البيان في غريب إعراب القرآن - ج ٢

أبو البركات بن الأنباري

البيان في غريب إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو البركات بن الأنباري


المحقق: الدكتور طه عبد الحميد طه
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
ISBN: 977-419-179-X
الصفحات: ٥٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

أحدهما : أن يكون منصوبا بقالوا ، كما يقال : قلت خيرا وقلت شعرا.

والثانى : أن يكون منصوبا على المصدر.

ورفع (سلام) الثانى لثلاثة أوجه :

الأول : أن يكون مرفوعا ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره ، أمرنا سلام ، أو هو سلام.

والثانى : أن يكون مرفوعا لأنه مبتدأ محذوف الخبر ، وتقديره ، وعليكم سلام.

والثالث : أن يكون مرفوعا على الحكاية ، فيكون نفس قولهم بعينه.

قوله تعالى : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩).

أن جاء ، يجوز أن يكون فى موضع نصب ورفع ، فالنصب على تقدير حذف حرف الجرّ ، وتقديره ، فما لبث (عن) أن جاء ، والرفع على أن تكون أن مع صلتها فاعل لبث ، وتقديره ، فما لبث مجيئه ، أى ، ما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ ، أى مشوىّ.

قوله تعالى : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٧١).

يقرأ يعقوب بضمّ الباء وفتحها.

فمن قرأ بالضمّ كان يعقوب مرفوعا من وجهين :

أحدهما : أن يكون مبتدأ ، والجار والمجرور قبله خبره ، كقولهم : فى الدّار زيد.

والثانى : أن يكون مرفوعا بالجار والمجرور وهو مذهب أبى الحسن الأخفش.

ومن قرأ بالفتح جاز أن يكون فى موضع نصب وجرّ ، فالنصب من وجهين :

أحدهما : بتقدير فعل دلّ عليه (بشّرناها) وتقديره ، بشرناها بإسحاق ، ووهبنا له يعقوب من وراء إسحاق.

٢١

والثانى ان يكون معطوفا على موضع قوله : بإسحاق ، وموضعه النصب ، كقولهم : مررت بزيد وعمرا ، وقول الشاعر :

٩٩ ـ معاوى إنّنا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١)

فنصب الحديد بالعطف على موضع بالجبال ، وهو النصب.

والجرّ على أن يكون يعقوب معطوفا على إسحاق ، وكان مفتوحا لأنه لا ينصرف للعجمة والتعريف ، إلّا أنّ هذا القول ضعيف للفصل بين الجار والمجرور بالظرف وهو قبيح.

قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) (٧٢).

شيخا ، يقرأ بالنصب والرفع.

فالنصب على الحال من المشار إليه والعامل فيها ما فى (هذا) من معنى الإشارة أو التنبيه ، فكأنّ المعنى ، أشير إليه شيخا ، أو أنبّه عليه شيخا ، وشيخا ناب عن قوله والدا ، وهذه الحال لا تجوز إلّا إذا كان المخاطب يعرف صاحبها ، وذلك أنه إذا كان المخاطب يعرف صاحبها (٢) [لم يفض إلى محال](٣) ، وكانت فائدة الإخبار فى الحال وقد أفادت المخاطب وقوع الحال منه ، فكان فيه فائدة ، وقد أفدت المخاطب ، وإذا لم يعرف المخاطب صاحبها ، كانت فائدة الإخبار فى

__________________

(١) من شواهد سيبويه ١ ـ ٣٤ ، ٣٥ ونسبه الشنتمرى إلى عقيبة الأسدى ، استشهد به سيبويه على جواز حمل المعطوف على موضع الياء وما عملت فيه لأن معنى (لسنا بالجبال) و (لسنا الجبال) واحد. ومعنى أسجح ، سهّل وارفق.

(٢) (صاحبه) فى أ.

(٣) جملة فى هامش أغير ظاهرة ونقلتها من ب.

ـ الجملة بين القوسين أرجح وضعها مكان السهم قبلها ليستقيم الكلام.

٢٢

معرفة صاحب الحال ، وذلك يؤدّى إلى محال ، لأنك إذا قلت : هذا زيد قائما ، فقد أخبرت أنّ المشار إليه زيد فى حال قيامه ، وإذا لم يكن قائما لم يكن زيدا ، وذلك محال.

والرفع من أربعة أوجه.

الأول : أنه يكون خبرا بعد خبر.

والثانى : أن يكون بدلا من (بعلى).

والثالث : أن يكون (بعلى) بدلا من (هذا) ويكون (شيخ) خبرا عن (هذا).

والرابع : أن يكون شيخ خبر مبتدأ آخر على تقدير ، هذا شيخ. ونظيره فى هذه الأوجه الأربعة ، قوله تعالى :

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا)(١)

وكذلك قول الشاعر :

١٠٠ ـ من يك ذا بتّ فهذا بتّى

مصيّف مقيّظ مشتّى (٢)

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (٧٤).

لمّا ، ظرف زمان ، ويقتضى الجواب ، وجوابه محذوف ، وتقديره ، أقبل يجادلنا.

__________________

(١) ١٠٦ سورة الكهف.

(٢) من شواهد سيبويه ١ ـ ٢٥٨ ، ولم ينسبه ولا نسبه الشنتمرى ، ونسب إلى رؤبة ابن العجاج ، هامش شرح ابن عقيل ١ ـ ٢٢٣ ـ والبت : الكساء.

٢٣

ويجادلنا (١) جملة فعلية فى موضع نصب على الحال من الضمير الذى فى (أقبل) وهو ضمير إبراهيم.

وقيل : يجادلنا هو جواب (لمّا) وكان حقّ الكلام (جادلنا) لأنّ جواب لمّا إنّما يكون ماضيا فأقام المستقبل مقام الماضى ، كما يجعل الماضى مقام المستقبل فى الشّرط والجزاء وإن كان حقّه أن يكون مستقبلا.

وقيل : إنّما أقيم المضارع مقام الماضى على طريق حكاية الحال ، كقوله تعالى :

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ)(٢).

فأعمل (باسطا) وهو لما مضى لأنه أراد حكاية الحال.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦).

عذاب ، مرفوع باسم الفاعل الذى هو (آتيهم) ولا يكون (آتيهم) مبتدأ و (عذاب) خبره لأنّ اسم الفاعل إذا جرى خبرا للمبتدأ ، أو صفة لموصوف ، أو صلة لموصول ، أو حالا لذى حال ، أو معتمدا على همزة الاستفهام ، فإنه يجرى مجرى الفعل فى ارتفاع ما بعده به ، ارتفاع الفاعل بفعله ، وههنا قد جرى خبرا فجرى مجرى الفعل وتقديره ، فإنه يأتيهم عذاب.

قوله تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (٧٨).

هؤلاء ، فى موضع رفع لأنه مبتدأ.

وبناتى ، عطف بيان.

وهنّ ، فصل.

__________________

(١) من هنا ابتدأ خرم فى المخطوط (أ) وهو الورقتان ١١٥ ـ ص ١ ، ٢ ، ١١٦ ـ ص ١ ، ٢ والمنقول بعد من (ب).

(٢) ١٨ سورة الكهف.

٢٤

وأطهر ، مرفوع لأنه خبر المبتدإ.

وقرأ عيسى بن عمر (*) ومحمد بن مروان (أطهر) بالنصب ، وأنكره أبو عمرو ، وقال الأصمعى (**) قلت لأبى عمرو : إن ابن مروان قرأ (أطهر لكم) بالنصب ، فقال أبو عمرو : لقد اجتنى ابن مروان فى الجنّة ، قال ابن جنى : وللنصب وجه وهو أن يكون (هؤلاء) مبتدأ ، وبناتى ابتداء ، ثانيا ، وهنّ خبره ، والمبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدإ الأوّل ، وأطهر منصوب على الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة كقولك : هذا زيد هو ذاهبا.

قوله تعالى : (وَلا تُخْزُونِ (١) فِي ضَيْفِي) (٧٨).

إنّما وحّد (ضيفى) وإن كان جمعا فى المعنى ، لأنّ ضيفا فى الأصل مصدر (٢) ، يصلح للواحد والاثنين والجماعة ، فلذلك جاز ألّا يثنّى ولا يجمع.

قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠).

لو ، حرف يمتنع له الشىء لامتناع غيره ويفتقر إلى جواب ، وجوابه محذوف وتقديره ، لدفعتكم عنى ونحوه ، وقرأ أبو جعفر : أو آوى ، بنصب الياء بتقدير (أن) وقدّر فيه (أن) ليكون الفعل معها بتأويل المصدر معطوفا على (قوّة) وتقديره ، لو أنّ لى بكم قوة أو آويّا ، كما قالت ميسون بنت الحرث أمّ يزيد ابن معاوية :

__________________

(*) عيسى بن عمر الثقفى ، وكان ثقة عالما بالعربية والنحو والقراءة ، وكان يتقعر فى كلامه ت ١٤٩ ه‍.

(**) الأصمعى : هو عبد الملك بن قريب ، صاحب النحو واللغة والغريب والأخبار ت ٢١٣ ه‍. أو ٢١٧ ه‍ على خلاف.

(١) (ولا تخزونى) بإثبات الياء فى ب.

(٢) (مصدرا) فى ب.

٢٥

١٠١ ـ ولبس عباءة وتقرّ عينى

أحبّ إلىّ من لبس الشفوف (١)

تقديره ، وأن تقرّ عينى.

قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) (٨١).

قرئ (امرأتك) بالنصب والرفع.

فالنصب على أنه مستثنى من قوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ).

والرفع على البدل من (أحد).

وأنكر أبو عبيد هذا ، وقال : إذا أبدلت المرأة من أحد ، وجزمت (يلتفت) على النّهى ، كان المعنى أنّ المرأة أبيح لها الالتفات وذلك لا يجوز ، ولا يجوز البدل إلا برفع (يلتفت) ، وتكون (لا) للنّفى ، ولم يقرأ به أحد.

وذهب أبو العباس المبرّد إلى أنّ مجاز هذه القراءة أنّ المراد بالنّهى المخاطب ، ولفظه لغيره كما تقول لغلامك : لا يخرج فلان ، فلفظ النّهى لفلان ، والمراد به المخاطب ، ومعناه لا تدعه يخرج فكذلك معنى النهى ههنا.

قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) (٨٧).

أن نفعل ، فى موضع نصب لأنه معطوف على ما قبله وهو مفعول (نترك) وتقديره ، أن نترك عبادة آبائنا وفعل ما نشاء فى أموالنا.

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) (٩١).

__________________

(١) من شواهد سيبويه ١ ـ ٤٢٦ ولم ينسبه ولا نسبه الشنتمرى ، ٢ ـ ٢٨٠. ونسب لميسون بنت بجدل زوج معاوية بن أبى سفيان وأم ابنه يزيد. شرح ابن عقيل.

٢٦

ضعيفا ، منصوب على الحال من الكاف فى (لنراك) لأنه من رؤية العين ، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا.

قوله تعالى : (إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) (٩٢).

من ، اسم موصول بمعنى الّذى فى موضع نصب بتعلمون.

وزعم [الفرّاء (١)] أنه يجوز أن يكون (من) استفهاما فى موضع رفع لأنه مبتدأ. ويأتيه عذاب ، خبره. والوجه الأوّل أوجه.

قوله تعالى : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٩٤).

جاء بالتاء ههنا على الأصل ولم يعتد بالفصل بالمفعول به بين الفعل والفاعل مانعا منه ، وإن كان يزداد به ترك العلامة حسنا ، والوجهان جيّدان ، وقد جاء بهما القرآن ، وكأنه جىء بالتاء ههنا طلبا للمشاكلة لأنّ بعدها ، كما بعدت ثمود.

قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) (١٠٣).

الناس ، مرفوع لمجموع ، لوقوعه خبر المبتدإ ، وتقديره ، يجمع له النّاس ، لأنّ اسم المفعول بمنزلة اسم الفاعل فى العمل لشبه الفعل ، إلّا أنّ اسم الفاعل يقدر فى تقدير الفعل الذى سمّى فاعله.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥).

يأتى ، فيه ضمير يعود إلى قوله : (يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

ولا تكلّم ، يجوز فيه وجهان :

__________________

(١) (القراء) فى الأصل ، وأعتقد أنها الفراء ، وذلك لسبق الناسخ إلى مثل هذا.

٢٧

أحدهما : أن يكون صفة ليوم ، والتقدير ، يوم يأتى لا تكلّم نفس فيه ، كقوله تعالى :

(يوما لا تجزى نفس) (١)

أى ، فيه (٢) ليعود من الصفة إلى الموصوف ذكر.

والثانى : أن يكون حالا من الضمير فى (يأتى) أى ، يوم يأتى اليوم المشهود غير متكلّم فيه نفس.

ويوم ، منصوب بما دل عليه قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، أى ، شقى حينئذ من شقى وسعد من سعد.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (١٠٨).

قرئ : سعدوا بضم السين حملا على قولهم : مسعود ، إنما جاء مسعود على حذف الزائد من أسعده ، كما قالوا : أجنّه الله ، فهو مجنون.

وما دامت السموات والأرض ، (ما) ظرفية زمانية مصدرية فى موضع نصب ، وتقديره ، مدّة دوام السموات والأرض.

وإلا ما شاء ربّك ، (ما) فى موضع نصب لأنّه استثناء منقطع.

قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) (١١١).

من شدّد (إنّ) جاء بها على الأصل ، ونصب بها (كلّا) ، ومن خفّف الميم من (لما) جعل (ما) زائدة أتى بها ليفصل بين اللام التى فى خبر (إنّ)

__________________

(١) لا توجد آية بهذا النص ـ والآيات الواردة هى (لتجزى كل نفس) ١٥ طه ، ٢٢ الجاثية. و (تجزى كل نفس) ١٧ غافر. والأصح (يوما لا تجزى نفس) البقرة ٤٨.

(٢) عند هذه العلامة انتهى الخرم من (أ) وهو ما نقلته من (ب) ، ومن عندها استأنفت النقل عن (أ).

٢٨

ولام القسم التى فى ليوفّينّهم ، ولو لم يؤت بها لكان (لليوفّينهم) فيستثقل الجمع بين اللامين.

وقيل : إنّ (ما) ليست زائدة ، وأنّ التقدير فيه ، وإنّ كلّا لخلق أو بشر ليوفّينهم. ولا يحسن أن تكون (ما) زائدة ، فتصير اللام داخلة على ليوفينّهم ، ودخولها على لام القسم لا يجوز.

ومن قرأ : وإن كلّا ، أعمل (إن) مخففة ، كما أعملها مشددة لأنها إنما عملت لتشبه الفعل ، والفعل يعمل تاما ومخففا ، فكذلك (إنّ) فلمّا جاز أن تقول : ل الأمر ، وش (١) الثوب ، وع القول ، فتعمل الفعل مع الحذف ، فكذلك يجوز إعمال إن مع الحذف.

فأمّا من شدّد الميم فى لمّا مع تشديد النّون فهو عندهم مشكل ، لأنّ (لمّا) ههنا ليس بمعنى الزمان ولا بمعنى إلّا ولا بمعنى لم. حتى قال الكسائى : لا أعرف وجه التثقيل فى (لمّا).

وقد قيل : فيه أربعة أوجه.

الأول : أن يكون الأصل فيها (لمن ما) ثمّ أدغم النون فى الميم ، فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم المكسورة ، وتقديره : وإنّ كلّا لمن خلق ليوفّينّهم.

والثانى : أن تكون صلة (لمن ما) بفتح الميم فى (من) وتجعل (ما) زائدة وتحذف إحدى الميمات ، لتكون الميم فى اللفظ على ما ذكرنا ، وتقديره ، لخلق ليوفينهم.

والثالث : أن تكون (لمّا) مصدرا ، مثل الدّعوى والفتوى (٢) ، فالألف فيه للتأنيث فلم ينصرف.

والرابع : أن تكون (لمّا) مصدر (لم) من قوله :

__________________

(١) (لىّ) و (شىّ) فى أ.

(٢) (رعوى) و (شردى) فى ب.

٢٩

(أكلا لمّا) (١)

ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا ضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف إنّما يكون فى ضرورة الشعر لا فى اختيار الكلام ، على هذا الوجه يصح أن يكون توجيها لقراءة من قرأ (لمّا) بالتنوين وهى قراءة الزّهرىّ ، وقد يجوز أن تجعل (لمّا) بمعنى (إلّا) فى قراءة الأعمش (*) :

وإن كلّ لمّا ليوفّينّهم. برفع كل ، فيكون (إن) بمعنى (ما) و (لمّا) بمعنى (إلّا) وتقديره : ما كلّ إلّا ليوفّينّهم ، كقوله تعالى :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٢)

أى ، ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ (٣). ويؤيد هذا قراءة أبىّ بن كعب (**).

(وإن كل إلا ليوفينهم)

وكلّ فى ذلك كلّه رفع بالابتداء. وليوفينهم ، الخبر.

ولا يجوز إعمال (إن) فى لغة من أعملها ، إذا كانت بمعنى (ما) لدخول الاستثناء بلمّا ، لأنّ الاستثناء يبطل عمل (ما) وهى الأصل المشبّه به فى العمل ، وإذا بطل عمل الأصل بالاستثناء ، فلأن يبطل عمل الفرع أولى.

قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) (١١٢).

من تاب ، فى موضع رفع بالعطف على الضمير فى (استقم) وجاز العطف على

__________________

(١) ١٩ : سورة الفجر.

(١) (*) الأعمش : هو أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش ، كان قارئا حافظا عالما بالفرائض ت ١٤٨ ه‍.

(٢) ٤ سورة الطارق.

(٣) (أى ، ما كل نفس إلا عليها حافظ) جملة ساقطة من ب.

(٣) (**) هو أبىّ بن كعب بن قيس الأنصارى ، أول من كتب لرسول الله ص. سيد القراء ، اختلف فى وفاته ، والأكثر أنه توفى فى خلافة عمر بن الخطاب.

٣٠

الضمير المرفوع لأنّ الفصل بالظرف ، وهو قوله : كما أمرت ، تنزل منزلة التأكيد ، فجاز العطف ، ويجوز أن يكون فى موضع نصب لأنه مفعول معه.

قوله تعالى : (أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا) (١١٦).

قليلا ، منصوب لأنه استثناء منقطع ، ويجوز فيه الرفع على البدل من (أولو بقيّة) كما جاز الرفع فى قوله تعالى :

(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)(١)

وإن كان استثناء منقطعا وهى لغة بنى تميم.

__________________

(١) ٩٨ سورة يونس.

٣١

غريب إعراب سورة يوسف

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢).

قرآنا ، منصوب على الحال من الهاء فى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، أى ، أنزلناه مجموعا. وعربيّا ، حال أخرى.

ويجوز أن يكون (قرآنا) توطئة للحال ، و (عربيّا) هو الحال ، كقولك : مررت بعبد الله رجلا عاقلا ، فرجلا ، توطئة للحال ، وعاقلا ، هو الحال.

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٣).

أحسن ، منصوب نصب المصدر لأنه مضاف إلى المصدر ، وأفعل إنما يضاف إلى ما هو بعض له ، فيتنزّل منزلة المصدر فصار بمنزلة قولهم : سرت أشدّ السير ، وصمت أحسن الصيام.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) (٤).

إذ ، فى موضع نصب على الظرف ، والعامل فيه قوله : (الْغافِلِينَ).

ويوسف ، لا ينصرف للعجمة والتعريف ، ووزنه يفعل ، وليس فى كلامهم يفعل ، وأما يغفر ، فأصله يغفر بفتح الياء وإنما ضمّت الياء منه إتباعا لضمة الفاء ، والضمة والكسرة والفتحة للإتباع كثير فى كلامهم.

قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ) (٤).

قرئ بكسر التاء وفتحها.

فمن قرأ بكسر التاء جعلها بدلا عن ياء الإضافة ولا يجوز أن يجمع بينهما لأنه يؤدّى إلى أن يجمع بين البدل والمبدل.

٣٢

ويوقف عليها بالهاء عند سيبويه لأنه ليس ثمّ (ياء) مقدرة.

وذهب الفراء إلى أنّ الياء فى النّية ، والوقف عليها بالتاء ، وعليه أكثر القرّاء اتّباعا للمصحف.

ومن قرأ بفتحها ففيه وجهان.

أحدهما : أنّ أصله (يا أبتى) فأبدل من الكسرة فتحة ، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت الألف فصارت (يا أبت).

والثانى : أنه محمول على قول من قال : يا طلحة بفتح التاء كأنه قد رخمّ ثم رد التاء وفتحها تبعا لفتح الحاء فقال : يا طلحة ، أو لأنه لم يعتد بها ففتحها كما كان الاسم قبل ردّها مفتوحا كما أنشدوا : كلينى لهمّ يا أميمة ناصب (١) ، بفتح التاء من (أميمة) (٢).

قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤).

ساجدين ، منصوب على الحال من الهاء والميم فى رأيتهم ، وأخبر عن الكواكب والشمس والقمر بالياء والنون وهما لمن يعقل لأنه وصفهما بالسجود ، والسجود من صفات من يعقل ، فلمّا وصفها بصفات من يعقل أجراها مجرى من يعقل.

قوله تعالى : (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧).

آيات ، جمع آية ، وفى أصلها عدة وجوه لا يكاد يسلم شىء منها عن قلب أو حذف على خلاف القياس ، وإجراؤها على القياس أن تكون آية على فعلة بكسر العين ، فتقلب العين ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فتصير آية. والأصل أن يقال فى آيات ، أيتات ، إلا أنه اجتمع فيها علامتا تأنيث فحذفوا إحداهما ، وكان

__________________

(١) من شواهد سيبويه ١ ـ ٣١٥ وهو للنابغة الذبيانى ، والبيت هو :

كلينى لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطىء الكواكب

(٢) ما بين القوسين فى هامش (أ) وهو غير واضح ، ونقلته من (ب).

٣٣

حذف الأولى أولى ، لأن فى الثانية زيادة معنى لأنها تدل على الجمع والتأنيث ، والاولى إنما تدل على التأنيث فقط ، فلهذا كان حذف الأولى وتبقية الثانية أولى.

قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) (٩).

أرضا ، منصوب على أنه ظرف مكان ، وتعدّى إليه (اطرحوا) وهو لازم ، لأنه ظرف مكان مبهم ، وليس له حدود بحصره ولا نهاية تحيط به.

وزعم النّحاس أنه غير مبهم ، وكان ينبغى أن لا يتعدى إليه الفعل إلا بحرف جرّ ، إلا أنه حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه. كقول الشاعر :

١٠٢ ـ فلأبغينّكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (١)

أراد بقنا وعوارض. وهو قول ليس بمرض.

قوله تعالى : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) (١١).

تأمنّا ، أصله تأمننا فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد ، فاستثقلوا اجتماعهما فسكنوا الأوّل منهما وأدغموه فى الثانى ، وبقى الإشمام يدلّ على ضمّة الأولى.

والإشمام ضمّ الشّفتين من غير صوت ، وهذا يدركه البصير دون الضرير.

قوله تعالى : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) (١٢).

يقرأ بكسر العين وجزمها ، فمن قرأ بكسر العين كان أصله يرتعى على وزن يفتعل ، من الرّعى إلّا أنه حذفت الياء للجزم ، وقيل أصله يرتعى من رعاك الله ، فيكون المعنى على هذا نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا.

__________________

(١) من شواهد سيبويه ١ ـ ٨٢. ١٠٩ ونسبه لعامر بن الطفيل. قنا وعوارض : جبلان ـ واللابة : الحرة ـ وضرغد : جبل بعينه.

٣٤

ومن قرأه بإسكان العين كان (يرتع) على وزن يفعل من الرتع وسكّنت العين للجزم.

قوله تعالى : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (١٣).

أن الأولى وصلتها ، فى تأويل مصدر فى موضع رفع لأنها فاعل (يحزننى).

وأن الثانية وصلتها ، فى تأويل مصدر فى موضع نصب لأنها مفعول (أخاف).

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) (١٥).

جواب (لمّا) محذوف ، وتقديره ، فلما ذهبوا به حفظناه.

وذهب الكوفيون إلى أنّ جوابه (وأوحينا إليه). والواو زائدة. كقول الشاعر :

١٠٣ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحىّ وانتحى

بنا بطن خبت ذى حقاف عقنقل (١)

[وتقديره : انتحى ، والصحيح](٢) أنّ جواب لمّا مقدّر ، وتقديره :

خلونا ونعمنا.

قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (١٨).

فى رفعه وجهان.

__________________

(١) البيت لامرئ القيس بن حجر الكندى ـ مختار الشعر الجاهلى ١ ـ ٢٧ ، ١٩٤٩ م ـ شرح الزوزنى للمعلقات ١٤. وقال الزوزنى : «والواو لا تقحم زائدة فى جواب (لما) عند البصريين ، والجواب يكون محذوفا فى مثل هذا الموضع ..». الخبت : أرض مطمئنة ـ والحقف : رمل معوج ـ العقنقل : الرمل المتعقد المتلبد.

(٢) ما بين المعقوفين ساقط من ب.

٣٥

أحدهما : أن يكون مرفوعا لأنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقديره ، فصبر جميل أمثل من غيره.

والثانى : أن يكون مرفوعا لأنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره ، فصبرى صبر جميل.

قوله تعالى : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) (١٩).

قرئ : يا بشراىّ بتشديد الياء ، ويا بشرى بغير ياء.

فمن قرأ : يا بشراىّ كان منادى مضافا ، وكذلك قراءة من قرأ : بشرىّ بتشديد الياء ، لأن أصله : يا بشراى إلا أنه لما كانت ياء الإضافة لا يكون ما قبلها إلّا مكسورا قلبت الألف ياء ، وأدغمت الياء فى الياء ، ومثله قراءة من قرأ :

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ)(١)

فى هداى. وذكر أنها قراءة النبى عليه‌السلام ، ومن قرأ : يا بشرى بغير ياء ، كان منادى مفردا كأنه جعل (بشرى) اسم المنادى نحو قولك : يا زيد. ويجوز أن يكون نادى البشرى ، كأنه قال : يا أيتها البشرى.

والبشرى صفة (أيّة) فحذف الموصوف ، و (ها) التى للتنبيه ، والألف واللام من الصّفة ، فصار ، يا بشرى. وكذلك ، يا سكرى ، وتقديره ، يا أيتها السكرى ، ففعل به ما ذكرنا ، وكذلك تقول : يا رجل ، وأصله : يا أيها الرجل ، فتحذف أىّ الموصوف ، وها التى للتنبيه ، والألف واللام ، فيبقى يا رجل ، ولهذه الحذوف لا يجوز حذف النداء من هذا النحو ، فإنك لو قلت : بشرى فى (يا بشرى) ، وسكرى فى (يا سكرى) ورجل فى (يا رجل) لم يجز لما فيه من الإفراط فى الحذف ، وكان هو أولى بالتّبقية لما فيه من الدلالة على غيره من المحذوف ، وليس فى غيره ما يدل على حذفه ، وكأنه قال : يا أيتها البشرى هذا أوانك.

__________________

(١) ١٢٣ سورة طه.

٣٦

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) (١٩).

المراد بالواو فى (وأسرّوه) أخوة يوسف ، وقيل : المراد بها التّجّار ، والمراد بالهاء يوسف.

وبضاعة ، منصوب على الحال من يوسف ومعناه مبضوعا.

قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠).

دراهم ، فى موضع جرّ على البدل من (ثمن).

ومن الزّاهدين ، فى موضع نصب خبر كان.

وفيه ، يتعلق بفعل دلّ عليه من الزاهدين ، ولا يجوز أن يتعلق به ، لأن الألف واللام فيه بمعنى الذى ، وصلة الاسم الموصول لا يعمل فيما قبله ، وقد أجاز بعض النحويّين أن يكون الألف واللام للتعريف ، وقد قدمنا ذكره.

قوله تعالى : (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ (١) لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣).

هيت لك ، اسم لهلمّ ، ولذلك كانت مبنيّة ، وكان الأصل أن تبنى على السكون ، إلّا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون ، لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء.

ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخفّ الحركات.

ومنهم من بناها على الكسر لأنه الأصل فى التحريك لالتقاء الساكنين.

ومنهم من بناها على الضّم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين.

ومن قرأ : هيّئت لك بالهمز فمعناه ، تهيّأت لك. وتكون التاء مضمومة لأنّها تاء المتكلم ، وتاء المتكلم مضمومة للفرق بينها وبين تاء المخاطب ، وكانت

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ.

٣٧

تاء المتكلم أولى بالضم لأنها فاعلة لفظا ومعنى ، وتاء المخاطب وإن كانت فاعلة لفظا فإنها مفعولة معنى ، لأنها تدلّ على المخاطب ، والمخاطب مفعول معنى ، فكانت حركة الفاعل التى هى الضمّ ، لمّا كان فاعلا لفظا ومعنى أولى مما هو فاعل لفظا مفعول معنى.

ومعاذ الله ، منصوب على المصدر ، يقال : عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا.

وربّى ، فى موضع نصب على البدل من (الهاء) فى (إنّه) وهى اسم إنّ.

وأحسن ، خبر إنّ وتقديره ، إنّ ربّى أحسن مثواى.

والهاء فى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ضمير الشأن والحديث.

ولا يفلح الظالمون ، جملة فعلية فى موضع رفع لأنها خبر إنّ.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٢٤).

لو لا ، حرف يمتنع له الشئ لوجود غيره.

وأن رأى ، فى موضع رفع لأنه مبتدأ ، ولا يجوز إظهار خبره بعد لو لا لطول الكلام بجوابها ، وقد حذف خبر المبتدأ ههنا والجواب معا ، والتقدير ، لو لا رؤية برهان ربّه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون (وهمّ بها) جواب (لو لا) لأنّ جواب لو لا لا يتقدم عليه.

قوله تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) (٣١).

وقرئ : حاشى لله.

فمن قرأ ، حاشى لله ، أتى به على الأصل.

ومن قرأ ، حاش ، حذف الألف للتخفيف.

وحاشى ، اختلف النحويون فيها ، فذهب جماعة إلى أنّها فعل ، واستدلّوا على ذلك من ثلاثة أوجه.

٣٨

الأول : أنها تتصرف ، والتصرف من خصائص الأفعال. قال الشاعر :

١٠٤ ـ ولا أرى فاعلا فى النّاس يشبهه

ولا أحاشى من الأقوام من أحد (١)

والثانى : أنه يدخلها الحذف ، والحذف لا يدخل الحرف.

والثالث : أنه يتعلق بها حرف الجر فى قوله : حاشى لله. وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف ، وهو مذهب الكوفيين وبعض البصريين.

وذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أنها حرف ، واستدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه.

الأول : أنه يقال : حاشاى ، ولا يقال : حاشانى بنون الوقاية ، ولو كان فعلا لقيل حاشانى بنون الوقاية كما يقال : رامانى ، وغازانى. قال الشاعر :

١٠٥ ـ فى فتية جعلوا الصّليب إلههم

حاشاى إنّى مسلم معذور (٢)

فقال : حاشاى ، من غير نون الوقاية.

والثانى : أنه لا يحسن دخول (ما) عليها ، فلا يقال : ما حاشا زيدا ، كما يقال : ما عدا زيدا ، ولا ما خلا زيدا.

والثالث : أنّ ما بعدها يجىء مجرورا ، ولو كان (٣) فعلا لما جاز أن يجىء ما بعده مجرورا. قال الشاعر :

__________________

(١) من شواهد الإنصاف ١ ـ ١٨٠ وقد نسبه إلى النابغة الذبيانى ، وهو من قصيدته التى مطلعها :

يادار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

أحاشى : استثنى ـ مختار الشعر الجاهلى ١ ـ ١٥١.

(٢) من شواهد أوضح المسالك ١ ـ ٨٥ ونسبه المحقق إلى الأقيشر ، واسمه : المغيرة ابن الأسود.

(٣) (ولو أن) فى أ.

٣٩

١٠٦ ـ حاشا أبى ثوبان إنّ به

ضنّا على الملحاة والشّتم (١)

وأجابوا عمّا تمسّك به الكوفيون ومن وافقهم من أنها فعل. فقالوا : أما قول الشاعر : (وما أحاشى) فليس متصرفا من لفظ حاشى ، وإنما هو مأخوذ من لفظها ، كما يقال : بسمل وهلّل وسبحل وحمدل. إذا قال : باسم الله ، ولا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله. فكما أخذت هذه الأفعال من هذه الألفاظ ، وإن لم يكن ذلك دليلا على أنها متصرفة ، ولا أنها أفعال ، فكذلك ههنا.

وقولهم : إن الحرف لا يدخله الحذف ليس كذلك ، فإنّ الحرف قد يدخله الحذف. فقد قالوا : سو أفعل ، فى سوف أفعل.

وذهب من خالف من الكوفيين إلى أنّ السّين أصلها سوف ، فحذفت الواو والفاء ، وإذا جوّزوا حذف حرفين فكيف يمنعون جواز حذف حرف واحد.

وقولهم : إنه يتعلق به حرف الجرّ. قلنا : لا نسلّم ، فإن اللام فى (حاشا) زائدة ، لا تتعلق بشىء ، كاللام فى قوله تعالى :

(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(٢).

وكالباء فى قوله تعالى :

__________________

(١) نسبه العينى فى فرائد القلائد فى باب الاستثناء للجميح ، وهو المنقذ بن الطماح.

(حاشى) بالياء فى ب ، وهو من شواهد الإنصاف ١ ـ ١٧٩ ، ولم ينسبه لقائل ، وجاء فى شرح الشيخ الأمير على المغنى قوله (ضنا) بوزن علم ، البخل ، والملحاة بفتح الميم وسكون اللام ، اللوم ، والبيت ملفق من بيتين ، وأصلهما هكذا :

حاشا أبا ثوبان إن أبا

ثوبان ليس ببكمة فدم

عمرو بن عبد الله إن به

ضنا على الملحاة والشتم

والبكمة ، الخرس ـ والفدم ، العى. مغنى اللبيب ١ ـ ١١٠.

(٢) ١٥٤ سورة الأعراف.

٤٠