البرهان على عدم تحريف القرآن

السيد مرتضى الرضوي

البرهان على عدم تحريف القرآن

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١).

وقد أمر الله تعالى باتباعهم والاقتداء بهم بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٢).

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٣).

هؤلاء هم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن يستطيع أن يقول فيهم ما لا يرضى الله تعالى ويخالف قوله (٤).

بحث قيم في الاختلاف

عقد الإمام المقبلي (٥) في كتابه : «العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ» فصلا قيّما عرض فيه لأمر الاختلاف في الدين ، واستطرد لأمر الصحابة ، وعدالتهم ، نأتي به هنا ببعض اختصار لما فيه من الفوائد الجزيلة ، والقواعد الجليلة.

نوّه الله سبحانه بالاختلاف في الدين ، وكرّر ذلك في كتابه العزيز لعلمه سبحانه وتعالى بضرره في الدنيا ، وكم كرّر ذلك في بني إسرائيل قائلا :

__________________

(١) سورة الحجرات : الآية ١٥.

(٢) سورة التوبة : الآية ١١٩.

(٣) سورة التوبة : الآية ١٠٠.

(٤) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ٥٩٢ ط بيروت.

(٥) هو الشيخ صالح مهدي المقبلي من علماء اليمن المجتهدين توفي سنة (١١٠٨ ه‍) كان في الأصل على مذهب الزيدية ، ثم طلب الحق بعدم التقليد فانتهى إلى ترك التمذهب ، وقبول الحق الذي يقوم على الدليل ، وقد شهد له الإمام الشوكاني بالاجتهاد المطلق ، رحمه‌الله ورضي عنه.

١٠١

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ونحوها ، وصدق الله تعالى ، ما وجدنا الخلاف إلّا في محلّ قد تبيّن الحق فيه. وقد تمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهى رسول الله عن مظان الخلاف ، وحذّر منها كالجدل في القدر. وقال تعالى :

(لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.)

وقال رسول الله : «اتركوني ما تركتكم» ، وكمّل الله سبحانه الدين على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يبق شيء يقرّبنا إلى الجنّة إلّا بيّنه لنا ، ولا شيء يقربنا إلى النار إلّا بيّنه ، وما عفا الله عنه ، وسكت عنه رسوله ، فلا يريد الله أن نبحث عنه بمجرّد عقولنا القاصرة ، فإنّها إنما جعلت الدنيا في قدر محدود في علمه سبحانه ، وجاءت الرسل بتتميم ما تتمّ به النعمة ، وتؤكد الحجّة ، فما عدا ذلك فضول يخاف ضرره ولا يرجى نفعه ، وقد قام بمراد الله في ذلك خير القرون فكانوا يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة وما فرط منهم تلافوه أشدّ التلافي ، ولم يصرّوا على ما فعلوه وهم يعلمون. كما كان من طلحة والزبير ، وعائشة رضي الله عنهم.

ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوّة على أمراء الجور أشدّ الصبر إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه ، ورسوله ، ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله ، ولم يتركهم يتخبّطون.

ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ، ومسألة خلق القرآن ، والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم ، واتصل بذلك المناظرة عند الملوك والأمراء وصارت عصبيّة ، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين ، وما هو إلّا أنّهم لمّا تعدّوا طورهم ، ولم يقفوا على حدّهم الّذي وقفهم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ، تركهم

١٠٢

الله وشأنهم ولبسهم شيعا ، وأذاق بعضهم بأس بعض ، فكان خليفة يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم ، ويخلفه الآخر ، وينقض ما فعله الأوّل وينكل بهؤلاء ، ويوطىء شأن هؤلاء حتى استحكم الشرّ ، وصار النّاس شيعا.

نجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ ، أو دولة ، أو غير ذلك من الأسباب الدنيويّة ، والعصبيّة الطبيعيّة كما رووا أنّ ابن عبد الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته فقيل له ، قال الشافعي :

الربيع أحقّ بمجلسي ، فغضب وتمذهب لمالك ، وصنّف كتابا سمّاه :

(الرد على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنة).

هكذا ذكره ابن السبكي.

وقد علم الله والراسخون في العلم أنّ الحق لم يكن برمته عند فرقة ، والباطل عند البواقي ، ولكن الحق والحمد لله لا يخرج عن مجموعهم ، وما الحق كلّه إلّا عند من بقي على ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بدّ له من الخطأ في اجتهاداته في المسائل المعفوّ عن الخطأ فيها ، لا في المهمّات.

وقل لي : من ذا الّذي وقف على ما وقف ، وقنع بما جاء عن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يتمذهب ، ويؤثر الأسلاف على الكتاب والسنة ، ويترك هذا الداء الدويّ ، ويتمسك بالإنصاف فيما يأتي ويذر؟ لا والله ما أعرف أحدا في هذه الكتب التي طبقت البسيطة إلّا وقد تخبّط وخلّط ، وتعسف لمذهبه وما أنصف ، وردّ كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرّف!

وبعد أن تكلّم عن أحوال المتكلمين ، أخذ يبيّن أحوال المحدثين فقال :

وهؤلاء المحدّثون الذين يزعمون الثبوت على السنّة ، وينهون عن

١٠٣

الكلام (١) قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم ، لأنّهم قاعدون في طريق الشريعة ، والمفسدة والحرب ، والفتك ، والحيّات ، والعقارب ، والسمّوم ، والسّباع في الجادة أعظم ضررا منها في ثنيات الطريق ، مع أنّ داءهم جاء من الخوض في الكلام ، وصاروا أشد عصبيّة من المتكلمين ، لأنّ المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش ، وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة ، واختراع التعليلات ، بل يعدّون ذلك ظرافة وكمالا ، فربّما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو ذلك ، كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر ، ثم تشبّثوا بالكسب ، ثم تبيّن عواره ، فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى كما مضى ، وليس ثبوت الاختيار يختّص بالمعتزلة حتى ينفر منه ، إنّما هو دين الله وحجته.

فمن حقّق من المتأخرين هوّن ما عظّم سلفه ، ولانت عريكته.

وأمّا المحدّثون فإنّما أخذوا شيئا بأوّل رؤية ، ثم لم ينقروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ، ولكنّه بدعة من أوّله إلى آخره ، فما لهم دخلوا فيه! كأن دخولهم من غير نيّة ، لكن دسّ لهم الشيطان :

أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم هؤلاء؟ فلا هم اقتصروا على ما هم عليه ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكّنوا من الرد عليهم!

هذا الإمام أحمد حفظه للسنة ، وتقدّمه وتجريده نفسه لله سبحانه وتعالى لا يجهل ، لكنّه لما تكلّم في مسألة خلق القرآن وابتلي بسببها ، جعلها عديل التوحيد أو زاد! حتّى إنّه بلغه أنّ محمد بن هارون قال لإسماعيل بن عليّة :

يا بن الفاعلة! قلت : القرآن مخلوق! أو نحو هذه العبارة!

__________________

(١) أي علم الكلام.

١٠٤

قال أحمد : لعلّ الله يغفر له ، يعني محمد بن هارون ، وكان اسماعيل بن عليّة أحق أن يرجو له أحمد ، لأنّه إمام مثله علما وورعا ، وإن فرض خطؤه فيما زعم أحمد ، فعفو الله أوسع ، وما خطؤه فيها كمن يقعد في الخلافة خاليا عن صفاتها ويعوث (١) في الدماء ، والأموال!.

غفر الله لأحمد ، لقد بلغ في هذه المسألة ما أمكنه من التعصب ، حتى صار يرد كل من خالفه فيها ولا يقبل روايته ، وهذه خيانة للسند ، فإنّ الّذي أوجب قبول خبر العدول ، يوجب قبول خبر هذا ، وها هو ذا يقول : نروي عن القدريّة.

ولو فتّشت البصرة وجدت ثلثهم قدرية. هكذا في تهذيب المزّي وغيره.

وهذه المسألة لا تزيد على القدر لو كان للخلاف في المسألتين استقرار ، بل زاد فصار يرد الواقف ويقول :

«فلان واقفي (٢) مشوم» بل غلا وزاد وقال : لا أحبّ الرواية عمن أجاب في المحنة كيحيى بن معين. مع أن أحمد ليس من المتعنتين ، ولا من المتشددين.

فمن شيوخه : عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوّام.

قال فيه النسائي : ليس بثقة ، وقال الدار قطني بتركه. وقال ابن معين :

كذّاب خبيث عدوّ الله ، ليس بشيء وقال : جنّ أحمد ، يحدث

__________________

(١) يقال : عثى يعثي وعثا وفيه لغة أخرى عاث يعيث وهو أشدّ الفساد ص ٤٣ من كتاب «القرملين».

(٢) الواقف هو الذي يتكلم في مسألة خلق القرآن.

١٠٥

عن عامر بن صالح؟ وقال الذهبي : واهن. لعلّ ما روى أحمد عن أحد أو هى منه ، مع غلوّ الذهبي (١) ، في أحمد ورؤيته له بعين الرضا ، وعلى الجملة فلا يشك أنّ روّاته لم يكن فيهم بالشحيح ، إلّا أن يكون من قبيل مسألة القرآن. فيا هذا ما الّذي عندك في القرآن والسنة.

إن القرآن ليس بمخلوق؟ أو أنه مخلوق؟ وبحثك ، وبحث غيرك كلاهما بدعة! والله وصف القرآن بأنّه قرآن عربيّ (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) وقال :

جعلناه ، ونزلناه ، وفصلناه ، ولم يقل خلقناه ، ولم يقل ليس بمخلوق.

فمن أين جئت بهذه السنة.

ولمّا أجاب علي بن المديني الذي قال البخاري (٢) :

ما أستحقر نفسي عند أحد إلّا عنده فأجاب في المحنة فتكلموا فيه ، مع أنّه عذر له ، لو أجاب في الترك ، كيف مسألة خلق القرآن حتى تحاماه بذلك مسلم (٣) مع تساهله في رجاله.

وأعجب من هذا أنّ الذابّين عن عليّ بن المديني لم يجدوا من الذبّ إلّا قولهم :

روى عنه فلان ، وروى عنه فلان أنّه قال :

من قال إنّ القرآن مخلوق فقد كفر! ومن قال : إنّ الله لا يرى فقد كفر!

__________________

(١) وصف المقبلي الذهبي بأنّه كان يتكلف الغمز في أهل البيت ، ويعمّي عن مناقبهم ، ويحابي بني أميّة ، ولا سيّما المروانية.

(٢) من الذين تكلموا في مسألة خلق القرآن البخاري ونصّ قوله : أفعالنا مخلوقة والفاظنا من أفعالنا.

(٣) مسلم بن حجاج صاحب الكتاب المشهور.

١٠٦

فهذا التنزيه إن صحّ هو الذي ينقم عليه به لأنّه تكفير مسلم يبوء به أحدهما من غير دليل ، وكيف وما سلم من هذا التكفير أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها ومن وافقها من الصحابة والتابعين في نفي الرؤية ـ ولكن المحدّثين لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام ، لأنّه غير صنعتهم ـ وكلّ صاحب سلعة لا يعرض إلا سلعته ، فنقر عن هذا المعنى وخذ في كلّ فن عن أئمّته ، وإيّاك والدخيل فيه ـ وتراهم يكررونه فمن أرادوا تنزيهه ، أو مدحه قالوا :

من قال : القرآن مخلوق فهو كافر ـ ذكروا هذا في جماعة ، منهم ابن لهيعة وغيره بل قالوا : ترك المحاسبي ميراث أبيه وقال :

أهل ملتين لا يتوارث (١) لأن أباه كان واقفيّا.

وقال يحيى بن معين أمير الجرح والتعديل :

كان عمرو بن عبيد دهريّا! قيل : وما الدهري؟ قال : يقول : لا شيء .. وما كان عمرو هكذا (٢).

فلو طلبت أعظم المتكلمين ، بل القصّاص المجازفين لا تكاد تجد من يتجاسر هذا التجاسر على رجل علمه ، وزهده ، وتألهه ، مثل الشمس في الضحى ، وقد تبعه شطر هذه البسيطة.

وقال يحيى بن معين في عنبسة بن سعيد بن العاص بن أمية ثقة ـ وهو جليس الحجاج بن يوسف ، وكذا قال النسائي ، وأبو داود ، والدارقطني ، بل روى له البخاري ومسلم ، وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه والمتسبّب في خروجه على عليّ ، وفعل كلّ طامّة.

__________________

(١) راجع تعريفهم للصحابي الذي مرّ تحت عنوان : من هو الصحابي.

(٢) راجع تعريفهم للصحابي الذي مرّ تحت عنوان : من هو الصحابي.

١٠٧

وقال ابن حجر العسقلاني وهو إمام المتأخرين (كامل) في ترجمة مروان :

إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه!!

كأنّ الصحبة نبوّة ، أو أن الصحابي معصوم (١)! وهو تقليد في التحقيق بعد أن صارت عدالة الصحابة مسلّم بها عند الجمهور.

والحق أنّ المراد بذلك (الغلبة) فقط ، فإنّ الثناء من الله تعالى ورسوله ـ وهو الدليل على عدالتهم ـ لم يتناول الأفراد بالنصوصية إنّما غايته عموم ، مع أنّ دليل شمول الصحبة لمطلق الرأي (٢) ونحوه ركيك جدا ، وليت شعري من المخاطب الموصي؟ وهل هو عين الموصى به في نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبّوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه.

فانظر أسباب تلك الأحاديث (٣) وهو وقوع شيء من متأخري الإسلام في حق بعض السابقين ، كما قال لعمار رضي الله عنه أيسبني هذا العبد!.

وإذا أردت تعميم اسم الصحبة من الطرف الأعلى إلى الأدنى ، أعني من السابقين إلى من ثبت له مطلق الرؤية ، فانظر مواقع الممادح التي كانت في الكتاب والسنّة وأفرق بين ما يقضي بالدرجة المنيفة التي أقل أحوالها العدالة وما يقضي بنوع شرف ، مع أنّه ربّما جاء تفريق النبوي صريحا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض فقراء الصحابة :

«هو خير من ملء الأرض مثل هذا».

__________________

(١ ـ ٢) راجع تعريفهم للصحابي الذي مرّ تحت عنوان : من هو الصحابي.

(٣) قيل هذا الحديث عند ما تقاول عبد الرحمن بن عوف ، وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال ، ولمّا بلغ ذلك رسول الله قال : لا تسبّوا أصحابي الحديث ـ فهو إذا في مناسبة خاصة والحديث رواه مسلم.

١٠٨

يعني بعض الرؤساء من متأخري الإسلام.

وعلى الجملة فمن تتّبع تلك الموارد ، وسوى بين الصحابة فهو أعمى ، أو متعام.

فمنهم من علمنا عدالتهم ضرورة وهو الكثير الطبيب ، ولذا قلنا (إنّها غالبية فيهم) بحيث يسوغ ترك البحث في أحوالهم.

ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يخرج عن العدالة فيجب إخراجه (كالشارب) (١) من العدالة لا من الصحبة.

ومنهم من أسلم خوف السيف كالطلقاء (٢) وغيرهم.

فمن ظهر حسن حاله فذاك. وإلّا بقي أمره في حيز المجهول وهم في حيّز النّدور ، ومع هذا فالعدالة غير العصمة ، وقد غلا الناس فيمن نبتت صحبته في التعنّت في إثبات العدالة.

فلو سلّمنا شمول الصحبة ، ثم العدالة لم يبلغ الأمر إلى الحدّ الّذي عليه غلاة الرواة.

ولو نفعت الصحبة نحو بشر بن مروان على نحو الثبوت ، أو الوليد لتبيّن لنا ، أنّ الصحبة لا يضرّ معها عمل غير الكفر فتكون الصحبة أعظم من الإيمان ، ويكون هذا أخصّ من مذهب مقاتل ، وأتباعه من المرجئة. ثم أين أحاديث (لا تدري ما أحدثوا بعدك) وهي متواترة المعنى ، بل لو ادّعي في بعضها تواتر اللّفظ لساغ ذلك ، والمدّعون للسنّة ادّعوا الصحبة أو ثبوتها لمن لم يقض له بها دليل ، وفرعوا عليها ما ترى. ثم بنوا الدّين على ذلك ألم يقل الله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) في رجل متبيّن صحبته (٣) ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة.

__________________

(١) أي شارب الخمر.

(٢) كابي سفيان ومعاوية. ومن معهما.

(٣) اي إنه من الصحابة وهو الوليد بن عقبة.

١٠٩

ومنهم من شرب الخمر (١) ، وما لا يحصى مما سكت عنه رعاية لحقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يلجىء إليه ملجأ ديني فيجب ذكره.

ومن أعظم الملجئات ترتب شيء من الدين على رواية مروان ، والوليد بن عقبة (٢) وغيرهما ، فإنّها أعظم خيانة لدين الله ، ومخالفة لصريح الآية الكريمة ، والنقم بذلك لا يعود على جملة الصحابة بالنقص ، بل هو تزكية لهم فإيّاك والاغترار.

ولا شك أنّ البخاري من سادات المحدثين الرفعاء ـ فما ظنّك بمن دونه ومع هذا تجنّب (البخاري) ما لا يحصى من الحفاظ العبّاد كما لخبرك عنه كتب الجرح والتعديل ، وعلي بن المديني تجنّبه مسلم.

وقال العجلي في عمر بن سعد بن وقاص تابعي ثقة روى عنه الناس. وهو الذي باشر قتل الحسين.

فقل لي أي جرح في الدين أكبر من هذا! وهذا تنبيه.

وإلّا فهذا باب لو فتح وصنّف فيه لكان فنّا كبيرا ، وكذلك سائر الكلام من المحدّثين في مخالفيهم في العقائد فاختبره ، وشاهد هذه الدعوى من كتب الجرح ، فتأمل كلامهم في الموافق ، والمخالف ، واجعله من شهادة الأعداء ، وأهل الإحن.

وليتهم جعلوا ذلك باطنا ، وظاهرا ، ولكن يقولون :

نحن نروي عن المبتدعة ثم يعاملونهم هذه المعاملة.

قال يحيى بن معين : وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثّقه (شيعي).

__________________

(١) كقدامة بن مظعون.

(٢) هو الذي نزلت فيه الآية (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

١١٠

قال : وشيعيّ ثقة ، وقدريّ ثقة.

وقال العجلي : كذلك في عمران بن حطان ثقة وهو خارجي مدح ابن ملجم (١) لعنه الله بقوله :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلّا ليبلغ عند الله رضوانا

فانظر عمن رضي بقتل علي ، وعمّن قتله طلحة ، وعمن قتل الحسين ، وتوثيقهم لهم.

وأمّا علماء الأمة ، وحفاظها كحماد بن سلمة الإمام ، ومكحول العالم الزاهد ، فتجنّبهم مثل البخاري ومسلم أيضا.

وقد اختلفت عقائد المحدثين ، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنّه أمير المؤمنين ، وبأنّه أكذب الناس ، أو قريب من هاتين العبارتين ، وانظر الصحيحين كم تحامى صاحباهما من الأئمة الكبار الّذين يتطلب النقم عليهم تطلّبا ، ولو نظر تجنب أفضلهم لاضمحل ، ولما أثر في ظنّ صدقهم إلا كقطرة دم في بحريم ـ وفي رجالهما من صرّح كثير من الأئمة بجرحهم ، وتكلم فيهم من تكلّم بالكلام الشديد ، وإن كان لا يلزمهما ـ أعني صاحبي الصحيحين ـ إلّا العمل باجتهادهما.

وأعجب من هذا أنّ في رجالهما من لم يثبت تعديله ، وإنّما هو في درجة المجهول ، أو المستور.

قال الذهبي : في ترجمة حفص بن بغيل قال ابن القطان : لا يعرف له حال ولا يعرف ، يعني فهو مجهول العدالة ، ومجهول العين ، فجمع الجهالتين.

قال الذهبي : لم أذكر هذا النّوع في كتابي «الميزان».

__________________

(١) ابن ملجم هو الذي اقترف إثم قتل عليّ رضي الله عنه.

١١١

قال ابن القطان : تكلم في كلّ ما لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل ، أو أحد ممّن عاصره ما يدل على عدالته ، وهذا شيء كثير ، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعّفهم أحد ، ولا هم مجاهيل ؛

وقال في ترجمة مالك بن خير الزبادي :

في رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أحدا نصّ على توثيقهم.

فانظر : هذا العجب. يروي عمن حاله ما ذكر ، ويترك أئمة مشاهير مصنّفين لأنّهم قالوا بخلق القرآن ، أو وقفوا ، أو نحو ذلك.

والعجب هنا من مجاملة الذهبي بقوله : ولا هم مجاهيل ، فمن لم يعلم عدالته لم تشمله أدلّة قبول خبر الآحاد الخاصة بالعدول ، والاصطلاح على تسميته مستورا لا يدخله في العدول الذين تتناولهم أدلّة قبول الآحاد ، فهذا تفريط ، وإفراط!

يترك أبا حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وابن إسحاق ، وداود الظاهري.

ومنهم : من أذعن له الناس في المغازي ، ومنهم : من تبعه شطر أهل البسيطة ، ثم يروي عن مستور لا يعلم من هو ، ولا ما هو.

وليس مرادنا الحط من الصحيحين ، ولكن ليعلم أنّ الخلاف دخلت مفسدته في كلّ شعب ، فهذا هو ما نحن بصدده من التنقير عن الخلاف فاعلمه ا ه باختصار (١).

ثم قال المقبلي في ذيل هذا الكتاب المسمّى بالأرواح النوافخ فيما شرح به قوله (٢) :

__________________

(١) من كتاب العلم الشامخ للمقبلي.

(٢) ص ٦٨٧ ـ ٦٨٨.

١١٢

وادعوا الصحبة وأثبتوها لمن لم يقض له بها دليل :

وجه هذا الكلام ما كررناه أنّهم يصطلحون على شيء في متأخر الأزمان ، ثم يفسّرون الكتاب ، والسنة باصطلاحهم المجدّد.

والصحبة ليس فيها لسان شرعي ، إنّما هي بحسب اللّغة وكذلك سائر الألفاظ التي وردت بها فضائل الصحابة ، لكن المحدثون اصطلحوا أو قضوا بغير دليل ، على أنّ الصحبة لكلّ من رأى النّبي ، أو رأى هو النبي ولو طفلا ، بشرط أن يكون محكوما بإسلامه ، ويموت على ذلك ، ولا يرتد.

ولا يشك منصف بل عاقل أنّ هذه القيود أمر اصطلاحيّ لا تقضي اللغة بها ، لأن الاشتقاق إنّما هو من صحب ، لا من رأى أو رئي تحقيقا أو تقديرا ، ليدخل الأعمى.

وكان عليهم أن يقولوا تقديرا قريبا أو نحوه ليخرج المعاصر الّذي لم يره ، بل ليخرج كلّ أحد ، إذ التقدير بحر واسع ، فهذا أصل الخطأ في هذه المسألة كما قد حذرناك من هذه الغلطة التي وقع الناس كثيرا فيها.

ثم بعد أن تمّ لهم تعريف الصحبة ذيلوها باطّراح ما وقع من مسمّى الصحابي منهم من يتستر بدعوى الاجتهاد ، دعوى تكذبها الضرورة في كثيرة من المواضع.

ومنهم من يطلق! ويا عجباه من قلة الحياء في ادعاء الاجتهاد لبسر بن أرطأة (١) ، الّذي انفرد بأنواع الشر لأنّه مأمور المجتهد معاويه ناصح

__________________

(١) نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة أن معاوية وجه بسر بن أرطأة إلى اليمن والحجاز وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ويقتلهم ، وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن عباس ، ولأمهما عائشة بنت المدان قصيدة في ذلك نكتفي منها بهذا البيت :

أنحى عليّ ودجى انيّ مرهفة

مشحوذة وكذلك الإثم يقترف

ثم وسوست فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر وتهيم على وجهها.

١١٣

الإسلام في سبّ عليّ بن أبي طالب وحزبه. وكذلك مروان ، والوليد الفاسق ، وكذلك الاجتهاد الجامع للشروط في البيعة ليزيد ومن أشار بها ، وسعى فيها ، أو رضيها وما لا يحصى ، والله ما قال قائلهم ذلك نصحا لله ولرسوله ، اللهمّ إلّا مغفّل لا يدري ما يخرج من رأسه ـ قد سلم مقدمات وغذّى لحمه ، وعروقه بالهوى ، والتقليد ، وعوّد جسمه ما اعتاد ، فصار بذلك غذاؤه. ثم أخذ يتجاسر في البناء على ذلك ، كنظائر لها قلّما يخلو منها أحد ، وان اختلفت مكانتها في الدين. غايته أنّ الورع يتحرّز من الرضا بتلك الطوام ، فمن غاب عن المعصية ثم رضيها ، كان كمن حضرها ، والعكس كما صرّح به الحديث النبوي ... ا ه (١)(*).

__________________

(١) ممّن جعلوهم من الصحابة من لمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصدقات ومنهم من آذاه وقال : (هو أذن) ومنهم من اتّخذوا مسجدا ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، ومنهم من كان في قلبه مرض ومنهم : المعوّقون ، ومنهم الذين اعتذروا في غزوة تبوك وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، وحلفوا للنبي فقبل منهم علانيتهم فنزل فيهم قوله (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

وفي هذه الغزوة همّ أربعة عشر منافقا أن يفتكوا برسول الله في ظلمات الليل عند عقبة هناك.

ولما انصرف النّبي من هذه الغزوة إلى المدينة كان في الطريق ماء يخرج من وشل بوادي المشقق فقال رسول الله : من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يسقين منه شيئا حتى نأتيه. فسبقه إليه نفر من المنافقين واستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله! وقف عليه فلم ير فيه شيئا ، ولمّا علم النّبي بأمر المنافقين قال : أو لم ننههم أن يستقوا منه شيئا حتى نأتيه ثم لعنهم ودعا عليهم.

وبحسبك أن تجد أن في القرآن سورة ، تسمّى سورة المنافقين. وسيأتيك بيان مفصّل عن المنافقين في غزوة تبوك.

وروى البخاري عن زيد بن ثابت : لما خرج النبي إلى أحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة منهم : نقتلهم وقالت فرقة : لا نقتلهم ، نزلت الآية الكريمة : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ...) الآية قال الراغب في مفرداته : «أركسهم أي ردّهم إلى كفرهم ـ والكلام في هذا الباب ـ كثير جدا.

(*) أضواء على السنة المحمدية ص ٣٤٤ ـ ٣٥٣.

١١٤

شمول الصحبة ومميزاتها

كما أن الصحبة تشمل من مردوا على النفاق ، والذين ابتغوا الفتنة من قبل ، وقلّبوا لرسول الله الأمور ، وأظهروا الغدر ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.

وفيهم : من كان يؤذي رسول الله وقد وصفهم الله بقوله :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ : هُوَ أُذُنٌ) .. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١). و (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً)(٢).

وفيهم المخادعون والذين يظهرون الإيمان وقد وصفهم الله تعالى بقوله :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللهَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٣).

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(٤).

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٥).

والحاصل أن الصحبة منزلة عظيمة ، وفضيلة جليلة ، وهي

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٦١.

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٥٧.

(٣) سورة البقرة : الآيتان ٨ ـ ٩.

(٤) سورة البقرة : الآية ١٤.

(٥) سورة التوبة : الآيات ٧٥ ـ ٧٦ ـ ٧٧.

١١٥

بعمومها تشمل من امتحن الله قلبه للإيمان ، وأخلص لله ، وجاهد ، وناصر ، ومن رقى درجة الكمال النفساني. فكان مثالا لمكارم الأخلاق ، وهم يخشون الله ، ويمتثلون أوامره ، كما وصفهم الله بقوله :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(١).

كما أنّها لم تشمل من لم يدخل الإيمان قلبه :

(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(٢).

ليت شعري ما هذه العصمة ، أكانت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم بعده؟! فإن كانت في حياته فما أكثر الشواهد على نفي ذلك :

أخرج البيهقي بسنده عن أبي عبد الله الأشعري عن أبي الدرداء قال :

قلت : يا رسول الله بلغني أنّك تقول :

ليرتدّن أقوام بعد إيمانهم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجل ولست منهم (٣).

ومن الغريب أنّ البعض علّل ذلك بأنّ المراد من هؤلاء المرتدين ، هم الّذين قتلوا عثمان ، وإنّ أبا الدرداء مات قبل قتل عثمان ، وبهذا التوجيه يتوجه الطعن على أكثر الصحابة ، فإنّهم اشتركوا بقتل عثمان ،

__________________

(١) سورة الأنفال : الآيات ٢ ـ ٣ ـ ٤

(٢) سورة الفتح : الآية : ١١.

(٣) تاريخ ابن كثير : ٦ / ١٧٠.

١١٦

والمتخلّفون عن ذلك عدد لا يتجاوز أصابع الكف.

وبمقتضى هذا التأويل يدخل في قائمة الحساب عدد كثير هو أضعاف ما في قائمة الشيعة من المؤاخذات ، ومن الشواهد على نفي العدالة في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١ ـ كان رجل يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قرأ البقرة ، وآل عمران ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملي عليه غفورا ، رحيما ، فيكتب : عليما ، حكيما. فيقول له النبي : اكتب كذا وكذا فيقول : أكتب كيف شئت ، ويملي عليه عليما حكيما فيكتب : سميعا بصيرا وقال : أنا أعلمكم بمحمد. فمات ذلك الرجل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الأرض لا تقبله.

قال أنس : فحدّثني أبو طلحة ، أنّه أتى الأرض التي مات فيها الرجل ، فوجده منبوذا فقال أبو طلحة :

ما شأن هذا الرجل؟ قالوا : دفنّاه مرارا فلم تقبله الأرض.

قال ابن كثير : وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه (١).

٢ ـ وهذا الوليد بن عقبة بن أبي معيط الّذي سمّاه الله فاسقا حينما أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على صدقات بني المصطلق فعاد وأخبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم خرجوا لقتاله فأراد أن بجهّز لهم جيشا فأنزل الله فيه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ...) (الآية) فقد كان في عداد الصحابة ، فأين العدالة من

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٦ / ١٧٠.

١١٧

الفاسق؟! (١).

٣ ـ وهذا الجد بن قيس أحد بني سلمة نزلت فيه :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)(٢).

٤ ـ وهذا مسجد ضرار ، وما أدراك ما مسجد ضرار قد بناه قوم ، وسموا بالصحبة يتظاهرون فيه بأداء الصلاة في أوقات لا يسعهم الوصول إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن فضح الله سرّهم ، وأبان أمرهم فهم منافقون.

وأنزل الله فيهم :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ، وَكُفْراً ، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٣).

وكانوا إثني عشر رجلا من المنافقين منهم :

خذام بن خالد بن عبيد ، ومن داره أخرج المسجد.

ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن أبي الأزعر وغيرهم (٤).

٥ ـ وهذا ثعلبة بن حاطب بن عمر بن أميّة ممّن شهد بدرا وأحدا فقد منع زكاة ماله ، فأنزل الله فيه :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢١٢.

(٢) سيرة ابن هشام : ٢ / ٣٣٢.

(٣) سورة التوبة : الآية ١٠٧.

(٤) سيرة ابن هشام : ١ / ٣٤١ ، وتفسير ابن كثير ٢ / ٣٨٨.

١١٨

مُعْرِضُونَ)(١).

وكان ثعلبة هذا من الصحابة ملازما لأداء الصلاة في أوقاتها ، وكان فقيرا معدما ، فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ادع لي أن يرزقني مالا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ويحك يا ثعلبة قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه.

فقال ثعلبة :

والذي بعثك في الحق نبيّا لئن دعوت الله فيرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقّه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

اللهمّ ارزق ثعلبة مالا ، فزاد وفره ، وكثر ماله ، وامتنع من أداء زكاته فأعقبه نفاقا إلى يوم يلقاه بما أخلف وعده وكان من الكاذبين.

٦ ـ وهذا ذو الثدية كان في عداد الصحابة متنسكا عابدا ، وكان يعجبهم تعبّده واجتهاده فأمر النبي بقتله ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إنّه لرجل في وجهه لسفعة من الشيطان ، وأرسل أبا بكر ليقتله فلمّا رآه يصلّي رجع وأرسل عمرا فلم يقتله ثم أرسل عليّا عليه‌السلام فلم يدركه (٢) وهو الذي ترأس الخوارج وقتله عليّ عليه‌السلام يوم النهروان.

٧ ـ وهؤلاء قوم وسموا بالصحبة كانوا يجتمعون في بيت سويلم يثبطون الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر من أحرق عليهم بيت سويلم (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : الآيتان : ٧٥ و ٧٦.

(٢) الإصابة في تمييز الصحابة : ١ / ٤٢٩.

(٣) سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٣٥.

١١٩

٨ ـ وهذا قزمان بن الحرث شهد أحدا ، وقاتل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتالا شديدا فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أجزأ عنّا أحد كما أجزأ عنّا فلان فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أما إنّه من أهل النار.

ولمّا أصابته الجراحة وسقط فقيل له :

هنيئا لك بالجنّة يا أبا الغيداق.

قال : جنّة من حرمل ، والله ما قاتلنا إلّا على الأحساب (١).

٩ ـ وهذا الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس طريد رسول الله ولعينه وهو والد مروان وعمّ عثمان.

حدّث الفاكهي بسند عن الزهري ، وعطاء الخراساني أنّ أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله دخلوا عليه وهو يلعن الحكم فقالوا : يا رسول الله ما باله؟ فقال :

دخل علىّ شق الجدار وأنا مع زوجتي فلانة.

ومرّ النّبي بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي بإصبعه فالتفت فرآه فقال :

اللهمّ اجعله وزغا فزحف مكانه (٢). وكان يسمّى خيط الباطل.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه :

ويل لأمّتي ممّا في صلب هذا.

ومن حديث عائشة أنّها قالت لمروان بن الحكم :

أشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه.

__________________

(١) الإصابة : ٣ / ٢٣٥.

(٢) الإصابة : ٣ / ٢٣٥.

١٢٠