مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

نعم لو كان الضرر مجحفاً بماله مضراً بحاله لم يجب [١] ، وإلا فمطلق الضرر لا يرفع الوجوب ، بعد صدق الاستطاعة وشمول الأدلة. فالمناط هو الإجحاف والوصول إلى حد الحرج الرافع للتكليف.

( مسألة ٩ ) : لا يكفي في وجوب الحج وجود نفقة الذهاب فقط ، بل يشترط وجود نفقة العود إلى وطنه إن أراده ، وإن لم يكن له فيه أهل ولا مسكن مملوك ولو‌

______________________________________________________

بقاعدة نفي الضرر على خيار الغبن. وفيه : ما عرفت من أن أدلة الوجوب على المستطيع لما كانت متضمنة لصرف المال كانت أخص من أدلة نفي الضرر ، فتكون مخصصة لها. وما اشتهر وتحقق : من أن أدلة نفي الضرر حاكمة على الأدلة ، فذلك يختص بالأدلة المطلقة التي لها فردان ضرري وغير ضرري ، فتحكم عليها وتخرج الفرد الضرري عنها ، وليس من ذلك أدلة وجوب الحج على المستطيع.

ودعوى : أنه لا ضرر مالي في شراء الشي‌ء بقيمة مثله ، أو استئجار الشي‌ء بأجرة مثله ، لأن المال المبذول كان بإزائه ما يساويه بحسب القيمة فلم يرد عليه نقص مالي ، فلا ضرر. بخلاف شراء الشي‌ء بأكثر من قيمته فإنه نقص في المالية ، فيكون ضرراً منفياً. مندفعة : بأن شراء الشي‌ء بقيمته وصرفه فيما لا يحتاج اليه المكلف ، أو تركه حتى يذهب لنفسه ويضيع عليه ضرر عليه ، فوجوبه تكليف بالضرر ، فيكون منفياً. لو لا ما عرفت من أن الدليل على الوجوب أخص ، فيجب العمل به.

[١] على وجه يكون حرجاً على المكلف ، إذ حينئذ يكون منفياً بأدلة نفي الحرج ، كما أشار إليه المصنف.

٨١

بالإجارة [١]. للحرج في التكليف بالإقامة في غير وطنه المألوف له. نعم إذا لم يرد العود [٢] ، أو كان وحيداً لا تعلق له بوطن ، لم يعتبر وجود نفقة العود. لإطلاق الآية والأخبار في كفاية وجود نفقة الذهاب. وإذا أراد السكنى في بلد آخر غير وطنه لا بد من وجود النفقة إليه إذا لم يكن أبعد من وطنه ، وإلا فالظاهر كفاية مقدار العود إلى وطنه [٣].

( مسألة ١٠ ) : قد عرفت أنه لا يشترط وجود أعيان ما يحتاج إليه‌

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « والمراد بالزاد : قدر الكفاية من القوت والمشروب ، ذهاباً وعوداً .. ». وقال في المدارك : « إطلاق العبارة وغيرها يقتضي اعتبار قدر الكفاية من الزاد والراحلة ذهاباً وإياباً ، سواء كان له أهل وعشيرة يأوي إليهم أم لم يكن ، وسواء كان له في بلده مسكن أم لا. وبهذا التعميم صرح في التذكرة والمنتهى ، محتجاً بأن في التكليف بالإقامة في غير الوطن مشقة شديدة وحرجاً عظيماً ، فيكون منفياً. وهو حسن في صورة تحقق المشقة لذلك ، أما مع انتفائها ـ كما إذا كان وحيداً لا تعلق له بوطن ، أو كان له وطن ولا يريد العود اليه ـ فيحتمل قوياً عدم اعتبار كفاية العود في حقه ، تمسكاً بإطلاق الأمر ، السالم من معارضة الحرج .. ».

[٢] أو أراد العود اليه ، لكن ترك العود لا يوجب حرجاً عليه.

[٣] إذا كان الخروج للحج موجباً للذهاب إلى بلد أبعد من بلده ، على نحو لو لم يذهب اليه يقع في الحرج ـ مثل ما إذا كان يسكن داراً غير مملوكة في بلده قد أباح له المالك سكناها ، فاذا خرج الى الحج ارتفعت الإباحة فحينئذ يضطر الى الذهاب الى بلد آخر أبعد من بلده ـ فاللازم اعتبار الكفاية إلى ذلك البلد.

٨٢

ما يحتاج إليه في نفقة الحج من الزاد والراحلة ، ولا وجود أثمانها من النقود ، بل يجب عليه بيع ما عنده من الأموال لشرائها. لكن يستثنى من ذلك ما يحتاج إليه في ضروريات معاشه ، فلا تباع دار سكناه اللائقة بحاله [١] ، ولا خادمه المحتاج اليه ، ولا ثياب تجمله اللائقة بحاله ـ فضلاً عن ثياب مهنته ـ ولا أثاث بيته من الفراش والأواني وغيرهما مما هو محل حاجته ، بل ولا حلي المرأة مع حاجتها بالمقدار اللائق بها بحسب حالها في زمانها ومكانها ، ولا كتب العلم لأهله التي لا بد له منها فيما يجب تحصيله [٢]. لأن الضرورة الدينية أعظم من الدنيوية ، ولا آلات الصنائع المحتاج إليها في معاشه ، ولا فرس ركوبه مع الحاجة اليه ، ولا سلاحه ، ولا سائر ما يحتاج اليه. لاستلزام التكليف بصرفها في الحج العسر والحرج [٣]. ولا يعتبر فيها الحاجة الفعلية. فلا وجه لما عن كشف اللثام : من أن فرسه إن كان صالحاً لركوبه في طريق الحج فهو من‌

______________________________________________________

[١] ادعى جماعة الإجماع على ذلك ، وكذا في الخادم. واستدل له بدليل نفي العسر والحرج. وعليه فيكون المدار في الأمور المذكورة في كلام المصنف وغيره هو ذلك.

[٢] أو فيما يحتاج إليه في معاشه ، فيكون مثل آلات الصناع.

[٣] قد عرفت أن الأدلة المذكورة وإن كانت نافية للتكليف لكنها غير نافية للملاك ، فلا تقتضي البطلان لو تكلف المكلف الفعل. لكن سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ التعرض لذلك ، وتقدم إمكان الاستفادة مما دل على اعتبار اليسر أو السعة في المال ، غير الصادقين مع الحرج والعسر.

٨٣

للراحلة ، وإلا فهو في مسيره إلى الحج لا يفتقر اليه بل يفتقر الى غيره ، ولا دليل على عدم وجوب بيعه حينئذ [١]. كما لا وجه لما عن الدروس : من التوقف في استثناء ما يضطر اليه ، من أمتعة المنزل ، والسلاح ، وآلات الصنائع [٢]. فالأقوى استثناء جميع ما يحتاج إليه في معاشه ، مما يكون إيجاب بيعه مستلزماً للعسر والحرج. نعم لو زادت أعيان المذكورات عن مقدار الحاجة وجب بيع الزائد في نفقة الحج [٣]. وكذا لو استغنى عنها بعد الحاجة ، كما في حلي المرأة إذا كبرت عنه ونحوه.

( مسألة ١١ ) : لو كان بيده دار موقوفة تكفيه لسكناه ، وكان عنده دار مملوكة ، فالظاهر وجوب بيع المملوكة [٤] إذا كانت وافية لمصارف الحج ، أو متممة لها. وكذا في الكتب المحتاج إليها إذا كان عنده من الموقوفة مقدار كفايته ،

______________________________________________________

[١] فإنه ـ بعد أن نقل عن التذكرة الإجماع على استثناء فرس الركوب ـ قال : « ولا أرى له وجهاً ، فان فرسه .. إلى آخر قوله :

بل يفتقر إلى غيره .. ». وجه الاشكال عليه : أن افتقاره إلى غيره في سفر الحج لا ينافي الافتقار إلى بقائه عنده ، بحيث لو باعه وقع في الحرج عند الرجوع.

[٢] قال في الدروس : « فروع ثلاثة : الأول : في استثناء ما يضطر اليه ، من أمتعة المنزل ، والسلاح ، وآلات الصنائع نظر .. ».

[٣] قطعاً ، كما في الدروس وعن غيرها. لإطلاق الوجوب من غير مقيد. ومنه يعلم الوجه فيما بعده.

[٤] وفي الدروس : « ولا يجب بيعها لو كان يعتاض عنها بالوقوف‌

٨٤

فيجب بيع المملوكة منها. وكذا الحال في سائر المستثنيات إذا ارتفعت حاجته فيها بغير المملوكة. لصدق الاستطاعة حينئذ إذا لم يكن ذلك منافياً لشأنه ، ولم يكن عليه حرج في ذلك. نعم لو لم تكن موجودة ، وأمكنه تحصيلها لم يجب عليه ذلك [١] ، فلا يجب بيع ما عنده وفي ملكه. والفرق : عدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة ، بخلاف الصورة الأولى. إلا إذا حصلت بلا سعي منه ، أو حصلها مع عدم وجوبه ، فإنه بعد التحصيل يكون كالحاصل أولاً.

( مسألة ١٢ ) : لو لم تكن المستثنيات زائدة عن اللائق بحاله بحسب عينها ، لكن كانت زائدة بحسب القيمة ، وأمكن تبديلها بما يكون أقل قيمة مع كونه لائقاً بحاله أيضاً ، فهل يجب التبديل للصرف في نفقة الحج أو لتتميمها؟ قولان [٢] ، من صدق الاستطاعة ، ومن عدم زيادة العين عن مقدار الحاجة ،

______________________________________________________

العامة وشبهها قطعاً .. » ، وفي الجواهر : « الأقوى عدم وجوب بيعها لو كان يمكنه الاعتياض عنها بالأوقاف العامة وشبهها .. ». ولعل مرادهما صورة ما إذا كان الاعتياض منافياً لشأنه ، أو كان فيه حرج. وإلا فلا وجه ظاهر لما ذكراه ، فإنه خلاف إطلاق الأدلة ، كما أشار إليه في المتن.

[١] لأن تحصيلها تحصيل للاستطاعة ، وهو غير واجب.

[٢] الأول : الوجوب ، اختاره في الدروس. قال : « لو غلت هذه المستثنيات ، وأمكن الحج بثمنها والاعتياض عنها ، فالظاهر الوجوب. ». ووافقه عليه في الجواهر ، حاكياً عن التذكرة والمسالك وغيرهما التصريح‌

٨٥

والأصل عدم وجوب التبديل. والأقوى الأول إذا لم يكن فيه حرج أو نقص عليه [١] ، وكانت الزيادة معتداً بها ، كما إذا كانت له دار تسوى مائة ، وأمكن تبديلها بما يسوى خمسين ، مع كونه لائقاً بحاله من غير عسر ، فإنه يصدق الاستطاعة. نعم لو كانت الزيادة قليلة جداً بحيث لا يعتنى بها ، أمكن دعوى عدم الوجوب [٢] ، وإن كان الأحوط التبديل أيضاً.

( مسألة ١٣ ) : إذا لم يكن عنده من الأعيان المستثنيات لكن كان عنده ما يمكن شراؤها به من النقود أو نحوها ، ففي جواز شرائها وترك الحج إشكال. بل الأقوى عدم جوازه ،

______________________________________________________

به. قال في الجواهر : « لما عرفت ، من أن الوجه في استثنائها الحرج ونحوه ، مما لا يأتي في الفرض ، لا النص كي يتمسك بإطلاقه .. ». والقول الثاني للكركي ، على ما في الجواهر ، واحتمله في كشف اللثام. قال : « ويحتمل العدم كالكفارة ، لأن أعيانها لا تزيد على الحاجة ، والأصل عدم وجوب الاعتياض ، وقد يوجب الحرج العظيم .. ». والاشكال عليه ظاهر مما في المتن ، لأن محل الكلام صورة عدم الحرج. والأصل لا يعارض الإطلاق المقتضي للوجوب. وكون الأعيان لا تزيد على الحاجة إنما يصح التعليل به لو كان دليل لفظي يدل على استثنائها ، والمفروض عدمه ، كما أشار إليه في الجواهر. اللهم إلا أن يقال : إن دليل اعتبار الزاد والراحلة منصرف عن الأعيان المحتاج إليها ، والمفروض أنها منها. لكن هذا الانصراف غير ظاهر.

[١] إذ لم يرجع النقص إلى الحرج فلا دليل على استثنائه.

[٢] كأنه لانصراف الدليل.

٨٦

إلا أن يكون عدمها موجباً للحرج عليه ، فالمدار في ذلك هو الحرج وعدمه [١]. وحينئذ فإن كانت موجودة عنده لا يجب بيعها إلا مع عدم الحاجة ، وإن لم تكن موجودة لا يجوز شراؤها إلا مع لزوم الحرج في تركه. ولو كانت موجودة وباعها بقصد التبديل بآخر لم يجب صرف ثمنها في الحج ، فحكم ثمنها حكمها. ولو باعها لا بقصد التبديل وجب ـ بعد البيع ـ صرف ثمنها في الحج ، إلا مع الضرورة إليها على حد الحرج في عدمها [٢].

( مسألة ١٤ ) : إذا كان عنده مقدار ما يكفيه للحج ،

______________________________________________________

[١] فإن المسألتين من باب واحد ، إذ إطلاق وجوب الحج على من له زاد وراحلة كما يشمل من له الأعيان المحتاج إليها ، ويكون مخصصاً بدليل نفي الحرج ، يشمل من كان محتاجا إليها وكان له مال يمكن شراؤها به ، فإنه أيضاً يكون مخصصاً بدليل نفي الحرج. نعم قد تفترق المسألتان باعتبار أن البيع لما عنده أصعب من عدم شراء ما ليس عنده في نظر العقلاء. ولا سيما إذا جرت عادته على استعماله ، بحيث يكون ترك استعماله صعباً عليه لصعوبة ترك العادة ، وحينئذ قد يحصل الحرج في البيع ولا يحصل الحرج في ترك الشراء. ولعله إلى ذلك نظر من فرق بين المسألتين.

ثمَّ إن الشهيد (ره) في الدروس قال : « لو لم تكن له هذه المستثنيات ، وملك ما لا يستطيع به صرف فيها ، ولا يجب عليه الحج .. » ‌والجمع بينه وبين ما ذكره سابقاً في الفرع الأول غير ظاهر ، إذ الحكم باستثناء الأثمان يستوجب الحكم باستثناء الأعيان بالطريق الأولى.

[٢] ظاهره الفرق بين البيع بقصد التبديل وعدمه ، مع أنه لا فرق‌

٨٧

ونازعته نفسه إلى النكاح ، صرح جماعة [١] بوجوب الحج وتقديمه على التزويج ، بل قال بعضهم : وإن شق عليه ترك التزويج [٢]. والأقوى ـ وفاقاً لجماعة أخرى ـ عدم وجوبه ، مع كون ترك التزويج حرجاً عليه ، أو موجباً لحدوث مرض [٣].

______________________________________________________

بينهما ، فإنه مع الضرورة إليها لا يجب صرف ثمنها في الحج مطلقاً ، ومع عدم الضرورة يجب صرف ثمنها في الحج مطلقا أيضا. اللهم إلا أن يقال : إذا باع لا بقصد التبديل فقد أقدم على الحرج ، ومع الاقدام على الحرج لا مجال لتطبيق دليل نفي الحرج. وفيه : أنه أقدم على الحرج على أن تكون أثمانها باقية عنده ، لا مطلقاً ، فوجوب الحج حينئذ تكليف حرجي بلا إقدام من المكلف عليه. مع أنه بناء على ذلك لا يكون وجه لقوله : « إلا مع الضرورة ». فاذاً عبارة المتن لا تخلو من تشويش.

[١] منهم : المحقق في الشرائع ، والعلامة في القواعد والمنتهى ، وحكاه في كشف اللثام عن الخلاف والمبسوط.

[٢] صرح بذلك في الشرائع والقواعد ، مستدلين على ذلك : بأن الحج مع الاستطاعة واجب ، والنكاح مندوب ، والمندوب لا يعارض الواجب.

[٣] قال في الدروس : « أما النكاح ـ تزويجاً أو تسرياً ـ فالحج مقدم عليه وإن شق تركه. إلا مع الضرورة الشديدة .. » ونحوه ما في المنتهى وعن التحرير ، مع التعبير بالمشقة العظيمة.

أقول : لا ينبغي التأمل في عدم الاستطاعة حينئذ ، لما دل على نفي العسر والحرج ، كما في الموارد المتقدمة في المسائل السابقة. ولعل مراد القائلين بالجواز غير هذه الصورة وإن صرحوا بالمشقة ، لاحتمال أن يكون المراد من المشقة المشقة اليسيرة ، كما يظهر ذلك من ملاحظة ما في الدروس. وإلا فلو كان المراد منها الحرج لم يكن وجه للفرق بين الشديدة وغيرها.

٨٨

أو للوقوع في الزنى ، ونحوه [١]. نعم لو كانت عنده زوجة واجبة النفقة ولم يكن له حاجة فيها ، لا يجب أن يطلقها ويصرف مقدار نفقتها في تتميم مصرف الحج ، لعدم صدق الاستطاعة عرفاً [٢].

( مسألة ١٥ ) : إذا لم يكن عنده ما يحج به ، ولكن كان له دين على شخص بمقدار مئونته أو بما تتم به مئونته ، فاللازم اقتضاؤه وصرفه في الحج إذا كان الدين حالاً ، وكان المديون باذلاً ، لصدق الاستطاعة حينئذ [٣]. وكذا إذا كان مما طلا‌

______________________________________________________

وكيف كان فالحكم ـ كما ذكر في المتن ـ إن بلغ ترك التزويج حد الحرج انتفت الاستطاعة ، وإلا فهو مستطيع ، ويجب عليه الحج.

[١] كما في المدارك. والأول مانع من جهة أن الإضرار بالنفس حرام ، فيرجع الى الثاني. والمنع فيهما حينئذ مبني على أن أدلة الواجبات والمحرمات رافعة لموضوع الاستطاعة ، فيرتفع الوجوب. وسيأتي التعرض لذلك في بعض المسائل ، فانتظر.

[٢] كما يأتي في المسألة اللاحقة.

[٣] قد عرفت أن الاستطاعة ـ التي أخذت شرطاً للوجوب ـ قد فسرت بالنصوص : بأن يكون له زاد وراحلة ، أو أن يكون له ما يحج به. ومقتضى إطلاقها وجوب الحج بمجرد أن يكون له مال ، سواء كان ممنوعاً من التصرف فيه أم لا. لكن المفهوم من جملة أخرى من النصوص : اعتبار القدرة الفعلية على المال ، شرعية وعرفية ، ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) : « قال : قال الله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ... ) قال (ع) : هذه لمن كان

٨٩

______________________________________________________

عنده مال وصحة‌ .. ( إلى أن قال ) (ع) : إذا هو يجد ما يحج به » (١) ‌و‌في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) : « قال : إذا قدر الرجل على ما يحج به ، ثمَّ دفع ذلك وليس له شغل يعذره به ، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام » (٢) ‌، و‌في خبر علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (ع) : « أنه قال : من قدر على ما يحج به ، وجعل يدفع ذلك وليس له عنه شغل يعذره الله تعالى فيه حتى جاء الموت ، فقد ضيع شريعة من شرائع الإسلام » (٣). وعلى هذا فالمعتبر في الوجوب أمران : الأول : أن يملك الزاد والراحلة. الثاني : أن يكون قادراً على ذلك قدرة فعلية ، فاذا انتفى الأول ولكن كان قادراً عليه كان قادراً على الاستطاعة لا مستطيعاً ، وإذا كان مالكاً ولم يكن قادراً عليه قدرة فعلية لكن كان قادراً على تحصيل القدرة الفعلية أيضاً لا يكون مستطيعاً بل يكون قادراً عليها.

ومن ذلك يظهر الاشكال فيما إذا كان المديون مما طلاً ، وتوقف استنقاذ الدين على الاستعانة بالحاكم الجائر أو الحاكم الشرعي أو غيرهما ، فإنه مع المماطلة لا قدرة فعلية. نعم القدرة على الاستعانة بالمذكورين قدرة على تحصيل الاستطاعة ، فلا يجب معها الحج ، كما أشار إلى ذلك بعض الأعاظم في حاشيته.

لكن قال في الشرائع : « لو كان له دين ، وهو قادر على اقتضائه وجب عليه .. ». وفي الجواهر : « لأنه مستطيع بذلك. وإن كان قد يقوى في النظر عدمها مع التوقف على حاكم الجور ، للنهي عن الركون اليه والاستعانة به ، وإن حملناه على الكراهة مع التوقف عليه ، ترجيحاً لما دل على‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٩.

٩٠

وأمكن إجباره بإعانة متسلط ، أو كان منكراً وأمكن إثباته عند الحاكم الشرعي وأخذه بلا كلفة وحرج. بل وكذا إذا توقف استيفاؤه على الرجوع إلى حاكم الجور ـ بناء على ما هو الأقوى من جواز الرجوع اليه مع توقف استيفاء الحق عليه ـ لأنه حينئذ يكون واجباً بعد صدق الاستطاعة ، لكونه مقدمة للواجب المطلق. وكذا لو كان الدين مؤجلاً ، وكان المديون باذلاً قبل الأجل لو طالبه. ومنع صاحب الجواهر الوجوب حينئذ ، بدعوى : عدم صدق الاستطاعة. محل منع [١].

______________________________________________________

الجواز ـ بالمعنى الشامل للوجوب ـ من دليل المقدمة وغيره. ومثله لا تتحقق معه الاستطاعة ، بعد فرض أن الجواز المزبور كان بعد ملاحظة المعارضة بين ما دل على المنع وما دل على خلافه ، من المقدمة وغيرها .. ». وما ذكره غير ظاهر ، إلا إذا لم نقل بجواز الرجوع إلى الجائر ، إذ حينئذ يكون دليل المنع رافعاً للاستطاعة ، فلا وجوب كي يزاحم حرمة الرجوع. أما إذا قلنا بالجواز اعتماداً على أدلة الجواز ، مع انحصار استنقاذ الحق به ، فحينئذ لا رافع للاستطاعة كي يرتفع الوجوب. فالعمدة في وجه عدم الوجوب ما ذكرنا. ولأجله لا فرق بين حاكم الجور وحاكم العدل.

[١] قال : « ولو كان مؤجلاً ، وبذله المديون قبل الأجل ، ففي كشف اللثام : وجب الأخذ ، لأنه بثبوته في الذمة وبذل المديون له بمنزلة المأخوذ ، وصدق الاستطاعة ، ووجدان الزاد والراحلة عرفاً بذلك. وفيه : أنه يمكن منع ذلك كله .. » ‌

أقول : الظاهر أن محل كلامه صورة ما إذا بذل المديون الدين بلا مطالبة ، ولا توقف على المطالبة ، وفي هذه الصورة لا ينبغي التأمل في‌

٩١

وأما لو كان المديون معسراً أو مما طلاً لا يمكن إجباره ، أو منكراً للدين ولم يمكن إثباته ، أو كان الترافع مستلزماً للحرج أو كان الدين مؤجلاً مع عدم كون المديون باذلاً فلا يجب [١]. بل الظاهر عدم الوجوب لو لم يكن واثقاً ببذله مع المطالبة [٢].

______________________________________________________

صدق الاستطاعة ، لأنه مالك للزاد والراحلة ، وقادر بالبذل. ودعوى : أنه متبرع بالبذل ، فلا يجب على الدائن قبوله ، نظير الهبة التي لا يجب على المتهب قبولها. فيها : أن في الهبة يكون الملك موقوفاً على الهبة ، والهبة موقوفة على القبول ، وهو غير واجب ، إذ لا موجب له. وهنا الملك حاصل بالفعل ، غاية الأمر أن المديون له التأخير إلى الأجل ، فإذا بذل وجب على الدائن القبول. نعم لا يجب عليه القبول إذا كان التأجيل شرطاً له لا للمديون خاصة. لكن إذا لم يكن مانع من جهة المديون تحققت القدرة الفعلية ، وحينئذ لا يجوز له التأجيل وإن كان شرطاً له. ومن ذلك يظهر لك الاشكال فيما في حاشية بعض الأعاظم على المقام. فلاحظ.

وأما إذا كان البذل موقوفاً على المطالبة ، فلم يتعرض له في الجواهر. والحكم فيه ـ بناء على ما ذكرنا ـ عدم الوجوب ، لأنه لا يستحق على المديون بذل الدين الذي به تتحقق الاستطاعة ، والمفروض أنه يتوقف على المطالبة فتكون الاستطاعة موقوفة على المطالبة ، فالوجوب موقوف عليها ، فلا يقتضي وجوبها ، نظير ما لو توقف البذل المجاني على المطالبة.

[١] قال في المدارك : « ومتى امتنع الاقتضاء ، إما لتأجيل الدين ، أو لكونه على جاحد ولم يكن له سواه ، لم يجب عليه الحج لأن الاستطاعة غير حاصلة .. ». ونحوه كلام غيره. هذا إذا لم تمكن الاستدانة ، وأما إذا أمكنت فسيأتي الكلام فيه في المسألة الآتية.

[٢] مقتضي قاعدة الشك في التكليف وإن كان ما ذكر ، لكن بناءهم‌

٩٢

( مسألة ١٦ ) : لا يجب الاقتراض للحج إذا لم يكن له مال ، وإن كان قادراً على وفائه بعد ذلك بسهولة ، لأنه تحصيل للاستطاعة [١] ، وهو غير واجب. نعم لو كان له مال غائب لا يمكن صرفه في الحج فعلاً ، أو مال حاضر لا راغب في شرائه ، أو دين مؤجل لا يكون المديون باذلاً له قبل الأجل ، وأمكنه الاستقراض والصرف في الحج ثمَّ وفاؤه بعد ذلك فالظاهر وجوبه [٢] ، لصدق الاستطاعة حينئذ‌

______________________________________________________

في المقام على الاحتياط ، نظير الشك في القدرة في سائر الواجبات المطلقة. ومن هنا كان بناءهم على وجوب السفر إلى الحج وان لم يكن واثقاً بالسلامة ولا بالصحة ، ولا بسلامة ماله. فتأمل.

[١] هذا غير ظاهر ، لأن الاستدانة لا توجب الاستطاعة كلية ، كما يأتي.

[٢] قال في المدارك ـ بعد عبارته السابقة ـ : « ولا تجب الاستدانة. ويحتمل قوياً : الوجوب إذا كان بحيث يمكنه الاقتضاء بعد الحج ، كما إذا كان عنده مال لا يمكنه الحج به .. ». وفيه : ما عرفت من أن القدرة على المال ، وكونه عنده شرط في الاستطاعة ، وفي الفرض منتفية. وأما ما ذكره من المثال ، فان كان المراد منه عدم إمكان صرف عينه في الحج ـ كما هو الغالب ـ فالفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ، فان المال المذكور تحت قدرة المكلف. غاية الأمر : أنه لا يمكن صرف عينه في سبيل الحج ، ولا يعتبر ذلك إجماعاً ، كما تقدم. وأما إذا كان المراد صورة ما إذا لم يمكن التصرف فيه ولو ببدله ، كما إذا لم يمكن بيعه لعدم حصول راغب فيه ، فوجوب الاستدانة لوجوب الحج حينئذ غير ظاهر ، وإن جزم في الدروس بذلك. قال : « وتجب الاستدانة عيناً إذا تعذر بيع ماله وكان وافياً‌

٩٣

عرفاً. إلا إذا لم يكن واثقاً بوصول الغائب أو حصول الدين بعد ذلك ، فحينئذ لا يجب الاستقراض ، لعدم صدق الاستطاعة في هذه الصورة.

( مسألة ١٧ ) : إذا كان عنده ما يكفيه للحج ، وكان عليه دين ، ففي كونه مانعاً عن وجوب الحج مطلقاً ـ سواء كان حالاً مطالباً به أولا ، أو كونه مؤجلاً ـ أو عدم كونه مانعاً إلا مع الحلول والمطالبة ، أو كونه مانعاً إلا مع التأجيل أو‌

______________________________________________________

بالقضاء .. ». وجه الاشكال فيه : أنه مع تعذر البيع يصدق أنه ليس عنده ما يحج به ، ولو ببدله ونحوه ، فكيف يكون مستطيعاً حينئذ؟

ومن ذلك يظهر الاشكال فيما ذكره في المتن في المال الحاضر الذي لا راغب في شرائه ، وفي الدين المؤجل الذي لا يكون المديون باذلاً له ، إذ في الموردين المذكورين لا قدرة على ما يحج به ، وإن اختلفا في جهة أخرى ، فإن الدين ليست عينه تحت القدرة أصلاً ، والمال الحاضر تحت القدرة ، لكنه لا يمكن الحج به من كل وجه. وأما المال الغائب فإن كان تحت يده ـ ولو بتوسط وكيله ونحوه ـ فهو كالمال الحاضر ، إن أمكن تبديله ـ ببيع ونحوه ـ كان به مستطيعاً وإلا فلا. وإن لم يكن تحت يده أصلاً ـ كما لو مات له مورث في مكان بعيد عنه ـ فحاله حال المغصوب الذي لا يصدق أنه عنده وفي يده ، ولا يكون به مستطيعاً حينئذ.

والمتحصل : أن المستفاد من النصوص أنه يعتبر في الاستطاعة أمور : الملك للمال ، وكونه عنده ، وكونه مما يمكن الاستعانة به على السفر. ويظهر الأول من قولهم (ع) : « أن يكون له زاد وراحلة ». (١) ويظهر‌

__________________

(١) نقل بالمعنى لما رواه في الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤ ، ٥ ، ٧.

٩٤

الحلول مع عدم المطالبة ، أو كونه مانعاً إلا مع التأجيل وسعة الأجل للحج والعود أقوال [١]. والأقوى كونه مانعاً ، إلا‌

______________________________________________________

الثاني من قولهم (ع) : « إذا قدر على ما يحج به » ‌(١) أو « كان عنده ما يحج به » ‌(٢) أو « وجد ما يحج به » ‌(٣). ويظهر الشرط الأخير من ذكر باء الاستعانة في قولهم (ع) : أن يكون عنده ما يحج به. فاذا لم يكن له ملك فليس بمستطيع ، وإذا كان ولكن ليس عنده ـ كالعبد الآبق ، والدين المؤجل ـ فليس بمستطيع وإن أمكنه تبديله ، وإذا كان عنده ولكن لم يمكن تبديله بنحو يستعين به في السفر ولو ببدله ـ كالمال المرهون والمال الحاضر الذي لا يرغب أحد في شرائه ـ فليس بمستطيع.

[١] اختار الأول في الشرائع. قال (ره) : « ولو كان له مال ، وعليه دين بقدره لم يجب إلا أن يفضل عن دينه ما يقوم بالحج .. » وفي القواعد : « والمديون يجب عليه الحج إن فضل ماله عما عليه ـ وإن كان مؤجلاً ـ بقدر الاستطاعة ، وإلا فلا .. ». وفي الدروس : « والمديون ممنوع ، إلا أن يستطيع بعد قضائه ، مؤجلا كان أو حالا .. ». وفي المنتهى ـ بعد أن صرح بالتعميم ـ استدل عليه بعدم تحقق الاستطاعة مع الحلول ، وتوجه الضرر مع التأجيل.

واختار الثاني في المدارك. قال في رد استدلال المنتهى : « ولمانع أن يمنع توجه الضرر في بعض الموارد ، كما إذا كان الدين مؤجلا ، أو حالا لكنه غير مطالب به وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج. ومتى انتفى الضرر ، وحصل التمكن من الحج تحققت الاستطاعة المقتضية للوجوب .. ».

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣ ، ٩ وهو منقول بالمعنى.

(٢) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٨. وهو منقول بالمعنى.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ١١. وهو منقول بالمعنى.

٩٥

مع التأجيل والوثوق بالتمكن من أداء الدين إذا صرف ما عنده في الحج. وذلك لعدم صدق الاستطاعة في غير هذه الصورة [١] ،

______________________________________________________

لكن اعتبر في الحال غير المطالب به وجود وجه للوفاء بعد الحج. وأما الثالث فراجع الى الثاني ، ولا ينبغي عده قولا مقابلا له. وأما الرابع فاختاره في كشف اللثام. قال : « وللشافعية في المؤجل بأجل : وجه بالوجوب ، ولا يخلو من قوة ». وفي الجواهر : « هو ـ يعني : القول بالوجوب ـ جيد في المؤجل ، دون الحال وإن لم يطالب به صاحبه ، الذي قد خوطب المديون بوفائه قبل الخطاب بالحج. فتأمل ». قال في المستند : « ولم أعثر للقدماء على قول في المسألة ، وكذا كثير من المتأخرين نعم تعرض لها جماعة منهم ، وهم بين مصرح بعدم الوجوب إذا لم يفضل عن دينه نفقة الحج ، من غير تعرض للمعجل أو المؤجل ـ كما في الجامع وبعض كتب الفاضل ـ ومصرح بعدمه مع التعجيل والتأجيل ـ كالمنتهى والتحرير والدروس ـ وظاهر المدارك وكشف اللثام والذخيرة : التردد في بعض الصور. وعن المحقق الأردبيلي : الوجوب. والظاهر أنه مذهب القدماء ، حيث لم يتعرضوا لاشتراط الخلو عن الدين. وهو الحق ، لصدق الاستطاعة عرفاً. والمستفيضة المصرحة : بأن الاستطاعة أن يكون له مال يحج به .. إلى أن قال : ولا شك أن من استدان مالا على قدر الاستطاعة يكون ذلك ملكاً له ، فيصدق عليه أن عنده مالا ، وله ما يحج به من المال. للاتفاق على أن ما يقرض ملك للمديون ، ولذا جعلوا من إيجاب صيغة القرض : « ملكتك » ، وصرحوا بجواز بيعه وهبته وغير ذلك من أنحاء التصرف. والأخبار المتضمنة لوجوب الحج على من عليه دين بقول مطلق .. ».

[١] هذا الاستدلال لا يخلو من إجمال ، وكان الأولى التعرض لما يعتبر في الاستطاعة ، ليتضح حصوله في المقام وعدمه. وقد عرفت سابقاً أن‌

٩٦

وهي المناط في الوجوب ، لا مجرد كونه مالكاً للمال [١]. وجواز التصرف فيه بأي وجه أراد ، وعدم المطالبة في صورة الحلول أو الرضا بالتأخير لا ينفع في صدق الاستطاعة. نعم لا يبعد الصدق إذا كان واثقاً بالتمكن من الأداء ، مع فعلية الرضا بالتأخير من الدائن. والأخبار الدالة على جواز الحج لمن عليه دين [٢] لا تنفع في الوجوب ، وفي كونه حجة الإسلام‌

______________________________________________________

الظاهر من روايتي أبي الربيع‌ وعبد الرحيم القصير‌ : اعتبار السعة واليسار (١) وهما غير حاصلين مع الدين إذا لم يزد ما يحتاج إليه في الحج على ما يقابل الدين ، من غير فرق بين المؤجل والحال ، مع المطالبة وبدونها. ومجرد القدرة بعد ذلك على الوفاء في المؤجل وفي الحال مع الرضا بالتأخير ، غير كاف في صدق السعة واليسار فعلا. ومن ذلك يظهر أن الأقوى ما ذكره في الشرائع وغيرها.

[١] هذا تعرض لما في المستند ، وكذا ما بعده.

[٢] مثل‌ صحيح معاوية بن وهب عن غير واحد : « قلت لأبي عبد الله (ع) : يكون علي الدين ، فيقع في يدي الدراهم فان وزعتها بينهم لم يبق شي‌ء ، أفأحج بها أو أوزعها بين الغرماء؟ فقال (ع) : تحج بها ، وادع الله تعالى أن يقضي عنك دينك » (٢). ونحوه صحيح الحسين بن زياد العطار‌ (٣) ودلالتها على الجواز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب ظاهرة. ولذلك يشكل الاستدلال بها ـ كما في المستند ـ على الوجوب ، فضلا عن كون الحج حج الإسلام.

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب وجوب الحج حديث : ١ ، ٣.

(٢) الوسائل باب : ٥٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ١٠.

(٣) الوسائل باب : ٥٠ من أبواب وجوب الحج ملحق حديث : ١٠.

٩٧

وأما‌ صحيح معاوية بن عمار عن الصادق (ع) : « عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : نعم ، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين » (١) ‌، و‌خبر عبد الرحمن عنه (ع) : « أنه قال : الحج واجب على الرجل وإن كان عليه دين » (٢). فمحمولان على الصورة التي ذكرنا [١]. أو على من استقر عليه الحج سابقاً. وإن كان لا يخلو من إشكال ، كما سيظهر [٢]. فالأولى الحمل الأول [٣]. وأما ما يظهر من صاحب المستند [٤] : من أن كلاّ من أداء الدين والحج واجب ، فاللازم ـ بعد عدم الترجيح ـ التخيير بينهما في صورة الحلول مع المطالبة ، أو التأجيل مع عدم سعة الأجل للذهاب والعود ، وتقديم الحج في صورة الحلول مع الرضا بالتأخير ، أو التأجيل مع سعة الأجل للحج والعود ولو مع‌

______________________________________________________

[١] يعني : التي اختار الوجوب فيها.

[٢] في آخر المسألة.

[٣] بل هو بعيد. وكان الأولى البناء على طرح هذه النصوص ، لمعارضتها بغيرها ، كما تقدم في مسألة : اعتبار الزاد والراحلة في تحقق الاستطاعة‌

[٤] قال : « فالوجه أن يقال : إن مع التعجيل أو عدم سعة الأجل هو مخير بين الحج ووفاء الدين ، سواء علمت المطالبة أم لا. نعم لو علم رضا الدائن بالتأخير فلا يكون مأموراً بالوفاء ، فيبقى خطاب الحج خالياً عن المعارض فيكون وجباً .. ».

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب وجوب الحج حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٥٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤.

٩٨

عدم الوثوق بالتمكن من أداء الدين بعد ذلك ، حيث لا يجب المبادرة إلى الأداء فيهما ، فيبقى وجوب الحج بلا مزاحم. ففيه : أنه لا وجه للتخيير في الصورتين الأوليين ، ولا لتعيين تقديم الحج في الأخيرتين ، بعد كون الوجوب ـ تخييراً أو تعييناً ـ مشروطاً بالاستطاعة ، الغير الصادقة في المقام. خصوصاً مع المطالبة وعدم الرضا بالتأخير [١]. مع أن التخيير فرع كون الواجبين مطلقين وفي عرض واحد ، والمفروض أن وجوب أداء الدين مطلق ، بخلاف وجوب الحج فإنه مشروط بالاستطاعة الشرعية. نعم لو استقر عليه وجوب الحج سابقاً فالظاهر التخيير ، لأنهما حينئذ في عرض واحد. وإن كان يحتمل تقديم الدين إذا كان حالاً مع المطالبة أو مع عدم الرضا بالتأخير ، لأهمية حق الناس من حق الله. لكنه ممنوع ، ولذا لو فرض كونهما عليه بعد الموت يوزع المال عليهما ولا يقدم دين الناس [٢]. ويحتمل تقديم الأسبق منهما في الوجوب.

______________________________________________________

[١] حاصل الاشكال : أن التزاحم إنما يكون بين الواجبين المطلقين وفي المقام وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، وهي منتفية مع وجوب وفاء الدين فيكون الوجوب المذكور وارداً على وجوب الحج ، لا مزاحماً له.

[٢] يعني : أن توزيع التركة على الحج والدين بعد الوفاة يدل على عدم الأهمية للدين ، وإلا لزم تقدم الدين على الحج. وفي بعض الحواشي الإشكال على ذلك : بأن الدين والحج لما تعلقا ـ بعد الموت ـ بأعيان التركة لم يبق لرعاية الأهمية موقع. وفيه : أنه إذا كان الدين أهم كان اللازم أن لا يتعلق الحج بالتركة مع المزاحمة بالدين ، كما لم يتعلق الميراث مع المزاحمة‌

٩٩

______________________________________________________

للوصية ، ولا الوصية مع المزاحمة للدين ، ولا الدين مع المزاحمة لتجهيز الميت فتعلق الحج والدين معاً مع المزاحمة يدل على عدم أهمية الدين من الحج. وقد تقدم في مبحث قضاء الصلوات : الاحتجاج على أهمية حق الله تعالى بما ورد ، من أن حق الله أحق أن يقضى ، وتقدم الاشكال فيه هناك (١) فما اشتهر من أهمية حق الناس من حق الله تعالى دليله غير ظاهر.

وكأنه لما ورد : « من أن الذنوب ثلاثة : ذنب يغفر ، وذنب لا يغفر وذنب لا يترك. فالذي يغفر ظلم الإنسان نفسه ، والذي لا يغفر ظلم الإنسان ربه ، والذي لا يترك ظلم الإنسان غيره » ‌(٢). وفيه أن الدلالة على ذلك غير ظاهرة ، إذ لا تعرض فيه للأهمية ، وإنما تعرضه للغفران ، وأن ظلم الإنسان نفسه يغفر وإن كان له من الأهمية ماله ، وظلم الإنسان غيره لا يغفر إلا بمراجعة صاحب الحق وإن لم يكن له شي‌ء من الأهمية ما دام أنه حق للغير. فالحديث الشريف متعرض لغير ما نحن فيه.

وبالجملة : فهذا الحكم المشهور غير ظاهر ، وإن كان تساعده مرتكزات المتشرعة. لكن في بلوغ ذلك حد الحجية تأمل. نعم إذا كان الواجب الشرعي له بدل عند العجز ، فدليل حق الناس يقتضي الانتقال الى البدل لأنه ينقح العجز الذي هو موضوع البدلية. أما في غير ذلك فغير ظاهر ، وإن كان الظاهر التسالم على عدم وجوب الحج أو الصلاة أو الصوم إذا توقف أداؤها على التصرف في مال الغير. لكن لم يثبت أن ذلك لأهمية حق الناس على حق الله تعالى ، فان الظاهر التسالم أيضاً على عدم وجوب أداء الزكاة أو الخمس أو الكفارات إذا توقف على ذلك ، مع أنها من حق‌

__________________

(١) لاحظ المسألة : ٣ من فصل صلاة الاستيجار من الجزء : ٧ من هذا الشرح.

(٢) لم نعثر على النص المذكور في مظانه ، والمروي في الرسائل باب : ٧٨ من أبواب جهاد النفس حديث : ١ قريب من ذلك. وقريب منه ـ أيضاً ـ ما في نهج البلاغة.

١٠٠