الوسيط في تفسير القرآن المجيد - المقدمة

الوسيط في تفسير القرآن المجيد - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

بقلم الاستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق

وزير الأوقاف

يعد التراث الاسلامي أكثر غنى وثراء من تراث أي حضارة من الحضارات السابقة من حيث الكيف والكم ، كما أن تأثيره كان ولايزال واسع الانتشار في داخل العالم الإسلامي وفي خارجه. وقد اهتم المستشرقون به اهتماما بالغاً كما تشهد بذلك المخطوطات العربية الاسلامية التي تذخر بها المكتبات الكبرى في العواصم الأوروبية.

ويشتمل التراث الاسلامي على كل مجالات العلوم والفنون. ويعبر أصدق تعبير عما وصل إليه المسلمون في حضارتهم من رقى وازدهار. وقد كان هذا العطاء العلمي الإسلامي هو الذي دفع أوروبا في العصر الوسيط إلى السير في طريق النهوض والتقدم ، حيث بادرت منذ بدايات القرن الحادي عشر الميلادي إلى ترجمة الكثير منه إلى اللغة اللاتينية. وذلك يبين لنا أنه تراث انساني شامل ليس محدود المكان او الاثر.

وعندما نتأمل هذا التراث العظيم ـ الذي لا يزال الكثير منه غير منشور ـ نجد التنوع الكبير الذي يدل على عقلية متوقدة ، وذهن متفتح ، يسع الانسان أينما كان وأنى كان ـ ولكننا نتبين أيضاً أمراً هاماً وهو أن القرآن الكريم كان بالنسبة للمسلمين بعثابة المحور الذي دارت حوله بحوثهم وجهودهم العلمية من باديء الأمر. فقد أنصب اهتمامهم على العناية بكتاب الله حفظاً وفهماً وتفسيراً. وأدى ذلك إلى اهتمامهم بالسنة النبوية التي تعد تفصيلاً وتوضيحاً لما جاء مجملاً في القرآن الكريم ، ومزيداً من البيان للعديد من الجوانب التي اشتمل عليها من امور الدين والدنيا على السواء مصداقاً لقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم) (١).

كما جاءت جهود علماء العقيدة والفقه الاسلامي والتصوف والاخلاق والعلوم اللغوية معبرة عن بالغ الاهتمام بالقرآن الكريم والحرص على فهم تعاليمه ، مؤصلة علوماً جديدة لم يكن لها وجود قبل ذلك.

وانطلق علماء العلوم الكونية والانسانية يبحثون في ضوء ما أشار اليه القرآن الكريم من آيات كونية وانسانية تبين قدرة الله فيى هذا الوجود ، فقد بين القرآن الكريم أن الله

__________________

(١) سورة النحل : ٤٤.

٣

قد سخر هذا الكون كله بأرضه وسمائه وما بينهما للانسان مصداقاً لقوله تعالى : (وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً تنه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (١).

وعلى الانسان أن يبذل كل جهوده وطاقاته الفكرية في سبيل اكتشاف القوانين التي تحكم سير هذا الوجود ، ومعرفة آيات الله في هذا الكون ، والتي تشير جميعها إلى عظمة الخالق وقدرته : (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحق) (٢).

وفي ظل القرآن الكريم وهدايته تطورت على أيدي علماء المسلمين علوم الرياضيات والفلك والطب والفلسفة وغيرها من علوم نافعة.

وهكذا كان القرآن الكريم هو الدافع الاول لكل ما حققه المسلمون في السابق من تقدم حضارى باهر. ولا يزال القرآن يقوم عطاءه الممدود والمتواصل لكل من يريد أن يغترف من معينه الفياض.

ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا علماء المسلمين في السابق واللاحق يبذلون جهوداً فائقة في تفسير القرآن الكريم ، وشرح تعاليمه ، والاهتمام الكبير بكل ما يتصل به من فريب أو من بعيد ، وقد تعددت التفاسير وتنوعت مناهج المفسرين ، ولم ينقطع هذا الجهد المبذول في تفسير القرآن الكريم حتى يومنا هذا. فالعطاء موصول ومتجدد والقرآن الكريم (لا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه).

والمجلس الاعلى للشئون الاسلامية ـ من خلال لجنة إحياء التراث ـ يبيذل جهوداً فائقة في سبيل إحياء التراث الاسلامي بصفة عامة ، وتحقيق العديد من المخطوطات في تفسير القرآن الكريم بصفة خاصة. وتفاسير القرآن ـ كما هو معروف ـ منها المطول ، ومنها المختصر ، ومنها الوسيط ، ومنها ما يهتم بالاحكام الفقهية ، ومنها ما يهتم بايراد الاحاديث النبوية الشارحة ، ومنها ما يهتم بالجانب البياني أو العقدي ومنها ما يهتم بالاعجاز العلمي ... إلخ.

والكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القارئ الكريم هو كتاب (الوسيط في تفسير القرآن المجيد) للامام أبى الحسن علي بن أحمد الواحدي (المتوفي ٤٦٨ هـ) وهو من المفسرين الذين لهم باع طويل في التفسير. فقد ألف فيه (البسيط) و (الوسيط) و (الوجيز).

__________________

(١) سورة الجاثية : ١٢.

(٢) سورة فصلت : ٥٢.

٤

وفي مقدمته لهذا الكتاب يعبر الواحدي عن مقصده (بتصنيف تفسير أعفيه من التطويل والاكثار ، وأسلمه من خلل الوجازة والاختصار ، وأتى به على النمط الاوسط والقصد الاقوم ، حسنة بين السيئتين ، ومنزلة بين المنزلتين ، لا إقلال ولا إملال).

كما يفصح عن منهجه في تفسيره بقوله :

(ومن شرف هذا العلم (تفسير القرآن الكريم) وعزته في نفسه ، أنه لا يجوز القول فيه بالعقل والتدبر ، والرأي والتفكر ، دون السماع والأخذ عمن شاهدوا التنزيل بالرواية والنقل. والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن بعده من الصحابة والتابعين ، قد شددوا في هذا حتى جعلوا المصيب فيه برأيه مخطئاً).

ونحن هنا لسنا في مجال تفضيل تفسير على تفسير آخر. فلكل مفسر منهجه الخاص به ، وتصوره الذي بينيه على اسس يرتضيها. وتنوع التفاسير مفيد. والقرآن الكريم لن ينتهي مدده أبداً. وكل مفسر أراى بتفسيره خدمة القرآن الكريم ، والاعمال بالنيات.

وقد بذل محقق الكتاب جهداً عملياً مشكوراً. فله منا الشكر ومن الله الثواب على هذا العمل الجليل. كما نشكر لجنة إحياء التراث بالمجلس الاعلى للشئون الاسلامية على ما تبذله من جهد واضح في خدمة تراثنا الاسلامي العظيم.

ونحن إذ نقدم هذا الكتاب لقراء العربية فإنه لا يفوتنا أن نقدم خالص الشكر وعظيم التقدير للسيد الرئيس محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية على دعمه المستمر للمجلس الاعلى للشئون الاسلامية ، هذا الدعم الذي مكن المجلس من تقديم الزاد العلمي الديني المتنوع لجمهور القراء وراغبي التعرف على الثقافة الاسلامية من منابعها الاصلية.

نسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب ، وأن يجزى كل من أسهم في إخراجه على هذا النحو خبر الجزاء.

والله ولي التوفيق ...

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم لجنة إحياء التراث الاسلامي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أما بعد :

فهذا هو الجزء الاول من كتاب (الوسيط في تفسير القرآن المجيد ، لواحد من أشهر علمائنا ، الذين اشتغلوا بتفسير القرآن الكريم ، فأتوا فيه بكل رائع معجب ، وهو الامام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ، أحد علماء القرن الخامس الهجري.

وللامام الواحدي ثلاثة كتب في تفسير القرآن العظيم.

أحدهما : هو هذا الذي نقدمه اليوم لقراء العربية ، وعشاق التراث الاسلامي.

والثاني هو : كتاب (الوسيط في تفسير القرآن المجيد). والثالث هو كتاب (الوجيز في تفسير القرآن المجيد).

وكتاب (الوسيط) ـ كما هو واضح من اسمه ـ وسط بين الكتابين الاخرين من كتب الواحدي ، فلا هو بالمختصر المخل ، ولا المطول الممل. وقد أفاد فيه مؤلفه من المفسرين قبله ، ولم يقتصر على ذلك ، بل نقل في كتابه عن أئمة النحاة واللغويين والقراءات. وكان يوضح السبب في اختلاف القراءات القرآنية وعلل وجوهها وغير ذلك.

وقد اتبع الاستاذ محمدحسن ابوالعزم ، محقق الكتاب ، المنهج العلمي الذي ارتضته اللجنة لتحقيق الكتب التي تصدر عنها ، لقابل بين مخطوطات الكتاب ، وأثبت القراءة التي رآها صوابا ، وأشار إلى فروق الروايات في هامش النص الملحق في تفسيره ، وخرّج نصوص الكتاب المختلفة ، وترجم للكثير من الاعلام التي أوردها الواحدي في تفسيره ، ووقف عند بعض الآراء التي تستحق المناقشة في الكتاب ، ونناولها بالتعليق والتحقيق.

وإن لجنة إحياء التراث الاسلامي بالمجلس الاعلى للشئون الاسلامية ، وهي تقدم هذا الجزء الاول من تفسير (الوسيط) للواحدي ، لنرجوا أن يسد هذا الكتاب فراغا في المكتبة العربية ، كما تأمّل أن تصدر الاجزاء المتيقنة من هذا الكتاب القيم في أقرب فرصة ممكنة. وعلى الله قصد السبل.

مقرر اللجنة

د. رمضان عبدالتواب

رئيس اللجنة

عبدالمنعم محمد عمر

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

أبو الحسن الواحدى النّيسابورى

(*) هو الإمام المفسّر : على بن أحمد بن محمد بن على بن متّويه (١) الواحدى النّيسابورى (٢) ويذكر المترجمون له : «أنّ أصله من ساوة (٣) ، ومن أولاد التجار ، وله أخ اسمه :

__________________

(*) مصادر الترجمة :

(إنباه الرواة ٢ : ٢٢٣) وهو فيه «أبو الحسين ...» تحريف. (البداية والنهاية ١٢ : ١١٤) و (بغية الوعاة ٢ : ١٤٥) و (دمية القصر ٢٠٣) و (روضات الجنات ٤٨٤) و (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠) و (طبقات الشافعية للسبكى ٣ : ٢٨٩) و (طبقات الشافعية لابن قاضى شهبة ٢ : ١٣٥ ـ ١٣٨) و (طبقات القراء لابن الجزرى ١ : ٥٢٣) و (طبقات المفسرين للسيوطى ٢٣) و (طبقات المفسرين للداودى ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨) و (طبقات ابن هداية الله ٥٨) و (إشارة التعيين الورقة ٣١) و (تاريخ ابن الأثير ٨ : ١٢٣) و (تاريخ أبى الفداء ٢ : ١٩٢) و (تاريخ ابن كثير ١٢ : ١١٤) و (تلخيص ابن أم مكتوم ١٢٥) و (العبر ٣ : ٢٦٧) و (المختصر فى أخبار البشر ٢ : ١٩٢) و (مرآة الجنان ٢ : ٩٦ ـ ٩٧) و (مسالك الأبصار ج ٤ م ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩) و (مفتاح السعادة ١ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣) و (معجم البلدان ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٧٠) و (النجوم الزاهرة ٥ : ١٠٤) و (الفلاكة والمفلوكين ١١٧) و (كشف الظنون ٧٦ ، ٢٤٥ ، ٣٥٥ ، ٨٠٩ ، ٢٠٠٢) و (الأعلام للزركلى ٥ : ٥٩ ـ ٦٠) والمقدمة القيمة التى كتبها الأستاذ : سيد أحمد صقر لكتاب (أسباب النزول للواحدى) وقد استقينا منها الكثير فى تلك المقدمة.

(١) يقول ابن خلكان : فى (وفيات الأعيان : ٢ : ٤٦٤): «متوية ـ بفتح الميم وتشديد التاء ومثناة من فوقها وضمها ، وسكون الواو وبعدها ياء مفتوحة مثناة من تحتها وهاء ساكنة ـ نسبة إلى «المتوى» هذا الحد ، و «الواحدى» : بفتح الواو وبعد الألف حاء مهملة مكسورة ، وبعدها دال مهملة ـ لم أعرف هذه النسبة إلى أى شىء هى ، ولا ذكرها السمعانى ، ثم وجدت هذه النسبة إلى الواحد بن الديل بن مهرة. ذكره أبو أحمد العسكرى.

(٢) انظر (الأعلام للزركلى ٥ : ٥٩) و (الكامل لابن الأثير ١٠ : ٤١) و (البداية والنهاية فى التاريخ ١٢ : ١١٤) وهو فيه «بوية» تحريف. وهو كذلك فى (وفيات الأعيان ٢ : ٤٦٤) بزيادة «الواحدى المتوى» و (المشتبه للذهبى ٢ : ٥٧٠) وباقى المراجع السابقة بدون «متوية». وبلا «المتوى».

(٣) ساوة : مدينة حسنة جليلة على جادة حجاج خراسان ، وبها الأسواق والمنازل الحسنة بين الرى وهمدان (عن تقويم البلدان لأبى الفداء). وانظر ما بعده فى (النجوم الزاهرة ٥ : ١٠٤) و (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٧) و (الأعلام للزركلى ٥ : ٥٩) و (طبقات الشافعية للسبكى ٣ : ٢٨٩).

٧

أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد الواحدى : قد تفقّه وحدّث أيضا ، وتوفّى بنيسابور فى شهر ربيع الآخر من سنة سبع وثمانين وأربعمائة من الهجرة. وتضيف أحد المصادر (١) بأنّ له أخا ثانيا اسمه : «أبو بكر : سعد بن أحمد الواحدى ، السمسار ، وكان نزيه الطّعمة من أولى الصيانة والعفّة ؛ وهو من الثقات الذين أكثروا السماع من أصحاب أبى العباس الأصمّ ، ولم أقف على تاريخ وفاته».

أمّا «أبو الحسن على بن أحمد الواحدى» مؤلف هذا الكتاب ، وصاحب التفاسير المشهورة فقد وصفه مترجموه (٢) : بأنه : «أستاذ عصره ، وواحد دهره ، ورزق السعادة فى تصانيفه ، وأجمع الناس على حسنها ، وذكرها المدرسون فى دروسهم وأحد من برع فى العلم ، وكان رأسا فى اللغة العربية ، وإماما فى النحو واللغة ، والتفسير والقراءات ، عالما بالأدب والعروض ، ونعت شعره بالجودة والملاحة كما كان إماما فى الفقه ، شافعىّ المذهب ، محدّثا ، ويقول عنه القفطى (٣) : «قرأ الحديث على المشايخ ، وأدرك الإسناد العالى ، وسار الناس إلى علمه ، واستفادوا من فوائده». ونعته الذهبى : «بإمام علماء أهل التأويل».

وقد ذكره أبو الحسن الباخرزى (٤) (المتوفى ٤٦٧ ه‍) وسجع له فقال : «مشتغل بما يعنيه ـ وإن كان استهدافه للمختلفة يعنّيه ـ ولقد خبط ما عند أئمة الأدب ، من أصول كلام العرب ، خبط عصا الراعى فروع الغرب ، وألقى الدّلاء فى بحارهم حتى نزفها ، ومدّ البنان إلى ثمارهم إلى أن قطفها ، وله فى علم القرآن ، وشرح غوامض الأشعار تصنيفات بيده لأعنتها تصريفات ، وقلّ ما يعرض على الرواة ما يصوغه من الأشعار ، وبلآى تتفتح أكمامها عن النوّار».

«وأقدم من ترجم له : عبد الغافر الفارسى النيسابورى (٤٥١ ـ ٥٢٩ ه‍) فى كتاب

__________________

(١) انظر (أسباب النزول للواحدى المقدمة ٧).

(٢) انظر المراجع السابقة فى مصادر الترجمة.

(٣) انظر (إنباه الرواة ٢ : ٤٢٩).

(٤) انظر (دمية القصر ٢٠٣).

٨

«السياق فى تاريخ نيسابور» وقال عنه (١) : إنه أنفق صباه ، وأيام شبابه فى التحصيل ، وإتقان الأصول على أئمتها ، والرحلة فى طلب المزيد من المعرفة ، حتى صار أستاذ عصره ، وواحد دهره ، وانقطع إلى التدريس والإملاء عدّة سنين ، حتى أصابه مرض طويل أسلمه إلى الموت فى جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة بنيسابور ، وكان من أبناء السبعين.

ثم يذكر عبد الغافر الفارسى وغيره : أنّ الواحدى كان يحظى بالإعظام والإكرام من الوزير نظام الملك (٤٠٨ ـ ٤٨٥ ه‍) ، وليس ذلك غريبا ، فقد كان نظام الملك أديبا شاعرا مشاركا للعلوم محبّا لها ؛ ولم يشغله تدبير السياسة عن تقدير العلم بل رأى أن أمانة الوزارة لا تؤدّى كاملة إلّا إذا قدر العلم حقّ قدره ، وعمل على نشره ، ورفع من مكانة أهله ، فأكثر لذلك من إنشاء المدارس ، وقدّر المعاليم لطلبتها ، وانتقى مدرسيها ، وأدنى العلماء من مجلسه ، وبالغ فى إكرامهم مدة وزارته التى دامت ثلاثين عاما.

وقد سمع نظام الملك الحديث وأسمعه ؛ وكان يقول : إنّى أعلم أنّى لست أهلا لذلك ، ولكنّى أريد ربط نفسى فى قطار النقلة لحديث رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان يعتقد فى الصّوفية ، ويقرّبهم إليه ، ويكثر من الإنعام عليهم ، ابتغاء الظفر بما لهم من أحوال الكشف.

وقد جرى أبو القاسم أخو نظام الملك على سننه فى لحظ الواحدى بين الإعزاز والإكرام ؛ لأنه كان كذلك من العلماء ؛ وقد مات سنة ٤٩٩ ه‍ عن ثمانين سنة.

وقد علل عبد الغافر الفارسى إعظام نظام الملك للواحدى بأنه «كان حقيقا بالاحترام. لو لا ما كان فيه : من إزرائه على الأئمة المتقدمين ، وبسط اللسان فيهم بما لا يليق بماضيهم» (٢).

__________________

(١) معجم الأدباء ٢ : ٢٥٨) و (مقدمة أسباب النزول للواحدى ٥).

(٢) انظر (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) و (أسباب النزول للواحدى ـ مقدمة الأستاذ ـ سيد صقر).

٩

والسبب الحقيقى أن الواحدى نال من عالم له مكانة مكينة فى نفوس الناس ، وفى نفس عبد الغافر بصفة خاصة ، فهو عنده : «شيخ الطريقة فى وقته ؛ الموفق فى علوم الحقائق ، ومعرفة طريقة التصوف ، وصاحب التصانيف العجيبة فى علم القوم» ألا وهو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى الأزدىّ السلمى (٣٢٠ ـ ٥١٢ ه‍) وقد كشف أبو سعد السمعانى (المتوفى سنة ٥٦٢ ه‍) عن السرّ فى ذلك حيث يقول : «كان الواحدى حقيقا بكلّ احترام وإعظام ، لكن كان فيه بسط اللسان فى الأئمة المتقدّمين حتى لسمعت أبا بكر : أحمد بن محمد بن بشار بنيسابور مذاكرة يقول : كان «على ابن أحمد الواحدى» يقول : صنّف «أبو عبد الرحمن السلمى» كتاب : «حقائق التفسير» ولو قال : إنّ ذلك تفسير للقرآن لكفر به» (١).

ولست أدرى ما الذى كان يريد عبد الغافر من الواحدى أن يقول غير هذا القول؟ وهو لا يسعه سواه ، كمؤمن يؤمن بأنّ القرآن نزل بلسان عربىّ مبين ، فلا يفسّر إلّا بما دلّ عليه اللفظ العربى؟

أكان يريد منه أن يتملّق نظام الملك ، وعوامّ العلماء ، ويقول : إن هذا تفسير للقرآن يقرّه الإسلام؟

وهل انفرد الواحدى بذلك القول؟ إنّ جمهرة العلماء ذهبوا مثل مذهبه.

وقد قال الحافظ الذهبى ـ رحمه‌الله ـ عن السّلمىّ : «وله كتاب يقال له : حقائق التفسير ، وليته لم يصنّفه ، فإنّه تحريف وقرمطة ، وذلك الكتاب فسترى العجب».

ويذكر الإمام جلال الدين السيوطى أبا عبد الرحمن السّلمى فى كتابه ، ويقول عنه (٢) : «ضمن من صنف فى التفسير من المبتدعة ، ويقول : «وإنما أوردته فى هذا القسم ، لأن تفسيره غير محمود».

__________________

(١) انظر (طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٢٨٩) و (مقدمة أسباب النزول للواحدى).

(٢) (طبقات المفسرين ٣١).

١٠

ويقول السبكى (١) : وكتاب حقائق التفسير قد كثر الكلام فيه من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ومحال للصوفية ينبو عنها اللفظ».

ويطعن الإمام ابن تيمية (٢) على تفسير السّلمى من ناحية أخرى ، فيقول : «وما ينقل فى حقائق السّلمى من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر ، كما قد كذب عليه فى ذلك».

وقد قال ابن الجوزى (٣) : «وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمى فى تفسير القرآن من كلام الصوفية الذى أكثره هذيان لا يحل ، نحو مجلدين سماهما «حقائق التفسير».

فقال فى فاتحة الكتاب عنهم : إنهم قالوا : «إنما سميت فاتحة الكتاب ، لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا ، فإن تأدّبت بذلك وإلا حرمت لطائف ما بعد».

وهذا فى غاية القبح ، لأنّ لفظ الآية لفظ الخبر ومعناه الأمر. وتقديرها : قولوا الحمد لله.

وقال فى قول الإنسان : «آمين» أى قاصدون نحوك.

وهذا قبيح ؛ لأنه ليس من «أمّ» لأنه لو كان كذلك لكانت الميم مشددة

وقال فى قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى)(٤) قال أبو عثمان : غرقى فى الذنوب.

وقال الواسطى : غرقى فى رؤية أفعالهم. وقال الجنيد : أسارى فى أسباب الدنيا تفدوهم إلى قطع العلائق.

وإنما الآية على وجه الإنكار ، ومعناها : إذا أسرتموهم فديتموهم ، وإذا حاربتموهم قتلتموهم. وهؤلاء قد فسروها على ما يوجب المدح.

__________________

(١) (طبقات الشافعية ٣ : ٦١).

(٢) (منهاج السنة ٤ : ١٥٥).

(٣) انظر (تلبيس إبليس ٣٣١) و (مقدمة أسباب النزول للواحدى ٧).

(٤) سورة البقرة : ٨٥.

١١

وقال فى قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(١) أى من هواجس نفسه ، ووساوس الشيطان.

وهذا فى غاية القبح ؛ لأنّ لفظ الآية لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، وتقديرها : من دخل الحرم فأمّنوه.

وهؤلاء قد فسّروها على الخبر ، ثم لا يصح لهم ؛ لأنه كم من داخل إلى الحرم ما أمن من الهواجس ولا الوساوس.

وذكر فى قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)(٢) قال أبو تراب هى الدعاوى الفاسدة.

وقال فى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)(٣) يقول : قال محمد بن الفضل : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمخالفة هواها ، (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) أى أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم.

(ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) فى العدد كثير فى المعانى ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة.

وقال فى قوله تعالى : (وَهَمَّ بِها)(٤) قال أبو بكر الوراق : الهمّان لها ، ويوسف ما همّ بها. وهذا خلاف لصريح القرآن.

وقال فى قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً)(٥) قال محمد بن على : ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٣١.

(٣) سورة النساء : ٦٦.

(٤) سورة يوسف : ٢٤.

(٥) سورة يوسف : ٣١.

١٢

وقال فى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ)(١) يقول : قال بعضهم : هو الذى بسط الأرض ، وجعل فيها أوتادا من أوليائه ، وسادة من عبيده ، فإليهم الملجأ وبهم النصرة ، فمن ضرب فى الأرض يقصدهم فاز ونجا ، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر ...».

وقال فى قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً)(٢) قال الحسين : لا مكر أبين فيه من مكر الحقّ بعباده ؛ حيث أوهمهم أنّ لهم سبيلا إليه بحال ، أو للحدث اقتران مع القدم.

ومن تأمل معنى هذا علم أنه كفر محض ؛ لأنه يشير إلى أنه كالهزء واللعب.

وجميع ما فى كتاب «حقائق التفسير» للسلمى على هذا النمط ؛ وقد اقتصر فيه على المعانى الإشارية ، معرضا عن المعانى الظاهرة ؛ ولم أذكر منه ـ هاهنا ـ كثيرا ؛ لأنه مضيعة للزمن فى كتابة شىء بين الكفر والخطأ والهذيان ؛ وهو من جنس ما حكيناه عن الباطنية.

هذا وقد آثرت التعريف بالتفسير الرمزى والقول بالباطن ـ هنا فيما يلى ـ ؛ ليكون القارئ فى تفاسير كتاب الله على بصيرة مما هو مردود وباطل.

«التفسير الرمزى والقول بالباطن (٣) :

التفسير الرمزى : هو صرف ألفاظ القرآن عن ظواهرها إلى معان أخرى رمزية ، أو إشارية .. لا تفهم من ظاهر اللفظ ، وإنما تؤخذ من باطنه ؛ وقد يطلق على هذا النوع من التفسير اسم القول بالباطن فى تفسير القرآن الكريم.

__________________

(١) سورة الرعد : ٣.

(٢) سورة الرعد : ٤١.

(٣) انظر (منهج ابن عطية فى تفسير القرآن الكريم ١٨٦).

١٣

وهذا التفسير الرمزىّ أو الإشارى منه ما هو مقبول ، ومنه ما هو مردود ؛ فالمقبول : هو ما توافر فيه شرطان : كما يقول الشاطبى (١) :

أحدهما : أن يصحّ على مقتضى الظاهر المقرّر فى لسان العرب ، ويجرى على المقاصد العربية.

والثانى : أن يكون له شاهد نصّا أو ظاهرا فى محلّ آخر يشهد لصحته من غير معارض.

فالشرطان ـ وهما : موافقة اللغة ، وشهادة الشرع ـ لا بدّ منهما كذلك ، ضرورة أن القرآن عربىّ ، وكلّ تفسير لا تساعد عليه قواعد اللغة العربية يجب ردّه والحكم ببطلانه ، وكذلك لو لم يشهد لصحة هذا التفسير شاهد من الشرع ، أو كان له معارض ، صار هذا التفسير من جملة الدعاوى التى لا دليل عليها ؛ وعلى ذلك إذا اختلّ أحد الشرطين أو كلاهما كان هذا النوع من التفسير مردودا وباطلا. وذلك مثل ما فسّر به الباطنية كتاب الله تعالى ؛ فقد حرّفوا الكلم عن مواضعه ، وألحدوا فى آيات الله تعالى ؛ وجاءوا ببهتان من القول وزور».

__________________

(١) انظر (الموافقات للشاطبى ٣ : ٣٩٤).

١٤

الواحدى ومؤلفاته

أخبرت المصادر : بأنّ الواحدى قد رزق السعادة فى تصانيفه ، وأجمع الناس على حسنها ، وذكرها المدرسون فى دروسهم ، وألّف كتبا فى علم التفسير ـ وسنتكلم عنها فيما بعد ـ وكتبا أخرى فى غير التفسير ، وهى :

١ ـ شرح ديوان المتنبى (١) : ذكر ذلك كلّ من ياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) والسيوطى فى كتابيه (طبقات المفسرين ٢٣) و (بغية الوعاة ٣٢٧) والداودى فى (طبقات المفسرين : ١ : ٣٣٨) والسبكى فى (طبقات الشافعية ٣ : ٢٩٠) وابن العماد فى (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠) وابن كثير القرشى فى (البداية والنهاية ١٢ : ١١٤) ويقول القفطى فى (إنباه الرواة ٢ : ٢٢٣) «.. هو غاية فى بابه» ، ويقول ابن خلكان فى (وفيات الأعيان ٢ : ٤٦٤) عن الواحدى : «وشرح ديوان أبى الطيب المتنبى شرحا مستوفى ، وليس فى شروحه مع كثرتها مثله» ، ويذكر صاحب (كشف الظنون ٨٠٩) قول ابن خلكان : وهو «وقد اعتنى بهذا الدّيوان فشرحوه وقال لى أحد المشايخ : وقفت له على أربعين شرحا ، ولم يفعل هذا بديوان غيره ـ ولا شكّ أنه كان رجلا مسعودا ، ورزق فى شعره السعادة التامة» ثم يقول صاحب كشف الظنون بعد ذلك : «فأجلّها نفعا ، وأكثرها فائدة : شرح الإمام أبى الحسن على بن أحمد الواحدى» ثم يقول ابن خلكان وغيره : وذكر فيه أشياء غريبة منها : أنه شرح هذا البيت :

وإذا المكارم والصّوارم والقنا

وبنات أعوج كلّ شىء يجمع

تكلّم على هذا البيت ، ثم قال فى «أعوج» : إنه فحل كريم كان لبنى هلال بن عامر ، وإنه قيل لصاحبه : ما رأيت من شدّة عدوه؟ فقال : ضللت فى بادية ـ وأنا

__________________

(١) طبع هذا الكتاب فى برلين سنة ١٨٦١ م.

١٥

راكبه ـ فرأيت سرب القطا يقصد الماء فتبعته ، وأنا أغضّ من لجامه ، حتى توافينا على الماء على دفعة واحدة وهذا أغرب شىء يكون ، فإنّ القطا شديد الطيران ، وإذا قصد الماء اشتدّ طيرانه أكثر من قصد غير الماء ، ثم ما كفى حتى قال : كنت أغضّ من لجامه ، ولو لا ذلك لكان يسبق القطا ؛ وهذه مبالغة عظيمة. وإنما قيل له : «أعوج» ؛ لأنه كان صغيرا ، وقد جاءتهم غارة فهربوا منها ، وطرحوه فى خرج ، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره فاعوج ظهره من ذلك ، فقيل له أعوج ..».

٢ ـ «الإغراب فى علم الإعراب» ذكر ذلك ياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) والسبكى فى (طبقات الشافعية ٣ : ٢٩٠) والسيوطى فى كتابيه (طبقات المفسرين ٢٣) و (بغية الوعاة ٣٢٧ ـ ٣٢٨) وابن العماد فى (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠) وطاش كبرى زاده فى (مفتاح السعادة ١ : ٤٠٢).

٣ ـ «التحبير فى شرح أسماء الله الحسنى» : ذكر ذلك : السبكى فى (طبقات الشافعية ٣ : ٢٩٠) وياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) وابن تغرى بردى فى (النجوم الزاهرة ٥ : ١٠٤) وابن خلكان فى (وفيات الأعيان ٢ : ٤٦٤) والزركلى فى (الأعلام ٥ : ٩ ـ ٦٠) وأبو الفداء فى (البداية والنهاية ١٢ : ١١٤) والسيوطى فى (طبقات المفسرين ٢٣).

٤ ـ «تفسير أسماء النبى عليه‌السلام» : ذكره ياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) والسبكى فى (طبقات الشافعية ٣ : ٢٩٠) وابن العماد فى (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠).

٥ ـ «الدعوات» : ذكر ذلك السبكى فى (الطبقات ٣ : ٢٩٠) وياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) وابن العماد فى (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠).

٦ ـ «المغازى» أورده ياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) والسبكى فى (طبقات

١٦

الشافعية ٣ : ٢٩٠) وابن العماد فى (شذرات الذهب ٣ : ٣٣٠) والسيوطى فى (طبقات المفسرين ٢٣).

٧ ـ حرار المعانى : ذكره بروكلمان فى (الملحق الأول ١ : ٤١١).

٨ ـ الحاوى لجمع المعانى : ذكر ذلك بروكلمان فى (الملحق الأول ١ : ٤١١).

٩ ـ كتاب الأمثال : أورده صاحب (مقدمة أسباب النزول للواحدى ٨).

***

وتذكر بعض المصادر (١) بأن الواحدى كان شاعرا مجيدا ، ومن غرر شعره :

أيا قادما من طوس أهلا ومرحبا

بقيت على الأيّام ما هبّت الصّبا

لعمرى لئن أحيا قدومك مدنفا

بحبّك صبّا فى هواك معذّبا

يظلّ أسير الوجد نهب صبابة

ويمسى على جمر الغضا متقلّبا

فكم زفرة قد هجتها لو زفرتها

على سدّ ذى القرنين أمسى مذوّبا

وكم لوعة قاسيت يوم تركتنى

ألاحظ منك البدر حين تغيّبا

وعاد النهار الطلق أسود مظلما

وعاد سنا الإصباح بعدك غيهبا

وأصبح حسن الصبر عنّى ظاعنا

وحدّد نحوى البين نابا ومخلبا

إلى قوله :

فؤادى وعيشى والمسرّة والكرى

فإن عاد عاد الكلّ والأنس والدّعه

وينقل القفطى فى (إنباه الرواة ٣ : ٢٢٣) عن الباخرزى قوله عن الواحدى :

«فمما أنشدنى لنفسه ، وقد دخل على الشيخ الإمام أبى عمر سعيد بن هبة الله الموفق ، وهو فى كتابه يتعلّم الخط ، ويكتب :

__________________

(١) هذا ما ذكره ياقوت فى (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩) نقلا عن عبد الغافر الفارسى.

١٧

إن الربيع بحسنه وبهائه

يحكيها خطّ الرئيس أبى عمر

خطّ غدا ملء العيون ملاحة

متنزّها للحظّ قيدا للبصر

فكأنّه فى الدّرج يرقم كاتبا

أولى لطاف بنانه فتق الزّهر

أخزت نقوش الصين بدعة صنعه

فتعطلت ورقوم موشىّ الحبر

وسأله عبد الكريم الجيلىّ أبياتا يصف فيها خطّه ، فقال :

لعبد الكريم خطوط أنيقه

يجيز لهنّ بحذق ونيقه

يطرّز بالخطّ قرطاسه

كما طرّز السّحب لمع العقيقه

سطورا إذا ما تأملتها

تخيّلت منها غصونا وريفه

وغارسها مرهف ناحل

يمجّ عليها بسنّيه ريقه

وبنيسابور نوع من الخوخ يقال له مزورة ، أهدى منه شيئا إلى بعض أصدقائه ، وكتب معه إليه :

الخوخ أرسل رائدا متقدّما

ما مثله فى طيبه باكوره

هو زائر فى كل عام مرّه

عند المصيف فلم يقال مزوره

١٨

الواحدى المفسر وشيوخه

رأى الواحدى أن الاقتدار على معرفة تفسير كلام الله لا يتم إلّا بعد التضلّع من علوم اللغة ، والتمكن من أدبها ، والمعرفة بطرائق العرب فى كلامها ، ومنازعها فى بيانها وتبيينها.

«فأقبل على تلك العلوم بجلد لا يطوف به وهن ، ودأب لا يعتريه كلال أو ملال ، واستشراف إلى الإلمام بما أنتجته قرائح الأجيال ، وأتيح له أن يتتلمذ على طائفة من العلماء البارعين فى علومهم المقدّرين لشرف رسالتهم ..».

وفى مقدمة هؤلاء العلماء الذين سعد الواحدى بصحبتهم (١)

«أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله السهلى الصفار النيسابورى العروضى (٣٣٤ ـ ٤١٦ ه‍).

وكان شيخ الأدب فى عصره ، أنفق حياته فى مطالعة العلوم وتدريسها ، أخذ عن ثعلب ، وروى عن أبى منصور الأزهرى ، (المتوفى سنة ٣٧٠ ه‍) كتاب «تهذيب اللغة».

وكان شاعرا ناقدا لاذع النقد ، وكانت له اليد الطولى فى علم العروض حتى نسب إليه ، وقد استمرت صحبة الواحدى له عدّة سنين ، أنفق أيامها فى اقتباس علمه ، وقرأ عليه ما شاء الله من كتب اللغة ودواوين الشعراء ، وهو الذى نصحه بالتفرغ للتفسير ، ودراسته على المفسّر الكبير أبى إسحاق الثعلبى.

ومنهم : أبو الحسن على بن محمد بن إبراهيم الضرير القهندزى

وهو نحوىّ محدّث من أصحاب أبى عبد الله ؛ محمد بن عبد الله الضبى النيسابورى ،

__________________

(١) انظر (معجم الأدباء ١٢ : ٢٥٨) و (أسباب النزول للواحدى ومقدمته ٩).

١٩

المعروف بالحاكم. قرأ عليه كثير من الأئمة ، وتخرجوا به ، وهو من الممتازين فى علم القراءات.

ومنهم : أبو الحسن عمران بن موسى المغربى المالكى (المتوفى سنة ٤٣٠ ه‍) عن خمس وستين سنة ، وهو فقيه أصولى نحوى ، رحل إلى بغداد (سنة ٣٩٩ ه‍) وأخذ عن أبى بكر الباقلانى.

ومنهم : أبو عثمان سعيد بن محمد المقرى الزعفرانى الحيرى (المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍).

وكان من الثقات الصالحين ، سمع بنيسابور والعراق والحجاز ، وكان مقصد القصاد فى القراءات.

ومنهم : أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبى (المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍) ، وهو مفسّر مقرئ واعظ أديب ، صنف كتبا منها : كتاب «العرائس فى قصص الأنبياء» ، ومنها ـ وهو أجلها ـ كتاب «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» الذى استخرجه من زهاء مائة كتاب.

وكان للواحدى أساتذة كثيرون غير هؤلاء ؛ وقد اقتصرت ـ هنا ـ على ما ذكرت ، كما اقتصر هو عليهم فى ترجمته لنفسه ، لأنهم هم الذين ثقّفوه وخرّجوه ، ومكّنوه من التأليف فى تفسير القرآن الكريم.

***

وقد آثرت نقل قول الواحدى ـ هنا ـ فيمن أخذ عنهم ، واقتبس منهم ، على ما فيه من طول ؛ لكثرة دلالته ، وعظم غنائه فى فهم الواحدى ، والدلالة على عقله وفكره وثقافته وشخصيته ، وهو أبلغ فى الدلالة على ذلك وعلى غيره من كلّ كلام يقال عنه. أنّى كانت مكانة قائله. «قال أبو الحسن الواحدى فى مقدمة «البسيط» (١) :

__________________

(١) من أول هنا حتى آخر قوله «ومل الناظر (صفحة ٢٤) من هذه المقدمة جاء فى (معجم الأدباء لياقوت ١٢ : ٢٦٠ وما بعدها) و (مقدمة أسباب النزول للواحدى ١٢ ـ ١٥).

٢٠