أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي
المحقق: محمّد حسن أبوالعزم الزفيتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: جمهورية المصر العربية ، وزارة الأوقاف ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، لجنة إحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
ومن قرأ بالزّاى أبدل من السّين حرفا مجهورا حتّى يشبه الطاء فى الجهر ؛ ويحتجّ بقول العرب : «زقر» فى «صقر».
ومن قرأ بإشمام الزّاى ، فإنّه لم يجعلها زايا خالصة ولا صادا خالصة ؛ لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما ، وكلّها لغات.
ومعنى سؤال المسلمين الهدى وهم مهتدون : التثبيت على الهدى (١) ؛ وهذا كما تقول للقائم : قم لى حتّى أعود إليك ، أى : اثبت على قيامك.
و (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : كتاب الله عزوجل ، وهو القرآن (٢). روى ذلك عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، وعبد الله بن مسعود ، وأبى العالية.
وروى السّدّىّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس قال : هو الإسلام (٣) ؛ وكذلك روى عن جابر.
٧ ـ قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
أى : بالثبات على الإيمان والاستقامة والهداية إلى الصّراط ؛ وهم النبىّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأبو بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ. وهذا قول أبى العالية.
وقال السّدّىّ وقتادة : يعنى طريق الأنبياء. وقال ابن عباس : هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيّروا دين الله تعالى (٤).
قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.)
(غَيْرِ) منخفض على ضربين ؛ على البدل من (الَّذِينَ) ، وعلى صفة (الَّذِينَ)(٥) ؛
__________________
(١) حاشية ج : «.. وبمعنى طلب مزيد من الهداية ؛ لأن الإلطاف والهدايات من الله لا يتناهى على مذهب أهل السنة».
(٢) رواه ابن جرير فى (تفسيره ـ ١ : ١٧١ ـ ١٧٢) والبيهقى فى الشعب من طريق قيس بن سعد ، عن رجل ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. (الدر المنثور ١ : ١٥).
(٣) كما جاء فى (تفسير الطبرى ١ : ١٧١ ـ ١٧٦) و (الدر المنثور ١ : ١٤ ـ ١٥).
(٤) (تفسير الطبرى ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩).
(٥) قال الطبرى ـ بعد أن ذكر أوجه تأويل «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ، باختلاف أوجه إعرابها ـ : «والصواب ـ من القول فى تأويله ، وقراءته عندى :. هو قراءة «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» بخفض الراء من «غَيْرِ» بتأويل أنها صفة ل «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» ونعت لهم .. ، وإن شئت فبتأويل تكرير «صِراطَ» كل ذلك صواب حسن» (تفسير الطبرى ١ : ١٨٠ ـ ١٨٤) وانظر (معانى القرآن للفراء ١ : ٧).
لأنّ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ :) هم الذين أنعم عليهم ، لأنّ من أنعم عليهم بالإيمان فهو غير مغضوب (١) عليه. ومعنى «الغضب من الله» : إرادة العقوبة.
قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ)
أصل «الضّلال» (٢) فى اللغة : الغيبوبة ؛ يقال : ضلّ الماء فى اللبن ؛ إذا غاب فيه ، وضلّ الكافر ؛ إذا غاب عن المحجّة (٣) ؛ ومن هذا قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ)(٤) أى : غبنا فيها بالموت ، وصرنا ترابا.
و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ :) اليهود ؛ و (الضَّالِّينَ :) النّصارى (٥). والله تعالى حكم على اليهود بالغضب فى قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)(٦) ، وعلى النصارى بالضّلال فى قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ)(٧)
ومعنى الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام (٨) ، ولم تغضب عليهم ، كما غضبت على اليهود ، ولم يضلّوا عن الحقّ ، كما ضلّت النّصارى.
ويستحبّ للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة «آمين» مع سكتة على نون (٩)(وَلَا الضَّالِّينَ) ليتميّز ما هو قرآن ممّا ليس بقرآن.
__________________
(١) أ : «الْمَغْضُوبِ».
(٢) ب : «الضلالة».
(٣) أى : الطريق المستقيم (اللسان).
(٤) سورة السجدة : ١٠.
(٥) هذا المعنى رواه أحمد وعبد بن حميد والترمذى وحسنه ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، وابن حبان فى صحيحه عن عدى بن حاتم ، عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ انظر (الدر المنثور ١ : ١٦) و (تفسير الطبرى ١ : ١٩٣)
(٦) سورة المائدة : ٦٠
(٧) سورة المائدة : ٧٧.
(٨) ب : «بالإيمان».
(٩) ب : «على النون».
وفيه لغتان : «آمين» بالمدّ ، و «أمين» بالقصر. ومعناهما : اللهم استجب ؛ وهى موضوعة لطلب الإجابة.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد التّميمىّ ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن حيّان ، حدّثنا عبد الرحمن بن محمد الرازىّ ، حدّثنا سهل بن عثمان ، حدّثنا يحيى بن أبى بريدة عن أبى إسحاق ، عن أبى ميسرة :
أن النبىّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «إنّى إذا برزت أسمع من ينادينى ولا أرى شيئا ، فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النّداء فاثبت ، ففعل «ذلك (١)» ؛ فقال له جبريل : قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقالها ، ثم أقرأه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلى آخرها ؛ ثم قال : قل : «آمين» ؛ فقال : «آمين» (٢).
أخبرنا الأستاذ أبو طاهر الزّيادىّ ، والقاضى أبو بكر الحيرىّ (٣) ، قالا : أخبرنا أبو علىّ المعقلىّ ، حدّثنا محمد بن يحيى الذّهلىّ ، حدّثنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر عن الزّهرىّ ، عن ابن المسيّب ، عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ
أنّ النبىّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «إذا قال الإمام : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقولوا : «آمين» فإن الملائكة تقول : «آمين» ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه».
رواه مسلم (٤) «فى الصّحيح» عن حرملة ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزّهرىّ.
__________________
(١) الزيادة عن أ ، ب.
(٢) روى هذا الحديث وكيع وابن أبى شيبة عن أبى ميسرة ، بألفاظ مختلفة. انظر (الدر المنثور ١ : ١٦).
(٣) قال الحضرمى : «الحيرى : منسوب إلى محلة بنيسابور ، يقال لها الحيرة ـ بحاء .. مكسورة ، وياء وراء».
(عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٣ / و).
(٤) رواه مسلم بهذا السند عن أبى هريرة ، بألفاظ مختلفة ، انظر (صحيح مسلم ، باب التسميع والتحميد والتأمين ٢ : ٥١ ـ حديث ٦١) و (سنن ابن ماجة ، باب الجهر بآمين ١ : ٢٧٧ ـ حديث ٨٥١ ، ٨٥٢) و (والموطأ باب ما جاء بالتأمين خلف الإمام : ٧٦ ، حديث ٤٧).
القول فى فضائل سورة البقرة ـ وهى مدنيّة (١)
أخبرنا أبو طاهر الزّيادىّ ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطّوسىّ ، أخبرنا محمد بن حماد. الأبيوردىّ (٢) ، أخبرنا وكيع ، عن بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال :
قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «تعلّموا سورة البقرة ، فإنّ أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة» (٣).
أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبيد الله المخلدىّ ، أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن رجاء ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوىّ ، حدّثنا عبد الواحد بن غياث ، حدّثنا عدىّ بن الفضل ، حدّثنا علىّ بن زيد ، عن الحسن ، عن عبد الله بن مغفّل ، (٤) قال :
قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنّ / البيت الذى يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان تلك الليلة» (٥).
أخبرنا أبو نصر أحمد بن إبراهيم المهرجانىّ ، أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوىّ ، حدّثنى محمد بن إسحاق ، حدّثنا أبو الأسود ، أخبرنا
__________________
(١) حاشية ج : «وهى مائتان وثمانون وسبع آيات».
(٢) بهمزة مفتوحة ، وباء مكسورة ، وياء ، وواو ، وراء ، ودال ، وياء ـ نسبة إلى بلد من بلاد العجم معروف ، (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٣ / و) بتصرف.
(٣) رواه ابن أبى شيبة ، وأحمد بن حنبل ، وابن عمر العربى فى مسانيدهم ، والدارمى ، ومحمد بن نصر الحاكم وصححه عن بريدة. انظر (الدر المنثور ١ : ١٨) و (تفسير ابن كثير ١ : ٥٣) قال ابن كثير : «ومعنى «لا تستطيعها» أى : لا يمكن حفظها. وقيل : لا تستطيع النفوذ فى قارئها». حاشية ج : «وفى رواية ـ قيل : وما البطة؟ قال : السحرة» ، والبطلة جمع : باطل ، كفسقة جمع : فاسق. والباطل : ضد الحق».
(٤) قال الحضرمى : «مغفل ـ بغين مفتوحة ، وفاء مفتوحة مشددة ، ولام ـ رجل صحابى مشهور ..» (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٣).
(٥) رواه الترمذى عن أبى هريرة ، انظر (صحيح الترمذى ، فضل سورة البقرة ، وآية الكرسى ١ : ١٤٤) وهو حديث حسن صحيح ، و (تفسير ابن كثير ١ : ١٥٢).
ابن لهيعة ، عن الحرث بن يزيد ، عن علىّ (١) بن رباح ، عن ربيعة الجرشىّ قال قيل لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أىّ سور القرآن أفضل؟
قال : «البقرة». قيل : أىّ آى البقرة أفضل؟ قال : «آية الكرسىّ» (٢).
***
١ ـ قوله عزوجل : (الم)
كثر اختلاف المفسّرين فى الحروف المقطّعة (٣) فى القرآن.
فذهب قوم : إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها ، وأنّها مما استأثر الله تعالى بعلمها ، فنحن نؤمن بظاهرها ، ونكل علمها إلى الله تعالى.
قال داود بن أبى هند : كنت أسأل الشّعبىّ عن فواتح السّور ، فقال : يا داود : إنّ لكلّ كتاب سرّا وإنّ سرّ القرآن فواتح السّور ، فدعها وسل عمّا سوى ذلك (٤).
وفسّرها الآخرون ، فقال ابن عباس فى رواية سعيد بن جبير ، وأبى الضّحى (الم :) أنا الله أعلم (٥).
وقال الضحاك : كلّ (الم) فى القرآن : أنا الله أعلم. وهذا اختيار الزّجاج.
قال (٦) : المختار ما روى عن ابن عباس ، وهو أنّ معنى (الم :) أنا الله أعلم ، وأنّ كلّ حرف منها له تفسير ، (٧) قال : والدليل على ذلك أنّ العرب قد تنطق بالحرف
__________________
(١) «بتصغيره ـ بضم العين .. ، وأبوه رباح ، .. وكان ولده موسى يقول : لا أجعل فى حل من صغر اسم أبى ، والمحدثون يروونه مصغرا تعريفا لا تحقيرا ، كغيره من الأسماء التى تكرهها أصحابها ـ والله أعلم ..» بتصرف عن (عمدة القوى والضعيف ق ٤ / و).
(٢) ب : «قيل : آى القرآن. قال : آى الكرسى». رواه البغوى فى معجم الصحابة ، وابن عساكر فى تاريخه عن ربيعة الجرشى ، بألفاظ مختلفة (الدر المنثور ١ : ٢١). حاشية ج : «التوفيق بين هذا الحديث وحديث أبى سعيد بن المعلى [المذكور سابقا فى فضائل سورة الفاتحة] : «أن سورة البقرة أفضل سور القرآن بعد الفاتحة».
(٣) حاشية ج : «سميت هذه الحروف حروفا مجازا ، وإنما هى أسماء ..».
(٤) وجاء ما يؤيد قول الشعبى فى (تفسير الطبرى ١ : ٢٠٦) و (البحر المحيط ١ : ٣٤) و (تفسير ابن كثير : ٥٧).
(٥) انظر قول ابن عباس فى (تفسير الطبرى ١ : ٢٠٧) و (تفسير ابن كثير ١ : ٥٧).
(٦) حاشية ج : «هذا قول المصنف».
(٧) حاشية ج : «الألف : إشارة» إلى «أنا» ، واللام إلى «الله» ، والميم إلى «أعلم».
الواحد تدلّ به على الكلمة «الواحدة» (١) التى هو منها ، وأنشد :
قلت لها : قفى لنا ، قالت : قاف (٢)
فنطق (٣) ب «قاف» فقط ، يريد قالت : أقف.
ويروى عن الحسن أنّه قال : (الم ،) وسائر حروف التهجّى فى القرآن : أسماء للسّور (٤) ؛ وعلى هذا القول إذا قال القائل : قرأت (المص)(٥). عرف السّامع أنه قرأ السّورة التى التى افتتحت ب (المص)(٦).
٢ ـ قوله عزوجل : (ذلِكَ الْكِتابُ)
«ذلك» يجوز أن يكون بمعنى : «هذا» عند كثير من أهل التفسير (٧).
قال الفرّاء : ومثاله فى الكلام : أنك تقول (٨) : قد قدم فلان ، فيقول السّامع : قد بلغنا ذلك ، أو يقول : قد بلغنا هذا الخبر ؛ فصلحت «هذا» لأنّه قرب من جوابه ، فصار كالحاضر الذى تشير إليه ؛ وصلحت «ذلك» لانقضاء كلامه ، والمنقضى كالغائب (٩).
وذكر ابن الأنبارىّ لهذا شرحا شافيا فقال : إنّما قال عزّ ذكره : (ذلِكَ الْكِتابُ) فأشار إلى غائب ؛ لأنّه أراد : هذه الكلمات يا محمد ذلك الكتاب الذى وعدتك أن أوحيه إليك ، لأن الله تعالى لمّا أنزل على نبيّه ـ عليهالسلام : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً
__________________
(١) الزيادة عن ب. انظر (اللسان ـ باب الحروف المقطعة).
(٢) هذا الرجز للوليد بن عقبة وتمامه : «لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف».
(الأغانى ٥ : ١٣١) و (شرح شواهد الشافية ٢٧١) و (مشكل القرآن ٢٣٨) و (تفسير الطبرى ١ : ١١٢).
(٣) ب : «فنطقت». يؤيد هذا ما جاء فى (اللسان ـ باب تفسير الحروف المقطعة ١ : ٥).
(٤) ب : «اسما للسورة». فى (البحر المحيط ١ : ٣٤) عن الحسن : هى أسماء السورة وفواتحها ، وروى بنحوه عن قتادة وزيد بن أسلم (تفسير ابن كثير ١ : ٥٧) وفى (تفسير الطبرى ١ : ١٠٧) أقوال أخرى فى تفسيرها.
(٥) سورة الأعراف الآية الأولى.
(٦) سورة الأعراف الآية الأولى.
(٧) هذا المعنى روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وابن جريج وغيرهم. (تفسير الطبرى ١ : ٢٢٥).
(٨) ب : «قولك».
(٩) انظر (معانى القرآن للفراء ١ : ١٠). حاشية ج : «أى أن هذا» للقريب ، وذلك «للبعيد».
ثَقِيلاً)(١) كان واثقا بوعد الله إيّاه ، فلما أنزل الله تعالى عليه : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) دلّه على الوعد المتقدّم.
وقال الزّجّاج : القرآن ذلك الكتاب الذى وعدوا به على لسان موسى وعيسى عليهماالسلام ، فجعل (الم) بمعنى القرآن ؛ لأنّه من القرآن.
و (الْكِتابُ) مصدر كتبت ، ويسمّى المكتوب كتابا ، كما يسمّى المخلوق خلقا ، والمفعول يسمّى بالمصدر. يقال : هذا درهم ضرب الأمير ؛ أى مضروبه ، وهذا الثّوب نسج اليمن ؛ أى منسوجه.
وأصل الكتب» فى اللغة : الجمع والضمّ ، يقال كتبت البغلة ؛ إذا ضممت بين شفريها بحلقة (٢) ، وكتبت السّقاء : إذا خرزته. والكتب : الخروز ، واحدتها كتبة (٣). والكتابة : جمع حرف إلى حرف.
والمراد ب (الْكِتابُ) ـ هاهنا ـ : القرآن فى قول جميع المفسّرين.
قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ)
«الرّيب» : الشّكّ ، قال أبو زيد : يقال : رابنى من فلان أمر رأيته منه ريبا ؛ إذا كنت مستيقنا منه بالرّيبة ؛ فإذا أسأت به الظنّ ولم تستيقن بالرّيبة منه ، قلت : قد أرابنى من فلان أمر هو فيه ؛ إذا ظننته من غير أن تستيقنه.
قال سيبويه : «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه ، ونصبها (٤) لما بعدها كنصب «إن» ، إلّا أنّها تنصب بغير تنوين ؛ وإنما شبّه (٥) «لا» ب «إنّ» ، لأن «إنّ» للتحقيق (٦) فى الإثبات ، و «لا» فى النّفى ، فلمّا كان «لا» تقتضى تحقيق النّفى كما تقتضى «إنّ» تحقيق الإثبات أجرى مجراه. وهى مع ما بعدها بمنزلة شىء واحد.
__________________
(١) سورة المزمل : ٥.
(٢) فى (اللسان ـ مادة : كتب) إذا جمعت بين شفرى رحمها بحلقة أو سير».
(٣) قال ابن سيده : الكتبة ـ بضم الكاف ـ : الخرزة التى ضم السير كلا وجهيها. وقال اللحيانى : الكتبة : السير الذى تخرز به المزادة والقربة. والجمع : كتب ـ بفتح الكاف ـ (اللسان ـ مادة : كتب).
(٤) أ : «ونصبه».
(٥) أ ، ب : «شبهت».
(٦) ب : «لتحقيق».
وموضع (لا رَيْبَ) رفع بالابتداء عند سيبويه ، لأنّه بمنزلة «خمسة عشر» إذا ابتدأت به ؛ ولهذا (١) جاز العطف عليه بالرفع فى قول الشّاعر :
* لا أمّ لى إن كان ذاك ولا أب (٢) *
وموضع (فِيهِ) رفع لأنّه خبر الابتداء الذى هو (لا رَيْبَ).
فإن قيل : كيف قال : (لا رَيْبَ فِيهِ) وقد ارتاب به المرتابون؟
قيل : معناه : إنّه حقّ فى نفسه وصدق ، وإن ارتاب به المبطلون ، كما قال الشّاعر (٣) :
ليس فى الحقّ يا أمامة ريب |
|
إنّما الرّيب ما يقول الكذوب |
فنفى الرّيب عن الحقّ (٤) وإن كان المتقاصر (٥) فى العلم يرتاب.
ويجوز أن يكون خبرا فى معنى النهى ، ومعناه : لا ترتابوا ؛ كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(٦) والمعنى : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
معنى «الهدى» : البيان ، لأنّه قوبل به الضّلالة فى قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(٧) أى : من قبل هداه.
__________________
(١) حاشية ج : «أى : ولأجل «لا» مع ما بعدها بمنزلة شىء واحد».
(٢) صدر هذا البيت : هذا وجدكم الصغار بعينه ..
وهو فى (الكتاب ١ : ٣٥٢) و (العينى على هامش الخزانة ٢ : ٢٣٩) و (معانى القرآن للفراء ١ : ١٢١) و (القرطبى ١ : ١٢١) وقائل هذا البيت رجل من مذحج. وقيل : فى نسبته غير ذلك. حاشية ج : «قوله : «لا أم» محله الرفع ، لأنه بمنزلة كلمة واحدة ولأجل هذا جاز الرفع».
(٣) هو عبد الله بن الزبعرى ، والبيت فى (تفسير القرطبى ١ : ١٥٩) و (البحر المحيط ١ : ٣٣) و (والإتقان ١ : ١٦٤) برواية «ما يقول الجهول».
(٤) حاشية ج : «هذا تحقيق قوله : لا ريب فيه».
(٥) ب : «وإن كان الأمر المتقاصر».
(٦) سورة البقرة : ١٩٧.
(٧) سورة البقرة : ١٩٨.
ومعنى «الاتّقاء» فى اللغة : الحجز بين الشّيئين. يقال : اتّقاه بترسه ؛ أى : جعل التّرس حاجزا بينه وبينه ؛ ومنه «التّقية فى الدّين (١)» ؛ يجعل ما يظهره حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه ؛ ومنه الحديث :
«كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكان أقربنا إلى العدوّ».
فـ «المتّقى» : هو الذى يتحرّز بطاعته عن العقوبة ، ويجعل اجتنابه عمّا نهى عنه ، وفعله ما أمر به حاجزا بينه وبين العقوبة التى توعد بها العصاة (٢).
والمراد ب (المتقين) فى هذه الآية : المؤمنون الذين اتقوا الشّرك ، وجعلوا إيمانهم حاجزا بينهم وبين الشّرك ، كأنّه قال : القرآن بيان وهدى لمن اتّقى الشّرك ، وهم المؤمنون.
وخصّ المؤمنين بأنّ الكتاب بيان لهم دون الكفّار ـ الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب ـ ؛ لانتفاعهم به دونهم ؛ كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها)(٣) وكان ـ صلىاللهعليهوسلم ـ منذرا لمن خشى ولمن لم يخش.
قال ابن الأنبارىّ : معناه (٤) هدى للمتقين والكافرين ، فاكتفى بأحد الفريقين عن الآخر ؛ كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(٥) أراد : الحرّ والبرد ، فاكتفى بذكر أحدهما.
وأمّا إعراب (هُدىً) فقال الزّجاج : يجوز أن يكون موضعه نصبا على الحال ، كأنّه قال : هاديا للمتّقين ؛ ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار هو ؛ كأنّه لما تمّ الكلام قيل : هو هدى ؛ ويجوز أن يكون الوقف على قولك : (لا رَيْبَ) ، أى ذلك
__________________
(١) حاشية ج : «التقية فى الدين : عبارة عن أن يكون الشخص بين قوم يخالفونه فى اعتقاده الصحيح ، فيخاف إن أظهر اعتقاده عندهم أن يلحقوا به ضررا ، فيظهر خلاف ما اعتقده».
(٢) وقال ابن عباس : المتقى : من يتقى الشرك والكبائر والفواحش ؛ وهو مأخوذ من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين ، (الدر المنثور ١ : ٢٤).
(٣) سورة النازعات : ٤٥.
(٤) أ ، ب : «بيان هدى».
(٥) سورة النحل : ٨١.
الكتاب لا ريب ولا شكّ ، كأنّك قلت : ذلك الكتاب حقّا ؛ لأنّ «لا شكّ» بمعنى : حقّا ، ثم قيل بعد : (فِيهِ هُدىً.)
٣ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
قال الزّجاج : موضع (الَّذِينَ) خفض نعتا (لِلْمُتَّقِينَ). ومعنى (يُؤْمِنُونَ) : يصدّقون قال الأزهرىّ : اتفق العلماء أنّ «الإيمان» معناه : التّصديق ، كقوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا)(١) أى : بمصدّق.
ومعنى «التّصديق» : هو اعتقاد السّامع صدق المخبر فيما يخبر ، فمن صدّق الله تعالى فيما أخبر به فى كتابه ، وصدّق الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما أخبر معتقدا بالقلب تصديقهما فهو مؤمن.
وأنشد ابن الأنبارىّ ـ على أنّ «آمن» معناه : صدّق ـ قول الشّاعر (٢) :
ومن قبل آمنّا وقد كان قومنا |
|
يصلّون للأوثان قبل محمّدا |
معناه : من قبل آمنّا محمدا ؛ أى صدّقنا محمدا (٣).
و «الغيب» : ما غاب ، وهو مصدر غاب يغيب غيبا. وكلّ ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب ؛ قال الله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(٤)
والعرب تسمّى «المكان المنخفض من الأرض» : الغيب ؛ لأنّه غائب عن الأبصار.
والمراد ب (الغيب) المذكور ـ هاهنا ـ : ما غاب علمه عن الحسّ والضرورة مما يدرك بالدّليل.
__________________
(١) سورة يوسف : ١٧.
(٢) هو أبو سفيان بن الحرث. والبيت جاء برواية : «وبالغيب آمنا ...» (الدر المنثور ١ : ٢٥) فى (اللسان ـ مادة : أمن) و (وتفسير القرطبى ١ : ١٦٤) غير منسوب.
(٣) كما نقله صاحب (اللسان ـ مادة : أمن).
(٤) سورة الأنعام : ٧٣ ؛ والتوبة : ٩٤ ؛ ١٠٥ ، والرعد : ٩ ؛ والمؤمنون : ٩٢ ؛ والسجدة : ٦٠ ؛ والزمر : ٤٦ والحشر : ٢٢ ؛ والجمعة : ٨ ؛ والتغابن : ١٨.
قال قتادة : آمنوا بالجنّة والنّار ، والبعث بعد الموت ، وبيوم القيامة. كلّ هذا غيب (١).
وقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وجنّته وناره ، ولقائه ، وبالبعث بعد الموت (٢).
قال الزجاج : وكلّ ما غاب عنهم ممّا أخبرهم به النّبىّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو غيب.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الحارثىّ ؛ أخبرنا عبد الله بن محمد بن حيّان ، «قال» (٣) : حدّثنا أبو يحيى عبد الرحمن بن محمد الرازىّ ، حدّثنا سهل بن عثمان العسكرىّ ، حدّثنا عبيدة ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال :
كنّا جلوسا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما سبقوا به ؛ فقال عبد الله : إنّ أمر محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان بيّنا لمن رآه ، والذى لا إله غيره ، ما آمن أحد قطّ إيمانا أفضل من إيمان بغيب ؛ ثم قرأ :
(الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..) قوله : (هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٤).
وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)
أى : يديمونها ويحافظون عليها. ويقال : قام الشّىء ؛ إذا دام وثبت ، وأقامه ؛ إذا أدامه.
__________________
(١) (تفسير الطبرى ١ : ٢٣٦).
(٢) (تفسير ابن كثير ١ : ٦٤) وبنحوه فى (تفسير الطبرى ١ : ٢٣٧) و (الدر المنثور ١ : ٢٥).
(٣) الإثبات عن أ.
(٤) رواه ابن كثير عن عبد الرحمن بن يزيد ، والحاكم فى مستدركه ، من طرق ، عن الأعمش ، به. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. انظر (تفسير ابن كثير ١ : ٦٣).
و (الصَّلاةَ) معناها فى اللغة : الدّعاء ؛ ومنه الحديث : «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليصلّ» (١).
قال أبو عبيدة : قوله «فليصلّ» أى : فليدع له بالبركة والخير ؛ وكلّ داع فهو مصلّ.
هذا معنى الصلاة فى اللغة ؛ ثم ضمت إليها هيئات وأركان سمّيت بمجموعها صلاة.
قال قتادة فى قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إقامتها : المحافظة على مواقيتها (٢) ووضوئها وركوعها وسجودها (٣).
وقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ)
يقال : رزق الله الخلق رزقا ورزقا ؛ ف «الرّزق» ـ بالفتح ـ : هو المصدر الحقيقىّ ، و «الرّزق» (٤) الاسم. ويجوز أن يوضع موضع المصدر.
وكلّ ما انتفع به العبد فهو رزقه ؛ من مال وولد وعبد وغيره (٥).
وقوله تعالى : (يُنْفِقُونَ)
معنى «الإنفاق» فى اللغة : إخراج المال من اليد ؛ ومن هذا يقال : نفق المبيع ؛ إذا كثر مشتروه ، فخرج عن يد البائع ؛ ونفقت الدابة ؛ إذا خرجت روحها.
قال قتادة : ينفقون فى طاعة الله وسبيله
__________________
(١) روى هذا الحديث أبو هريرة انظر (صحيح مسلم ، باب الأمر بإجابة الداعى إلى دعوة ٧ : ١٨٢ ـ هامش إرشاد السارى).
(٢) ب : «عليها فى أوقاتها».
(٣) (تفسير ابن كثير ١ : ٦٥) و (الدر المنثور ١ : ٢٧).
(٤) بكسر الراء ، انظر (اللسان ـ مادة : رزق).
(٥) مذهب أهل السنة : «وهو ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما» (تفسير القرطبى ١ : ١٧٧) وانظر (الفخر الرازى ١ : ١٧٦).
٤ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) الآية.
قال مجاهد : الآيات الأربع من أوّل هذه السّورة نزلت فى جميع المؤمنين ، سواء كانوا من العرب ، أو من أهل الكتاب (١).
وقال ابن عباس وابن مسعود : إنّ آيتين من أوّل السّورة نزلتا فى مؤمنى العرب ، والآيتان بعدهما نزلتا فى مؤمنى أهل الكتاب (٢) ؛ لأنّه لم يكن للعرب كتاب كانوا مؤمنين به قبل محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
والمراد بقوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : القرآن ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) يعنى الكتب المتقدّمة ، كالتّوراة والإنجيل (٣).
وقوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ) أى : وبالدّار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ).
يقال : «يقن ييقن (٤) يقنا فهو يقين ؛ وأيقن بالأمر واستيقن وتيقّن» كلّه واحد.
و «اليقين» : هو العلم الذى يحصل بعد استدلال ونظر ؛ ولا يجوز أن يسمّى علم الله تعالى يقينا ؛ لأنّ علمه لم يحصل عن نظر واستدلال.
والمعنى : أنّهم يؤمنون بالآخرة ويعلمونها علما باستدلال «ونظر (٥)».
٥ ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)
«أولاء» : كلمة معناها الكناية عن جماعة ، نحو «هم» (٦) ؛ و «الكاف» فيه للمخاطبة ، نحو «كاف» ذلك.
__________________
(١) تمام قول مجاهد ـ وآيتان بعدها نزلتا فى الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت فى المنافقين. (أسباب النزول للواحدى ١٩).
(٢) وجاء ما يؤيد قول ابن عباس وابن مسعود فى (تفسير الطبرى ١ : ٢٣٨).
(٣) حاشية ج : «وسائر الكتب المنزلة».
(٤) على فعل يفعل. بكسر العين من الماضى وفتحها من المضارع. (عمدة القوى والضعيف ٣ / ظ).
(٥) الزيادة عن أ.
(٦) حاشية ج : فإن لفظ «هم» كناية عن جماعة.
والمعنى : هم على بيان وبصيرة من عند ربّهم ؛ لأنّ الله تعالى هداهم لدينه.
قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
قال الزّجاج : يقال : «لكلّ من أصاب خيرا مفلح (١)» ؛ قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)(٢) و «قال (٣)» : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(٤).
والمعنى : هم الذين أدركوا البغية (٥) ، ووجدوا النّعيم المقيم.
٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية.
قال الضّحاك : نزلت فى أبى جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبىّ : يعنى اليهود (٦).
يقال : كفر كفرا وكفورا ، كما يقال : شكر شكرا وشكورا.
ومعنى «الكفر» فى اللغة : الستر. قال ابن السّكيت : كلّ ما ستر شيئا فقد كفره ؛ ومنه قيل ل «اللّيل» : كافر ؛ لأنّه يستر بظلمته [الأشياء](٧) ؛ ومنه سمّى الكافر كافرا ؛ لأنّه يستر إنعام الله تعالى بالهدى والآيات التى أبانت لذوى التّمييز : أنّ الله تعالى واحد لا شريك له ؛ فمن لم يصدّق بها وردّها فقد كفر النعمة ؛ أى سترها وغطّاها.
و «الكفر» على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر معاندة ، وكفر نفاق. فمن لقى ربّه بشيء من ذلك لم يغفر له.
__________________
(١) وأصل الفلاح فى اللغة البقاء. قال لبيد : نحل بلادا حل قبلنا .. ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٣٠).
(٢) سورة المؤمنون الآية الأولى.
(٣) الزيادة عن أ.
(٤) سورة الشمس : ٩.
(٥) بكسر الباء وضمها ـ لغتان ؛ وهى نيل المطلوب». (اللسان ـ مادة : بغى).
(٦) (أسباب النزول للواحدى ١٩).
(٧) تكملة يقتضيها السياق ، ونحو هذا فى (اللسان ـ مادة : كفر) وفيه : «وسمى الزارع كافرا ؛ لأنه يستر الحب بالتراب ، والكافر يستر الحق بالجحود».
أمّا «كفر الإنكار» : فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ، ولا يعرف ما يذكر له من التّوحيد.
و «كفر الجحود» : أن يعرف بقلبه ، ولا يعترف (١) بلسانه ، ككفر إبليس ، وكفر أمية بن أبى الصّلت ؛ ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)(٢) يعنى : كفر الجحود.
وأمّا «كفر المعاندة» : فهو أن يعرف بقلبه ويقرّ بلسانه ، ولا يقبل ولا يدين به (٣) ككفر أبى طالب ؛ حيث يقول (٤) :
ولقد علمت بأنّ دين محمد |
|
من خير أديان البريّة دينا |
لو لا الملامة أو حذار مسبّة |
|
لوجدتنى سمحا بذاك مبينا (٥) |
وأمّا «كفر النّفاق» : فإن يقرّ بلسانه ، ويكفر بقلبه.
وقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) أى : معتدل ومتساو عندهم (أَأَنْذَرْتَهُمْ :) أأعلمتهم وخوّفتهم.
و «الإنذار» : إعلام (٦) مع تخويف ، فكلّ منذر معلم ، وليس كلّ معلم منذرا. يقال : أنذرته فنذر ؛ أى علم بموضع الخوف.
قال الوالبىّ عن ابن عباس ـ فى هذه الآية ـ : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يحرص أن يؤمن جميع الناس ، ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى : أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من الله السّعادة فى الذّكر الأوّل ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله تعالى الشقاء فى الذّكر الأوّل (٧).
__________________
(١) أ ، ب : «ولا يقر» وهما قريبان. انظر (اللسان ـ مادة : كفر).
(٢) سورة البقرة : ٨٩.
(٣) أ ، ب : «ولا يقبله ولا يتدين به».
(٤) انظر (اللسان ـ مادة : كفر).
(٥) حاشية ج : «قوله : بذاك ، أى : بإيمان بمحمد عليهالسلام ، أو بذاك الدين».
(٦) أ : «الإعلام».
(٧) حاشية ج : «قوله : فى الذكر الأول ؛ وهو العلم الأزلى القائم بذات الله تعالى». انظر (تفسير الطبرى ١ : ٢٥٢) (فتح البارى ١ : ٢٨).
ثم ذكر السّبب فى تركهم الإيمان ؛ فقال تعالى :
٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)
قال الزّجاج : معنى «ختم وطبع» واحد ؛ وهو التّغطية على الشّىء والاستيثاق منه ، بألّا يدخله شىء. «والختم على الوعاء» يمنع الدّخول فيه والخروج منه ، كذلك «الختم على قلوب الكفّار» يمنع دخول الإيمان فيها ، وخروج الكفر منها ؛ وإنما يكون ذلك (١) بأن يخلق الله الكفر فيها ، ويصدّهم عن الهدى ، فلا يدخل الإيمان ـ فى قلوبهم ؛ كما قال الله عزوجل : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)(٢).
وقوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ)
وحّد «السّمع» لأنه مصدر ، والمصادر لا تثنّى ولا تجمع (٣). وقال سيبويه : اكتفى من الجمع بالواحد ؛ لأنّه توسّط «بين» (٤) جمعين ، فصار (٥) كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(٦) وقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ)(٧).
وتمّ الكلام ـ هاهنا ـ ، ثم قال : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)
«الأبصار» : جمع البصر ؛ وهو العين. ويقال : تبصّرت الشّىء ؛ أى رأيته (٨).
__________________
(١) حاشية ج : «أى : المنع من الدخول والخروج».
(٢) سورة الجاثية : ٢٣.
(٣) ب : «والمصدر لا يثنى ولا يجمع».
(٤) الزيادة عن أ ، ب. أى : بعده جمع ، وهو «أَبْصارِهِمْ» ، وقبله جمع ، وهو «قُلُوبِهِمْ». وانظر (الفخر الرازى ١ : ١٩١).
(٥) ب : «فصار بمنزلة قوله».
(٦) سورة البقرة : ٢٥٧.
(٧) سورة النحل : ٤٨. حاشية ج : «اكتفى بالواحد الذى هو «النور» ، و «اليمين» عن الجمع. وكان حقه أن يقول : إلى الأنوار ، فاكتفى بلفظ المفرد لأنه مصدره».
(٨) أ ، ب : «أبصرت .... إذا».
و «الغشاوة» : الغطاء. ويقال للجلدة التى على الولد : «غشاوة» ، ومثل هذه الآية فى المعنى قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)(١) وطبع فى المعنى كختم (٢).
قال الزجاج ـ فى هذه الآية ـ : إنّهم كانوا يسمعون (٣) ويبصرون ، ويعقلون ، ولكن لم يستعملوا هذه الحواسّ استعمالا ينفعهم ، فصاروا كمن لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر.
وقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)
«العذاب» : كلّ ما يعيى الإنسان ويشقّ عليه. و «العظيم» : فعيل من العظم ؛ وهو كثرة المقدار فى الجثّة. ثم قيل : كلام عظيم ، وأمر عظيم ؛ أى عظيم القدر ، يريدون به : المبالغة فى وصفه.
ومعنى وصف العذاب بالعظم (٤) : هو المواصلة بين أجزاء الآلام بحيث لا يتخللها فرجة (٥).
٨ ـ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ)
(النَّاسِ) : لفظ وضع للجمع ، كالقوم والرهط والجيش ، وواحده «إنسان» لا من لفظه.
وقوله تعالى : (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى : يوم القيامة ، وسمّى آخرا لأنّه بعد أيّام الدّنيا.
__________________
(١) سورة النحل : ١٠٨.
(٢) (اللسان ـ مادة : ختم ، طبع) و (تفسير الطبرى ١ : ٢٥٨).
(٣) أ ، ب «يستمعون».
(٤) أ ، ب : «بالعظيم» ...
(٥) «الفرجة ـ بضم الفاء ـ : انفتاح ما بين الشيئين» : (اللسان ـ مادة : فرج).
قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
جمع (١) بعد التوحيد فى (مَنْ يَقُولُ) لأنّ لفظ (مِنَ) يصلح للواحد وللجميع ، فقوله : (مَنْ يَقُولُ) يجوز أن يراد به الجمع وإن كان اللّفظ على واحد.
قال المفسّرون : نزلت هذه «الآية» (٢) فى المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان ، وأسرّوا «كلمة (٣)» الكفر : فأخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنّهم يقولون : إنّا مؤمنون ويظهرون كلمة الإيمان ؛ ثم نفى الله عنهم الإيمان ، فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فدلّ على أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط.
٩ ـ قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)
(يُخادِعُونَ) : يفاعلون من الخدع. يقال : خدعته خدعا وخدعا وخديعة : إذا أظهرت له غير ما تضمر.
والمعنى : أنّ هؤلاء المنافقين يظهرون غير ما فى نفوسهم ليدرءوا (٤) عنهم أحكام الكفّار فى ظاهر الشريعة ، من القتل والجزية وغيرهما.
فإن قيل : «المفاعلة» تكون بين اثنين ـ والله تعالى يجلّ عن أن يشاركهم فى الخداع ـ فما وجه قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ)؟
قيل : (يُخادِعُونَ) ـ هاهنا ـ بمعنى : يخدعون ، قال أبو عبيدة : خادعت الرّجل ، بمعنى : خدعته (٥). و «المفاعلة» كثيرا ما يقع من الواحد ، كالمعافاة والمعاقبة ، وطارقت
__________________
(١) حاشية ج : «وهو قوله : «وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» نظرا إلى المعنى ، أى معنى «من» ؛ وجمع باعتبار لفظ «من» لأن «من» يصلح لغة للجمع والواحد». وانظر (البحر المحيط ١ : ٥٤) و (الفخر الرازى ١ : ١٩٧).
(٢) ج : «الآيات». قال الطبرى : «أجمع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت فى قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم» (تفسير الطبرى ١ : ٢٦٨).
(٣) الزيادة عن أ ، ب.
(٤) أى : ليدفعوا. (اللسان ـ مادة : درأ).
(٥) (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٣١) و (اللسان ـ مادة : خدع) و (تفسير الطبرى ١ : ٢٧٤).
النعل (١) ؛ ومعناه على هذا (٢) : يعملون عمل المخادع ، ليس أنّ خداعهم (٣) يخفى على الله تعالى.
وقال الحسن : (يُخادِعُونَ اللهَ) أى : نبيّه ، لأنّ الله تعالى بعث نبيّه بدينه ، فمن أطاعه فقد أطاع الله ، كما قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)(٤)
وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ)(٥) ؛ وإذا خادعوا النبىّ فقد خادعوا الله ـ عزوجل ـ (٦).
وقوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)(٧)
قرئ بوجهين : فمن قرأ بالألف قال : هو من المفاعلة» التى تقع من الواحد ، كقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) فلمّا وقع الاتّفاق على الألف فى قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) أجرى الثّانى على الأوّل طلبا للتشاكل.
ومن قرأ : (يخدعون) قال : إنّ فعل أولى بفعل الواحد من فاعل الذى هو فى أكثر الأمر يكون لفاعلين.
ومعنى قوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ :) هو أنّهم طلبوا الخداع فلم يخدعوا الله ولا المؤمنين وما خدعوا إلّا أنفسهم ؛ لأنّ وبال خداعهم عاد عليهم (٨) ، لأنّ الله تعالى يطلع نبيّه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على أسرارهم ونفاقهم ، فيفتضحون (٩) فى الدّنيا ، ويستوجبون العقاب فى العقبى.
__________________
(١) «طارق بين النعلين ، أى خصف أحدهما فوق الآخر» (اللسان ـ مادة : طرق).
(٢) حاشية ج : «أى : أن المفاعلة من جانب الواحد».
(٣) ب : «خادعهم».
(٤) سورة النساء : ٨٠.
(٥) سورة الفتح : ١٠.
(٦) تفسير الطبرى ١ : ١٩٥) ونقل عن الزجاج فى (تفسير البحر المحيط ١ : ٥٦٠).
(٧) فى الأصل المخطوط : «وما يخادعون» بالألف ؛ وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو ـ وما أثبت دون ألف حسب الرسم العثمانى للمصحف ـ وهى قراءة الباقين ، وأولى بالصواب عند الطبرى. (إتحاف البشر ١٢٨) و (تفسير الطبرى ١ : ٢٧٧) و (البحر المحيط ١ : ٥٧).
(٨) ب : «عائد عليهم».
(٩) «فضحه وافتضح : إذا انكشفت مساوئه» (اللسان ـ مادة : فضح).
وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) أى : وما يعلمون أنّهم يخدعون أنفسهم ، وأنّ وبال خداعهم يعود عليهم.
١٠ ـ قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة وجميع المفسّرين : أى شكّ ونفاق (١).
وقال الزجاج : المرض فى القلب : كلّ ما خرج (٢) به الإنسان عن الصّحة فى الدّين.
وقوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)
أى : بما أنزل (على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم) (٣) ـ من القرآن فشكّوا فيه ، كما شكّوا فى الذى قبله.
قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
«الأليم» بمعنى : المؤلم (٤) ، كالسّميع بمعنى : المسمع ؛ وهو العذاب الذى يصل وجعه إلى قلوبهم.
«قوله تعالى» : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٥)
«ما» فى تأويل المصدر ؛ أى بتكذيبهم وبكونهم مكذّبين.
وقرأ أهل الكوفة : (يَكْذِبُونَ) ـ بالتّخفيف ـ من الكذب ، وهو أشبه بما قبله
__________________
(١) (تفسير الطبرى ١ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠) و (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٣٢).
(٢) أ ، ب : «يخرج» حاشية ج : «وأصل المرض : الضعف ، وسمى الشك فى الدين مرضا ؛ لأنه يضعف الدين ، كالمرض يضعف القلب».
(٣) الزيادة عن أ ، ب.
(٤) (تفسير الطبرى ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤).
(٥) فى المخطوط : «يكذبون» ـ بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال ـ ؛ وهى قراءة عظم قراءة أهل المدينة والحجاز والبصرة ـ وما أثبت ؛ بفتح الياء وسكون الكاف ، وتخفيف الذال ـ حسب الرسم العثمانى للمصحف ـ ؛ وهى قراءة حمزة وعاصم والكسائى ، وكذا خلف ـ من الكذب لإخبار الله تعالى عن كذبهم ـ ، وافقهم الحسن والأعمش. (تفسير الطبرى ١ : ٢٨٤) و (إتحاف فضلاء البشر ١٢٩) و (البحر المحيط ١ : ٦٠).