مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

______________________________________________________

إذن في لوازمه. وجه الضعف : أن الكلام في جواز رجوع المالك عن إذنه وعدمه ، وحرمة إتمام الصلاة وعدمها ، لا في تحقق الاذن في الإتمام كي يستدل على تحقق الإذن بالقاعدة المذكورة. فالكلام في تأثير الرجوع عن الاذن وعدمه ثبوتاً ، لا في ثبوت الاذن وعدمه إثباتاً ، فالاختلاف بين المقام ومورد القاعدة موضوعاً وحكماً.

ومثل رجوع المالك عن إذنه في الصلاة رجوعه عن إذنه في البناء في ملكه أو الغرس فيه أو الزرع فيه ، ففي مثل هذه الموارد إذا رجع ـ بعد البناء أو الغرس أو الزرع ـ كان الواجب على المأذون إخلاء الأرض. إلا إذا لزم الضرر ، فتكون قاعدة الضرر حاكمة على قاعدة السلطنة ، المقتضية لجواز الرجوع. ولا تعارضها قاعدة الضرر الجارية في حق المالك ، لأنه مقدم عليه بالاذن.

وقد يستشهد على عدم جواز رجوع المالك عن الاذن في الصلاة بما تسالموا عليه : من عدم تأثير رجوع المالك إذا أذن في رهن ملكه. وفيه : وضوح الفرق بين المقامين ، فان الرهن بإذن المالك يستوجب حقاً للمرتهن في العين ، فقاعدة السلطنة على الحق ـ الجارية في حق المرتهن ـ مانعة من تأثير الرجوع ، ومن إجراء قاعدة السلطنة في حق المالك. والسر في ذلك : أن عقد الرهن ليس من الأمور القارة الموقوفة على إذن المالك حدوثاً وبقاء ، بل هو يحدث وينعدم ، فاذا حدث بالاذن صح وترتب أثره وبعد العدم لا يناط بالاذن. بخلاف مثل التصرف في المكان ، فإنه كما يحتاج إلى إذن المالك في الحدوث يحتاج إليها في البقاء. نعم المناسب لباب الرهن الجزء الخاص من التصرف الحادث قبل رجوع المالك ، فإنه لا أثر للرجوع في حرمته ، ولا في ترتب أثر الحرمة عليه بوجه. فهو والرهن من باب واحد ، ويصح قياس أحدهما على الآخر ، لا قياس التصرف اللاحق للرجوع بالرهن ، فإنهما من بابين لا من باب واحد.

١٤١

______________________________________________________

هذا كله الحكم في النظير. وأما الكلام في المقام فهو : أنه إذا بنينا على عدم تأثير الرجوع إذا أذن في الصلاة ـ لما سبق ـ لا يلزم البناء عليه في المقام ، لأن وجوب إتمام الحج في المقام لا ينافي حرمة التصرف في المال المبذول ، لجواز إتمام الحج بلا تصرف في المال المبذول ، بأن يحج متسكعاً ، أو بالاستدانة ، أو الاستيهاب. أو إجارة نفسه على عمل مؤجل أو حال أو غير ذلك. فوجوب إتمام الحج لا يقتضي سلب قدرته على ترك التصرف في المال ، كي يكون من قبيل باب الاذن في الصلاة. نعم إذا انحصر إتمام الحج بركوب الراحلة المبذولة كان من ذلك القبيل ، وحينئذ يجي‌ء فيه ما ذكر هناك ، فان قلنا فيه بعدم تأثير الرجوع وجب الإتمام بالتصرف بالمال المأذون فيه أولا ، وإن رجع المالك عن الاذن. وإن قلنا بتأثير الرجوع وجب ترك التصرف ، ويجري عليه حكم المحصور.

هذا كله من حيث الحكم التكليفي. أما من حيث الحكم الوضعي ـ أعني : ضمان المال المبذول في المقام ، والانتفاع المبذول في باب الصلاة والإعارة للزرع والغرس ـ فهو أنه إن بني على تأثير الرجوع في حرمة التصرف فلا إشكال في الضمان. أما لو بني على عدم تأثيره ، فقد يقال بعدم الضمان ، لوجوب البذل شرعاً ، المقتضي لعدم احترام المال. وفيه : أن وجوب البذل أعم من عدم احترام المال ، نظير البذل عند المخمصة ، فإنه مضمون على المتصرف فيه بالأكل. وبالجملة : وجوب بذل المال ، ووجوب تصرف المبذول له فيه لا يقتضي نفي الضمان الثابت بالإتلاف ، لعدم المنافاة بينهما كي يدل أحدهما على عدم الآخر. وكذا الكلام في ضمان منافع الأرض المبذولة للغرس والزرع والبناء إذا لزم الضرر من إخلائها من ذلك عند رجوع الباذل عن إذنه. فلاحظ.

ومن ذلك تعرف حكم الرجوع عن الاذن في الموارد المختلفة ، فإن‌

١٤٢

______________________________________________________

رجوع الباذل للرهن لا أثر له ، ورجوع المعمر للزرع والغرس ونحوهما يترتب عليه الأثر تكليفاً ووضعاً ، إلا مع الضرر فيترتب أثره وضعاً لا تكليفاً ، ورجوع الآذن في الصلاة يترتب أثره تكليفاً ووضعاً ، فتبطل الصلاة معه ويكون المصلي ضامناً ، وكذا المقام. وأما رجوع الزوج عن الإذن الزوجة في الحج فيترتب عليه أثره وإن كان قبل إحرامها ، ولا يترتب أثره إذا كان بعد إحرامها ، لأن وجوب الإتمام مانع عن وجوب إطاعة الزوج. ومثله رجوع الوالد عن الاذن لولده في الحج. وأما رجوع المولى إذا أذن لعبده في الحج أو الاعتكاف ، فان كان قبل الإحرام في الحج ، وقبل اليوم الثالث في الاعتكاف ترتب عليه أثره ، ـ من حرمة الحج والاعتكاف ـ فيبطل اعتكافه إذا كان قد شرع فيه. وإن كان بعد الإحرام أو بعد دخول اليوم الثالث ، فان قلنا بأن منفعة الحج والاعتكاف من المنافع المملوكة ـ كما هو الظاهر ـ يكون الحكم كما لو رجع الباذل للصلاة ، وان لم نقل بذلك كان الحكم كما في رجوع الزوج والوالد عن الاذن.

وأما إذا أذن في دفن الميت في ملكه ثمَّ عدل بعد الدفن ، فان لم يؤد نقله إلى موضع آخر إلى محذور لزم ، وإن أدى إلى هتك حرمته ـ لطروء الفساد على بدنه ـ ففي جواز نقله إشكال ، لاحتمال أهمية حرمة الهتك من محذور دفنه في أرض غيره. ولا سيما أن حرمة الهتك لا تختص بالمباشر لدفنه بل عامة حتى لصاحب الأرض. ولأجل ذلك يشكل النقل حتى لو دفن في أرض بغير إذن المالك ، لاطراد المحذور فيه أيضاً.

ثمَّ إن الظاهر أن وجه توقف المصنف (ره) عن الحكم بجواز الرجوع في البذل بعد الإحرام ، مع بنائه على الجواز فيما لو أذن في الصلاة في داره ـ كما تقدم منه في كتاب الصلاة ـ : احتمال التمسك بقاعدة الغرور في المقام ، التي يدل عليها ـ مضافاً إلى الإجماع في الجملة ـ : النبوي المرسل

١٤٣

______________________________________________________

المشهور : « المغرور يرجع على من غره » (١). وما ورد في تدليس الزوجة ، من رجوع الزوج الى المدلس ، معللاً‌ بقوله (ع) : « كما غر الرجل وخدعه » (٢). ومقتضى ذلك وإن كان عموم الحكم برجوع المغرور إلى الغار في جميع الموارد ، الا أنه ليس بناء الأصحاب على العمل بها كلية. ولذلك يشكل الأخذ بعموم دليلها ، كما أشرنا إلى ذلك في مبحث الفضولي من ( نهج الفقاهة ) ، تعليقتنا على مكاسب شيخنا الأعظم ( قده ).

لكن يخدش الوجه المذكور : أن الإيقاعات لا توجب تغريراً للغير ، فإنها إنشاءات بحتة ليس فيها حكاية ولا دلالة تصديقية ، ولا تتصف بصدق ولا كذب ، فاذا رجع الباذل عن بذله لم ينكشف من الرجوع خلاف ما دل عليه إنشاء الوعد. نعم إذا ظهر من قوله أو فعله أنه لا يخلف في وعده ولا يرجع عنه كان ذلك تغريراً للمبذول له وإيقاعاً له في الغرور فالتغرير إنما يكون بذلك القول أو الفعل لا بنفس الوعد. وعليه إذا بني على عموم القاعدة ، ولزوم العمل بها فاللازم التفصيل بين أن يكون اعتماد المبذول له على مجرد الوعد ، وبين أن يكون اعتماده على قوله أو فعله الدال على بقائه على وعده. ففي الأول لا مجال لرجوعه عليه. وفي الثاني يرجع عليه ، لحصول التغرير منه في الثاني دون الأول. وأما العمل بعموم القاعدة حتى في المقام فلا بأس به ، لعموم دليلها.

نعم قد يشكل صدق التغرير إذا لم يكن الغار قاصداً للايهام. بل الظاهر اختصاص الخديعة بذلك ، ففي هذه الصورة يضمن الغار ، ولا يبعد أن يكون بناء العقلاء والمتشرعة على الضمان ومؤاخذتهم الغار بتغريره.

__________________

(١) هذا الحديث وإن وجد في بعض الكتب الفقهية الا انه لم نعثر عليه بعد الفحص في كتب الحديث للعامة والخاصة وبعد الاستعانة ببعض الفهارس المعدة لضبط السنة النبوية.

(٢) الوسائل باب : ٧ من أبواب العيوب والتدليس في النكاح حديث : ١.

١٤٤

ولو وهبه للحج فقبل فالظاهر جريان حكم الهبة عليه ، في جواز الرجوع قبل الإقباض وعدمه بعده ، إذا كانت لذي رحم ، أو بعد تصرف الموهوب له [١].

( مسألة ٤٢ ) : إذا رجع الباذل في أثناء الطريق ، ففي وجوب نفقة العود عليه أولا وجهان [٢].

( مسألة ٤٣ ) : إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة فالظاهر الوجوب عليهم كفاية [٣] ، فلو ترك الجميع استقر عليهم‌

______________________________________________________

أما إذا لم يكن قاصداً للايهام وإيقاع المغرور في خلاف الواقع ، ففي البناء على الضمان اشكال ، لعدم وضوح الدليل فيه. وعدم ثبوت بناء العقلاء والمتشرعة عليه ، وإن كان ظاهر الأصحاب في مبحث الفضولي ـ فيما لو رجع المالك على المشتري ـ عموم الحكم لصورة علم الغار وجهله. وإن كان بناؤهم على ذلك لا يهم إذا كان الدليل قاصراً ، فإنه لم يكن عن إجماع معتد به على ذلك ، لاختلاف أنظارهم في وجه الرجوع. فلاحظ ما ذكرناه في ( نهج الفقاهة ) في ذلك المبحث. والله سبحانه العالم الموفق.

[١] لعدم ظهور خصوصية للمورد تمتاز بها عن بقية أفراد الهبة ، فيشملها عموم الدليل المقتضي للتفصيل المذكور.

[٢] ينشآن : مما ذكرنا من أصالة البراءة. ومن قاعدة الغرور ، فان هذه المسألة وسابقتها من قبيل واحد ، ولذلك توقف المصنف (ره) في المقام. ومن بنى على الرجوع الى قاعدة الغرور في إحداهما بنى على ذلك في الأخرى.

[٣] لتحقق الاستطاعة بالنسبة إلى كل واحد منهم ، على ما ذكره هنا ، وتقدم منه في المسألة الثلاثين وغيرها. لكن عرفت الاشكال‌

١٤٥

الحج. فيجب على الكل ، لصدق الاستطاعة بالنسبة إلى الكل. نظير : ما إذا وجد المتيممون ماء يكفي لواحد منهم ، فان تيمم الجميع يبطل [١].

______________________________________________________

في ذلك ، وأن المستفاد من النصوص أن الاستطاعة نوعان : ملكية ، وبذلية ، وكلتاهما في المقام غير حاصلة ، لانتفاء الملك. ولعدم شمول نصوص البذل له. ولذا قال في الجواهر : « إن لم ينعقد إجماع على وجوبه للمبذول لهم الحج على جهة الإطلاق من دون خصوصية ـ كأن يقال : « بذلت الزاد والراحلة لكل من يريد الحج مثلاً ـ أمكن القول بعدمه. للأصل وغيره. وبالجملة : المدار في المسألة : أن وجوب الحج على المبذول له ، لصدق الاستطاعة المتحقق في ذلك وأمثاله. أو أنه لمكان الأدلة المخصوصة ، لعدم الاكتفاء بهذه الاستطاعة المشتملة على المنة ، التي سقط لها ونحوها أكثر التكاليف. ولعل الأخير لا يخلو من قوة .. ». وما ذكره في محله. وإن كان بعضه لا يخلو من مناقشة ، فإن الاعتماد على النصوص المخصوصة في الاستطاعة البذلية ، وعدم شمول العمومات لها ليس لأجل المنة ، بل لأجل أن العمومات مختصة بالملك ، على ما عرفت في المسألة الثلاثين وغيرها. والمنة الحاصلة في البذلية ليست مما يسقط لأجلها التكليف ، لعدم بلوغها الحرج. ولو فرض بلوغها ذلك فلا ينبغي التأمل في منعها من الاستطاعة البذلية ، لعموم أدلة الحرج ، كما عرفت في جملة من مسائل الاستطاعة المالية المتقدمة. فراجع.

[١] الوجدان ـ الموجب لبطلان التيمم ـ إنما هو بمعنى القدرة على الماء ، وهو في المقام حاصل بالنسبة إلى كل واحد منهم ، فيبطل تيممه. نعم إذا تسابقوا اليه فسبق واحد منهم بطل تيممه دون غيره ، لانكشاف قدرة السابق وعجز غيره. وإذا سبقوا اليه جميعاً لم يبطل تيمم واحد منهم ،

١٤٦

( مسألة ٤٤ ) : الظاهر أن ثمن الهدي على الباذل [١]. وأما الكفارات فان أتى بموجبها عمداً اختياراً فعليه ، وإن أتى بها اضطراراً ، أو مع الجهل أو النسيان فيما لا فرق فيه بين العمد وغيره ، ففي كونه عليه أو على الباذل وجهان [٢].

( مسألة ٤٥ ) : إنما يجب بالبذل الحج الذي هو وظيفته على تقدير الاستطاعة ، فلو بذل للآفاقي بحج القران أو الافراد أو لعمرة مفردة لا يجب عليه ، وكذا لو بذل للمكي لحج‌

______________________________________________________

لاشتراكهم فيه. أما الاستطاعة في باب الحج فقد عرفت أنها ليست كذلك ، فالتنظير في غير محله.

[١] لأنه جزء من الواجب ، فيشمله البذل. هذا إذا كان البذل واجباً بنذر ونحوه ، لانصرافه الى الفرد الاختياري. أما إذا كان واجباً بقاعدة أخرى ـ كالغرور ، أو التسبيب ـ فوجوبه على الباذل غير ظاهر ، لأنه واجب عند القدرة ، وبامتناع الباذل تنتفي القدرة فينتقل إلى بدله. نعم لو كان المبذول له متمكناً من الهدي فاشتراه فذبحه أمكن رجوعه على الباذل بالثمن ، لقاعدة الغرور. وهكذا الكلام في كل ما له بدل ، فإنه لا يجب عليه بذله. بل لو بذل له من أول الأمر مالاً يفي بالواجب الاختياري وجب عليه الحج وأجزأ عن حج الإسلام. وكذا لو كان المكلف مالكاً لمال لا يفي بالواجب الاختياري ، ولكن يفي بالواجب الاضطراري ، كان مستطيعاً بالاستطاعة الملكية ، ووجب عليه الحج ، وأجزأه عن حج الإسلام.

[٢] مما ذكرنا سابقاً يظهر أن أقوى الوجهين أولهما. فان البذل إذا كان واجباً ـ بنذر ونحوه ـ فلا ينصرف إلى مثل ذلك ، وإن كان واجباً بقاعدة الغرور ونحوها فلا يقتضي ذلك. فتأمل جيداً.

١٤٧

التمتع لا يجب عليه. ولو بذل لمن حج حجة الإسلام لم يجب عليه ثانياً [١]. ولو بذل لمن استقر عليه حجة الإسلام وصار معسراً وجب عليه [٢]. ولو كان عليه حجة النذر أو نحوه ولم يتمكن فبذل له باذل وجب عليه [٣] ، وإن قلنا بعدم الوجوب لو وهبه لا للحج. لشمول الأخبار من حيث التعليل فيها : بأنه بالبذل صار مستطيعاً. ولصدق الاستطاعة عرفاً.

( مسألة ٤٦ ) : إذا قال له : « بذلت لك هذا المال مخيراً بين أن تحج به أو تزور الحسين (ع) » وجب عليه الحج [٤].

______________________________________________________

[١] كما يقتضيه ظاهر النصوص.

[٢] لأن المفروض استقرار الوجوب عليه. غاية الأمر : أنه كان معذوراً من جهة العسر ، وبالبذل يزول المانع.

[٣] لما سبق. والقول بعدم وجوب قبول الهبة لو وهبه لا للحج لا يرتبط بما نحن فيه ، لأنه في أصل وجوب الحج واشتغال ذمته. وقد عرفت أن المقام ليس في ذلك ، لاستقرار الوجوب عليه بالسبب السابق ، والكلام هنا في وجوب إفراغ ذمته عقلاً من الواجب المشغولة به ، فالقدرة هنا عقلية لا شرعية ، فلا مناسبة بين المقام وذلك المقام. ومن ذلك يظهر النظر في قوله (ره) : « لشمول الاخبار من حيث .. » ، فان المقام لا يرتبط بتلك الأخبار ، ولا بالتعليل المذكور فيها ، ولا بصدق الاستطاعة. لأنها كلها في مقام أصل الوجوب ، وفي حصول ملاكه ، لا فيما نحن فيه مما لم تكن الاستطاعة شرطاً في الوجوب ولا في الملاك. وما كان يؤمل من المصنف (ره) صدور مثل ذلك منه.

[٤] تقدم الكلام فيه في المسألة السابعة والثلاثين.

١٤٨

( مسألة ٤٧ ) : لو بذل له مالاً ليحج بقدر ما يكفيه ، فسرق في أثناء الطريق سقط الوجوب [١].

( مسألة ٤٨ ) : لو رجع عن بذله في الأثناء ، وكان في ذلك المكان يتمكن من أن يأتي ببقية الأعمال من مال نفسه أو حدث له مال بقدر كفايته ، وجب عليه الإتمام [٢] ، وأجزأه عن حجة الإسلام.

( مسألة ٤٩ ) : لا فرق في الباذل بين أن يكون واحداً أو متعدداً [٣] ، فلو قالا له : « حج وعلينا نفقتك » وجب عليه.

( مسألة ٥٠ ) : لو عين له مقداراً ليحج به ، واعتقد‌

______________________________________________________

[١] بل انكشف عدم ثبوته ، لانتفاء شرطه.

[٢] ظاهر العبارة : أنه كان الرجوع عن البذل بعد الإحرام. وعليه يشكل ما ذكره من إجزائه عن حج الإسلام ، لأنه بالرجوع انكشف عدم كونه مستطيعاً من أول الأمر. لكن تقدم منه في المسألة التاسعة والعشرين : احتمال أن تلف المال في أثناء الحج لا يمنع من الاجزاء عن حج الإسلام ، والرجوع بعد الإحرام من قبيل تلف الاستطاعة بعد الإحرام.

هذا إذا كان المال الذي يكفيه للإتمام قد حدث له ، أما إذا كان عنده حين البذل فلا إشكال ، لأن البذل إلى زمان الرجوع يكون متمماً للاستطاعة. أما إذا كان المراد الرجوع عن البذل قبل الإحرام ، وكان عنده من المال ما يكفيه للذهاب والإياب ، أو حدث له مال كذلك ، فلا ينبغي التأمل في أنه يجب عليه حج الإسلام ، وكان بذلك مستطيعاً. ولعله مراد المتن.

[٣] لإطلاق أدلة العرض.

١٤٩

كفايته فبان عدمها ، وجب عليه الإتمام في الصورة التي لا يجوز له الرجوع. إلا إذا كان ذلك مقيداً بتقدير كفايته [١].

( مسألة ٥١ ) : إذا قال : « اقترض وحج وعليّ دينك » ففي وجوب ذلك عليه نظر ، لعدم صدق الاستطاعة عرفاً [٢]

______________________________________________________

[١] يعني : وجب على الباذل إتمام ما بذله حتى يكون بمقدار الكفاية ، في الصورة التي لا يجوز الرجوع فيها عن البذل. إلا إذا كان بذل المقدار المعين مقيداً بقدر كفايته ، بأن كان بذله للمقدار المعين معلقاً على تقدير الكفاية. فحينئذ لا يجب إضافته بمقدار الكفاية. وكأن الوجه في وجوب الإتمام هو الوجه في عدم جواز الرجوع في البذل بناء عليه. لكن يشكل ذلك : بأنه لو بني على عدم جواز الرجوع من جهة التغرير لا مجال للبناء على ذلك هنا ، إذ لا تغرير من الباذل.

اللهم إلا أن يكون قول الباذل : « لتحج به » بمنزلة إخباره بكفايته للحج ، فيكون تغريراً منه. لكن لازم ذلك وجوب الرجوع على كل من أخبر بذلك ولو كان غير الباذل ، ولا يختص وجوب الإتمام بالباذل. أو لأن قول الباذل : « لتحج به » لما لم يكن مقيداً بتقدير الكفاية ، كان دالا على الوعد بالإتمام على تقدير النقص ، لأنه لازم لبذل المقدار المعين للحج ، إذ لا تمكن الاستعانة به في الحج إلا بذلك. والمظنون : أن مراد المصنف ذلك ، فيكون مرجع البذل في المقام إلى بذل التتمة على تقدير النقص ، فلا يجوز للباذل الرجوع عنه. لكن الدلالة على الوعد بالإتمام يتوقف على علم الباذل بعدم تمكن المبذول له من الإتمام إلا ببذل التتمة ، فلو كان الباذل يحتمل تمكن المبذول له من الحج متسكعاً ، أو أن يكون له مال يتمكن من الإتمام به ، فالدلالة غير حاصلة.

[٢] في هذا التعليل نظر ـ بناء على ما تقدم منه من أن الاستطاعة‌

١٥٠

نعم لو قال : « اقترض لي وحج به » وجب مع وجود المقرض كذلك.

( مسألة ٥٢ ) : لو بذل له مالاً ليحج به فتبين بعد الحج أنه كان مغصوباً ، ففي كفايته للمبذول له عن حجة الإسلام وعدمها وجهان ، أقواهما العدم [١]. أما لو قال : « حج وعلي نفقتك » ، ثمَّ بذل له مالاً فبان كونه مغصوباً ،

______________________________________________________

عبارة عن القدرة المالية ، نظير القدرة على الماء التي يبطل معها التيمم ـ لحصولها بالبذل على النحو المذكور. نعم بناء على ما ذكرنا سابقاً : من أن الاستطاعة منحصرة في نوعين : ملكية وبذلية ، تكون منتفية بكلا نوعيها ، لانتفاء الملك والبذل معاً. ومن ذلك يظهر عدم الوجوب في الصورة الثانية ، لانتفاء الملك والبذل أيضاً ، فلا يجب الحج فيها. نعم لو اقترض حصلت الاستطاعة البذلية ، ووجب الحج ، وأجزأ عن حج الإسلام.

[١] لا ينبغي التأمل في أن البذل الإنشائي والوعد بالبذل لا يستوجب الاستطاعة البذلية ، ولا بد من البذل الخارجي في حصولها ، فاذا كان المبذول مغصوباً لم يتحقق البذل الموجب للاستطاعة ، لاختصاصه ببذل المال غير المضمون. وهذا مما لا ينبغي التأمل والتردد فيه. ومنه يظهر الاشكال فيما ذكره المصنف في الصورة الثانية ، من تعليل صحة البذل بقوله : « لأنه استطاع بالبذل » فان البذل الخارجي للمال المغصوب المضمون لا يستوجب الاستطاعة ، كما عرفت. والبذل الإنشائي لا يكفي في حصولها أيضاً ، فكيف يكون المبذول له مستطيعاً ، ويصح حجه ، ويجزي عن حجة الإسلام؟!

وبالجملة : الاستطاعة البذلية تكون ببذل إنشائي وبذل خارجي ، فإن اعتبر في المبذول أن لا يكون مضموناً لم يكن فرق بين الصورتين في عدم حصول الاستطاعة البذلية ، وإن لم يعتبر ذلك لم يكن أيضاً فرق‌

١٥١

فالظاهر صحة الحج وإجزاؤه عن حجة الإسلام ، لأنه استطاع بالبذل. وقرار الضمان على الباذل في الصورتين ، عالماً كان بكونه مال الغير أو جاهلاً [١].

( مسألة ٥٣ ) : لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحج بأجرة يصير بها مستطيعاً وجب عليه الحج. ولا ينافيه وجوب قطع الطريق عليه للغير ، لأن الواجب عليه ـ في حج نفسه ـ أفعال الحج ، وقطع الطريق مقدمة توصلية ، بأي وجه أتى بها كفى ولو على وجه الحرام ، أو لا بنية الحج [٢].

______________________________________________________

بينهما في حصولها. إذ لا فرق بين الصورتين في ذلك ـ بل ولا في غيره ـ إلا في أن البذل الإنشائي في الأول مقارن للبذل الخارجي ، وفي الثاني غير مقارن ، وهذا المقدار لا يستوجب اختلافاً بينهما في الحكم.

[١] لما كان المفروض جهل المبذول له بالغصب يكون مغروراً من قبل الباذل ، فيرجع عليه في تدارك خسارته إذا كان قد رجع عليه المغصوب منه بمثل المبذول أو بقيمته. وهذا الرجوع لقاعدة الغرور. وعموم الحكم بالرجوع على الباذل لصورة علمه وجهله مبني على عموم القاعدة لهما معاً ، ولو بني على اختصاصها بصورة علم الغار اختص الرجوع على الباذل بها لا غير.

[٢] كما نص على ذلك في الجواهر ، قال (ره) في دفع إشكال أن السفر إذا كان واجباً بالإجارة كيف يكون حج الأجير مجزياً عن حجة الإسلام : « ويدفع : بأن الحج ـ الذي هو عبارة عن مجموع الأفعال المخصوصة ـ لم تتعلق به الإجارة ، وإنما تعلقت بالسفر خاصة ، وهو غير داخل في أفعال الحج .. ». ونحوه : ما في المسالك والمدارك وغيرهما. ويظهر منهم التسالم على كون الحج عبارة عن الأفعال المخصوصة ، وليس‌

١٥٢

______________________________________________________

السفر منها وإنما هو مقدمة ، فلا مانع من أن يكون واجباً لسبب آخر ، أو مملوكاً عليه بعقد إجارة ونحوها. ويشكل : بأن ظاهر الآية الشريفة وجوب السفر ، فان حج البيت ـ في الآية الشريفة ـ يراد منه الذهاب اليه والسعي نحوه ، فيكون واجباً وجوباً نفسياً كسائر أفعاله. وإذا أجمل مبدإ السير فالقدر المتيقن منه السير من الميقات.

ثمَّ استدل على ذلك في الجواهر‌ بصحيح معاوية بن عمار عن الصادق (ع) : « عن الرجل يمر مجتازاً ـ يريد اليمن أو غيرها من البلدان ـ وطريقه بمكة ، فيدرك الناس وهم يخرجون الى الحج ، فيخرج معهم إلى المشاهد ، أيجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال (ع) : نعم » (١) ‌، و‌صحيحه الآخر عنه (ع) : « قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يخرج في تجارة إلى مكة ، أو يكون له إبل فيكريها ، حجته ناقصة أم تامة؟ قال (ع) : لا بل حجته تامة » (٢) ‌، و‌خبر الفضل ابن عبد الملك عنه (ع) قال : « وسئل عن الرجل يكون له الإبل يكريها فيصيب عليها ، فيحج وهو كري ، تغني عنه حجته؟ أو يكون يحمل التجارة إلى مكة فيحج ، فيصيب المال في تجارته أو يضع ، تكون حجته تامة أو ناقصة؟ أو لا يكون حتى يذهب به الى الحج ولا ينوي غيره؟ أو يكون ينويهما جميعاً ، أيقضي ذلك حجته؟ قال (ع) : نعم حجته تامة » (٣).

أقول : النصوص المذكورة لا تصلح للخروج بها عن ظاهر الآية الشريفة ، فإن الصحيح الأول ظاهر في أن خروجه إلى المشاهد لم يكن بقصد غاية أخرى وإنما كان لمحض الحج. وأما الصحيح الثاني فإنما يدل على أن حجه ـ وهو كري ، أو يحمل التجارة إلى مكة ـ صحيح ، وهو لا يقتضي‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٢ من أبواب وجوب الحج حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٢٢ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤.

(٣) الوسائل باب : ٢٢ من أبواب وجوب الحج حديث : ٥.

١٥٣

______________________________________________________

خروج السير من الميقات عن الحج ، وعدم لزوم التعبد والتقرب به. لأن وقوع العمل على وجه العبادة يتوقف على صدوره عن داعي القربة على نحو يكون ذلك الداعي صالحاً للاستقلال في الداعوية ، وذلك لا ينافي وجود داع آخر اليه صالح للاستقلال في الداعوية. نعم إطلاقه يقتضي الصحة وإن كان داعي القربة تبعياً. لكن الإطلاق المذكور ليس بحد يصلح للخروج به عن ظاهر الآية ، لقرب حمل الكلام على أنه في مقام نفي مانعية الضميمة. وأما الخبر الثالث فحمله على ذلك أقرب ، فإن قول السائل : « ولا ينوي غيره » ‌ظاهر في ذلك جداً. مضافاً إلى ضعف سنده بالإرسال ، كما عرفت في مبحث البذل.

فان قلت : المراد من الآية الشريفة وجوب السفر الى البيت وجوباً غيرياً ، نظير قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .. ) (١) فإنه لا ريب في عدم وجوب السعي إلى التراب وجوباً نفسياً.

قلت : إذا كان المراد من آية التيمم ذلك ـ لقرينة في الكلام ، وهي قوله تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ .. ) ضرورة : أن التطهير إنما يكون باستعمال التراب لا بالسعي اليه. أو لقرينة خارجية من إجماع وغيره ـ فهو لا يقتضي حمل الأمر في المقام عليه ، لعدم القرينة عليه. ولا سيما وكون الوجوب النفسي هو الموافق للارتكاز العقلائي ، فإن السعي إلى بيوت أهل الشأن مظهر من مظاهر العبودية. فلاحظ.

والمتحصل مما ذكرنا : أن البناء على عدم جزئية السفر الى البيت في الواجب النفسي وأنه مقدمة لا غير خلاف ظاهر الآية ، وليس ما يقتضي الخروج عنه ، فالبناء على الأخذ بظاهر الآية متعين. وعلى هذا لا يجوز وقوع السفر من الميقات إلى مكة على وجه لا يقتضي تقرب المحرم ـ بأن يكون‌

__________________

(١) المائدة : ٧.

١٥٤

وكذا لو كان مستطيعاً قبل الإجارة جاز له إجارة نفسه للخدمة في الطريق. بل لو آجر نفسه لنفس المشي معه ، بحيث يكون العمل المستأجر عليه نفس المشي صح أيضاً ، ولا يضر بحجه. نعم لو آجر نفسه لحج بلدي لم يجز له أن يؤجر نفسه لنفس المشي ، كإجارته لزيارة بلدية أيضاً. أما لو آجر للخدمة في الطريق فلا بأس وإن كان مشيه للمستأجر الأول. فالممنوع وقوع الإجارة على نفس ما وجب عليه أصلاً أو بالإجارة.

( مسألة ٥٤ ) : إذا استؤجر ـ أي : طلب منه إجارة نفسه للخدمة بما يصير به مستطيعاً لا يجب عليه القبول ، ولا‌

______________________________________________________

مملوكاً لغيره بالإجارة ونحوها ـ أو ملكاً له لكن على نحو لا يكون مقرباً ـ بأن كان حراماً ـ أو وقع قهراً أو غفلة ـ كما إذا أحرم وعزم على ترك السفر فقهر على ذلك ، أو نام فحمله شخص حتى أوصله إلى مكة ـ أو كان رياء ونحو ذلك. نعم لا يضر إذا وقع فيه نوم أو غفلة مع عزمه عليه ، ضرورة الاجتزاء به حينئذ.

ثمَّ إن الإجارة للخدمة لا تقتضي امتناع التعبد بالسفر ، إذ وجوب الخدمة المملوكة بالإجارة وإن اقتضى وجوب السفر. لكن لا مانع من التعبد به من جهة وجوب الحج ، فيكون السفر واجباً بالإجارة غيرياً ، وواجباً بالاستطاعة نفسياً. ولا مانع من اجتماع الوجوبين ، ولا من التقرب بهما معاً إذا كان كل واحد من الأمرين الغيري والنفسي صالحاً للاستقلال بالداعوية إلى فعل الواجب ، فلا مانع من وجوب حج الإسلام على الأجير إذا كان مال الإجارة كافياً في حصول الاستطاعة. أما إذا كان السفر بنفسه مستأجراً عليه ، فيكون مملوكاً للمستأجر. وحينئذ لا يمكن التقرب به ، لأنه مملوك‌

١٥٥

يستقر الحج عليه ، فالوجوب عليه مقيد بالقبول ووقوع الإجارة. وقد يقال بوجوبه [١] إذا لم يكن حرجاً عليه ، لصدق الاستطاعة. ولأنه مالك لمنافعه فيكون مستطيعاً قبل الإجارة ، كما إذا كان مالكاً لمنفعة عبده أو دابته ، وكانت كافية في استطاعته. وهو كما ترى ، إذ نمنع صدق الاستطاعة بذلك [٢]. لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في بعض صوره ، كما إذا كان من عادته إجارة نفسه للأسفار.

( مسألة ٥٥ ) : يجوز لغير المستطيع أن يؤجر نفسه‌

______________________________________________________

لغير الفاعل ، فيمتنع أن يتقرب بالفعل الراجع لغيره. وحينئذ يمتنع أن يجب عليه حج الإسلام ، فتكون الإجارة مانعة من حصول الاستطاعة على كل حال.

[١] القائل : النراقي في مستنده.

[٢] كما عرفت سابقاً ، إذ لا ملك ولا بذل ، وهي منحصرة في أحدهما. نعم بناء على ما تقدم من المدارك : من أنها التمكن من المال الكافي ، تتحقق الاستطاعة بمجرد طلب المستأجر الإجارة ، وحينئذ يجب عليه القبول ، كما عرفت. وكذلك بناء على ما ذكره المصنف (ره) في المسألة السابعة والعشرين وغيرها ، من أن الاستطاعة القدرة على المال ، فإنه حاصل لعين ما ذكر. فعلى مبناه المذكور يتعين عليه البناء على وجوب القبول ، ولا وجه لمنع صدق الاستطاعة. ولذلك جعل في المستند مما يتفرع على كون الاستطاعة القدرة المالية ، وجوب الحج على الكسوب إذا تمكن من كسبه في الطريق ، ووجوب الاستدانة لمن له دين مؤجل أو متاع لا يتمكن من بيعه في الحال ، ووجوب قبول الهبة وإجارة النفس لمعونة السفر. فالعمدة ـ إذاً ـ الإشكال في صحة المبنى ، وأنه مما لا يستفاد من الأدلة.

١٥٦

للنيابة عن الغير. وإن حصلت الاستطاعة بمال الإجارة قدم الحج النيابي [١] ، فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب عليه لنفسه ، وإلا فلا.

( مسألة ٥٦ ) : إذا حج لنفسه ، أو عن غيره تبرعاً أو بالإجارة ، مع عدم كونه مستطيعاً لا يكفيه عن حجة‌

______________________________________________________

وأما ما ذكر في المستند : من أن الشخص مالك لمنافعه ، فيكون كما لو كان له ضيعة لم يتمكن من بيعها ويمكن إجارتها مدة يكفيه للحج ، فموهون إذ المنافع قبل وجودها في الخارج تعد من شؤون ذي المنفعة ، وكما أنه لا يملك العامل نفسه لا يملك منافعه ، إذ لا اثنينية مصححة لاعتبار إضافة المالكية والمملوكية. ولذلك بنينا على عدم ضمان منافع الحر. ولا فرق في ذلك بين من عادته إجارة نفسه وغيره.

[١] هذا إذا كان المستأجر عليه الحج في سنة الإجارة ، إذ حينئذ يجب عليه حج النيابة في تلك السنة ، فيكون مانعاً عن الاستطاعة السربية ـ التي هي شرط وجوب حج الإسلام ـ وإن كانت الاستطاعة المالية له حاصلة. أما إذا كانت الإجارة على الحج لا تختص بتلك السنة ، إما لأنها مختصة بالسنة التالية لها ، أو عامة للجميع ـ بأن استؤجر على أن ينوب عن شخص مرة واحدة في مدة سنتين أو أكثر ـ فإنه إذا استطاع بمال الإجارة يجب عليه حج الإسلام في سنة الإجارة ، ويؤخر الحج النيابي إلى السنة الأخرى ، لأن الأول مضيق والآخر موسع ، فلا يتنافيان ولا يتزاحمان. نعم إذا كان الأجير بحيث لو صرف مال الإجارة في حج الإسلام عجز عن الحج النيابي لم يكن مستطيعاً ، لأن وجوب حفظ المال للحج النيابي يمنع عن صرفه في حج الإسلام ، فتنتفي الاستطاعة السربية ، ويكون الحكم فيه كالفرض السابق.

١٥٧

الإسلام ، فيجب عليه الحج إذا استطاع بعد ذلك [١]. وما في بعض الأخبار : من إجزائه عنها ، محمول على الاجزاء‌

______________________________________________________

[١] على المشهور المعروف ، وفي المدارك : « هذا مذهب الأصحاب ، لا أعرف فيه مخالفاً .. » ، وفي الجواهر : « بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه .. ». ويشهد به‌ خبر مرازم بن علي عن أبي الحسن (ع) : « قال : من حج عن إنسان ، ولم يكن له مال يحج به أجزأت عنه حتى يرزقه ما يحج به ، ويجب عليه الحج » (١) ، و‌خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) : « قال : لو أن رجلاً معسراً أحجه رجل كانت له حجته ، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج » (٢). لكن يتعين حمل الثاني على صورة عدم حصول شرائط الاستطاعة البذلية ، فالعمدة : الخبر الأول ، المنجبر ضعف سنده بعمل الأصحاب.

نعم يعارض ذلك جملة من النصوص. منها : صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) : « قال : حج الصرورة يجزي عنه ، وعن من حج عنه » (٣) ‌، و‌مصححه الآخر : « سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل حج عن غيره ، أيجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال (ع) : نعم » (٤) ‌، و‌صحيح جميل عن أبي عبد الله (ع) : « في رجل ليس له مال حج عن رجل أو أحجه غيره ، ثمَّ أصاب مالا ، هل عليه الحج؟ فقال : يجزي عنهما جميعاً » (٥). لكن إعراض الأصحاب عنها مانع من الاعتماد عليها. ولذلك‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ١. والموجود فيه : ( آدم ) بدل : ( مرازم ). وكذلك في التهذيب ج : ٥ صفحة : ٨ ، صفحة ٤١١ ، والاستبصار ج : ٢ صفحة : ١٤٤.

(٢) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤.

(٥) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ٦.

١٥٨

ما دام فقيراً ، كما صرح به في بعضها الآخر [١]. فالمستفاد منها : أن حجة الإسلام مستحبة على غير المستطيع ، وواجبة على المستطيع [٢] ، ويتحقق الأول بأي وجه أتى به ولو عن الغير تبرعاً أو بالإجارة ، ولا يتحقق الثاني إلا مع حصول شرائط الوجوب.

( مسألة ٥٧ ) : يشترط في الاستطاعة ـ مضافاً‌

______________________________________________________

قال في المدارك ـ بعد ذكر النصوص الأخيرة ـ : « إلا أنه لا خروج عما عليه الأصحاب .. ». وقد ذكر لها محامل بعيدة لا مجال للبناء عليها ، بعد أن لم تكن مقتضى الجمع العرفي بينها. والذي يقتضيه الجمع العرفي : الأخذ بظاهرها ، وحمل غيرها على الاستحباب ، كما هو ظاهر.

هذا والنصوص من الطرفين مختصة بمن حج عن غيره. أما إذا كان حج عن نفسه متسكعاً فالمرجع فيه القواعد المقتضية لعدم الاجزاء عن حج الإسلام ، فإنه مقتضى إطلاق : « من استطاع فعليه حج الإسلام ». فإن إطلاقه يقتضي الشمول لمن حج متسكعاً ثمَّ استطاع ، كما لا يخفى. وبذلك يندفع أصل البراءة. نعم خبر أبي بصير المتقدم‌ ـ بناء على حمله على من حج عن نفسه ، ولم يكن البذل بشرائط الاستطاعة ـ يكون دالا على حكم المقام.

[١] كأنه يريد به خبر أبي بصير‌ بالنسبة إلى من حج عن نفسه ، وخبر مرازم بالنسبة إلى من حج عن غيره. لكن هذا الحمل بعيد جداً بالنسبة إلى صحيح جميل ، لأنه كالصريح في عدم الحاجة الى الحج بعد ما أيسر فالعمدة : أنه لا حاجة إلى بيان محمل النصوص المذكورة ، لسقوطها عن الحجية.

[٢] لا إشكال فتوى ونصاً في أن حجة الإسلام واجبة على المستطيع ، ولا تجب ولا تستحب للفقير ، ولو كانت مستحبة للفقير لأغنت عن الحج‌

١٥٩

مؤنة الذهاب والإياب ـ وجود ما يمون به عياله حتى يرجع ، فمع عدمه لا يكون مستطيعاً [١]. والمراد بهم : من يلزمه نفقته لزوماً عرفياً وإن لم يكن ممن يجب عليه نفقته شرعاً على الأقوى [٢] ، فإذا كان له أخ صغير ، أو كبير فقير لا يقدر‌

______________________________________________________

إذا استطاع ، كما سيأتي. فكان المناسب أن يقال : إن الحج مستحب على غير المستطيع ، والمقصود من النصوص الاجزاء عن هذا الحج. فلاحظ.

[١] بلا خلاف أجده ، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه ، كذا في الجواهر. واستدل له ـ في الجواهر وغيرها ـ بالأصل. وعدم تحقق الاستطاعة بدونه بعد أن اعتبر الشارع فيها ما هو أسهل منه ، ضرورة وجوب الإنفاق عليه ، فهو حق سابق على وجوب الحج ، فلا استطاعة مع عدمه ، و‌بخبر أبي الربيع : « سئل أبو عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .. ) فقال : ما يقول الناس؟ قال : فقلت له : الزاد والراحلة. قال : فقال أبو عبد الله (ع) : قد سئل أبو جعفر (ع) عن هذا فقال : هلك الناس إذاً ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس ، ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذاً فقيل له : فما السبيل؟ قال : فقال : السعة في المال ، إذا كان يحج ببعض ويبقي بعضاً [ بعض خ ل ] لقوت عياله .. » (١). وقد رواه المشايخ الثلاثة ، ورواه المفيد مرسلا عن أبي الربيع في المقنعة بتفاوت يسير.

[٢] مقتضى الدليل الأول اختصاص الحكم بواجب النفقة ، كما اختاره في الدروس والمدارك ، وحكاه في الجواهر عن المنتهى. ويقتضيه ـ أيضا ـ المرسل في المجمع الآتي‌. لكنه ضعيف. ومقتضى الرواية المذكورة اختصاص‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب وجوب الحج حديث : ١.

١٦٠