الوسيط في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي

الوسيط في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي


المحقق: محمّد حسن أبوالعزم الزفيتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: جمهورية المصر العربية ، وزارة الأوقاف ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، لجنة إحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

(مقدمة المؤلف)

/ بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين

«وصلّى الله على سيدنا محمّد ، وآله وصحبه وسلّم» (١)

الحمد لله القادر العليم ، الفاطر الحليم ، الجواد الكريم ، الرّبّ الرحيم ، منزل الذّكر الحكيم ، والقرآن العظيم ، على المبعوث بالدّين القويم ، والصّراط المستقيم ، خاتم الرّسالة ، والهادى عن الضلالة ، المرسل بأشرف الكتب إلى العجم والعرب ، محمّد النبى العربىّ ، ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وعلى آله الهداة المهتدين ، وأصحابه الأخيار المنتخبين ، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد هذا (٢) ـ فالعلم أشرف منقبة (٣) ، وأجلّ مرتبة ، وأبهى مفخر ، وأربح متجر ، به يتوصّل إلى توحيد ربّ العالمين ، وتصديق أنبيائه المرسلين. والعلماء خواصّ عباد الله الذين اجتباهم ، وإلى معالم دينه هداهم ، وبمزيّة الفضل آثرهم واصطفاهم ؛ هم ورثة الأنبياء وخلفاؤهم ، وسادة المسلمين وعرفاؤهم (٤) ، والدّعاة إلى المحجّة المثلى ، والتّمسّك بالشريعة والتقوى.

أخبرنا أبو سعد (٥) عبد الرحمن بن محمد الزّمجارىّ ، حدّثنا (٦) أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد ، حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن معاوية البكّائىّ (٧) ، حدّثنا محمد ابن مطرّف السّعدىّ ، عن شريك ، عن أبى إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال :

__________________

(١) الزيادة عن ب.

(٢) ب : «أما بعد هذا».

(٣) المنقبة : كرم الفعل. (اللسان ـ مادة : نقب).

(٤) العرفاء جمع : عريف. والعريف : النقيب ، وهو دون الرئيس. (اللسان ـ مادة : عرف).

(٥) ب : «أبو سعيد» وهو خطأ. انظر (عمدة القوى والضعيف للحضرمى ـ الورقة ١ / ظ).

(٦) حاشية ج : «إنما قال أخبرنا ـ حين قرأ الشيخ على تلميذه وسمع هو منه ؛ وحدثنا ـ حين قرأ التلميذ على شيخه وسمع هو منه».

(٧) ب : «الكلى» وهو خطأ. انظر (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ١ / ظ).

٣

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «العلماء ورثة الأنبياء يحبّهم أهل السّماء ، ويستغفر لهم الحيتان فى البحر إلى يوم القيامة» (١).

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدّثنا أبو بكر عبد الله بن يحيى الطلحىّ ، ، حدّثنا أبو يعلى محمد بن أحمد بن عبيد الله الملطىّ ، حدّثنا أحمد بن صالح ، عن منبّه بن عثمان ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن موسى بن عبيدة (٢) ، عن سعيد بن أبى هند ، عن أبى موسى الأشعرىّ ، قال :

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يبعث الله العباد يوم القيامة ، ثم يميّز العلماء ، فيقول ؛ يا معشر العلماء ، إنّى لم أضع علمى فيكم إلّا لعلمى بكم ، ولم أضعه فيكم لأعذّبكم ، انطلقوا إلى الجنّة فقد غفرت لكم» (٣).

وإنّ أمّ العلوم الشرعيّة ، ومجمع الأحكام الدّينيّة كتاب الله المودع نصوص الأحكام ، وبيان الحلال والحرام ، والمواعظ النّافعة ، والعبر الشّافية ، والحجج البالغة ؛ والعلم به أشرف العلوم ، وأعزّها وأفضلها ، وأجلّها وأمزّها (٤) ؛ لأنّ شرف العلوم بشرف المعلوم.

ولمّا كان كلام الله أشرف المعلومات ؛ كان العلم بتفسيره ، وأسباب تنزيله ومعانيه وتأويله (٥) ، أشرف العلوم ؛ ومن شرف هذا العلم وعزّته فى نفسه أنه لا يجوز القول فيه

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه عن أبى الدرداء ، بألفاظ مختلفة. انظر (سنن ابن ماجه ، باب ثواب معلم الناس الخير ١ : ٨٧ ، حديث ٢٣٩).

حاشية ج : «المراد يستغفر للعلماء المخلوقات ، حتى الحيتان فى البحر ؛ لأن وجود العلماء سبب حياة جميع المخلوقات ، لأن انقراض العالم بانقراض العلماء».

(٢) عبيدة ـ بفتح العين ـ كما فى (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ١ / ظ).

(٣) أخرجه الطبرانى عنه ، بألفاظ مختلفة. انظر (الدر المنثور ١ : ٣٥٠).

(٤) بفتح الميم وتشديد الزاى المضمومة. أى : أفضلها ، كما فى (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ١ / ظ) وفى ب «وأمنها» بالنون ، وهو تحريف.

(٥) التفسير : علم نزول الآية وشأنها وقصصها ، والأسباب التى نزلت فيها ، فهذا وأشباهه محظور على الناس لا يصلح القول فيه إلا بالسماع. والتأويل : صرف الآية إلى معنى آخر يحتمله ، وليس بمحظور على العلماء استنباطه والقول فيه ، بعد أن يكون موافقا للكتاب والسنة. بتصرف من (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / و) و (البرهان للزركشى ٢ : ١٤٦ ـ ١٥٣).

٤

بالعقل والتّدبّر ، والرّأى والتفكّر ، دون السّماع والأخذ عمن شاهدوا التنزيل بالرّواية والنقل ؛ والنبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فمن بعده من الصّحابة والتابعين ؛ قد شدّدوا فى هذا حتّى جعلوا المصيب فيه برأيه مخطئا.

أخبرنا أبو نصر محمد بن عبد الله بن زكريّا الجوزقىّ ، أخبرنا بشر بن أحمد بن بشر ، أخبرنا أحمد بن على بن المثنّى ، أخبرنا بشر بن الوليد الكندىّ ، أخبرنا سهيل أخو حزم ، عن أبى عمران الجونىّ ، عن جندب ، قال :

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قال فى القرآن برأيه فأصاب ، فقد أخطأ» (١).

أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثّعالبى ، أخبرنا الحسن بن على الشيبانىّ ، أخبرنا محمد بن حمدون بن خالد ، أخبرنا علىّ بن صدقة الرّقيّ ، أخبرنا عبد الله بن جعفر الرّقىّ ، أخبرنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن الحسن ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال :

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار» (٢).

وكلّ علم سوى الكتاب والسّنّة ، وما يستند إليهما فهو باطل ، ومن تحلّى من العلماء بغيرهما فهو عاطل عن الآيات الواضحة الباهرة ، والسّنن المأثورة الزّاهرة : على هذا درج الأوّلون والسلف الصّالحون.

أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم النصرآباذيّ ، أخبرنا إسماعيل بن نجيد (٣) ، أخبرنا

__________________

(١) أخرجه الترمذى عنه ، كما فى (صحيح الترمذى ، باب ما جاء فى الذى يفسر القرآن برأيه ٢ : ١٥٧) وكذا الطبرى فى (تفسيره : ١ : ٧٩).

(٢) أخرجه الترمذى ، وابن جرير عنه. انظر (صحيح الترمذى ، باب ما جاء فى الذى يفسر القرآن برأيه ٢ : ١٥٦) و (تفسير الطبرى ١ : ٧٨).

حاشية ج : «فليتبوأ» : فليتخذ لنفسه منزلا. يقال : تبوأ الرجل المكان : إذا اتخذه منزلا».

(٣) بنون مضمومة وجيم مفتوحة بعدها ياء .. ، كأنه تصغير نجد ، رجل مشهور له روى. (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / و).

٥

محمد بن الحسن بن الخليل ، أخبرنا محمد بن عبيد ، أخبرنا صالح بن موسى ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبى صالح ، عن أبى هريرة ، قال :

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّي قد خلفت فيكم شيئين لن تضلّوا أبدا ما أخذتم بهما ، وعملتم بما فيهما : كتاب الله ـ عزوجل ـ وسنّتى ، ولن يتفرّقا حتى يردا علىّ الحوض» (١).

وقد سبق لى ، قبل هذا الكتاب ـ بتوفيق الله ـ وحسن تيسيره ـ مجموعات ثلاث فى هذا العلم : «معانى التّفسير» ، و «مسند التّفسير» ، و «مختصر التفسير» ؛ وقديما كنت أطالب بإملاء كتاب فى تفسير «وسيط» (٢) ينحطّ عن درجة «البسيط» (٣) الذى تجرّ فيه أذيال الأقوال ، ويرتفع عن مرتبة «الوجيز» الذى اقتصر فيه على الإقلال.

والأيام تدفع فى صدر المطلوب بصروفها ، على اختلاف صنوفها ؛ وسآخذ نفسى على فتورها ، وقريحتى على قصورها ـ لما أرى من جفاء الزمان ، وخمول العلم وأهله ، وعلوّ (٤) أمر الجاهل على جهله ـ بتصنيف تفسير أعفيه من التطويل والإكثار ، وأسلّمه من خلل الوجازة والاختصار ، وآتى به على النّمط (٥) الأوسط ، والقصد الأقوم ، حسنة بين ٣ / ظ السيّئتين ، / ومنزلة بين المنزلتين ، لا إقلال ولا إملال.

نعم المعين ـ توفيق الله تعالى ـ لإتمام ما نويت ، وتيسيره لإحكام ما له تصدّيت.

__________________

(١) هذا الحديث رواه مالك ، بألفاظ مختلفة ، انظر (الموطأ ، كتاب القدر ٥٦١ حديث ٣).

(٢) حاشية ج : «أى : متوسط».

(٣) حاشية ج : «أى المبسوط».

(٤) العلو ـ بعين مهملة ـ وكان الفقيه الشرعنى ـ رحمه‌الله ـ يسمعه بغين معجمة. والصواب ـ والله أعلم ـ فيما تقدم. (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / و) وفى ج «غلو» بالغين المعجمة.

(٥) قال أبو عبيدة : النمط : هو الطريقة. يقال : الزم هذا النمط ، أى هذا الطريق. (اللسان : مادة : نمط).

٦

القول فيما روى من فضائل سورة الفاتحة

أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن إبراهيم المهرجانىّ ، أخبرنا عبيد الله بن محمد ابن الزاهد ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، أخبرنا علىّ بن مسلم ، أخبرنا حرمىّ بن عمارة ، قال : حدّثنى شعبة ، عن خبيب (١) بن عبد الرحمن ، عن حفص ابن عاصم ، عن أبى سعيد بن المعلّى ، قال :

كنت أصلّى ، فمرّ بى النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنادانى فلم آته ، حتى فرغت من صلاتى. فقال : «ما يمنعك أن تأتينى إذ دعوتك»؟ قلت : كنت أصلّى. قال : «ألم يقل الله عزوجل : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ)(٢) أتحبّ أن أعلّمك أعظم سورة فى القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد»؟ قال : فذهب يخرج ، فذكّرته ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣). رواه البخارىّ (٤) فى الصحيح عن مسدّد ، عن يحيى بن سعيد ، عن شعبة.

أخبرنا الأستاذ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش (٥) الزّيادىّ ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال ، أخبرنا يحيى بن الرّبيع المكّىّ ، أخبرنا سفيان ابن عيينة ، حدّثنى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبى هريرة ، عن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : قال الله عزوجل : «قسمت الصلاة (٦) بينى وبين عبدى ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله : حمدنى عبدى. وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله :

__________________

(١) بخاء مضمومة وباء مفتوحة. انظر (المشتبه فى الرجال للذهبى ١ : ٢١٥).

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

(٣) سورة الفاتحة : ٢.

(٤) (صحيح البخارى ، كتاب التفسير ـ باب ما جاء فى فاتحة الكتاب ٣ : ٩٧ ، وتفسير سورة الانفال ٣ : ١٣٣ ، وباب فاتحة الكتاب ٣ : ٢٢٨).

(٥) بميم مفتوحة وحاء ساكنة ، وميم مكسورة وشين ـ : رجل كبير مشهور : انظر (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / ظ).

(٦) حاشية ج : «أراد بالصلاة ـ هنا ـ : الفاتحة ؛ كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) [سورة الإسراء : ١١٠].

٧

مجّدنى عبدى ـ أو أثنى علىّ عبدى ـ وإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.) قال الله : فوّض إلىّ عبدى ؛ وإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : هذه بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل. وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.) قال : هذه لك». رواه مسلم (١) عن إسحاق ، عن سفيان.

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد المنصورىّ ، أخبرنا علىّ بن عمر بن مهدىّ ، حدّثنا أبو بكر [الأزرق](٢) يوسف بن يعقوب [بن بهلول] ، حدّثنى جدّى ، حدّثنا أبى ، [حدّثنا ابن سمعان] ، عن العلاء [بن عبد الرحمن] ، عن أبيه ، عن أبى هريرة ، قال :

سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «قال الله عزوجل : إنّى قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين ؛ فنصفها له «ونصفها لى» (٣) ، يقول عبدى ـ إذا افتتح الصّلاة ـ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فيذكرنى (٤) عبدى ، ثم يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ فأقول : حمدنى عبدى ، ثم يقول : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأقول : أثنى علىّ عبدى ؛ ثم يقول : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فأقول : مجّدنى عبدى ، ثم يقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فهذه الآية بينى وبين عبدى نصفين وآخر السّورة لعبدى ولعبدى ما سأل» (٥).

__________________

(١) رواه مسلم ، بألفاظ مختلفة ، عنه. انظر (صحيح مسلم ، باب وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة ٢ : ٢٦ ـ ٢٧ حديث ٣٥) و (الموطأ ، باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة ٧٤ حديث ٩).

(٢) ب ، ج : «حدثنا أبو بكر يوسف بن يعقوب الأزرق ، حدثنى جدى يعقوب بن إسحاق ، حدثنا أبى عن العلاء» والصواب ما أثبته بين الحاصرتين ؛ وهو ما ذكره الدار قطنى ـ رحمه‌الله ـ فى سننه فى سند هذا الحديث بعينه ، كما قال الحضرمى فى (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / ظ).

(٣) الزيادة عن ب.

(٤) ب : «فأقول ذكرنى».

(٥) هذا جزء من حديث قدسى طويل ؛ وقد أخرجه الترمذى ، بألفاظ مختلفة ، عن أبى هريرة فى (صحيحه ، باب سورة الفاتحة من أبواب تفسير القرآن ٢ : ١٥٧) وأبو داود فى (سننه ـ من باب : من ترك القراءة فى الصلاة ١ : ٢٢٨) وابن ماجه فى (سننه : باب : ثواب القرآن ٢ : ١٢٤٣ حديث ٣٧٨٤) والنسائى فى (سننه ـ من باب من ترك قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فى فاتحة الكتاب ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٦).

٨

وما أسنى هذه الفضيلة ـ إذ لم يرد فى شىء من القرآن هذه المقاسمة التى رويت فى الفاتحة بين الله تعالى وبين العبد.

أخبرنا عبد القاهر بن طاهر البغدادىّ ، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر ، حدّثنا إبراهيم بن علىّ الذّهلىّ ، أخبرنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا هشيم ، عن أبى بشر ، عن أبى المتوكّل ، عن أبى سعيد الخدرىّ :

أنّ ناسا من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا فى سفر فمرّوا بحىّ من أحياء العرب ، فاستضافوهم فلم يضيفوهم ، فقيل لهم : هل فيكم راق؟ فإن سيّد الحىّ لديغ ـ أو مصاب؟ (١) فقال رجل منهم : نعم. فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب ، فبرأ الرجل ، فأعطى قطيعا من غنم ، فأبى أن يقبلها ، وقال : حتى أذكر ذلك لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتى النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكر ذلك له ، فقال : يا رسول الله : والله ما رقيت إلّا بفاتحة الكتاب ، فتبسّم ، وقال «ما يدريك أنّها : رقية»؟ ثم قال : «خذوا منهم واضربوا لى بسهم معكم». رواه مسلم عن يحيى بن يحيى ؛ ورواه البخارىّ (٢) عن أبى النّعمان (٣) ، عن أبى عوانة ، عن أبى بشر.

أخبرنا أبو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن جعفر ، أخبرنا أبو علىّ بن أحمد الفقيه ، أخبرنا حسين بن محمد بن مصعب ، أخبرنا يحيى بن حكيم ، حدّثنا ابن أبى عدىّ ، عن هشام بن حسّان ، عن محمد بن سيرين ، عن أخيه معبد بن سيرين ، عن أبى سعيد الخدرىّ ، قال :

نزلنا منزلا ، فجاءتنا جارية ، فقالت : إنّ نفرنا غيّب (٤) ، وإنّ سيّد الحىّ سليم ،

__________________

(١) ب : «أم مصاب».

(٢) رواه الشيخان بهذا السند ، بألفاظ مختلفة عنه ، انظر (صحيح مسلم ، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار ٥ : ٤٨) و (صحيح البخارى ، باب ما يعطى فى الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب ٢ : ٣٦).

(٣) ب : «عن النعمان» وهو خطأ. وهو أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسى. انظر (إرشاد السارى ٤ : ١٤٧).

(٤) قوله : «غيب» ـ بفتح الغين والياء ـ جمع : غائب ، كخادم وخدم ، وللأصيلى وأبى الوقت «غيب» ـ بضم الغين وتشديد الياء ، كراكع وركع ـ انظر (إرشاد السارى ـ شرح القسطلانى ٧ : ٤٦٠).

٩

فهل فى القوم من راق؟ فقام رجل فقال : نعم ـ وما كنّا نأبنه (١) برقية ولا نراه يحسنها (٢) ـ فذهب فرقاه ، فأمر له بثلاثين شاة ـ وأحسبه أنّه قال : وسقانا لبنا ـ ، قال : فلمّا جاء ، قلنا له : ما كنّا نراك تحسن رقية ، قال : ولا أحسنها ، إنّما رقيته بفاتحة الكتاب. قال : فلمّا قدمنا المدينة ، قلت : لا تحدثوا فيها شيئا ، حتى آتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأذكر ذلك له ، فأتيته ، فذكرت ذلك له ، فقال : «ما كان يدريك أنّها رقية؟ اقتسموها ، واضربوا بسهمى معكم».

رواه البخارىّ ، عن محمد بن المثنّى ، عن وهب بن جرير ، ورواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة ، عن يزيد بن هارون كلاهما عن هشام بن حسّان (٣).

__________________

(١) قوله : «نأبنه» ـ بنون مفتوحة ، وباء مكسورة ، ونون مضمومة ـ أى : نتهمه. انظر (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٢ / ظ).

(٢) حاشية ج : «أى : يعلمها. يريد : يعلم الرجل تلك الرقية ؛ لأن الإحسان بمعنى : العلم ، فالضمير المستكن فى الخبر يعود إلى الرجل».

(٣) رواه الشيخان ، بهذا السند ، عن أبى سعيد الخدرى ، بألفاظ مختلفة. انظر (صحيح البخارى ، باب فاتحة الكتاب ٣ : ٢٢٩) و (صحيح مسلم ، باب أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار ٥ : ٤٩).

١٠

«فصل» (١) فى بيان نزول الفاتحة

أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد العدل ، أخبرنى جدّى / ، أخبرنا أحمد بن محمد ٤ / وابن أحمد الحرشىّ ، أخبرنا إبراهيم بن الحارث ، وعلىّ بن سهل بن المغيرة ، قالا : حدّثنا يحيى بن أبى بكير ، حدّثنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن أبى ميسرة.

أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان إذا برز (٢) سمع مناديا يناديه : يا محمد ، فإذا سمع الصّوت انطلق هاربا. فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النّداء فاثبت ، حتّى تسمع ما يقول لك. قال : فلما برز سمع النداء : يا محمد ، قال : «لبّيك» (٣). قال : قل : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنّ محمدا رسول الله. ثم قال له :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ...) حتّى فرغ من فاتحة الكتاب (٤).

__________________

(١) الزيادة عن ب.

(٢) «برز يبرز بروزا ، أى : خرج» : (اللسان ـ مادة : برز).

(٣) حاشية ج : «أى : أنا مقيم على طاعتك ..».

(٤) انظر (أسباب النزول للواحدى ١٧) و (الدر المنثور ١ : ٣٢).

١١

القول فى آية التّسمية

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضى ، حدّثنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشّافعىّ ؛ أخبرنا عبد المجيد ، عن ابن جريج [قال] : أخبرنى أبى ، عن سعيد ابن جبير : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي)(١) [قال] : هى فاتحة الكتاب. قال أبى : وقرأها (٢) علىّ سعيد بن جبير حتّى ختمها ، ثم قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية السّابعة ، قال سعيد «بن جبير» (٣) : وقرأها علىّ ابن عباس ، كما قرأتها عليك ، ثم قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الآية السابعة. قال ابن عباس : فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم (٤).

أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان العدل ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين ، القاضى بالكوفة ، حدّثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأشجعىّ ، حدّثنا عبّاد بن يعقوب ، حدّثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن ابن أبى مليكة ، عن أمّ سلمة ، قالت :

سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) إلى آخر السّورة سبع آيات (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إحداهنّ» (٥). وعدّهنّ (٦) عمر فى يده ، وعدّهنّ ابن جريج فى يده ، وعدّهنّ أبو سعيد فى يده عدد الأعراب (٧).

__________________

(١) سورة الحجر : ٨٧.

(٢) حاشية ج : «قوله : أبى وقرأها» مقول قول المصنف».

(٣) الزيادة عن ب.

(٤) ما بين المعكوفتين عن (الأم للشافعى ١ : ٩٣).

(٥) أخرجه ابن الأنبارى فى المصاحف ، بألفاظ مختلفة ، عن أم سلمة. انظر (الدر المنثور ١ : ٣).

(٦) حاشية ج : «أى : عد الفاتحة المذكورة سبع آيات (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إحداهن. هنا إجماع منهم على أن التسمية آية منها».

(٧) الأعراب : جمع العرب. وفى (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٣ / و) «قوله : عدد الأعراب ، أراد أنهم يعدون بالعشرة ، فإنهم كانوا لا يعرفون اصطلاح الكتاب ، وعددهم بالخمس».

١٢

أخبرنا أبو عبد الله بن يحيى ، أخبرنا محمد بن الحسن السّراج ، حدّثنا على بن سليم البغدادىّ ، حدّثنا علىّ بن حرب الموصلىّ ، حدّثنا إسحاق بن عبد الواحد ، حدّثنا المعافى بن عمران ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن نوح بن أبى بلال ، عن أبى سعيد المقبرىّ ، عن أبى هريرة ، قال :

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سبع آيات أولاهنّ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؛) وهى السّبع المثانى ، وهى فاتحة الكتاب ، وهى أمّ القرآن» (١).

هذه الأخبار ناطقة بأنّ التسمية آية من الفاتحة ، وكذلك هى فى غيرها من السّور آية.

أخبرنا أبو عبد الله بن أبى إسحاق المزكّى ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد الخلّالىّ ، أخبرنا عبد الله بن زيدان البجلىّ ، حدّثنا أبو كريب ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :

كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يعرف ختم السّورة حتّى ينزل عليه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢).

أخبرنا عبد القاهر بن طاهر ، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر ، أخبرنا إبراهيم ابن على الذّهلىّ ، حدّثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا عمر بن الحجاج العبدىّ ؛ عن عبد الله ابن أبى حسين ، ذكر عن عبد الله بن مسعود قال :

كنّا لا نعلم فصل ما بين السّورتين حتّى تنزل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٣).

***

وأما التفسير (٤) : فإن المتعلّق به «الباء» فى قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

__________________

(١) أخرجه ابن كثير ، بألفاظ مختلفة ، عن أبى هريرة. انظر (تفسير ابن كثير ١ : ٢٢).

(٢) انظر (أسباب النزول للواحدى ٧٥) و (تفسير ابن كثير ١ : ٣١).

(٣) انظر (أسباب النزول للواحدى ١٦) و (الدر المنثور ١ : ٧).

(٤) أى : تفسير سورة الفاتحة.

١٣

محذوف ؛ ويستغنى عن إظهاره لدلالة الحال عليه ، وهو معنى الابتداء ، كأنّه قال : بدأت (بسم الله) ، أو أبدأ (بسم الله). والحال تبيّن أنّك مبتدئ ، فاستغنيت عن ذكره.

وهى أداة تجرّ ما بعدها من الأسماء ، نحو «من» و «عن» و «فى» ، وحذفت الألف من (بسم الله) «فى الكتابة» (١) ، لأنّها وقعت فى موضع معروف لا يجهل القارئ معناه ، فاستخفّ طرحها ؛ وأثبتت الألف فى قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٢) لأنّ هذا لا يكثر كثرة (بسم الله) ؛ ألا ترى أنّك تقول : (بسم الله) عند ابتداء كلّ شىء (٣) ؛ ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ، ولا مع غير الباء من الحروف ، فتقول : «لاسم الله حلاوة فى القلوب ، وليس اسم كاسم الله» ؛ فتثبت الألف مع اللام والكاف (٤). هذا فى سقوطها فى الكتابة. وأمّا سقوطها فى اللفظ فلأنّها للوصل ؛ وقد استغنى عنها بالباء.

وعند البصريّين : أنّ «الاسم» مشتق من السّموّ ، لأنّه يعلو المسمّى ؛ فالاسم ما علا وظهر ، فصار علما للدّلالة على ما تحته من المعنى.

وعند الكوفيين : «الاسم» : مشتقّ من «الوسم ، والسّمة» : وهى العلامة ؛ ومن هذا قال أبو العباس ثعلب : «الاسم» : سمة يوضع على الشىء يعرف به.

والصحيح ما قاله أهل البصرة (٥) ؛ لأنّه لو كان مشتقّا من الوسم لقيل فى تصغيره «وسيم» ، كما قالوا : «وعيدة ، ووصيلة» ، فى تصغير : عدة وصلة. فلما قالوا : «سمىّ» ظهر أنّه من السّموّ لا من السّمة.

__________________

(١) الزيادة عن أ ، ب.

(٢) سورة الواقعة : ٧٤ ، ٩٦ ؛ وسورة الحاقة : ٥٢.

(٣) حاشية ج : «ولا تقول : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) *».

(٤) عبارة الفراء : «فتثبت الألف فى اللام وفى الكاف ؛ لأنهما لم يستعملا كما استعملت الباء فى اسم الله» (معانى القرآن للفراء ١ : ٢).

(٥) قال صاحب (البحر المحيط ١ : ١٤): «البصرى يقول : مادته : سين وميم وواو ؛ والكوفى يقول : واو وسين وميم ؛ والأرجح الأول».

١٤

وأمّا (الله) فإن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى أنّ هذا الاسم ليس بمشتقّ ، وأنّه اسم تفرّد به البارى سبحانه وتعالى ، يجرى فى وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يشركه فيه أحد ؛ قال الله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(١) أى : هل تعلم أحدا يسمّى الله غيره؟

وهذا القول يحكى عن الخليل بن أحمد بن كيسان ؛ وهو اختيار أبى بكر القفّال الشّاشىّ.

والأكثرون (٢) ذهبوا إلى أنّه مشتقّ من قولهم : «أله إلاهة» ؛ أى : عبد عبادة. وكان ابن عباس يقرأ : (ويذرك وإلاهتك) (٣) قال معناه : عبادتك ، ويقال : تألّه الرّجل ؛ إذا نسك (٤) ، قال رؤبة :

«لله درّ الغانيات المدّه» (٥)

سبّحن واسترجعن من تألّهى

ومعناه : المستحقّ للعبادة وذو العبادة الذى إليه توجّه العبادة وبها يقصد /.

وقال أبو الهيثم الرّازىّ : (الله) أصله «إلاه» (٦) ، قال الله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ)(٧) ، ولا يكون إلها [حتى يكون معبودا ، و](٨) حتّى يكون لعابده خالقا ورازقا ومدبّرا وعليه مقتدرا ؛ فمن لم يكن كذلك فليس بإله ، وإن عبد عبد ظلما ، بل هو مخلوق ومتعبّد (٩).

__________________

(١) سورة مريم : ٦٥.

(٢) أ : «والأكثرون منهم».

(٣) سورة الأعراف : ١٢٧. انظر (تفسير الطبرى ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، ١٣ : ٣٨) و (كتاب القراءات الشاذة لابن خالويه ٤٥).

(٤) فى (اللسان ـ مادة : نسك ، أله): «نسك وتنسك ، أى تعبد. والتأله : التنسك والتعبد».

(٥) الزيادة عن أ ، والبيت فى (ديوان رؤبة ١٦٥) و (اللسان ـ مادة : أله ، مده) و (وتفسير الطبرى ١ : ١٢٣).

حاشية ج : «التمده : التمدح. والمده : المدح ، فهو جمع : ماده. وسبحن ، أى : قلن سبحان الله. واسترجعن ، أى : قلن إنا لله وإنا إليه راجعون. من تألهى ، أى : من تعبدى».

(٦) «على ـ فعال ـ بمعنى مفعول ، لأنه مألوه ، أى : معبود ..»» (اللسان ـ مادة : أله).

(٧) سورة المؤمنون : ٩١.

(٨) الزيادة عن قول أبى الهيثم مما نقله عنه صاحب (اللسان ـ مادة : أله).

(٩) المتعبد : المأمور بالعبادة ، كما فى (اللسان ـ مادة : عبد).

١٥

قال : وأصل «إله» ، ولاه» فقلبت الواو همزة ، كما قالوا للوشاح : إشاح ، وللوجاح : إجاح (١). ومعنى «ولاه» : أن الخلق يولهون (٢) إليه فى حوائجهم ، ويضرعون إليه فيما ينوبهم ، ويفزعون إليه فى كلّ ما يصيبهم ، كما يوله كلّ طفل إلى أمّه (٣)

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال الليث : هما اسمان اشتقاقهما من الرّحمة (٤). وقال أبو عبيدة : هما صفتان لله تعالى معناهما : ذو الرّحمة (٥). ورحمة الله : إرادته الخير والنّعمة والإحسان إلى من يرحمه.

و (الرَّحْمنِ) ـ عند قوم ـ أشدّ مبالغة من (الرَّحِيمِ) كالعلّام من العليم ؛ ولهذا قيل : «رحمان الدّنيا ورحيم الآخرة» (٦) ؛ لأنّ رحمته فى الدنيا عمّت المؤمن والكافر والبرّ والفاجر ، ورحمته فى الآخرة : اختصّت بالمؤمنين.

وقال آخرون : إنّهما بمعنى واحد ، كندمان ونديم ، ولهفان ولهيف (٧) ، وجمع بينهما للتّأكيد (٨) ، كقولهم : «فلان جادّ مجدّ».

٢ ـ قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

قال ابن عباس : يعنى الشّكر لله ، وهو أنّه صنع إلى خلقه فحمدوه (٩) ، يعنى أنّه أحسن إليهم فشكروه وأثنوا عليه.

__________________

(١) بتقديم الجيم على الحاء ؛ وهو الستر ، كما فى (اللسان ـ مادة : وجح) و (عمدة القوى والضعيف ـ الورقة ٣ / ظ).

(٢) ب : «يالهون» وهو تحريف. أى : يفزعون إليه عند الحيرة والدهشة : (اللسان ـ مادة : أله).

(٣) قول أبى الهيثم هذا جاء فى (اللسان ـ مادة : أله).

(٤) وهو قول الأزهرى ، كما فى (اللسان ـ مادة : رحم).

(٥) كما فى (مجاز القرآن لأبى عبيدة ١ : ٢١) وقد جاء هذا المعنى وما بعده مفصلا فى (تفسير الطبرى ١ : ١٢٦ ـ ١٣٤) و (اللسان ـ مادة : رحم) و (تفسير البحر المحيط ١ : ١٦ ـ ١٧).

(٦) كما روى عن مجاهد. انظر (تفسير ابن كثير ١ : ٣٣) و (والبحر المحيط ١ : ١٧).

(٧) أى : حزين. (اللسان ـ مادة : لهف).

(٨) كما قال الجوهرى وقطرب. انظر (اللسان ـ مادة : رحم).

(٩) كما فى (تنوير المقباس ١ : ٣) «الحمد لله : الثناء لله والشكر له بإنعامه».

١٦

و (الحمد) قد يكون شكرا للصّنيعة ، وقد يكون ابتداء للثناء على الرّجل.

يقال : حمدته على معروفه ، كما يقال شكرته ؛ ويقال : حمدته على علمه وعلى شجاعته ؛ إذا أثنيت عليه بذلك. ولا يقال فى هذا المعنى : شكرته.

فحمد الله : الثّناء عليه والشّكر لنعمه (١).

قال ابن الأنبارىّ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يحتمل أن يكون هذا إخبارا أخبر الله تعالى به ؛ والفائدة فيه : أنّه بيّن أنّ حقيقة الحمد له ، وتحصيل كلّ الحمد له لا لغيره. ويحتمل أن يكون هذا ثناء أثنى به على نفسه ؛ علّم عباده فى أوّل كتابه ثناء عليه ، وشكرا له يكتسبون بقوله وتلاوته أعظم الثّواب ؛ ويكون المعنى : قولوا الحمد لله ، فيضمر القول ـ هاهنا ـ كما يضمر فى قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ)(٢) معناه : يقولون ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله.

وقوله تعالى : (لله) هذه اللام تسمّى لام الإضافة ؛ ولها (٣) معنيان ؛ أحدهما : الملك ، نحو المال لزيد. والآخر : الاستحقاق ، نحو الحبل للدّابة ؛ أى استحقّته ، وكذلك الباب للدّار.

وقوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ)

«الرّبّ» فى اللغة له معنيان ؛ أحدهما : أن يكون من الرّبّ بمعنى : التّربية ؛ يقال : ربّ فلان الصّنيعة يربّها ربّا ؛ إذا أتمّها وأصلحها ؛ فهو ربّ ، مثل «برّ وطبّ» (٤) قال الشاعر :

يربّ الذى يأتى من الخير أنّه

إذا فعل المعروف زاد وتمّما (٥)

__________________

(١) أ ، ب : «والشكر له على نعمه». فى (اللسان ـ مادة : حمد) عن الأزهرى : «فحمد الله : الثناء عليه ، ويكون شكرا لنعمه التى شملت الكل».

(٢) سورة الزمر : ٣.

(٣) ب : «ولهذا».

(٤) فى (اللسان ـ مادة : طبب) «رجل طب ـ بالفتح ـ أى : عالم».

(٥) انظر (اللسان ـ مادة : ربب).

١٧

والمعنى على هذا : أنّه يربّى الخلق ، ويغذّيهم (١) بما ينعم عليهم.

والثّانى : أن يكون الرّبّ بمعنى : المالك ؛ يقال : ربّ الشّىء ؛ إذا ملكه ، وكلّ من ملك شيئا فهو ربّه. يقال : هو ربّ الدّار ، وربّ الضيعة ، والله تعالى ربّ كلّ شىء ؛ أى : مالكه.

وقوله : (الْعالَمِينَ :) هو جمع «عالم» ، على وزن «فاعل» ، نحو خاتم وطابع ودانق ، وقالب (٢) ؛ وهو اسم عامّ لجميع المخلوقات. يقال : العالم محدث ؛ وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة ـ فى تفسير «العالم» : أنّه جميع المخلوقات.

٣ ، ٤ ـ ([الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

«المالك» : الفاعل من الملك. يقال : ملك الشىء يملكه ملكا وملكا ومملكة ، ويقرأ هذا الحرف (٣) بوجهين : (مالِكِ) ، و «ملك» (٤) ؛ فمن قرأ : «ملك» قال :

الملك أشمل وأتمّ ، لأنّه يكون (٥) مالك ولا ملك له ، ولا يكون ملك إلّا وله ملك ؛ فكلّ ملك مالك ؛ وليس كلّ مالك ملكا ؛ ويقوّى هذه القراءة قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ)(٦) وقوله : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ)(٧) ؛ وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)(٨) ؛ ولم يقل : الملك.

ومن قرأ : (مالِكِ) فلأنّه أجمع وأوسع ؛ لأنّه يقال : مالك الطّير والدّوابّ والوحوش وكلّ شىء ؛ ولا يقال : ملك كلّ شىء ؛ إنّما يقال :

__________________

(١) أ ، ب : «يغدوهم». حاشية ج : «أى : يعطيهم الغذاء من الطعام».

(٢) فى (اللسان ـ مادة : طبع ، قلب) «الطابع ـ بالفتح ـ : الخاتم ، والطابع ـ بالكسر لغة فيه. والقالب ـ بالفتح قالب الخف ، والقالب ـ بالكسر ـ : البسر الأحمر».

(٣) حاشية ج : «أى : هذه الكلمة. وقد يقال للاسم حرف لمعنى الكلمة. وقد وقع هذا فى عبارة النحويين المعتبرين».

(٤) قرأ عاصم والكسائى وكذا يعقوب : «مالك» بالألف مدا .. وافقهم الحسن والمطوعى. والباقون بغير ألف ..» (إتحاف فضلاء البشر ١٢٢) وانظر (تفسير الطبرى ١ : ١٥).

(٥) أ ، ب : «لأنه مالكا». حاشية ج : «يكون زائدة».

(٦) سور طه : ١١٤.

(٧) سورة الحشر : ٢٣.

(٨) سورة غافر : ١٦.

١٨

(مَلِكِ النَّاسِ). ولا يكون مالك (١) الشّىء إلّا وهو يملكه ؛ وقد يكون ملك الشّىء وهو لا يملكه ؛ كقولهم : ملك العرب والعجم.

و (الدِّينِ) : الجزاء ، و (يَوْمِ الدِّينِ) : يوم يدين الله تعالى العباد بأعمالهم (٢).

تقول العرب : «دنته بما فعل» ؛ أى : جازيته ، ومنه قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)(٣) أى مجزيّون ؛ وتقول العرب : «كما تدين تدان (٤)» أى كما تجازى تجازى (٥).

ومعنى قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : أنّه ينفرد فى ذلك اليوم بالحكم ، بخلاف الدّنيا فإنّه يحكم فيها الولاة والقضاة ، ولا يملك أحد الحكم فى ذلك اليوم إلّا الله تعالى.

وتقدير الآية : مالك يوم الدّين الأحكام (٦) ، وحذف المفعول من الكلام للدّلالة عليه.

ومن قرأ : ملك يوم الدّين فمعناه : أنّه يتفرّد بالملك فى ذلك اليوم ، لزوال ملك الملوك وانقطاع أمرهم ونهيهم ؛ وهذا كقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ)(٧)

٥ ـ قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)

«إيّا» ضمير المنصوب المنفصل ، ويدخل عليه المكانىّ (٨) ؛ من الياء ، والنّون ،

__________________

(١) حاشية ج : «الملك والمالك : القادر على اختراع الأعيان ، ولا يقدر على ذلك الاختراع إلا الله تعالى».

(٢) هذا المعنى رواه ابن جرير عن قتادة ، كما فى (تفسير الطبرى ١ : ١٦٠).

(٣) سورة الصافات : ٥٣.

(٤) انظر (الكامل : ١٨٥) و (جمهرة الأمثال ٢ : ١٥٤).

(٥) ب : «تجزى». فى (اللسان ـ مادة : دين) «أى : تجازى بفعلك وبحسب ما عملت».

(٦) أى : الأمور فى يوم الدين. (اللسان ـ مادة : حكم).

(٧) سورة الفرقان : ٢٦.

(٨) حاشية ج : «المكانى : جمع المكنى ، أى المخفى ؛ لأن فى الضمائر خفاء. أو تقول : المراد بالمكنى : الكناية ، لأن عند بعض : الضمائر كنايات : التاء عن المتكلم ، والكاف عن المخاطب ، والهاء عن الغائب ، والنون عن المتكلم مع الغير».

١٩

والكاف ، والهاء ، نحو إيّاى ، وإيّانا ، وإيّاك ، وإيّاه ؛ ويستعمل مقدّما على الفعل ، ٥ / ونحو : إيّاك أعنى ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولا يستعمل مؤخّرا ، لا يقال : قصدت إيّاك ؛ فإن فصلت بينه وبين الفعل ب «إلّا» جاز التّأخير ، نحو : ما عنيت إلّا إيّاك.

و (نَعْبُدُ) من العبادة ؛ وهى الطاعة مع الخضوع ؛ ولا يستحقّها إلّا الله عزوجل ، وسمّى العبد عبدا لذلّته وانقياده لمولاه ؛ و «طريق معبّد» ؛ إذا كان مذلّلا بالأقدام.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ((١) أصله : نستعون ؛ من المعونة ، سكّن ما قبل الواو ، فاستثقلت ؛ فنقلت إلى العين ، فصار نستعين. ومعناه) (٢) : ومنك نطلب المعونة على عبادتك ، وعلى أمورنا كلّها.

٦ ـ وقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

معنى «الهداية» فى اللّغة : الدلالة ، يقال : هداه الله فى الدّين يهديه هدى ، وهداه يهديه هداية ؛ إذا دلّه على الطريق (٣).

و «الصّراط» أصله بالسّين ، لأنّه من الاستراط (٤) ، بمعنى : الابتلاع ، فالسّراط (٥) يسترط السّابلة (٦).

فمن قرأ : بالسّين فعلى أصل الكلمة ؛ ومن قرأ (٧) بالصّاد ؛ فلأنّها أخفّ على اللسان ، لأنّ الصاد حرف مطبق (٨) كالطاء ، فيتقاربان ويحسنان فى السّمع.

__________________

(١) (١ ـ ١) الزيادة عن أ ، ب.

(٢) (١ ـ ١) الزيادة عن أ ، ب.

(٣) أ : «إذا أدله ..». حاشية ج : «أى الهدى يستعمل فى الدين ، والهداية يستعمل فى الطريق.

(٤) أ : «من السراط».

(٥) أ ، ب : «فالصراط» بالصاد ، تحريف.

(٦) السابلة : المارة على الطريق.

(٧) أ ، ب : «فمن قرأها». قرأ يعقوب وقنبل ورويس «السراط» ـ بالسين ـ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائى : «الصِّراطَ» بالصاد. وقرئ بزاى خالصة والسين الأصل. وحكى سلمة عن الفراء قال : «الزراط» بإخلاص الزاى. وقرأ حمزة : بين الزاى والصاد ـ بخلاف وتفصيل بين رواته. كما فى (البحر المحيط ١ : ٢٥) وانظر (إتحاف فضلاء البشر ١٢٣) و (اللسان ـ مادة : سرط ، صرط).

(٨) حاشية ج : «المطبق : ما ينطبق على مخرجه الحنك. والمجهورة : ما تحصره فى النفس مع تحركه».

٢٠