولأحمد رأيت نورا.

وردّت خبر ابن عمر وأبي هريرة :

إنّ الشؤم في ثلاث ، فقال : إنّما كان رسول الله يحدث عن أحوال الجاهلية ، وذلك لمعارضته الأصل القطعي من : «أنّ الأمر كلّه لله».

ولمّا بلغها قول أبي الدرداء : من أدرك الصبح فلا وتر له. قالت :

__________________

(١) في مسلم : فقد أعظم على الله الفرية. وأحاديث الرؤية بلغت كما ذكر ابن القيم في (حادي الأرواح) ثلاثين حديثا ، والمرفوع منها أكثر من عشرين حديثا ، دع الموقوف والآثار.

٥١

لا ـ كذب ابو الدرداء ، كان النبي يصبح فيوتر ، ولمّا سمعت أنّ ابن عمر قال :

اعتمر رسول الله عمرة في رجب ، قضت عليه بالسهو ، وقالت عن أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري :

ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله ؛ وإنّما كانا غلامين صغيرين!

وكانت عائشة ترد كلّ ما روي مخالفا للقرآن ـ وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع ، أو سوء الفهم : وكذب عمران ابن حصين سمرة في حديث أنّ للنبيّ سكتتين في الصلاة عند قراءته.

والأمثلة على ذلك كثيرة وقد أتينا في تاريخ أبي هريرة بطائفة من الأحاديث التي انتقدوه فيها ، وردّوها عليه فراجعها هناك (١)(*).

__________________

(١) مراجع كتاب شيخ المضيرة الطبعة الثالثة لدار المعارف بمصر.

(١) (*) أضواء على السنة المحمدية ص ٦٨ ـ ٧٥ الطبعة الثالثة ط دار المعارف بمصر.

٥٢

عدم تكفير القادح في أكابر الصّحابة

قال الشيخ محمد الرّاغب :

الرابع من تلك الأبحاث (١) :

فقد كفّر الروافض ، والخوارج بوجوه :

الأول : إنّ القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن ، والأحاديث الصحيحة بالتزكية ، والإيمان تكذيب للقرآن ، وللرسول عليه‌السلام ، حيث أثنى عليهم ، وعظّمهم فيكون كفرا.

قلنا : لا ثناء عليهم خاصة ، أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه ، وهؤلاء قد اعتقدوا أنّ من قدحوا فيه ليس داخلا في الثناء العام الوارد فيه ، وإليه أشار بقوله :

ولا هم داخلون فيهم عندهم ، فلا يكون قدحهم تكذيبا للقرآن.

وأمّا الأحاديث الواردة في تزكية بعض معيّن من الصحابة ، والشهادة لهم بالجنّة ، فمن قبيل الآحاد فلا يكفر المسلم بإنكارها.

__________________

(١) أبحاث التكفير.

٥٣

أو نقول : ذلك الثناء عليهم ، وتلك الشهادة مقيدان بشرط سلامة العاقبة ولم يوجد عندهم ، فلا يلزم تكذيبهم للرسول.

الثاني : الإجماع منعقد من الأمة على تكفير من كفّر عظماء الصّحابة ، وكلّ واحد من الفريقين يكفّر بعض أولئك العظماء فيكون كافرا؟!!

قلنا : هؤلاء ، أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة ، لا يسلّمون كونهم من أكابر الصّحابة ، وعظمائهم فلا يلزم كفره.

الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال لأخيه المسلم : يا كافر فقد باء به أي بالكفر أحدهما.

قلنا : آحاد وقد اجتمعت الأمة على أنّ إنكار الآحاد ليس كفرا (١).

هل يجوز تكفير المسلم في الشريعة الإسلامية

قال الله تعالى في كتابه الكريم :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ...) النساء : ٩٤.

وقال ابن الأثير : ومنه الحديث «من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما». لأنه إمّا يصدق عليه أو يكذب ، فإن صدق فهو كافر ، وإن كذب عاد إليه الكفر بتكفيره أخاه المسلم. (النهاية في غريب الحديث والأثر : ٤ / ١٨٥ مادة كفر).

وقال ابن القيّم : في طرق أهل البدع الموافقون على أصول

__________________

(١) سفينة الراغب ص ٥٠ طبع دار الطباعة العامرة الكائنة ببوق القاهرة عام ١٢٥٥ ه‍.

٥٤

الإسلام ولكنّهم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج ، والمعتزلة ، والقدرية ، والرافضة .. فهؤلاء أقسام :

أحدها الجاهل المقلّد الّذي لا بصيرة له فهذا لا يكفّر ، ولا يفسّق ، ولا ترد شهادته ... (١).

وقال الشيخ محمد عبده : إنّ من أصول الدين الإسلامي : البعد عن التكفير ، وإنّ ممّا اشتهر بين المسلمين ، وعرف من قواعد أحكام دينهم أنّه إذا صدر قول قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ، ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ، ولا يجوز حمله على الكفر (٢).

ونقل الشيخ محمّد راغب : عن الإمام أبي حامد الغزالي عن كتابه (التفرقة بين الإسلام والزندقة) :

الوصيّة أن تكفّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين : لا إله إلّا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها ، والمناقضة تجويزهم الكذب على الرّسول بعذر ، أو بغير عذر. إنتهى (٣).

وقال الإمام الغزالي : وكيف يقال لمن امن بالله واليوم الآخر وعبد الله بالقول الّذي ينزّه به ، والعمل الّذي يقصد به المتعبّد لوجهه الّذي يستزيد به إيمانا ، ومعرفة له سبحانه ثم يكرمه الله تعالى على ذلك بفؤاد المزيد ، وينيله ما شرف من المخ ، ويريه إعلام الرضا ، ثم يكفّره أحد بغير شرع ، ولا قياس عليه ، والإيمان لا يخرج عنه إلّا بنبذه واطّراحه ، وتركه ، واعتقاد ما لا يتّم الإيمان معه ، ولا يحصل بمقارنته (٤).

__________________

(١) الصواعق الإلهية للشيخ سليمان النجدي طبع استانبول عام ١٩٧٩ م.

(٢) الإسلام والنصرانية ص ٥٥ طبع القاهرة.

(٣) سفينة الراغب ص ٤٣ طبع بولاق القاهرة عام ١٢٥٥ ه‍.

(٤) الإملاء في إشكالات الأحياء ص ٥٧ طبع مصر عام ١٣٥٧ ه‍.

٥٥

وقال الشيخ سليمان النجدي أخو محمد بن عبد الوهاب :

إجماع أهل السنّة : إنّ من كان مقرّا بما جاء به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملتزما له إنّه وإن كان فيه خصلة من الكفر الأكبر ، أو الشرك أن لا يكفّر حتّى تقام عليه الحجّة الّتي يكفّر تاركها ، وإنّ الحجّة لا تقوم إلّا بالإجماع القطعي لا الظنّي ، وإنّ الّذي يقوّم الحجّة : الإمام ، أو نائبه.

وإن الكفر لا يكون إلّا بإنكار الضروريات من دين الإسلام كالوجود ، والوحدانيّة ، والرسالة ، أو بإنكار الأمور الظاهرة كوجوب الصّلاة.

وإنّ المسلم المقر بالرّسول إذا استند إلى نوع شبهة تخفى على مثله لا يكفّر ، وإنّ مذهب أهل السنة والجماعة التحاشي عن تكفير من انتسب إلى الإسلام (١).

وقال الشيخ محمد راغب :

قال صاحب «المواقف» في آخر الكتاب :

ولا نكفّر أحدا من أهل القبلة إلّا بما فيه نفي الصانع ، القادر ، العليم ، أو شرك ، أو إنكار ما علم مجيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ضرورة ، أو إنكار المجمع عليه كاستحلال المحرّمات.

قال السيد في الشرح : التي أجمع على حرمتها فإنّ ذلك المجمع عليه ممّا علم ضرورة من الدين فذاك ظاهر داخل فيما ذكره ، وإلّا فإن كان إجماعا ظنّيا فلا كفر بمخالفته ، وإن كان قطعيّا ففيه خلاف.

قال في المواقف :

وأما ما عداه ـ أي ما عدا ما فيه نفي الصانع ، وما عطف عليه

__________________

(١) الصواعق الإلهية ص ٣١ ط استانبول عام ١٩٧٩ م.

٥٦

فالقائل به مبتدع غير كافر.

وقال أبو الحسن عليّ بن محمّد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي في شرحه :

فإن الشيخ أبا الحسن قال في أوّل كتاب : «مقالات الإسلاميّين» :

اختلف المسلمون بعد نبيّهم عليه الصلاة والسلام في أشياء : ضلّل بعضهم بعضا ، وتبرّأ بعضهم من بعض ، فصاروا فرقا متباينين إلّا أنّ الإسلام يجمعهم ، ويعمّهم فهذا مذهبه ، وعليه أكثر أصحابنا وقد نقل عن الشافعي أنّه قال :

لا أردّ شهادة أحد من أهل الأهواء ، إلّا الخطابيّة فإنّهم يعتقدون حلّ الكذب.

وحكى الحاكم صاحب «المختصر» في كتاب : «المنتقى» عن أبي حنيفة (رض) أنّه لم يكفّر أحدا من أهل القبلة (١).

وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي ، وغيره (٢).

__________________

(١) سفينة الراغب ص ٤٣ ط دار الطباعة العامرة ببولاق القاهرة ، ١٢٥٥ ه‍.

(٢) المصدر نفسه ص ٤٣.

٥٧
٥٨

موقف النبي (ص) من الصّحابة يوم المحشر

أخرج ابن حجر الهيثمي عن أبي الدرداء قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لألفينّ ما توزعت أحدا (١) منكم عند الحوض فأقول :

هذا من أصحابي فيقول :

إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٢).

وعن أبي الدرداء قال :

قلت يا رسول الله بلغني أنّك تقول :

إن ناسا من أمتي سيكفرون بعد إيمانهم قال : أجل يا أبا الدرداء؟ ولست منهم (٣).

وأخرج الإمام أحمد عن أبي بكرة قال :

قال رسول الله ليردنّ الحوض عليّ رجال ممّن صحبني ، ورآني ،

__________________

(١) في رواية «في أحدكم» كذا في هامش مجمع الزوائد ٩ / ٣٦٧.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٣٦٧.

(٣) المصدر نفسه : ٩ / ٣٦٧.

٥٩

فإذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ أصحابي ، أصحابي فيقال :

إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك (١).

وأخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

ليردن الحوض عليّ رجال حتى إذا رأيتهم رفعوا إليّ ، فاختلجوا دوني فلأقولنّ :

يا ربّ : أصحابي ، أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٢).

وأخرج الإمام أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :

قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال :

إنّكم محشورون إلى الله تعالى حفاة ، عراة ، غزلا ، كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين.

فأوّل الخلايق يكسى ابراهيم خليل الرّحمن عزوجل ، ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال.

قال ابن جعفر :

وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول :

يا ربّ أصحابي قال : فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك لم يزالوا مرتدّين (٣) على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح :

__________________

(١) مسند الإمام أحمد : ٥ / ٥٠ الطبعة الأولى.

(٢) المصدر نفسه : ٣ / ٢٨١.

(٣) الارتداد : الرجوع ، ومنه المرتد ، والرّدة ـ بالكسر ـ إسم منه ، أي الإرتداد. (المختار من صحاح اللغة).

٦٠