البرهان على عدم تحريف القرآن

السيد مرتضى الرضوي

البرهان على عدم تحريف القرآن

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

٢ ـ وللأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الأزهر الأسبق تصوير لتفسير

مجمع البيان في تفسير القرآن لأمين الإسلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

«... وشمرت عن ساق الجد ، وبلغت غاية الجهد والكد ، وأسهرت الناظر ، وأتعبت الخاطر ، وأطلت التفكير ، وأحضرت التفاسير ، واستمددت من الله سبحانه التوفيق والتيسير ، وابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب ، وحسن النظم والترتيب ، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه ، ويحوي نصوصه وعيونه ، من علم قراءاته ، وإعرابه ولغاته ، وغوامضه ومشكلاته ، ومعانيه وجهاته ، ونزوله وأخباره ، وقصصه وآثاره ، وحدوده وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، والكلام على مطاعن المبطلين فيه ، وذكر ما ينفرد به أصحابنا رضي الله عنهم من الاستدلالات ، بمواضع كثيرة منه على صحّة ما يعتقدونه من الأصول والفروع ، والمعقول والمسموع ، على وجه الاعتدال والاختصار ، فوق الإيجاز ودون الإكثار ، فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة ، وتضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة ، إذ لم يبق من العلماء إلّا الأسماء ، ومن العلوم إلّا الذماء ، وقدّمت مطلع كلّ سورة ذكر مكيّها ، ومدنيّها ، ثم ذكر الاختلاف في عدد آياتها ، ثم ذكر

٣٠١

فضل تلاوتها ، ثم أقدم في كلّ آية الاختلاف في القراءات ، ثم ذكر العلل والاحتجاجات ، ثم ذكر العربية واللّغات ، ثم ذكر الإعراب والمشكلات ، ثم ذكر الأسباب والنزولات ، ثم ذكر المعاني والأحكام والتأويلات ، والقصص والجهات ، ثم ذكر انتظام الآيات ، على أنّي قد جمعت في عربيّته كل غرّة لائحة ، وفي إعرابه كل حجّة واضحة ، وفي معانيه كلّ قول متين ، وفي مشكلاته كلّ برهان مبين ، وهو بحمد الله للأديب عمدة ، وللنحوي عدّة ، وللمقرىء بصيرة ، وللناسك ذخيرة وللمتكلّم حجّة ، وللمحدّث محجّة ، وللفقيه دلالة ، وللواعظ آلة».

بهذه العبارات الواصفة الكاشفة قدّم الإمام السعيد ، أمين الإسلام ، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسيّ ، كتابه الجليل الّذي هو نسيج وحده بين كتب التفسير الجامعة ، ولم أجد أحسن من هذه العبارات في وصف هذا الكتاب ، وبيان منهجه ، فآثرت أن أفسح المجال لها ، وأن أجعلها أوّل ما يطالع القارىء ، ولم يكن ذلك إلّا بعد أن تنقلت في رحاب الكتاب من موضع إلى موضع ، واختبرت واقعه ممّا يعدّ من مزالق الأقدام ، ومتائه الأفهام ، ومضائق الأقلام ، فوجدته كما وصفه صاحبه ، وعلمت أنّه لم يتكثر بما ليس فيه ، ولم يعد إلّا بما يوفيه.

ولقد قلت إن هذا الكتاب نسيج وحده بين كتب التفسير ، وذلك لأنّه في غزارة بحوثه وعمقها وتنوعها ، له خاصية في الترتيب ، والتبويب ، والتنسيق والتهذيب ، لم تعرف لكتب التفسير من قبله ، ولا تكاد تعرف لكتب التفسير من بعده : فعهدنا بكتب التفسير الأولى أنّها تجمع الروايات ، والآراء في المسائل المختلفة ، وتسوقها عند الكلام على الآيات سوقا متشابكا ربّما اختلط فيه فنّ بفن ، فما يزال القارىء يكدّ نفسه في استخلاص ما يريد من هنا وهناك حتى يجتمع إليه ما

٣٠٢

تفرّق ، وربّما وجد العناية ببعض النواحي واضحة إلى حدّ الإملال ، والتقصير في بعض آخر واضحا إلى درجة الإخلال.

أما الذين جاءوا بعد ذلك من المفسّرين فلئن كان بعضهم قد أطنبوا ، وحققوا ، وهذّبوا ، وفصّلوا ، وبوّبوا ؛ فإنّ قليلا منهم أولئك الذين استطاعوا مع ذلك أن يحتفظوا لتفسيرهم بالجوّ القرآني الّذي يشعر معه القارىء بأنه يجول في مجالات متصلة بكتاب الله اتّصالا وثيقا وتتطلّبها خدمته حقا ، لا لأدنى ملابسة ، وأقل مناسبة.

لكنّ كتابنا هذا كان أوّل ـ ولم يزل أكمل ـ مؤلف من كتب التفسير الجامعة استطاع أن يجمع إلى غزارة البحث ، وعمق الدرس ، وطول النّفس في الاستقصاء ، هذا النظم الفريد ، القائم على التقسيم ، والتنظيم ، والمحافظة على خواص تفسير القرآن ، وملاحظة أنه فنّ يقصد به خدمة القرآن ، لا خدمة اللّغويّين بالقرآن ، ولا خدمة الفقهاء بالقرآن ، ولا تطبيق آيات القرآن ، على نحو سيبويه ، أو بلاغة عبد القاهر ، أو فلسفة اليونان أو الرومان ، ولا الحكم على القرآن بالمذاهب الّتي يجب أن تخضع هي لحكم القرآن!.

ومن مزايا هذا التنظيم أنّه يتيح لقارىء الكتاب فرصة القصد إلى ما يريده قصدا مباشرا ، فمن شاء أن يبحث عن اللّغة عمد إلى فصلها المخصّص لها ، ومن شاء أن يبحث بحثا نحوّيا اتجه إليه.

ومن شاء معرفة القراءات رواية ، أو تخريجا وحجّة عمد إلى موضع ذلك في كل آية فوجده ميسّرا محرّرا ، وهكذا ...

ولا شك أن هذا فيه تقريب أيّ تقريب على المشتغلين بالدراسات القرآنية ، ولا سيّما في عصرنا الحاضر الّذي كان من أهم صوارف المثقّفين فيه عن دراسة كتب التفسير ما يصادفونه فيه من العنت ، وما يشقّ عليهم من متابعتها في صبر ، ودأب ، وكدّ وتعب.

٣٠٣

فتلك مزيّة نظاميّة لهذا الكتاب ، بجانب مزاياه العلمية الفكريّة.

وهناك منهجان علميّان في التأليف :

أحدهما : أن يستقبل المؤلف قرّاءه بما يراه هو ، وما انتهى إليه بحثه واجتهاده ، فيجعله قصاراه وهدفه ، ويحطب في سبيله ، ويجول في أوديته ، دون أن يحيد عنه ، أو يجعل لقارئه سبيلا سواه.

وهذا منهج له مواطنه التي يقبل فيها ، ومنها أن يكون المؤلف يقصد بكتابه أهل مذهب معيّن ، فله أن يفرض اتفاقه وإيّاهم على أصول المذهب وقواعده ، وأن يخاطبهم على هذا الأساس.

الثاني : أن يقصد المؤلف بكتابه كل قارىء لا قارئا مذهبيّا يتفق وإيّاه فحسب ، وهذا يدعوه إلى أن يعرض العلم عاما لا من وجهة نظر معيّنة ، فيأتي بما في كل موطن علمي من الآراء والأدلّة ، وله بعد ذلك أن يأخذ بما يترجح لديه ، ولكن بعد أن يكون قد أشرك قارئه معه في التجوال بين الآراء ، واستعراض مختلف وجهات النّظر.

وهذا المنهج أعمّ فائدة ، وأدنى إلى خدمة الحق والإخلاص للعلم ، والكتب المؤلّفة على أساسه أقرب إلى أن تكون «إسلاميّة عامّة» ليست لها جنسيّة طائفيّة أو مذهبية.

بيد أن المؤلفين يتفاوتون في هذا النّهج ، فمنهم من يخلص له إخلاصا عميقا ، فتراه يدور مع الحق أينما دار ، يأخذ بمذهبه تارة ، ويأخذ بغير هذا المذهب تارة أخرى.

وإذا عرض المذاهب المختلفة عرضها بأمانة ودقّة ، كأنّه ينطق أصحابها ويسمع قراءه ما يقولون دون أن يلوي القول ، أو يحرّف الكلم عن مواضعه ، أو يغمز أو يلمز صرفا عن الرأي وتهويلا عليه.

ومنهم : من يكون في إخلاصه للعلم دون ذلك ، على مراتب

٣٠٤

أسوؤها ما يظهر فيه التعصب على مذهب الخصم ، ونبزه بالألقاب.

فترى السنّي مثلا ربّما تحدّث عن الشيعة فيقول :

قال الروافض ، وترى الشيعي كذلك ربّما تحدّث عن السّنة فيقول :

قال : النواصب ، بل ربّما تجد الحنفيّ السنّي يتحدّث عن الشافعيّة السّنيين ، فيقول :

قال الشويفعيّة .. وهكذا ، وما كان هذا النبز ، ولا ذاك من ضرورات الحجاج ، ولا من لوازم الجدال بالتي هي أحسن ، الّذي هو نصيحة القرآن حتّى في شأن المجادلين من أهل الكتاب!.

وأريد أن أقول إن صاحب كتاب : «مجمع البيان» قد استطاع إلى حدّ بعيد أن يغلب إخلاصه للفكرة العلمية على عاطفته المذهبيّة ، فهو وإن كان يهتم ببيان وجهة نظر الشيعة فيما ينفردون به من الأحكام والنظريات الخلافيّة اهتماما يبدو منه أحيانا أثر العاطفة المذهبيّة ؛ فإنّنا لا نراه مسرفا في مجاراة هذه العاطفة ، ولا حاملا على مخالفيه ومخالفي مذهبه.

والواقع أنّه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا المسلك فيما يتصل بأصول المذاهب ومسائلها الجوهرية نظرة هادئة متسامحة ترمي إلى التماس المعذرة ، وتقدير ما يوجبه حق المخالف في أن يدافع عمّا آمن به ، وركن إليه.

فليس من الإنصاف أن نكلّف عالما مؤلفا بحاثة دراكة ، أن يقف من مذهبه ، وفكرته التي آمن بها موقف الفتور ، كأنّها لا تهمّه ، ولا تسيطر على عقله وقلبه ، وكل ما نطلبه ممّن تجرّد للبحث والتأليف

٣٠٥

وعرض آراء المذاهب وأصحاب الأفكار أن يكون منصفا مهذّب اللّفظ ، أمينا على التراث الإسلامي ، حريصا على أخوّة الإيمان والعلم ، فإذا جادل ففي ظلّ تلك القاعدة المذهبيّة التي تمثل روح الاجتهاد المنصف البصير :

«مذهبي صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب».

على أننا نجد الإمام الطبرسي في بعض المواضع يمرّ على ما هو من روايات مذهبه ، ويرجح ، أو يرتضي سواه.

ومن ذلك أنه يقول في تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.)

وقيل : في معنى الصّراط وجوه :

أحدها : أنه كتاب الله ـ وهو المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن علي عليه‌السلام وابن مسعود.

وثانيها : أنه الإسلام ـ وهو المروي عن جابر ، وابن عباس.

وثالثها : أنّه دين الله الّذي لا يقبل من العباد غيره ـ عن محمد بن الحنفية.

والرابع : أنّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة القائمون مقامه ـ وهو المروي في أخبارنا.

والأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه ، لأن الصّراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به من التوحيد ، والعدل ، وولاية من أوجب الله طاعته».

فظاهر أن الرواية الأخيرة هي أقرب الروايات تناسبا مع مذهب

٣٠٦

الشيعة في «الأئمة» وهي المرويّة في أخبارهم ، ولكن المؤلف مع هذا لا يعطيها منزلة الأوّلية في الذكر ، ولا الأولوية في الترجيح ، بل يعرضها عرضا روائيا مع غيرها ، ثم يحمل الآية على ما حملها عليه من العموم ، وما أبرعه إذ يقول : «وولاية من أوجب الله طاعته»!

إن الشيعي والسنّي كليهما لا ينبوان عن هذه العبارة ، فكلّ مؤمن يعتقد أنّ هناك من أوجب الله طاعته ، وفي مقدمتهم الرسول وأولو الأمر ، ووجه البراعة في ذلك أن لم يعرض للفصل في مسألة «الولاية» و «الإمامة» هنا ، لأن المقام لا يقتضي هذا الأمر ، ولكنّه مع ذلك أتى بعبارة يرتضيها الجميع ، ولا ينبو عنها أيّ فكر.

على أنّه ـ رحمه‌الله تعالى ـ متأثر مع ذلك إلى حد ما بما هو ديدن جمهرة المفسّرين من إعطاء أسباب النزول أهمية خاصة ، ذلك الأمر الّذي يتعارض مع مجيء القرآن عاما خالدا شاملا لجميع الصور التي تدل عليها عباراته المنزلة من لدن حكيم خبير ، على ما تقتضيه الدقة والإحكام ، ولكن الإمام الطبرسي لا ينفرد بذلك كما ألمعنا ، وإنّما هو أمر سري إليه ممّن قبله ، وشاركه فيه من بعده ، ولا شك أنّهم لا يقصدون ما قد يفهمه غير الخاصة ، من قصر معاني الآيات على موارد نزولها ، فإن العبرة ـ كما هي القاعدة المقررة ـ بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب.

ومؤلف هذا الكتاب رجل بحاثة في مختلف العلوم ، له تصانيف كثيرة تعد بالعشرات ، ومنها ما هو في موضوعات مذهبيّة شيعيّة.

ومما يلفت النّظر أنّه عني بتفسير القرآن الكريم عناية خاصة ، حتى جعلها أكبر همّه ، وأعظم مجال لهمّته ، وقد كانت هذه العناية صادرة عن رغبة نفسيّة ملحّة راودته منذ عهد الشباب ، وريان العيش ، كما يقول في مقدمة كتابه ، وكان كثير التشوق ، شديد التشوّف ، إلى

٣٠٧

جمع كتاب في التفسير على طراز معين وصفه ، وجعله هدفه ، حتى هيّأ الله له ذلك ، وأعانه عليه ، وقد ذرف على الستين ، واشتعل الرأس منه شيبا ، وناهيك برغبة تصاحب العمر ، فلا تستطيع نوازع الشباب أن تنزعها ، ولا مثبّطات الكهولة والشيب أن تصرف عنها ، ثم ناهيك بمثل هذه الرغبة المتمكنة في نفس رجل علّامة كهذا يتدبر وسائل تحقيقها عمرا طويلا ، ويتأتى لها ، ويتمرس بالتجارب العقليّة ، والوسائل العلميّة ، حتى ينفذها في عنفوان فتوّته العلميّة ، وقد استحصف عقله ، واكتمل وعيه ، وغزر محصوله ، ووقف على الذروة من صرح العلم والفهم والبيان.

ولقد ذكر المؤرخون لسيرته أمرا عجبا ، ذلك أنه ألّف كتابه هذا المسمّى «مجمع البيان» ، جامعا فيه فرائد كتاب من قبله اسمه «التبيان» للشيخ محمد بن الحسن بن علي الطبرسي ، ولم يكن قد اطّلع على تفسير الكشاف للزمخشري ، فلما اطلع عليه صنّف كتابا آخر في التفسير سماه «الكافي الشاف من كتاب الكشاف» ويظهر من اسمه أنه أتى فيه بما أطّلع عليه من تفسير الزمخشري ، ولم يكن قد عرفه حتى يودعه كتابه الأول ، ويذكرون اسما آخر لكتاب ألّفه بعد ذلك أيضا وأسماه «الوسيط» في أربع مجلدات ، وكتابا ثالثا اسمه «الوجيز» في مجلّد أو مجلّدين ، كلّ ذلك في تفسير القرآن الكريم ، ألّفه بعد تفسيره الأكبر : «مجمع البيان» ، وبعض هذه الكتب يعرف باسم «جامع الجوامع» لجمعه فيه بين فرائد التبيان وزوائد الكشاف.

وقد أردت ـ قبل الكلام إلى القراء عن المعنى الّذي يدّل عليه هذا الصّنيع من الإمام الطبرسي رحمه‌الله تعالى ـ أن أختبر هذا الخبر لأعلم هل هو صحيح؟ وذلك عن طريق الرجوع إلى بعض المواضع المشتركة في «الكشاف» و «مجمع البيان» كي يتبيّن الأمر في ضوء الواقع ،

٣٠٨

فرجعت إلى أوّل موضع يظن أنّهم يتلاقيان فيه ، وهو تفسير قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.)

فأمّا الإمام الطبرسي في كتابه : «مجمع البيان» فقد تحدّث من ناحية المعنى في موضعين :

أحدهما : معنى (لا يُؤْمِنُونَ) وما يتصل له من بيان عدم التعارض بين العلم الإلهي والتكليف ، لأن العلم يتناول الشي على ما هو به.

الثاني : معنى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وبيان الآراء المختلفة فيه ، وقد ذكر أربعة آراء وأيّد الرابع منها وقوّاه بشواهده ، وهذا هو نصّ كلامه في هذا الوجه الرابع ، نورده لنضعه موضع المقارنة مع كلام الزمخشري حتى يتبيّن الفرق بينهما.

قال الطبرسي : «ورابعها : أنّ الله وصف من ذمّه بهذا الكلام بأنّ قلبه ضاق عن النّظر ، والاستدلال فلم ينشرح له ، فهو خلاف من ذكر في قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) ومثل قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ،) و (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ويقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم لما يسمع من أجل الطبع فقال : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) وقال :

(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ويبيّن ذلك قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ ، وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع والبصر ، فدل هذا

٣٠٩

على أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه ، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما ، وإنّما يكون ضيقه بألا يتّسع لما يحتاج إليه فيه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحق والباطل ، وهذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن ، لأن الشجاعة محلّها القلب ، فإذا لم يكن القلب الذي هو محلّ الشجاعة لو كانت فأن لا تكون الشجاعة أولى ـ قال طرفة :

فالهبيت لا فؤاد له

والثّبيت قلبه قيمه

وكما وصف الجبان بأن لا فؤاد له ، وأنّه يراعه ، وأنّه مجوّف : كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه ، وإقامة الحجّة عليه ، بأنّه مختوم على قلبه ، ومطبوع عليه ، وضيّق صدره ، وقلبه في كنان وفي غلاف ، وهذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي ، وإنّما قال : ختم الله ، وطبع الله ، لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى ، فجاز ذلك اللفظ كما يقال : أهلكته فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا لأنّه هلك في اتّباعها».

هذا هو نصّ كلامه ، ومنه يتبيّن :

١ ـ إنه ممّن يؤيد الرأي القائل بأنّ الختم ليس حقيقيّا ، وإنما هو على معنى من المجاز.

٢ ـ وإنّه يستعين في بيان ذلك بالآيات المشابهة لهذا الموضع في القرآن الكريم ، وبالشعر ، وبقول أبي علي الفارسي ، وبما هو مألوف في العربية من مثل هذا التعبير بإسناد الفعل إلى من لم يفعله ، ولكن وقع بسبب منه فالختم أسند إلى الله لأنّه بمعناه الّذي فسّر به كان بسبب عصيانهم لله ، كما يقال أهلكته فلانة وهي لم تهلكه وإنّما هلك باتباعها.

٣١٠

وأما الإمام الزمخشري في كتابه «الكشاف» فقد عرض لهذا الموضوع في تفصيل أكبر ، وضرب له كذلك أمثلة من الشعر والكلام العربي ، وأورد فيه بعض الأسئلة وردّ عليها ، ومع كون الفكرة الّتي يؤيّدها الإمام الزمخشري ، هي نفس الفكرة التي رأينا الإمام الطبرسي يؤيّدها ، فإن عبارة الزمخشري أوسع وأشمل ، وأمثلته من الشعر أوضح في بيان المقصود ، وتخريجه العربي لهذا التعبير مبني على دراسة فنيّة مقررة المبادىء بين العلماء ، فلو كان الطبرسي قد اطلع على كتابه «الكشاف» لكان قد أيّد ما ذهب إليه بما ذكره الزمخشري نقلا عنه أو تلخيصا له ، ولكننّا لا نجد بين العبارات في الكتابين تلاقيا إلّا على الفكرة ، أما الأمثلة والعرض واسلوب البحث فمختلفة.

والآن نورد نصّ الإمام الزمخشري كما أوردنا نصّ الإمام الطبرسي ، وندع للقراء أن يتأمّلوا النّصين ، على ضوء ما قلناه فسيتّضح لهم أن الطبرسي قطعا لم ير «الكشاف» وهو يؤلف : «مجمع البيان».

قال الزمخشري :

«فإن قلت ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت :

لا ختم ولا تغشية ثمّ على الحقية ، وإنّما هو من باب المجاز ، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه ، وهما : الاستعارة والتمثيل.

أمّا الاستعارة فأن تجعل قلوبهم ـ لأن الحق لا ينفذ فيها ، ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه ، واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ـ وأسماعهم ـ لأنّها تمجّه ، وتنبو عن الإصغاء إليه ، وتعاف استماعه ـ كانها مستوثق منها بالختم وأبصارهم ـ لأنّها لا تجتلي آيات الله المعروضة ، ودلائله المنصوبة ، كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين ـ كأنّما غطّي عليها ، وحجبت بينها وبين الإدراك.

٣١١

وأما التمثيل فأن تمثل ـ حيث لم ينتفعوا بها في الأغراض الّتي كلفوها ، وخلقوا من أجلها ـ بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية ، وقد جعل بعض المازنيّين الحبسة في اللّسان والعيّ ختما عليه فقال :

ختم الإله على لسان عذافر

ختما فليس على الكلام بقادر

وإذا أراد النطق خلت لسانه

لحما يحرّكه لصقر ناقر!

«فإن قلت» لم أسند الختم إلى الله تعالى ، وإسناده إليه يدّل على المنع من قبول الحق ، والتوصل إليه بطرقه ، وهو قبيح ، والله يتعالى عن فعل القبيح علوّا كبيرا ، لعلمه بقبحه ، وعلمه بغناه عنه ، وقد نصّ على تنزيه ذاته بقوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ، إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ونظائر ذلك ممّا نطق به التنزيل؟

قلت : القصد إلى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها.

وأمّا إسناد الختم إلى الله عزوجل ؛ فلينبّه على أن هذه الصّفة في فرط تمكنّها ، وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي.

ألا ترى : إلى قولهم فلان مجبول على كذا ، ومفطور عليه ، ويريدون أنّه بليغ في الثبات عليه ، وكيف يتخيّل ما خيّل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم ، وسماجة حالهم ، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم.

ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ـ وهي ختم الله على قلوبهم ـ مثلا : كقولهم سال به الوادي إذا هلك ، وطارت العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ، ولا في طول غيبته ، وإنّما هو تمثيل : مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي

٣١٢

طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، فكذلك مثّلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق ، بحال قلوب ختم الله عليها ، نحو قلوب الأغتام (١) التي هي في خلوّها من الفطن كقلوب البهائم ، أو بحال قلوب البهائم أنفسها ، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئا ولا تفقه ، وليس له عزوجل فعل في تجافيها عن الحق ، ونبوها عن قبوله ، وهو متعال عن ذلك.

ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله ، فيكون الختم مسندا إلى اسم الله على سبيل المجاز ، وهو لغيره حقيقة ، تفسير هذا أن للفعل ملابسات شتّى : يلابس الفاعل ، والمفعول به ، والمصدر ، والزمان ، والمكان ، والمسبّب له ، فإسناده إلى الفاعل حقيقة ، وقد يسند إلى هذه الأشياء عن طريق المجاز المسمّى استعارة ، وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل ، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته ، فيستعار له اسمه ، فيقال في المفعول به : عيشة راضية ، وماء دافق ، وفي عكسه : سيل مفعم ، وفي المصدر : شعر شاعر ، وذيل ذائل ، وفي الزمان : نهاره صائم ، وليله قائم ، وفي المكان : طريق سائر ، ونهر جار ؛ وأهل مكة يقولون : صلّى المقام ، وفي المسبب : بنى الأمير المدينة ، وناقة ضبوت ، وحلوب» (٢) الخ.

هذا هو نص كلام الزمخشري في الكشاف ، وبينه وبين كلام الطبرسي فرق بعيد ، ومثل هذا هو الّذي جعل مؤلف «مجمع البيان» لا

__________________

(١) جمع أغتم ، وأصل الغتمة اللّون المائل إلى السواد ، كأنه وصف به من ليس له قلب صاف ، قال المؤلف في كتابه : «أساس البلاغة» فلان أغتم ، من قوم غتم ، وأغتام ، وفيه غتمة ، وهي العجمة في المنطق من الغتم ، وهو الأخذ بالنّفس.

(٢) ضبت بالشيء وعليه : قبض شديدا ، وهو مثله في الوزن أيضا ، فالناقة الضبوت ضد الناقة الحلوب.

٣١٣

يقنع بما وصل إليه ، حتى يصله بما جدّ له من العلم ، فيخرج ما أخرج من كتاب جديد ، جمع فيه بين الطريف والتليد!.

***

إنّني أقف هنا موقف الإكبار والإجلال لهذا الخلق العلمي ، بل لهذه العظمة في الإخلاص للعلم والمعرفة ، فهذا الصنيع يدلّ على أنّ الرجل كان قد بلغ حبّ الدراسات القرآنية حدا كبيرا ، فهو يتابعها في استقصاء ، ثم يجهد نفسه في تسجيلها ، وترتيبها على هذا النحو الفريد الّذي ظهر في «مجمع البيان» ، ثم لا يكتفي بما بذلك في ذلك من جهد كفيل بتخليد ذكره ، حتّى يضيف ما جدّ له بعد أن انتهى من تأليف كتابه ، ولعله حينئذ كان قد بلغ السبعين أو جاوزها!.

إن هذا الّلون من المتابعة ومن النشاط العقلي ، أو المراقبة العلمية العقلية لفن من الفنون ، وما كان منه ، وما جدّ فيه ، وما يمكن أن يضاف إليه ؛ هو السمة الأولى التي يتّسم بها العالم المخلص المحب لما يدرس ، الّذي يؤمن بالعلم ، ويعرف أن بابه لم يقفل ، وأنه ليس لأحد أن يزعم أنه قال في شيء منه الكلمة الأخيرة ، فهو يتابع «السوق العلمية» إن صحّ هذا التمثيل ، ويراقبها مراقبة الهواه الّذين يحرصون على اقتناء الطرف والتحف ، ونحن نجد هذا الخلق العلمي في عصرنا الحاضر هو الذروة التي وصل إليها علماء الاختراع والكشف ، فإن من تقاليد العلم المقدسة أن تراقب الدراسات ، وتعرف التطورات ، وأن يتّجه النّظر إلى جديد يعرف به لا أن يتجمد تجاه ما عرف.

إن هذا السلوك العلمي الرفيع الّذي يوحي به القرآن الكريم ، فإن الله تعالى يقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، ويأمر رسوله بأن يستزيده من العلم ، ويجعله من أعزّ آماله التي يتوجه فيها بالدعاء إلى ربّه فيقول :

٣١٤

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.)

فإذا كان الإنسان مهما أوتي من العلم لم يؤت إلّا قليلا منه.

وإذا كان المثل الأعلى للبشرية الكاملة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محتاجا إلى أن يستزيد ربّه علم ما لم يعلم ، فما بالنا بالإنسان المحدود علما وعقلا.

أليس من واجبه أن يتطلّع دائما إلى كل أفق ليعلم ما لم يكن يعلم.

ولذلك طربت وأخذتني روعة لصنيع هذا العالم الشيعي الإمامي ، حيث لم يكتف بما عنده ، وبما جمعه من علم شيخ الطائفة ومرجعها الأكبر في التفسير «الإمام الطوسي صاحب كتاب التبيان» حتى نزعت نفسه إلى علم جديد بلغه ، هو علم صاحب الكشاف ، فضمّ هذا الجديد إلى القديم ولم يحل بينه وبين اختلاف المذهب ، وما لعلّه يسوق إليه من عصبيّة ، كما لم يحل بينه وبينه حجاب المعاصرة ، والمعاصرة حجاب.

فهذا رجل قد انتصر بعد انتصاره العلمي الأوّل نصرين آخرين :

نصرا على العصبيّة المذهبية ، ونصرا على حجاب المعاصرة ، وكلاهما كان يقتضي المعاضمة ، والمنافرة ، لا المتابعة والمياسرة.

وإن جهاد النّفس لهو الجهاد الأكبر لو كانوا يعلمون.

فإذا كنت أقدم هذا الكتاب للمسلمين في كل مذهب ، وفي كل شعب فإنّما أقدّمه لهذه المزايا وأمثالها ، وليعتبروا بخير ما فيه من العلم القوي ، والنهج السّوي والخلق الرضيّ.

وقد يكون في الكتاب بعد هذا ما لا أوافق أنا عليه ، أو ما لا

٣١٥

يوافق عليه هؤلاء أو أولئك من قارئيه ، أو دارسيه. ولكن هذا لا يغض من عظمة هذا البناء الشامخ الذي بناه الطبرسي ، فإن هذا شأن المسائل التي تقبل أن تختلف فيها وجهات النّظر ، فليقرأ المسلمون بعضهم لبعض ، وليقبل بعضهم على علم بعض ، فإن العلم هنا وهناك ، والرأي مشترك ، ولم يقصر الله مواهبه على فريق من الناس دون فريق ، ولا ينبغي أن نظل على ما أورثتنا إيّاه عوامل الطائفية والعنصريّة من تقاطع وتدابر ، وسوء ظن ، فإن هذه العوامل مزوّرة على المسلمين ، مسخّرة من أعدائهم عن غرض لم يعد يخفى على أحد.

إن المسلمين ليسوا أرباب أديان مختلفة ، ولا أناجيل مختلفة ، وإنّما هم أرباب دين واحد ، وكتاب واحد ، وأصول واحدة ، فإذا اختلفوا فإنّما هو اختلاف الرأي مع الرأي ، والرواية مع الرواية ، والمنهج مع المنهج ، وكلّهم طلّاب الحقيقة المستمدة من كتاب الله ، وسنة رسول الله ، والحكمة ضالتهم جميعا ينشدونها من أي أفق.

فأوّل شيء على المسلمين ، وأوجبه على قادتهم وعلمائهم أن يتبادلوا الثقافة والمعرفة ، وأن يقلعوا عن سوء الظن ، وعن التنابز بالألقاب ، والتهاجر بالطعن والسباب ، وأن يجعلوا الحق رائدهم ، والإنصاف قائدهم ، وأن يأخذوا من كل شيء بأحسنه.

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١).

محمود شلتوت

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن طبع دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة المجلد الأول ص ١٩ مطبعة مخيمر.

٣١٦

٣ ـ تفسير القرآن الكريم

للسيد عبد الله شبر

وكتب عن هذا التفسير العظيم الدكتور حامد حفني داود أستاذ كرسي الأدب العباسي بجامعة الجزائر حاليا وإلى القارىء الكريم نصّ كلام الدكتور أيده الله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم

علم التفسير من أقدم العلوم صلة بالتشريع الإسلامي هذا إذا نظرنا إليه كعلم من علوم الشريعة ، أمّا حين ننظر إليه من زاوية : أصول الشريعة فهو أول علومها ، باعتبارها تابعا ، وملاصقا للقرآن نفسه.

وقد كان جبريل ـ عليه‌السلام ـ ينزل بالآيات القرآنية منجمة على صاحب الشريعة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان يتدارس القرآن العظيم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رمضان من كلّ عام.

وكان الصحابة بحكم ملابستهم مع الرسول عليه‌السلام ، وتأدبهم بآدابه وملازمتهم حضرته في غدوّه ورواحه يفهمون ما ينزل من الآيات مرتبطة بأسباب النزول ، وأحداثه وملابساته.

٣١٧

وكان عبد الله بن عباس من النّفر القليل من الصحابة الذين دعا لهم الرسول بفهم الوحي والتنزيل.

وقد نمى هذا الاستعداد في نفس ابن عباس كذلك ملازمته للإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد انتقال حضرة الرسول إلى الرفيق الأعلى ، (وعليّ) كما نعلم باب هذا المنهل الفيّاض من علوم النبوّة ، وواضع حجر الأساس في الحضارة الروحية الإسلامية.

ومن ثم كانت مأثورات ابن عباس ورواياته في تفسير آيات القرآن أوّل ما عرف من التفاسير الّتي تستند في جملتها على الحديث والأثر.

وإذا كان ابن عباس معدودا في الرّعيل الأول ممّن عاصر الإمام عليا رضوان الله عليه فإنا نعلم من ذلك التفسير بالأثر والحديث النبوي من العلوم التي تفرّد بها البيت النبوي ، وعرف بها الأئمة قبل غيرهم ، واختصّ بها ابن عباس بتوجيه منهم.

فلما كان العصر العباسي وازداد اتصال العرب بحضارات الفرس والرومان واليونان ، والهند وتلاطمت هذه الحضارات في العقل العربي كما تتلاطم الأمواج في المحيط الواسع ، حدث الامتزاج الفكري ، فعرف العرب الحضارة المادية من الفرس ، ونظم الإدارة وأنواعها ، ورأوا ما عليه المجوس من أخلاق وعقائد ، وعرفوا من اليونان فلسفتهم ، ومنطقهم وعلومهم القديمة ، واطلعوا على ما عند الهند من حكمة وروحانيّة.

وتمخّض من هذا المزج العجيب عقل عربي مكتمل الجانب يزن الفكرة بميزان الشرع والعقل معا ، ويجمع في أحكامه بين المنقول والمعقول.

وفي القرن الثالث والرابع الهجريّين حين بلغت الحضارة الإسلامية

٣١٨

مكان الذروة انعكست هذه الجوانب الفكرية في التشريع الإسلامي ، فظهرت تلك الروحانيات الخالدة واضحة في علوم الإسلام الدينيّة ، والاجتماعية ، والإنسانية.

وكان للتفسير الحظ الأوفر من هذه الجوانب فتعدّدت مذاهب المفسّرين ، فمنهم من آثر جانب المنقول فاكتفى في تفسيره بما جاء في الحديث والأثر ، كما فعل ابن جرير الطبري إمام المفسّرين ، والجلال السيوطي في كتابه : «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور». وكما رواه البخاري في صحيحه.

ومنهم من جعل للمنطق ، والجدل ، والفلسفة النصيب الأوفر من تفسيره مثل : الفخر الرازي.

وكان اهتمام المفسّرين بتفسير القرآن والكشف عن إعجازه باعثا قويّا في تطوير علوم اللّغة العربيّة نفسها.

وإنّ علوم اللّغة العربية وما تشتمل عليه متونها ، ونحوها ، وصرفها وكذا علوم المعاني ، والبيان ، والبديع تعتبر في الحقيقة ثمرة من ثمار الكشف عن وجوه إعجاز القرآن الكريم.

أي أن محاولة الكشف عن الإعجاز كانت هي الباعث على نشأة علوم اللّغة العربيّة ، كما كانت هي السبب الرئيسي في تقدّم هذه العلوم.

وكما تلوّنت بعض التفاسير بالمناهج الفكريّة ، تلوّنت كذلك بالمناهج اللغويّة البحتة ، فكانت لبعضها غلبة الدراسات النحويّة مثل : تفسير «البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي».

وبرزت في بعضها العناية بوجوه «البلاغة» وفنون البيان وهو القدر

٣١٩

الّذي نلحظه في تفسير «الكشاف للزمخشري» ومن نحا نحوه من المفسّرين.

ومن المفسرين من آثر الاهتمام بإبراز «الأصول الفقهية» وما اشتملت عليه من عبارات ومعاملات كالقرطبي ، وابن عطية ، وابن العربي ، والجصّاص.

وفي عصرنا الحديث اتّجه بعض المفسّرين اتجاهين على طرفي نقيض :

اتّجاه جعل علماؤه تفسيرهم «دائرة معارف عامّة» يجمعون فيه بين المنقول والمعقول ، ويؤلّفون فيه بين علوم الشريعة ، وعلوم الطبيعة. كما فعل الألوسي في تفسيره ـ كما إنّه كثيرا ما يختلط في هذا النوع من التفاسير الصحيح منها بالتقسيم ممّا يجعل للإسرائيليات مجالا فيها ، مما يجعلها بعيدة عن الثقة ، فتكون قابلة للطعن والرّفض.

أمّا الاتجاه الثاني فقد راعى فيه أصحابه حاجة أهل العصر إلى فهم القرآن والوقوف على معانيه من أقرب سبيل دون الإسهاب في التأويل مع العناية بالتركيز والإيجاز ـ وأرادوا من ذلك التيسير على القارىء العابر حتى لا يضيق وقته وجهده في مطوّلات لا حاجة له بها ـ إذ هي بالمتخصّصين ، والدارسين أجدر فكان من ذلك «المصحف المفسر للعلّامة محمد فريد وجدي» والمصحف الميّسر «لفضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى» ، و «تفسير فضيلة العلّامة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصريّة الأسبق».

والتفسير الّذي نقدّمه للقارىء الإسلامي في هذا السفر : نموذج رفيع لهذا النوع من التفاسير التي تجمع بين الإفادة والتركيز ، وتعطي للقارىء معاني الآيات من أقرب طريق وأيسره.

٣٢٠