مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

لا يمكن الجمع بينه وبين الحج ، يكون من باب المزاحمة ، فيقدم الأهم منهما [١] ، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدم على الحج. وحينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحج فيه ، وإلا فلا. إلا أن يكون الحج قد استقر عليه سابقاً ،

______________________________________________________

« إذا قدر الرجل على ما يحج به ، ثمَّ دفع ذلك وليس له شغل يعذره الله تعالى فيه فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام » (١) ‌فإنه ظاهر في أن مطلق العذر رافع للفرض. ولا ريب في أن الوفاء بالنذر عذر ، فيكون رافعاً للفرض. وأيضاً فإن لازم هذه الدعوى أن لو كان الحج مزاحماً بواجب بحيث يقدم عليه ـ كما إذا كان المكلف أجيراً على الحج في سنة الاستطاعة ، فوجب عليه حج الإجارة ـ لوجب عليه حج الإسلام في السنة الثانية ولو متسكعاً لأنه قد استقر الحج في ذمته ، ولا يظن من أحد إمكان الالتزام به. وسيأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة والستين.

[١] قد عرفت : أن حدوث الاستطاعة آناً ما لا يوجب ثبوت الوجوب ، وأنه لا بد من بقائها إلى آخر أزمنة العمل أو أكثر من ذلك ، كما سبق ويأتي. وحينئذ إذا تحققت الاستطاعة ثمَّ حصل واجب فوري ، كان حصوله رافعاً لها ، فلا وجوب للحج لانتفاء موضوعه ، فكيف يكون من باب المزاحمة؟!

ثمَّ إنه لو بني على كون المقام من باب المزاحمة فقد عرفت أن لازمه وجوب الحج عليه في السنة اللاحقة وإن لم تبق الاستطاعة ، لاستقرار الحج في ذمته. ولأجل ذلك يشكل قوله (ره) : « وإلا فلا ». كما أنه مما ذكرنا يظهر أنه لو حدث أي واجب بعد تحقق الاستطاعة رفعها ، سواء كان أهم من الحج ، أم مساوياً له في الاهتمام ، أم أقل منه. نعم إذا كان موضوع ذلك الواجب يزول بالاستطاعة كانت الاستطاعة مقدمة عليه ، لما.

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣‌

١٢١

فإنه يجب عليه ولو متسكعاً.

( مسألة ٣٣ ) : النذر المعلق على أمر قسمان [١] : تارة : يكون التعليق على وجه الشرطية ، كما إذا قال : « إن جاء مسافري فلله علي أن أزور الحسين (ع) في عرفة » ، وتارة : يكون على نحو الواجب المعلق ، كأن يقول : « لله علي أن أزور الحسين (ع) في عرفة عند مجي‌ء مسافري ». فعلى الأول‌

______________________________________________________

عرفت من أن الواجبين المترافعين المتواردين ـ اللذين يكون كل واحد منهما إذا لوحظ في نفسه رافعاً لموضوع الآخر ـ يكون العمل على السابق منهما ويبطل اللاحق. هذا ولو فرض تقارن الاستطاعة والنذر لم يكن لأحدهما أثر ، لعدم المرجح ، فلا يجب عليه الحج. ولا يجب عليه الوفاء بالنذر.

[١] النذر المعلق قسم واحد ، وهو المشروط ، ولأجل ذلك اشتهر : أن التعليق في العقود والإيقاعات مبطل ، يراد بذلك ما لو كان الإيقاع فيه معلقاً. وأما ما كان على نحو الواجب المعلق فليس النذر فيه معلقاً بل المعلق هو المنذور.

وكيف كان ، تارة : يكون الإيقاع معلقاً ـ أعني : المعنى الإيقاعي الذي يوقعه البائع ـ وهو البيع في قول البائع : « بعث إذا جاء يوم الجمعة » ، أو مضمون النذر في قول الناذر : « لله علي إذا جاء يوم الجمعة أن أفعل كذا » ونحو ذلك. وتارة : لا يكون تعليق في المعنى الإيقاعي ، وإنما يكون في متعلق المعنى الإيقاعي ، وهو الصوم في قول الناذر : « لله علي أن أصوم إذا جاء يوم الجمعة » ، أو الصدقة في قوله : « لله علي أن أتصدق إذا جاء يوم الجمعة » ، أو الزيارة في مثل الفرض المذكور في المتن فالمعلق يكون هو الزيارة ، في مقابل القسم الأول الذي يكون المعلق عليه معنى : « لله علي » الذي عرفت أنه المعنى الإيقاعي.

١٢٢

يجب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجي‌ء مسافرة. وعلى الثاني لا يجب ، فيكون حكمه حكم النذر المنجز ، في أنه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحج ، سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها. وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحج ، من دون فرق بين الصورتين. والسر في ذلك : أن وجوب الحج مشروط والنذر مطلق ، فوجوبه يمنع من تحقق الاستطاعة [١].

( مسألة ٣٤ ) : إذا لم يكن له زاد وراحلة ، ولكن‌

______________________________________________________

[١] يعني : وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، ووجوب الوفاء بالنذر غير مشروط حسب الفرض ، فيكون رافعاً للاستطاعة. فيرتفع وجوب الحج. هذا ولكن ما ذكره من السر إن كان المقصود به سر تقديم النذر على الاستطاعة في أصل المسألة ، فقد عرفت أن السر غير ذلك ، وهو ما ذكرنا. وإن كان المقصود به سر تقديم النذر في المقام فلا مقتضي له ، لأن السر فيه هو السر في أصل المسألة. وكان المناسب ذكر السر في عدم تقديم النذر المشروط في المقام لأنه الخارج عن الكلية التي تعرض فيها لأصل المسألة.

وكيف كان فالفرق الذي ذكره بين النذر المعلق والمشروط غير ظاهر ، لأن النذر المشروط أيضاً يقتضي وجوب تحصيل المقدمات قبل حصول الشرط عقلاً. إذ لا فرق بين الوجوب المشروط والمعلق في ذلك ، فكما يجب تحصيل المقدمات قبل حصول المعلق في الواجب المعلق يجب تحصيلها أيضاً في الوجوب المشروط. غاية الأمر : أنه في الواجب المعلق يكون تحصيلها واجباً شرعاً بناء على وجوب المقدمة ، وفي الوجوب المشروط‌

١٢٣

قيل له : « حج وعلي نفقتك ونفقة عيالك » وجب عليه. وكذا لو قال : « حج بهذا المال » وكان كافياً له ـ ذهاباً وإياباً ـ ولعياله ، فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها [١].

______________________________________________________

يكون واجباً عقلاً ، كما أشرنا إلى ذلك في مسألة غسل المستحاضة قبل الفجر من هذا الشرح. وإذا وجب عقلاً فعل المقدمات قبل حصول الشرط مع العلم بحصوله كان ذلك رافعاً للاستطاعة ، ومانعاً من وجوب حج الإسلام. وقولهم : « المانع الشرعي كالمانع العقلي » يراد به ما هو أعم من ذلك.

هذا مع العلم بحصول الشرط ، أما مع الجهل فيمكن الرجوع إلى أصالة عدم حصول الشرط أو غيرها من الأصول ، فيجب عليه الحج ظاهراً ، لكن إذا انكشف بعد ذلك حصول الشرط ، وأنه مكلف بالزيارة لا بالحج يكون الحج غير مجز عن حج الإسلام.

[١] إجماعاً محكياً في الخلاف والغنية وظاهر التذكرة والمنتهى وغيرهما إن لم يكن محصلاً ، كذا في كشف اللثام والجواهر. ويشهد له جملة من النصوص ، كصحيح محمد بن مسلم المروي في كتاب التوحيد : « سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .. ). قال : يكون له ما يحج به. قلت : فمن عرض عليه الحج فاستحيا؟ قال هو ممن يستطيع » (١) ‌، و‌خبر أبي بصير عن أبي جعفر (ع) : « قلت له : رجل عرض عليه الحج فاستحيا أهو ممن يستطيع الحج؟ قال (ع) : نعم » (٢). وهما العمدة في الحكم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٢.

(٢) لم نعثر على هذا الحديث في كتاب الوسائل ومستدركة ، والجواهر والحدائق وكشف اللثام والمدارك. نعم في التذكرة في المسألة الثانية من المبحث الرابع في المؤنة ( جزء : ١ صفحة : ٣٠٢ ـ

١٢٤

______________________________________________________

المذكور. وأما‌ صحيح معاوية بن عمار : « قلت لأبي عبد الله (ع) : رجل لم يكن له مال ، فحج به رجل من إخوانه ، هل يجزيه ذلك عن حجة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال (ع) : بل هي حجة تامة » (١). فإنه وإن دل على الاجزاء لا يدل على الوجوب بالبذل ، والاجزاء عن حجة الإسلام أعم من الوجوب. وأكثر منه إشكالاً مثل‌ صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) ـ في حديث ـ قال : « قلت له : فان عرض عليه ما يحج به فاستحيا من ذلك ، أهو ممن يستطيع اليه سبيلاً؟ قال (ع) : نعم ، ما شأنه يستحيي ولو يحج على حمار أجدع أبتر؟ فإن كان يطيق أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليحج » (٢). إذ لا مجال للعمل به. وحمل قوله (ع) : « ما شأنه يستحيي » ‌على أنه بيان لحكم أخلاقي لا فقهي ، بعيد عن الظاهر فلا مجال للاعتماد عليه ، كما عرفت سابقاً. وأشكل منه‌ صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) : « فان كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيا فلم يفعل ، فإنه لا يسعه الا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر » (٣) ‌، ونحوها. فإنه لو أمكن التفكيك بين مضامين صحيح الحلبي المتقدم‌ ـ بالحمل على حكمين أخلاقي وفقهي ـ فلا مجال لذلك فيه ، لأنه صريح في الحكم على المقيد ، فلا مجال فيه للتفكيك المذكور ، بأن يكون الحكم على المقيد أخلاقياً ، والحكم على غيره فقهياً. ومن ذلك تعرف الاشكال على جماعة من الأصحاب ، حيث استدلوا بهذه النصوص ، التي ليس بناؤهم على العمل بمضمونها.

__________________

ـ الطبعة الأولى ) قال : « ولان الباقر والصادق عليهما‌السلام سئلا عمن عرض عليه ما يحج به فاستحيا من ذلك أهو ممن يستطيع إلى ذلك سبيلا؟ قال : نعم ».

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ١٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣.

١٢٥

من غير فرق بين أن يبيحها له أو يملكها إياه ، ولا بين أن يبذل عينها أو ثمنها ، ولا بين أن يكون البذل واجباً عليه ـ بنذر ، أو يمين ، أو نحوهما ـ أو لا ، ولا بين كون الباذل‌

______________________________________________________

ومثله في الاشكال : الاستدلال بالآية الشريفة ، لصدق الاستطاعة مع البذل. إذ فيه : ما عرفت ، من أن الاستطاعة المذكورة في الآية الشريفة وإن كانت صادقة ، لكن بعد ورود الأدلة على تقييدها بملك الزاد والراحلة ـ كما في مصحح الحلبي‌ (١) ، ومصحح هشام بن الحكم‌ (٢) ، وغيرهما ـ لا مجال للتمسك بإطلاقهما. ولا ينافي ذلك ما ورد في تفسيرها : بأن يكون عنده مال ، أو أن يجد ما يحج به‌ (٣) ، أو أن يقدر على ما يحج به‌ (٤) ، وذلك كله صادق مع عدم الملك. لأن الجمع العرفي في أمثال المقام ـ مما ورد في مقام الشرح والتحديد ـ يقتضي التقييد ، فلا تتحقق بمجرد حصول واحد منها ، بل لا بد من حصول جميعها. وليس هو من قبيل القضايا الشرطية التي يتعدد فيها الشرط ويتحد فيها الجزاء ، التي يكون الجمع بينها بالحمل على سببية كل واحد من الشروط. فاذا كان الجمع العرفي بين نصوص التفسير والتحديد هو التقييد ، تكون الاستطاعة مختصة بصورة ما إذا كان الزاد والراحلة مملوكين ، فلا ينطبق على المقام ، كما أشرنا إلى ذلك في المسألة الثلاثين. فالعمدة ـ إذا ـ في الحكم المذكور : الإجماع ، والخبران الأولان.

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣. وفي الرواية : « أن يكون له ما يحج به ».

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٧.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ١.

(٤) نقل بالمعنى لما رواه في الوسائل باب : ٦ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣ ، ٩.

١٢٦

موثوقاً به أولا على الأقوى. والقول بالاختصاص بصورة التمليك ضعيف [١]. كالقول بالاختصاص بما إذا وجب عليه [٢] ،

______________________________________________________

[١] هذا القول منسوب إلى الحلي في سرائره. قال (ره) : « والذي عندي في ذلك : أن من يعرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج اليه من مئونة الطريق فحسب لا يجب عليه الحج ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم ، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم ، بل هذا يصح فيمن لا تجب عليه نفقة غيره ، بشرط أن يملكه ما يبذله ويعرض عليه ، لا وعد بالقول دون الفعال .. ». ودليله غير ظاهر ، ولذا قال في المختلف ـ بعد أن حكى ذلك عنه ـ : « إن فتاوى أصحابنا خالية عنه ، وكذا الروايات. بل لو وهب المال لم يجب عليه القبول .. ». وما ذكره أخيراً مبني على أن مراده : اعتبار فعلية التمليك ، إذ لا مجال للنقض عليه إلا بناء على ذلك. أما لو كان مراده أن يكون الباذل في مقام التمليك ، فهذا المعنى لما لم يتوقف على القبول يتحقق الوجوب وإن لم يتحقق القبول. وإذا تحقق الوجوب وجب القبول ، لأن يكون حينئذ شرطاً للواجب لا للوجوب كي لا يجب ، لأن الوجوب لا يقتضي حفظ شرطه. ولأجل ذلك اختلف البذل مع الهبة ، فيجب القبول مع البذل ، ولا يجب مع الهبة. وكيف كان فإطلاق الأدلة المتقدمة ينفي اعتبار التمليك. هذا ولكن التأمل في عبارة السرائر يقتضي أن مراده اعتبار الوثوق ، وحينئذ يرجع إلى القول الآتي.

[٢] هذا القول منسوب إلى العلامة في التذكرة. قال فيها : « التحقيق : أن البحث هنا في أمرين : الأول : هل يجب على الباذل الشي‌ء المبذول أم لا؟ فان قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحج .. ( إلى أن قال ) : وإن قلنا بعدم وجوبه ففي إيجاب الحج إشكال ، أقربه العدم ، لما فيه من‌

١٢٧

أو بأحد الأمرين : من التمليك ، أو الوجوب [١].

______________________________________________________

تعليق الواجب بغير الواجب .. ». وفي جامع المقاصد : « أما البذل لمجموعها ، أو لبعضها وبيده الباقي ، ففي وجوب الحج بمجرده قولان ، أصحهما : أنه إن كان على وجه لازم كالنذر وجب ، وإلا لم يجب .. ». وفيه : ما عرفت من أن ذلك خلاف إطلاق الأدلة. والتعليل الذي ذكره في التذكرة عليل ، لا يرجع إلى قاعدة عقلية أو شرعية. ولا يبعد أن يكون مراده : اعتبار الوثوق ببقاء البذل إلى آخر أزمنة الحاجة ، فيرجع إلى القول الآتي أيضاً.

[١] في الحدائق : « نقل عن جمع من الأصحاب : اشتراط التمليك أو الوجوب بنذر وشبهه .. ». ونسب هذا القول في المستند إلى الدروس. وكأن المصنف (ره) تبعه في ذلك ، ولكن المذكور في الدروس غير ذلك. قال : « ويكفي البذل في الوجوب مع التمليك ، أو الوثوق به .. ». فالعدلان : التمليك والوثوق ، لا التمليك والوجوب. وكيف كان فصدر العبارة وإن كان قد يظهر منه الشرطية التخييرية ، لكن قال بعد ذلك : « وهل يستقر الوجوب بمجرد البذل؟ إشكال : من ظاهر النقل ، وعدم وجوب تحصيل الشرط. ولو حج كذلك أو في نفقة غيره أجزأ ، بخلاف ما لو تسكع ، فإنه لا يجزي عنه عندنا. وفيه دلالة على أن الاجزاء فرع الوجوب فيقوى الوجوب بمجرد البذل لتحقق الاجزاء. إلا أن يقال : الوجوب هاهنا بقبول البذل ، ولو وهبه زاداً وراحلة لم يجب عليه القبول. وفي الفرق نظر .. ». وعبارته الثانية ظاهرة في التردد بين الوجوب بمجرد البذل ، وبين توقفه على القبول ، وميله أخيراً إلى اعتبار القبول في سببية البذل إذا لم يكن على نحو التمليك. وتدل على عدم اعتبار التمليك أو الوثوق. وعدم توقف الوجوب ـ ولا الاجزاء ـ على أحدهما. بل عبارته الأولى‌

١٢٨

وكذا القول بالاختصاص بما إذا كان موثوقاً به [١].

______________________________________________________

ظاهرة في حصول الوجوب مع أحد الأمرين ، لا عدم حصوله إلا مع أحدهما.

وكيف كان فاعتبار التمليك ، أو القبول ، أو الوجوب ، أو الوثوق ، خلاف إطلاق الدليل ، إذا كان المراد من اعتبار الوثوق اعتباره في موضوع الحكم الواقعي. وإن كان المراد اعتباره في الحكم الظاهري فسيأتي الكلام فيه. هذا وفي المسألة قول آخر لم يتعرض له المصنف (ره) صريحاً ، وإن أشار إليه فيما سبق بقوله : « ولا بين أن يبذل عينها أو ثمنها .. » ، وهو ما اختاره في المسالك. قال في مبحث البذل : « واشترط بعض الأصحاب تمليكه إياه ، وآخرون وجوب بذله عليه. والأجود عدم الاشتراط. نعم يشترط بذل عين الزاد والراحلة ، فلو بذل له أثمانها لم يجب عليه القبول. وكذا لو نذر لمن يحج وأطلق ثمَّ بذله لمعين ، أو أوصى بمال لمن يحج ثمَّ بذله كذلك ، لأن ذلك متوقف على القبول ، وهو شرط للواجب المشروط ، فلا يجب تحصيله .. ». ويظهر من عبارة التذكرة ذلك أيضاً. وما ذكره خلاف إطلاق الأدلة الدالة على الوجوب بالبذل ، لصدقه ببذل أثمانها ، فإذا صدق تحقق الوجوب فيجب القبول ، لأنه شرط الواجب لا الوجوب ، كما أشرنا إليه آنفاً. وما في التذكرة من التعليل بالمنة في بذل الثمن غير ظاهر.

[١] ذكره جماعة. قال في المدارك : « نعم لا يبعد اعتبار الوثوق بالباذل ، لما في التكليف بالحج بمجرد البذل ـ مع عدم الوثوق بالباذل ـ من التعرض للخطر على النفس ، المستلزم للحرج العظيم والمشقة الزائدة ، فكان منفياً .. ». وقد أشار إليه ـ في الجملة ـ في الدروس في عبارته المتقدمة. وفي الجواهر قال : « نعم قد يقال باعتبار الطمأنينة بالوفاء ، أو بعدم الظن بالكذب. حذراً من الضرر والخطر عليه. وللشك في شمول أدلة الوجوب له إن لم تكن ظاهرة في خلافه. بل لعل ذلك كذلك وإن‌

١٢٩

______________________________________________________

وجب على الباذل. بل هو في الحقيقة خارج عما نحن فيه ، ضرورة : أن محل البحث الوجوب من حيث البذل من دون نظر الى الواقعة الخارجية التي قد تنتفي الاستطاعة معها ، كما هو واضح. ولا ريب أن المتجه ما قلناه ، عملاً بإطلاق النص ، والفتوى ، ومعاقد الإجماعات. مضافاً إلى تحقق الاستطاعة بذلك .. ».

وتحقيق ذلك : أن الكلام تارة : في الحكم الواقعي ، وهو ثبوت الوجوب واقعاً بتحقق البذل واقعاً ، وأخرى : في الحكم الظاهري ، وهو ثبوت الوجوب ظاهراً بثبوت موضوعه ظاهراً. فان كان الكلام في الأول ، فلا ينبغي التأمل في أن النصوص والفتوى متفقة على ثبوت الوجوب بمجرد البذل واقعاً ، ولا دخل للوثوق ولا للعلم فيه. وإن كان الكلام في الثاني ، فالظاهر أن اللازم العمل بما تقتضيه الطرق العقلائية ، ولا يختص ذلك بالوجوب بالبذل ، بل يجري في الوجوب بالاستطاعة المالية ، فإنه لا يتحقق الوجوب الظاهري إذا لم تقم الطرق العقلائية على بقائها. فإذا احتمل المستطيع زوال استطاعته ـ بموته ، أو موت دابته ، أو سرقة ماله ، أو وجود سيل أو عدو مانع عن عبوره ، أو نحو ذلك مما يمنع من بقاء استطاعته ـ لا يسقط الوجوب عنه ، وإن لم يكن الوثوق بخلافه ، فكذا في المقام ، وفي الجميع يسقط الوجوب مع الوثوق بحصوله. فلا فرق بين الاستطاعة المالية والبذلية من هذه الجهة ، ولا يعتبر الوثوق بالبقاء فيهما ، بل يعول على الأصول العقلائية ، مثل : أصالة السلامة ، وبقاء المال ، وعدم وجود الحائل ، وعدم طروئه ، وبقاء البذل ، ونحو ذلك ، والجميع على حد واحد.

ولو حصل الوثوق بحصول الموانع من بقاء الاستطاعة سقط الوجوب الظاهري ، لكن الوجوب الواقعي بحاله ، لحصول موضوعه. فلو حصل الوثوق بالمانع فلم يسافر وانكشف الخلاف ، انكشف ثبوت الوجوب واقعاً‌

١٣٠

كل ذلك لصدق الاستطاعة ، وإطلاق المستفيضة من الأخبار [١]. ولو كان له بعض النفقة فبذل له البقية وجب أيضاً [٢]. ولو‌

______________________________________________________

واستقر الوجوب عليه ، كما لو اعتقد أنه فقير لا مال له وتبين بعد ذلك أنه غني مستطيع ، كما تقدم في المسألة الخامسة والعشرين.

نعم إذا كان خوف على النفس كان السفر حراماً ، فلا يكون مستطيعاً واقعاً لحرمة السفر. أما إذا كان الخوف على غير النفس ، فلأجل أنه لا يحرم السفر لا يخرج به عن كونه مستطيعاً واقعاً ، إذا لم يكن مانع واقعاً من بقاء الاستطاعة. بل الظاهر أنه لا فرق بين المستطيع ابتداء ومن استقر عليه الحج ، فإنه في السنين اللاحقة وإن كان يجب عليه الحج متسكعاً ، لكن لا يجوز له السفر مع خوفه على النفس ، ولا يجب عليه مع وثوقه بوجود الموانع عن الوصول. والوجه الذي ذكر ـ في المدارك وغيرها ـ لاعتبار الوثوق إن تمَّ اقتضى اعتبار الوثوق ببقاء الباذل وقدرته على البذل ، ولا يختص باعتبار الوثوق ببقاء البذل ، كما يقتضي أيضاً اعتبار الوثوق في الاستطاعة المالية.

فإذاً التحقيق ما ذكرنا ، وأنه لا يعتبر الوثوق ببقاء البذل ، بل يكفي ـ في ثبوت الوجوب ظاهراً ـ قيام الطرق العقلائية في البقاء ، من دون فرق بين الاستطاعة المالية والبذلية.

[١] قد عرفت : أن الاستدلال المذكور إنما يصح لو كان القائل باعتبار الوثوق قائلاً باعتباره في موضوع الحكم الواقعي ، أما لو كان قائلاً باعتباره في إثبات الوجوب ظاهراً فلا مجال له.

[٢] كذا ذكر جماعة ، مرسلين له إرسال المسلمات ، منهم : العلامة في القواعد ، والمحقق والشهيد الثانيان في جامع المقاصد والمسالك ، والسيد في المدارك ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ، وغيرهم ، من دون تعرض لخلاف أو إشكال.

١٣١

بذل له نفقة الذهاب فقط ولم يكن عنده نفقة العود لم يجب [١] ، وكذا لو لم يبذل نفقة عياله [٢]. إلا إذا كان عنده ما يكفيهم إلى أن يعود ، أو كان لا يتمكن من نفقتهم مع ترك الحج أيضاً.

______________________________________________________

واستدل له في الجواهر ـ تبعاً للمدارك ـ : بالأولوية. لكنها غير ظاهرة. وربما يستدل له : بأن ثبوت الحكم في الاستطاعة المالية والبذلية يدل على ثبوته للجامع بينهما. وفيه : أنه وإن سلم لكن لم يثبت وجود الجامع مع التبعيض ، كما يتضح بملاحظة النظائر. فإن ثبوت حكم لكر من حنطة وكر من شعير لا يدل على ثبوته لنصف كر من الحنطة ونصف كر من الشعير. أو يستدل له : بأن ما في النص : من أن المبذول له مستطيع‌ (١) ، يدل على أنه مستطيع حقيقة. وحينئذ يتعين صرف ما دل بظاهره على اعتبار الملك الى اعتبار القدرة المالية ، سواء كانت بالبذل أم التمليك أم بهما. وفيه : أن الجمع بينهما يمكن أن يكون بجعل الاستطاعة ذات فردين ملكي وبذلي ـ كما هو ظاهر الأصحاب ـ ويقتضيه بناءهم على عدم وجوب قبول الهبة إذا لم تكن لخصوص الحج ، إذ لو كان المراد من الاستطاعة المالية القدرة على المال ـ كما ذكر المستدل ـ لوجب قبول الهبة ، لحصول القدرة بمجرد إنشاء التمليك ، كما أشرنا إليه آنفاً. والأولى : الاستدلال عليه بإطلاق نصوص البذل ، فإنه يصدق ببذل التتمة ، كما يصدق ببذل الجميع.

[١] لظهور عرض الحج ، ببذل ما يحتاج إليه في الذهاب والإياب.

[٢] نفقة العيال خارجة عن نصوص البذل ، لاختصاصها ببذل ما يحتاجه لنفسه في سفر الحج. لكن لما كان وجوب الإنفاق على العيال يقتضي منعه من السفر لم يكن مستطيعاً ، كسائر الأعذار الشرعية. ونصوص البذل إنما تتعرض لتشريع الاستطاعة المالية لا غير ، فلا تنافي ما دل على‌

__________________

(١) راجع أول المسألة.

١٣٢

( مسألة ٣٥ ) : لا يمنع الدين من الوجوب في الاستطاعة البذلية. نعم لو كان حالاً ، وكان الديان مطالباً ، مع فرض تمكنه من أدائه لو لم يحج ولو تدريجاً ، ففي كونه مانعاً أولا وجهان [١].

______________________________________________________

اعتبار الاستطاعة من الجهات الأخرى. وقد عرفت فيما سبق : أن الأعذار الشرعية مانعة عن الاستطاعة. وسيأتي التعرض له في المسألة الرابعة والستين وغيرها.

ولأجل ذلك يظهر الوجه لما ذكره في المتن ، من استثناء صورة وجود ما يكفيهم ، وصورة عجزه عن الإنفاق عليهم. إذ في هاتين الصورتين لا محذور شرعي في السفر. ولذلك قال في الجواهر : « بل إن لم يقم الإجماع على اعتبار بذل مئونة العيال في الوجوب أمكن منعه في المعسر عنها حضراً ، للإطلاق المزبور ». وقد يظهر من عبارته الإجماع على الاعتبار. لكنه غير ظاهر ، وان اشتهر في كلامهم ذكر نفقة عياله مع نفقته في البذل. لكن الظاهر منه ما هو المتعارف ، ولا يشمل صورة العجز المسقط للتكليف المانع عن الاستطاعة. لا أقل من عدم ثبوت انعقاد الإجماع في الصورة المذكورة ، فيرجع الى الإطلاق ، كما ذكر في الجواهر. وعليه فما في المتن في محله. لكن كان اللازم تخصيص العيال بواجبي النفقة ، وإلا لم يكن ما يمنع من السفر ، فيكون مستطيعاً ويجب عليه الحج. إلا إذا كان ترك الإنفاق عليه حرجاً على المعيل ، فلا يكون الحج واجباً ، بناء على ما تقدم ، من أن الحرج مانع من الوجوب.

[١] ينشآن من ملاحظة الأدلة الأولية المقتضية لنفي الاستطاعة السربية الشرعية ، لوجوب الأداء المقتضي لوجوب الحضر حسب الفرض. ومن إطلاق كلمات الأصحاب : من أن الدين لا يمنع من الاستطاعة البذلية. قال في المسالك : « ولا يشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين ، أو ملك‌

١٣٣

( مسألة ٣٦ ) : لا يشترط الرجوع إلى كفاية في الاستطاعة البذلية [١].

______________________________________________________

ما يوفيه به ، بل يجب الحج وإن بقي الدين .. ». وفي كشف اللثام : « وأعلم أن الدين لا ينفي الوجوب بالبذل ، كما ينفيه باتهاب ما لا يفي به ، مع نفقة الحج ، والإياب ، والعيال .. ». وفي الجواهر : « ولا يمنع الدين الوجوب بالبذل وإن منعه في غيره .. ». ونحوه كلام غيرهم ، وقد اشتهر هذا الإطلاق بينهم. وفي المدارك ـ بعد ما ذكر ذلك ـ استدل عليه بإطلاق النص. وقد عرفت : أن النص إنما يتعرض للمساواة بين البذل والملك ، ولا يصلح للتعرض للشروط الأخرى ـ كالبلوغ ، والعقل والحرية ، والصحة في البدن وتخلية السرب عقلية كانت أو شرعية ـ بل كل منها باق بحاله ، فإذا قلنا بعدم الوجوب لعدم تخلية السرب الشرعية لم يكن ذلك منافياً لإطلاق النص. وكلمات الأصحاب أيضاً منزلة على ما هو المراد من النصوص. ومن ذلك يظهر : أن أقوى الوجهين أولهما.

[١] بلا خلاف ظاهر. واستدل عليه في المستند : « بأن الظاهر من أخبار اشتراطه إنما هو فيما إذا أنفق في الحج من كفايته ، لا مثل ذلك. مع أن الشهرة الجابرة غير متحققة في المورد. ومع ذلك يعارضها إطلاق وجوب الحج بالبذل ، وهي أقوى وأكثر ، فيرجع إلى عمومات وجوب الحج والاستطاعة العرفية .. ». وما ذكره ـ أولاً ـ مبني على الرجوع إلى الأخبار في اعتبار الرجوع إلى الكفاية ، فإذا لم تتم لم تصل النوبة إلى دعوى ظهوره فيما ذكر. وما ذكره ـ ثانياً وثالثاً ـ وإن كان محل المناقشة ، لكنها لا تقدح فيما ذكره أولاً ، كما لا يخفى.

وبالجملة : إن كان الدليل هو الأخبار فالجواب عنها ما ذكره. وإن كان الدليل عموم نفي الحرج فلا مجال لتطبيقه في المقام ، لاختصاصه بما‌

١٣٤

( مسألة ٣٧ ) : إذا وهبه ما يكفيه الحج لأن يحج وجب عليه القبول على الأقوى [١] ، بل وكذا لو وهبه وخيره بين أن يحج به أولا [٢]. وأما لو وهبه ولم يذكر الحج لا تعييناً‌

______________________________________________________

إذا أنفق في الحج من كفايته ، وليس كذلك فيما نحن فيه ، كما ذكره ( قده ). نعم إذا اتفق لزوم الحرج في إجابة الباذل لم تجب الإجابة. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في المسألة الثامنة والخمسين التعرض لذلك. فانتظر.

[١] كما في كشف اللثام ، واختاره في الحدائق ، وحكاه عن الذخيرة ومجمع البرهان ، وكذا في المستند وغيرها. لإطلاق النصوص ، الشامل للبذل على نحو الإباحة والتمليك ، فيجب القبول ، لأنه حينئذ يكون مقدمة للواجب لا للوجوب. لكن في الشرائع : « لو وهبه مالا لم يجب قبوله .. ». وإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن يهبه للحج بالخصوص أو له ولغيره. وعلله في المسالك : بأن قبول الهبة نوع من الاكتساب ، وهو غير واجب للحج ، لأن وجوبه مشروط بوجود الاستطاعة ، فلا يجب تحصيل شرطه ، بخلاف الواجب المطلق. ومن هنا ظهر الفرق بين البذل والهبة ، فإن البذل يكفي فيه نفس الإيقاع في حصول القدرة والتمكن ، فيجب بمجرده. انتهى. وتبعه في ذلك في الجواهر. بناء منه على ظهور نصوص البذل بالإباحة لأكل الزاد والراحلة أو الإباحة المطلقة حتى التملك إن اراده. وفيه : أن المبنى غير ظاهر ، لشمول النصوص لإيقاع الإباحة ، وإيقاع التمليك للحج معاً ، ولا اختصاص لها بالأول كما ذكره.

[٢] كأنه : لصدق عرض الحج عليه ، فيثبت له حكم البذل من الوجوب ، فيجب القبول. وفيه : أنه غير ظاهر ، لظهور عرض الحج ـ المذكور في النصوص ـ في عرضه على التعيين لا على التخيير.

١٣٥

ولا تخييراً ، فالظاهر عدم وجوب القبول ، كما عن المشهور [١].

( مسألة ٣٨ ) : لو وقف شخص لمن يحج أو أوصى أو نذر كذلك ـ فبذل المتولي ـ أو الوصي أو الناذر ـ له وجب عليه ، لصدق الاستطاعة [٢] ، بل إطلاق الأخبار. وكذا لو أوصى له بما يكفيه للحج بشرط أن يحج ، فإنه يجب عليه بعد موت الموصي [٣].

______________________________________________________

[١] حكى نسبته إلى المشهور في المستند. وقد عرفت : ما ذكره في الشرائع ، ومثله في القواعد. ويظهر من شراحهما : التسالم عليه ، معللين ذلك : بأن القبول نوع من الاكتساب ، وهو شرط وجوب الحج فلا يجب تحصيله. وفي المدارك : « وربما علل : باشتماله على المنة ، ولا يجب تحملها.

ويتوجه على الأول : ما سبق. وعلى الثاني : منع تأثير مثل ذلك في سقوط الواجب. مع أن ذلك بعينه يأتي في بذل عين الزاد والراحلة ، وهو غير ملتفت اليه .. ». ومراده بما سبق تحقق الاستطاعة. لأنها التمكن من الحج بمجرد البذل. وفيه : ما عرفت من أن الذي يظهر من الأدلة : أن الاستطاعة نوعان ملكية وبذلية ، وتختص البذلية بالبذل للحج ، فالهبة مطلقة قبل القبول خارجة عن النوعين معاً. وليست الاستطاعة نوعاً واحداً ـ وهو التمكن من المال ـ كي يدعي وجوب القبول. ولأجل ذلك لا يتم ما ذكر في المدارك ـ واختاره في المستند ـ من وجوب الحج في الفرض. بل يشكل أيضاً : ما تقدم من المصنف في المسألة الثلاثين ، كما أشرنا إليه هناك.

[٢] قد عرفت الاشكال فيه. نعم لا بأس بالتمسك بإطلاق الأخبار ، لأن عرض الحج على المكلف أعم من أن يكون المال مملوكاً للعارض ، أو تحت ولايته وسلطانه.

[٣] هذا من أفراد المسألة السابقة ، فإذاً يدخل في أخبار العرض ،

١٣٦

( مسألة ٣٩ ) : لو أعطاه ما يكفيه للحج خمساً أو زكاة ، وشرط عليه أن يحج به فالظاهر الصحة [١] ،

______________________________________________________

بملاحظة أن الوصي إذا عرض عليه المال الموصى به للحج يدخل في أخبار العرض. بل يزيد عليه بإمكان تطبيق الأخبار بملاحظة وصية الميت أيضاً ، فيكون الميت قد عرض عليه الحج. وهذا وإن كان حاصلاً في فرض الوصية السابق ، لكن عرض الميت فيه ليس للشخص المعين بل للكلي ، حسب فرض المسألة. وسيأتي الإشكال في مثل ذلك.

[١] الشرط المذكور تارة : يكون من قبيل إنشاء شرط العمل على المدفوع اليه ، وأخرى : من قبيل القيد للمدفوع إليه. فإن كان من قبيل الأول فصحته موقوفة على ثبوت ولاية المالك على مثل ذلك ، ودليله غير ظاهر. وعمومات صحة الشروط لا تصلح لإثبات السلطنة عليه عند الشك فيها ، نظير عمومات صحة البيع لا تثبت السلطنة لكل بائع. وكذلك غيرها ، من عمومات صحة العقود والإيقاعات ليست ناظرة إلا إلى إثبات قابلية المنشأ للإنشاء في ظرف صدوره من السلطان ، فلا بد في إثبات ولايته على الشرط من دليل. والفرق بين المورد وغيره من موارد العقود والإيقاعات : أن في الموارد المذكورة لما كان موضوعها تحت سلطنة الموقع يكون الشرط من شؤون تلك السلطنة. مثلا : إذا باع الإنسان ماله على غيره ، فلما كان المال موضوعاً لسلطنة البائع الراجعة إلى السلطنة على البيع وغيره من التصرفات ، فاذا كان البيع تحت السلطنة مطلقاً كان الشرط تحتها ، لأنه من شؤون البيع ، وليس كذلك في المقام ، فان المال المدفوع ليس ملكاً للدافع ، وإنما له ولاية تعيين المستحق ، ودليل هذه الولاية لا يستفاد منه الولاية على التعيين بشرط.

وأما إذا كان الشرط من قبيل القيد ، بأن يدفعه له مقيداً بكونه يحج به ، فقد يقال بامتناعه ، بلحاظ أن المدفوع اليه هو الشخص الخارجي ،

١٣٧

ووجوب الحج عليه إذا كان فقيراً ، أو كانت الزكاة من سهم سبيل الله [١].

( مسألة ٤٠ ) : الحج البذلي مجز عن حجة الإسلام ،

______________________________________________________

وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد. وفيه : أن الشخص الخارجي وإن كان كذلك ، لكن الدفع الاختياري ـ الذي أخذ موضوعاً للقصد والإرادة ـ يقبل ذلك ، لأنه يتعلق بالصور الذهنية ، والصور الذهنية تقبل ذلك ، سواء كانت حاكية عن المفاهيم الكلية أم الجزئية ، ولذلك يتمسك في الأحكام الشخصية بالإطلاق الأحوالي. وإذا كان الدفع قابلاً للإطلاق والتقييد كان موضوعه كذلك ، لأنه من شؤونه. فالعمدة في الإشكال في صحة الشرط على هذا الوجه : عدم ثبوت ولاية الدافع على مثل هذا التقييد ، وليس في دليل ولاية المالك في الزكاة على تعيين المستحق ما يشمل مثل ذلك. فيلحظ هذا في الزكاة.

وأما في الخمس ، فقد تقدم في كتاب الخمس : عدم وضوح الدليل على ولاية المالك على تعيين المستحق. لكن الكلام في المقام مبني على ثبوت ولايته ولو بإذن الحاكم الشرعي. وقد تقدم من المصنف (ره) في بعض مسائل ختام الزكاة : أنه لا يجوز إعطاء الزكاة للفقير من سهم الفقراء للزيارة أو الحج أو نحوهما من القربات. فراجع.

ثمَّ إن ظاهر المتن : أن وجوب الحج في المقام مبني على صحة الشرط. ويمكن المناقشة فيه : بأنه لو بني على بطلان الشرط أمكن أن يدعى الوجوب بلحاظ صدق العرض ، فتشمله نصوص البذل ، فيجب عليه الحج للاستطاعة البذلية لا لصحة الشرط ، نظير ما تقدم في المسألة السابقة.

[١] إذا كانت الزكاة كذلك وجب الحج بعد القبول ـ كما هو مفروض المسألة ـ وإن لم نقل بصحة الشرط ، لأن الحج هو المصرف لا غير.

١٣٨

فلا يجب عليه إذا استطاع مالاً بعد ذلك على الأقوى [١].

( مسألة ٤١ ) : يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الإحرام [٢]. وفي جواز رجوعه عنه بعده وجهان [٣].

______________________________________________________

[١] كما هو المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً ، إذ لم يعرف الخلاف في ذلك إلا من الشيخ في الاستبصار. لخبر الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن رجل لم يكن له مال ، فحج به أناس من أصحابه ، أقضى حجة الإسلام؟ قال : نعم. قال : فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحج. قلت : هل تكون حجته تلك تامة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال (ع) : نعم. قضى عنه حجة الإسلام‌ ( وتكون تامة ليست بناقصة. خ ). وإن أيسر فليحج » (١). ونحوه‌ خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) : « قال : لو أن رجلاً معسراً أحجه رجل كانت له حجته ، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج » (٢). وحملا على الاستحباب.

والعمدة : وهن الخبرين بالاعراض والهجر. ولو لا ذلك لأشكل الحمل على الاستحباب بأنه خلاف الظاهر. ولا يقتضيه الجمع بينهما وبين ما دل على الاجزاء عن حجة الإسلام ، لتضمنها ذلك أيضاً. وأبعد من الحمل المذكور الحمل على من حج عن غيره ، أو على الوجوب الكفائي ، كما في الوسائل.

[٢] الظاهر أنه لا إشكال في ذلك ، كما يظهر من كلماتهم في مسألة اشتراط وجوب البذل في الاستطاعة ، كما سبق.

[٣] أحدهما : أنه وعد ، والوعد لا يجب الوفاء به ، كما يقتضيه قاعدة السلطنة على النفس والمال. وأما الثاني فقد يوجه : بأنه إذا شرع‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب وجوب الحج حديث : ٦.

(٢) الوسائل باب : ٢١ من أبواب وجوب الحج حديث : ٥.

١٣٩

______________________________________________________

في الإحرام فقد وجب عليه الإتمام ، فيكون تركه غير مقدور ، فلا أثر للعدول عن البذل. ونظيره ما ذكر ـ في من أذن لغيره في الصلاة في ملكه ـ : من أنه بعد الشروع في الصلاة لا أثر لمنع المالك ، كما أشار إلى ذلك بعض مشايخنا في رسالة الحج. وفي حاشيته على المقام ذكر : أن أقوى الوجهين عدمه. ويشكل : بأن الحكم غير ثابت في النظير ، فضلا عن المقام. أما الأول فلأن نهي المالك عن الصلاة في ملكه يوجب امتناع التعبد بها ، وإذا امتنع التعبد بها بطلت. فوجوب إتمام الصلاة إنما يوجب سلب قدرة المصلي على القطع على تقدير إمكان الإتمام ، ونهي المالك مانع عن الإتمام ، لامتناع التعبد بالصلاة في المكان المغصوب ، فتبطل بنفسها لا بإبطال المصلي لها.

فان قلت : حرمة الابطال من آثار الدخول في الصلاة الصحيحة ، ولما كان الدخول في الصلاة بإذن المالك كان الدخول صحيحاً ، فيترتب عليه حرمة الإبطال.

قلت : لا ريب أن الإبطال المحرم هو إبطال الصلاة الصحيحة ، فما دامت الصلاة صحيحة يحرم إبطالها ، فهو منوط بالصحة ـ حدوثاً وبقاء ـ إناطة كل حكم بموضوعه ، لا أنه منوط بها حدوثاً فقط. كيف ولا ريب أنه لو طرأ ما يوجب بطلان الصلاة لم يحرم إبطالها؟ بل لا يتصور إبطالها. وإذا كان الحكم منوطاً بالصحة حدوثاً وبقاء ، كان منوطاً بشرائط الصحة حدوثاً وبقاء ، فاذا زال بعض الشرائط زال الحكم بزواله ، ورجوع المالك عن إذنه موجب. لذلك نظير ما لو شرع في الصلاة في مكان مباح ، ثمَّ اضطر الى الخروج عنه الى مكان مغصوب ، فإنه لا يحرم قطعها لبطلانها.

وأضعف من ذلك ما قيل : من أن الشروع في الصلاة الصحيحة لما كان يستلزم الإتمام ، كان الاذن في الشروع إذناً في الإتمام ، لأن الإذن في الشي‌ء‌

١٤٠